آبائياتأبحاث

المقالة11 ج2 – السجود والعبادة بالروح والحق ج6 – ق. كيرلس الاسكنري – د. جورج عوض إبراهيم

المقالة11 ج2 – السجود والعبادة بالروح والحق ج6 – ق. كيرلس الاسكنري – د. جورج عوض إبراهيم

المقالة11 ج2 – السجود والعبادة بالروح والحق ج6 – ق. كيرلس الاسكنري – د. جورج عوض إبراهيم

المقالة11 ج2 – السجود والعبادة بالروح والحق ج6 – ق. كيرلس الاسكنري – د. جورج عوض إبراهيم
المقالة11 ج2 – السجود والعبادة بالروح والحق ج6 – ق. كيرلس الاسكنري – د. جورج عوض إبراهيم

 

السجود والعبادة بالروح والحق

تابع المقالة الحادية عشر

“عن الكهنوت، وإن الكهنوت بحسب الناموس كان ظلاً للكهنوت بحسب المسيح”

 

كيرلس: اصطلاحيًا وقياسًا على ما قلته، سُمِّيَت صدرة القضاء؛ لأنها توضع فوق القلب والأحشاء؛ لأنَّ القلب والأحشاء هما مسكن العقل الذي يضع في داخلنا الحكم المستقيم على أي عمل، ذلك الحُكم الخالي من أية ميول شيطانية، بمعنى أنَّ العقل يقوم بعمل التقييم العادل واللائق لكل شيء. أم أنه لا يوجد أي تعقُّلٍ داخلنا يزن الأعمال، ويفصل بين ما هو جيد وما هو غير نافع؟

بلاديوس: يُوجد بالتأكيد.

كيرلس: اعتاد الكتاب المقدس على تسميه الاستقامة والحق بالقضاء (أو الحكم العادل والبار). وداود العظيم يترنم قائلاً: ” طُوبَى لِلْحَافِظِينَ الْحَقَّ وَلِلصَّانِعِ الْبِرَّ فِي كُلِّ حِينٍ ” (مز106: 3). وأيضًا يقول: ” وَعِزُّ الْمَلِكِ أَنْ يُحِبَّ الْحَقَّ. أَنْتَ ثَبَّتَّ الاسْتِقَامَةَ. أَنْتَ أَجْرَيْتَ حَقًّا وَعَدْلاً فِي يَعْقُوبَ ” (مز99: 4). فكرامة الملك ومجده يكون بهيًَّا عندما يحب العدل. إذن، صدرة القضاء توضع على القلب والصدر، أي في مكان العقل حيث الاستقامة والعدل.

 

يوجد اثنا عشر حجرًا فوق هذه الصدرة مكتوب عليهم أسماء الأسباط الاثنى عشر. وهذا يشير إلى الرجال القديسين الممجدين والمكرَّمين كمثل الأحجار الكريمة المختارة والموجودة في فكر وقلب المسيح. وحقًا، يستحق هؤلاء الرجال القديسون أنْ يمثلوا أمام الله بسبب مهارتهم الفائقة في ممارسة الفضيلة وقداستهم التي لا تُقدّر بثمن. أمَّا السلاسل الذهبية التي تتعلق من صدرة القضاء، فتشير إلى العدد الكثير والذي لا يُحصى من فضائل القديسين. أيضًا داود الطوباوي يقول إنَّ الزينة الكريمة للكنيسة توجد في ثيابها المطرزة من الفضائل (انظر مز45: 14).

بلاديوس: إنَّ شرحك مقنع.

كيرلس: تمتد سلسلةٌ جميلةٌ كثيرةُ الألوان بالحلقات الذهبية المربوطة من صدرة القضاء ـ كما قُلنا ـ تمتد السلاسل من الطوقين وتصل إلى طرف الرداء حيث الأحجار منقوشةٌ فوقها الأسماء. ألا يستحق أنْ ترى ماذا يعني هذا؟

 

يبدو لي أنَّ هذا الأمر يشير إلى أسلحة البر. فالقديسون المجاهدون الذين هم مثل الأحجار الثمينة في ذاكرة المسيح، والذين هم سُجِّلت أسماءهم في السماء، حققوا هدفهم بأسلحة البر التي على اليمين والتي على اليسار. لأنه هكذا يكتب بوضوح بولس الرسول، إذ يقول: ” الْبَسُوا سِلاَحَ اللهِ الْكَامِلَ ” (أف6: 11).

