آبائياتأبحاث

المسيح في رسائل القديس اثناسيوس ج3 – د. نصحى عبد الشهيد

المسيح في رسائل القديس اثناسيوس ج3 - د. نصحى عبد الشهيد

المسيح في رسائل القديس اثناسيوس ج3 – د. نصحى عبد الشهيد

المسيح في رسائل القديس اثناسيوس ج3 - د. نصحى عبد الشهيد
المسيح في رسائل القديس اثناسيوس ج3 – د. نصحى عبد الشهيد

 

رسالة القديس أثناسيوس
إلى أبكتيتوس
 
مقدمة

 

          كتب القديس أثناسيوس هذه الرسالة إلى أبكتيتوس أسقف كورنثوس سنة 369م ، وذلك ردًا على مذكرات كان أبكتيتوس قد أرسلها إلى أثناسيوس تحوى عدة أسئلة أثيرت فى إيبارشيته من مجموعات آريوسية وغيرها لها آراء خيالية (دوسيتية) من جهة التجسد ، وعلاقة جسد المسيح بلاهوته الأزلى من جوهر الآب.

          ويرد القديس أثناسيوس على هذه التصورات والآراء الخيالية ، ويوضح الإيمان السليم فيما يخص علاقة لاهوت المسيح بناسوته. وهذه الرسالة صارت لها شهرة كبيرة عند آباء الكنيسة فى القرنين الرابع والخامس ويستند إليها القديس إبيفانيوس فى الرد على بدعة أبوليناريوس ، كما كانت مرجعًا يُستند إليه فى مواجهة بدعة نسطور فى القرن الخامس ، ولما حاول النساطرة أن يزيفوا نص هذه الرسالة بحيث يؤدى إلى خدمة بدعتهم ، فإن القديس كيرلس الأسكندرى كشف تزيفيهم (فى رسالة 40)[1] وأظهر النص السليم لها .

 

 

رسالة أبينا القديس أثناسيوس الرسولى
إلى أبكتيتوس
 
ضد الهراطقة

 

          إلى سيدى وأخى المحبوب ، المشتاق إليه جدًا ، وشريكى فى الخدمة أبكتيتوس ، أثناسيوس يرسل تحياته فى الرب .

          1 ـ كنت أظن أن كل كلام بطاّل لجميع الهراطقة ، مهما كان عددهم، قد توقف ، منذ المجمع الذى انعقد فى نيقية . لأن الإيمان المعترف به فى هذا المجمع من الآباء ، بحسب الكتب الإلهية ، كافٍ لطرد كل كفر خارجًا، ولتوطيد إيمان التقوى فى المسيح .

          ولذلك فقد أقيمت فى هذه الأونة ، مجامع مختلفة فى كل من الغال (فرنسا) وأسبانيا وروما العظمى ، وجميع المجتمعين ـ كما لو كان يحركهم روح واحد ـ حرموا بالإجماع، أولئك الذين كانوا لا يزالون، وهم مستترون