 

إن أسلحة الملك ذهبيةٌ، وكذلك الأطواق ذهبية أيضًا، وهي تشير بطريقة رمزية إلى سلاح الله الكامل. وليست هناك طريقة نوجَد بها في ذاكرة الله وفي كتابه إنْ لم نستخدم أسلحة البر في جهادنا. وكون أنَّ الصدرة تتعلق من الرداء، فهذا يعني أنَّ كل ما هو أسفل، إنما يرتبط بما هو أعلى بواسطة المسيح. لأنه بحسب الكتاب هو         ” سَلاَمُنَا، الَّذِي جَعَلَ الاثْنَيْنِ وَاحِدًا ” (أف2: 14)، لأنه ـ برباط المحبة ـ وحَّد البشر بجنود الملائكة القديسين.

 

ينبغي أنْ نعرف أيضًا من الطوباوي حزقيال ما قاله عن رئيس صور من أنه كان لابسًا كل أنواع الأحجار الثمينة. وذكر نفس الأحجار الثمينة التي قال عنها موسى إنها وُضعت على صدرة القضاء. وهذه الأحجار كانت عقيق أحمر وياقوت أصفر وعقيق أبيض وزبرجد وجذع ويشب وياقوت أزرق وبهرمان وزمرد وذهب (انظر حز28: 13). وهذه الأحجار كانت موضوعة في أربعة صفوف، كل ثلاثة معًا في صف، ووضعهم هكذا يشير إلى ثبات إيمان أولئك الموجودين في قلب المسيح وذاكرته. ووضع الثلاثة معًا يشير إلى الإيمان، إذ يرمز للثالوث، بينما الثبات نراه في الشكل الرباعي الأوجه والمتساوي من كل الوجوه؛ لأنه هكذا صُنعت الصدرة وفوقها الحجارة، وكانت اثنا عشر حجرًا.

بلاديوس: إنني أصدق ما تقوله.

كيرلس: إضافةً إلى هذا، فقد أمر (المشرِّع) أنْ يُضيفَ شيئًا آخر على الأحجار الاثنى عشر قائلاً: ” وَتَجْعَلُ فِي صُدْرَةِ الْقَضَاءِ الأُورِيمَ وَالتُّمِّيمَ لِتَكُونَ عَلَى قَلْبِ هَارُونَ عِنْدَ دُخُولِهِ أَمَامَ الرَّبِّ ” (خر28: 30). يذكر هنا اسمين الأوريم والتميم (الإعلان والحق) لكن لم يقل لنا بوضوح هل هي من الحجارة، أم أنه أمر أنْ يُكتب الاسمين في سبورة صغيرة (إعلان صغير). إنني أتذكر النبي الذي قال: ” لأَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَيَقْعُدُونَ أَيَّامًا كَثِيرَةً بِلاَ مَلِكٍ، وَبِلاَ رَئِيسٍ، وَبِلاَ ذَبِيحَةٍ، وَبِلاَ تِمْثَال، وَبِلاَ أَفُودٍ وَتَرَافِيمَ ” (هوشع 3: 4). لكن سواء كانا من حجارة ثمينة، أو مكتوبان بحروف ذهبية على سبورة، فإننا على يقين بأنَّ هذين الاسمين وضعا لكي يرمزا للمسيح الحاضر مع القديسين؛ لأنه يقول ” هَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْرِ ” (مت28: 20)، فالإعلان والحق هما المسيح. الأوريم والتميم (الإعلان والحق) هما المسيح. إذ في شخصه عرفنا الآب، وأوضح لنا إرادة الله الصالحة، وكذلك الكمال والقناعة والرضا وفق المكتوب (انظر رو12: 2). لأن المسيح قال: ” لاَ أَعُودُ أُسَمِّيكُمْ عَبِيدًا، لأَنَّ الْعَبْدَ لاَ يَعْلَمُ مَا يَعْمَلُ سَيِّدُهُ، لكِنِّي قَدْ سَمَّيْتُكُمْ أَحِبَّاءَ لأَنِّي أَعْلَمْتُكُمْ بِكُلِّ مَا سَمِعْتُهُ مِنْ أَبِي ” (يو15: 15).

 

على الجانب الآخر، فالحق هو عمانوئيل؛ لأنه هو الابن بطبيعته، وحيث أنه إلهٌ من إلهٍ، فهو وحده القدوس، وهو وحده الرب، وبالمشاركة فيه والتشبُّه به نستطيع أنْ نفهم كل ما هو له من خلال مخلوقاته. هكذا هو مع القديسين، والأوريم والتميم (الإعلان والحق) يُقصد بهما المسيح الذي يقدِّم أمام الآب كل ما يتعلق بنا، وهو حيٌ دائمًا يتوسط لأجلنا. لأن هذا ما يعلنه بقوله: ” فَيَحْمِلُ هَارُونُ قَضَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى قَلْبِهِ أَمَامَ الرَّبِّ دَائِمًا ” (خر28: 30).

بلاديوس: هكذا يكون.

كيرلس: كما أمر أيضًا أنْ يُصنع الزي المقدس قائلاً: ” وَتَصْنَعُ جُبَّةَ الرِّدَاءِ كُلَّهَا مِنْ أَسْمَانْجُونِيٍّ، وَتَكُونُ فَتْحَةُ رَأْسِهَا فِي وَسَطِهَا، وَيَكُونُ لِفَتْحَتِهَا حَاشِيَةٌ حَوَالَيْهَا صَنْعَةَ الْحَائِكِ. كَفَتْحَةِ الدِّرْعِ يَكُونُ لَهَا. لاَ تُشَقُّ. وَتَصْنَعُ عَلَى أَذْيَالِهَا رُمَّانَاتٍ مِنْ أَسْمَانْجُونِيٍّ وَأُرْجُوانٍ وَقِرْمِزٍ، عَلَى أَذْيَالِهَا حَوَالَيْهَا، وَجَلاَجِلَ مِنْ ذَهَبٍ بَيْنَهَا حَوَالَيْهَا. جُلْجُلَ ذَهَبٍ وَرُمَّانَةً، جُلْجُلَ ذَهَبٍ وَرُمَّانَةً، عَلَى أَذْيَالِ الْجُبَّةِ حَوَالَيْهَا. فَتَكُونُ عَلَى هَارُونَ لِلْخِدْمَةِ لِيُسْمَعَ صَوْتُهَا عِنْدَ دُخُولِهِ إِلَى الْقُدْسِ أَمَامَ الرَّبِّ، وَعِنْدَ خُرُوجِهِ، لِئَلاَّ يَمُوتَ ” (خر28: 31 ـ 35).

 

          إذًا هو يتحدث بوضوح عن الرداء الداخلي القصير، والرداء الطويل حتى الأرجل. ويحدد اللون على أنه أزرق لأنه يرمز للخلود (لعدم الفساد) أي للمسيح. هذا بالضبط هو ما أعلنه داود العظيم قائلاً ـ من جانب الله ـ عن أولئك الذين يخدمون الخدمة المقدسة في الكنائس: ” كَهَنَتَهَا أُلْبِسُ خَلاَصًا ” (مز132: 16). أيضًا بولس الرسول يكتب في رسالته ” الْبَسُوا الرَّبَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ ِ” (رو13: 14). وهذا هو مسكننا السماوي بحسب قول النبي (انظر إش41: 10). فاللون الأزرق ـ كما قُلنا بوضوح ـ هو رمزٌ للسماء.

 

ويكون هذا القول حقيقيًا أيضًا لو حملناه على كل ما حدث لنا. لأننا قد لبِسنا الخلود (عدم الفساد) السماوي، بالرغم من أنَّ المقصود بهرون، هو المسيح نفسه لابسًا مثله رداءً. والقول هنا حقٌ، لأن وحيد الجنس باعتباره إلهًا حقًا بحسب طبيعته، جعل جسده غير فاسدٍ محيطًا إياه بالحياة السمائية، وجعله أقوى من سلطان الموت. وكون أنَّ المسيحَ خالدٌ، وهو الحياةُ بطبيعته وليس نتيجة اشتراكه، فهو ما سوف تدركه منه حينما قال: ” أَنَا هُوَ الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ ” (يو11: 25).

 

ولأنه أُحييَ بحسب طبيعته البشرية يقول: ” لأَنَّهُ كَمَا أَنَّ الآبَ لَهُ حَيَاةٌ فِي ذَاتِهِ، كَذلِكَ أَعْطَى الابْنَ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ لَهُ حَيَاةٌ فِي ذَاتِهِ ” (يو5: 26). هكذا أيضًا يكون الأمر حتى لو كان المسيح نفسه هو المقصود بما قيل عن أنه أُحيط بالخلود السماوي، فهذا لا يُخرج حديثنا عن الحدود اللائقة.

 

          أيضًا كانت توضع رُمانات صغيرة وجلاجل حواليها. الرُمانات كانت مربوطةً ربطًا مُحكمًا بينما الجلاجل ذهبيةٌ لكي يصدر منها صوت جميل، وحين كان يدخل هرون إلى قدس الأقداس كانت تُصدر صوتًا عند دخوله. هكذا يشير هذا الأمر للخلاص ولحكمة تدبيره، إذ يرمز إلى الكرازة الإلهية والإنجيلية، حيث ملأ رنينها كل مدينة من وقت أنْ أتى رئيس الكهنة الأعظم لأجلنا كذبيحةٍ كاملةٍ إلى قُدس الأقداس محققًا خلاصنا الأبدي. لأنه يقول: ” بِقُرْبَانٍ وَاحِدٍ قَدْ أَكْمَلَ إِلَى الأَبَدِ الْمُقَدَّسِينَ ” (عب10: 14). الرمز هنا واضح جدًا، فالجلاجل الذهبية ترمز إلى الكرازة الخلاصية، بينما الرُمانات الصغيرة ترمز إلى المدن.

بلاديوس: بأية طريقة؟

كيرلس: بمعنى أنَّ المدينةَ تكون محاطةٌ بالسور لكن تحوي في داخلها كل الأحياء، هكذا ـ بنفس الطريقة ـ تكون الرُمانةُ محاطةٌ خارجيًا بقشرة، بينما ـ داخليًا ـ تكون الحبات منفصلة الواحدة عن الأخرى بأردية رقيقة وتتجمع في أحياء. أليست الأمور هكذا؟

بلاديوس: أوافقك.

كيرلس: كذلك بجوار كل رُمانة توجد واحدة من الجلاجل (جرس) لأن كل مدينة لها معلِّمها الذي يعزف العقائد الإلهية، والصوت الحلو يجعل دخول مخلِّصُنا إلى قُدس الأقداس واضحًا ومسموعًا للكل. إنْ لم ترن جيدًا ضربات (اهتزاز) الجلاجل، فإن خوف الموت معلق لأولئك المكلفين بالخدمة المقدسة، ولهارون في قُدس الأقداس. لأنَّ الصمتَ غيرُ ملائم بالنسبة للمعلِّمين. وهذا ما قاله بولس الرسول:    ” فَوَيْلٌ لِي إِنْ كُنْتُ لاَ أُبَشِّرُ ” (1كو9: 16).

بلاديوس: هكذا يبدو لي أنك تشرح الأمر بدقةٍ وصواب.

كيرلس: بالإضافة إلى هذا يقول: ” وَتَصْنَعُ صَفِيحَةً مِنْ ذَهَبٍ نَقِيٍّ، وَتُنَقِّشُ عَلَيْهَا نَقْشَ خَاتِمٍ: قُدْسٌ لِلرَّبِّ. وَتَضَعُهَا عَلَى خَيْطٍ أَسْمَانْجُونِيٍّ لِتَكُونَ عَلَى الْعِمَامَةِ. إِلَى قُدَّامِ الْعِمَامَةِ تَكُونُ. فَتَكُونُ عَلَى جِبْهَةِ هَارُونَ، فَيَحْمِلُ هَارُونُ إِثْمَ الأَقْدَاسِ الَّتِي يُقَدِّسُهَا بَنُو إِسْرَائِيلَ، جَمِيعِ عَطَايَا أَقْدَاسِهِمْ. وَتَكُونُ عَلَى جِبْهَتِهِ دَائِمًا لِلرِّضَا عَنْهُمْ أَمَامَ الرَّبِّ ” (خر28: 36 ـ 38). العمامة من قماش إسمانجوني بينما الصفيحة من ذهب نقي، وفوقها يوجد نقشُ كتابةٍ، سرُ المسيحٍ، إعلانٌ واضحٌ لرسالته في هذا العالم. إذ يقول يحمل عبارة مكتوبة “قُدسٌ للرب” ألا تقول لنا (هذه العبارة بوضوح) إنَّ عمانوئيل قُدِّس بواسطة الله الآب؟

بلاديوس: بالتأكيد تقول هكذا. وسوف أذكر ما قاله لليهود ” إِنْ قَالَ آلِهَةٌ لأُولئِكَ الَّذِينَ صَارَتْ إِلَيْهِمْ كَلِمَةُ اللهِ، وَلاَ يُمْكِنُ أَنْ يُنْقَضَ الْمَكْتُوبُ، فَالَّذِي قَدَّسَهُ الآبُ وَأَرْسَلَهُ إِلَى الْعَالَمِ، أَتَقُولُونَ لَهُ: إِنَّكَ تُجَدِّفُ، لأَنِّي قُلْتُ: إِنِّي ابْنُ اللهِ؟ ” (يو10: 35 ـ 36).

كيرلس: عندما يقول الكتاب إنَّ الابن قُدِّس من الله الآب، يقصد أنه عُيِّنَ وأُرسلَ. إذن، عبارةُ “قُدسٌ للرب” تعني اختياره وإرساله إلى هذا العالم لكي يملك ويتمجد. لأنه هكذا جعل هارون كاملاً إذ وضع على جبهته الصفيحة الذهبية.

 

الملكُ وربُ الكلِ هو المسيح بطبيعته، وفي نفس الوقت بإتحاده. لأنه بينما هو إلهٌ بطبيعته أخلى ذاته ونزل آخذًا شكل العبد. وقَبِل المُلكَ كما يتمشى ذلك مع شكله البشرى. بالرغم من أنه كان بالتأكيد في السماء من البداية عند الله الآب مشاركًا إياه في رئاسة الكل.

 

لاحظ أيضًا إنَّ عمامته كانت من قماشٍ أزرقٍ (اسمانجوني) وعليها علامة لامعة للمملكة، أقصد الصفيحة الذهبية. اللون الأزرق هو علامة للسماء. تذكّر المسيح الذي يقول: ” مَمْلَكَتِي لَيْسَتْ مِنْ هذَا الْعَالَمِ ” (يو18: 36). ليس المسيح هو الملك الأرضي، بل السماوي، والخليقةُ كلها عند قدميه. وحين قال: ” فَيَحْمِلُ هَارُونُ إِثْمَ الأَقْدَاسِ الَّتِي يُقَدِّسُهَا بَنُو إِسْرَائِيلَ، جَمِيعِ عَطَايَا أَقْدَاسِهِمْ ” (خر28: 38)، فقد أعلن بوضوح كامل، إنَّ أيَ اقترابِ إلى الله، وأيَ كمالٍ، إنما يصير بالمسيح، وكل برٍ يصير بالإيمان به وبواسطته، وهو الذي يمحو خطايانا القديمة. لأن المسيح يحمل خطايانا، وبواسطته صرنا مقبولين عندما نقدم تقدماتنا إلى الله الآب.

بلاديوس: أنت تقول الصواب.

كيرلس: وبقوله عن الصفيحة التي هي فوق العمامة: ” وَتَكُونُ عَلَى جِبْهَتِهِ ” (خر28: 38)، يُظهِرُ ـ بجمالٍ فائقٍ ـ أنَّ مملكة مخلِّصُنا ثابتةٌ ومستمرةٌ وممتدةٌ إلى الأزمنة الأبدية.

 

أتساءل ـ بعد كل هذا ـ ألن ينقشع الحديث الوقح الذي تفوه به الهراطقة الأغبياء بثرثرتهم قائلين إنَّ مملكة المسيح ستكون لها نهاية، وإنَّ عمانوئيل سيُسلِّم المملكة إلى الله الآب تاركًا عرش الإلوهية؟ فهم يتباهون بتعاليم باطلة ويستحقون أنْ نقول لهم: ” تَضِلُّونَ إِذْ لاَ تَعْرِفُونَ الْكُتُبَ ” (مت22: 29). ها نحن نرى ـ بوضوحٍ شديد ـ أنَّه بينما يتوِّج اللهُ الآب هارونَ بمجدٍ وكرامةٍ وبزينة المملكة، فإن هؤلاء يخلعون عنه التاج، ويسرقون منه العمامة المقدسة التي تلمع على جبهته.

بلاديوس: هذا حقيقي.

كيرلس: ” وَتَصْنَعُ صَفِيحَةً مِنْ ذَهَبٍ نَقِيٍّ … وَتَضَعُهَا عَلَى خَيْطٍ أَسْمَانْجُونِيٍّ لِتَكُونَ عَلَى الْعِمَامَةِ ” (خر28: 36ـ37). يبدو وجه هرون، وكأنه عسكري لابسًا خوذةً وحزامًا تُشبه القلنسوة. لأن المسيح حارب لأجلنا “بيدٍ خفيةٍ” حسب الكتاب ” مَدَّ قَوْسَهُ وَهَيَّأَهَا، وَسَدَّدَ نَحوَهُ آلةَ الْمَوْتِ. يَجْعَلُ سِهَامَهُ مُلْتَهِبَةً ” (مز7: 12 ـ 13). وأنزل رؤساءً من كراسيهم وانتصر على القوات المحاربة، وزعزع السلاطين وحرَّر البشر الذين كانوا مأسورين على الأرض. وكون أنَّ الحرب لم تكن منظورة أو مادية ملموسة ولا هي حرب ضد دمٍ ولحمٍ، فهذا ما يُعلنه ـ كما في لغز ـ بأن الوعاء الحربي، القلنسوة (الخوذة) والمِنطقة (الخيط) قد صارا فقط من الاسمانجوني الذي هو رقيقٌ جدًا. إذن، فقد ظهر هرون في الكتاب بلباسٍ مقدِّسٍ وعجيب.

 

كما أمره المشرّع أيضًا قائلاً: ” وَلِبَنِي هَارُونَ تَصْنَعُ أَقْمِصَةً، وَتَصْنَعُ لَهُمْ مَنَاطِقَ، وَتَصْنَعُ لَهُمْ قَلاَنِسَ لِلْمَجْدِ وَالْبَهَاءِ. وَتُلْبِسُ هَارُونَ أَخَاكَ إِيَّاهَا وَبَنِيهِ مَعَهُ، وَتَمْسَحُهُمْ، وَتَمْلأُ أَيَادِيهِمْ، وَتُقَدِّسُهُمْ لِيَكْهَنُوا لِي. وَتَصْنَعُ لَهُمْ سَرَاوِيلَ مِنْ كَتَّانٍ لِسَتْرِ الْعَوْرَةِ. مِنَ الْحَقَوَيْنِ إِلَى الْفَخْذَيْنِ تَكُونُ. فَتَكُونُ عَلَى هَارُونَ وَبَنِيهِ عِنْدَ دُخُولِهِمْ إِلَى خَيْمَةِ الاجْتِمَاعِ، أَوْ عِنْدَ اقْتِرَابِهِمْ إِلَى الْمَذْبَحِ لِلْخِدْمَةِ فِي الْقُدْسِ، لِئَلاَّ يَحْمِلُوا إِثْمًا وَيَمُوتُوا. فَرِيضَةً أَبَدِيَّةً لَهُ وَلِنَسْلِهِ مِنْ بَعْدِهِ ” (خر 28: 40 ـ 43). أرأيت كيف يجب أن يظهر نسل هرون أيضًا بشكل عسكري. وهو لا يعرف أنْ يحارب ضد دمٍ ولحم، بل يعيش ويحارب الخطية الدنسة، ويدافع بالقوة العاقلة عن عقائد الحق، ويأسر أي فكرٍ جاعلاً إياه يخضع للمسيح كما هو مكتوب (انظر 2كو10: 5 ـ 6).

 

          ويلبس كلٌ منهم سروالاً من الكتان لكي يغطى جيدًا قباحة منظر الأفخاذ. فكل ما يفعله القديسون هو فاضلٌ، ولا يوجد لديهم أي شيء قبيح. والكتان الذي يغطي الأجزاء السفلية من الجسم، يشير إلى أنَّ إيقاف اللذات الجسدية هو ما يتمشى ويتناسب مع القديسين؛ لأنَّ الكتانَ مادةٌ (قطنيةٌ) رطبةٌ. وعلى العكس من ذلك، فإنَّ سخونة الشهوات الفارغة هي غريبة عن أي قديس.

ونستطيع أن نشرح ونقول إنه كان يجب أنْ تكون ملابس وسراويل أولئك الذين اُختيروا للكهنوت من الكتان. لأنه يتحتم عليهم أنْ يتحرروا من الأعمال الميتة، ورمز الإماتة هو ما نأخذه من الجسد الذي يموت من حمل الأثقال. والأعمال الميتة يُرمز إليها أيضًا بالثياب من الكتان وليس من الحرير، وهذا ناموسٌ مقدسٌ ودائمٌ، يتبعه بالضرورة أنْ يموتوا إذا أُهمل ما هو لائق. لذلك أعلن أنْ يكون لهؤلاء التقديس اللائق قائلاً ما الذي يجب أن يلبسوه. هكذا لن تكون الخطية فوقهم مثقلة لهم، فيموتوا.

بلاديوس: إنَّ الناموسَ آمنٌ، إذ يُظهر لكل واحدٍ ما هو المفيد، موضحًا للكل ما يقودهم إلى منهج حياة فاضل.

كيرلس: هكذا يكون الناموس. وبالتأكيد بمثل هذا اللباس يتجمَّل الجنس المقدس والمختار، كما جرَّده أيضًا من الدنس، ليس بطريقةٍ غامضةٍ، لكن بالمسيح. لأنه مكتوب: ” وَهذَا مَا تَصْنَعُهُ لَهُمْ لِتَقْدِيسِهِمْ لِيَكْهَنُوا لِي: خُذْ ثَوْرًا وَاحِدًا ابْنَ بَقَرٍ، وَكَبْشَيْنِ صَحِيحَيْنِ، 2 وَخُبْزَ فَطِيرٍ، وَأَقْرَاصَ فَطِيرٍ مَلْتُوتَةً بِزَيْتٍ، وَرِقَاقَ فَطِيرٍ مَدْهُونَةً بِزَيْتٍ. مِنْ دَقِيقِ حِنْطَةٍ تَصْنَعُهَا. وَتَجْعَلُهَا فِي سَلَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَتُقَدِّمُهَا فِي السَّلَّةِ مَعَ الثَّوْرِ وَالْكَبْشَيْنِ. وَتُقَدِّمُ هَارُونَ وَبَنِيهِ إِلَى بَابِ خَيْمَةِ الاجْتِمَاعِ وَتَغْسِلُهُمْ بِمَاءٍ. وَتَأْخُذُ الثِّيَابَ وَتُلْبِسُ هَارُونَ الْقَمِيصَ وَجُبَّةَ الرِّدَاءِ وَالرِّدَاءَ وَالصُّدْرَةَ، وَتَشُدُّهُ بِزُنَّارِ الرِّدَاءِ، وَتَضَعُ الْعِمَامَةَ عَلَى رَأْسِهِ، وَتَجْعَلُ الإِكْلِيلَ الْمُقَدَّسَ عَلَى الْعِمَامَةِ، وَتَأْخُذُ دُهْنَ الْمَسْحَةِ وَتَسْكُبُهُ عَلَى رَأْسِهِ وَتَمْسَحُهُ. وَتُقَدِّمُ بَنِيهِ وَتُلْبِسُهُمْ أَقْمِصَةً. وَتُنَطِّقُهُمْ بِمَنَاطِقَ، هَارُونَ وَبَنِيهِ، وَتَشُدُّ لَهُمْ قَلاَنِسَ. فَيَكُونُ لَهُمْ كَهَنُوتٌ فَرِيضَةً أَبَدِيَّةً. وَتَمْلأُ يَدَ هَارُونَ وَأَيْدِيَ بَنِيهِ ” (خر29: 1 ـ 9).

 

          إذن، فقد أمَرَ أنْ يُقدَّم ثورٌ وكبشان، كذلك دقيقُ حنطةٍ في سلةٍ. هذا الأمرُ مثالٌ للنقاوة الحقيقية، وهو يمثِّل إعلانًا مسبقًا للنقاوة. لأنه ألبس هارون لُباسًا مقدسًا غاسلاً إياه مسبقًا بالماء. فبما أننا احتممنا بالمعمودية المقدسة، وبما أننا تنقينا من أي نوع من النجاسة، فإننا قَبِلنا غنى النعمة السماوية من فوق، حاملين رداء العفة وفق الوصية التي تقول: ” الْبَسُوا الرَّبَّ يَسُوعَ ” (رو13: 14).

 

          لقد برهن حديثُنا على أنَّ المسيح ظهر بطرقٍ متنوعةٍ من خلال الملابس التي زيَّنت هرون. ثم بعد ذلك مَسَحَ بالزيت المقدس رأسَه. وهكذا سبَّح داود قائلاً: ” مَسَحْتَ بِالدُّهْنِ رَأْسِي ” (مز23: 5)، ويشير الزيت هنا إلى صوت القديسين المبهج، بمعنى زيارة السماء المفرحة. لأننا، نحن الذين آمنا قد دُهِنَّا بزيتٍ، ونحن مباركون من الرب وممسوحون بعطية الروح في الذهن. بنفس هذه الطريقة يتقدَّس الكهنة حيث يغتسلون بالماء ويُمسحون بالزيت، وحيث إنهم هكذا يُمسحون، فإنهم يلبسون ملابسهم المقدسة ويتقدسون من جهة الأيدي حتى تكون مناسبة لأداء واجبهم ويتممون الذبائح بالتمام وبنقاء.

 

          إذن، هكذا تنقينا وابتهجنا بالفرح السماوي، ومُسحنا للكمال الروحي، لذا بجرأة شديدة وبأيدٍ طاهرةٍ نقدِّم إلى الله تقدماتنا الروحية. هذا الأمر هو ما يعلنه بالتأكيد نشيد داود الطوباوي لكل واحد يصعد إلى جبل الرب: ” اَلطَّاهِرُ الْيَدَيْنِ، وَالنَّقِيُّ الْقَلْبِ ” (مز24: 4).

بلاديوس: هكذا يبدو.

 

المقالة11 ج2 – السجود والعبادة بالروح والحق ج6 – ق. كيرلس الاسكنري – د. جورج عوض إبراهيم

تقييم المستخدمون: 5 ( 1 أصوات)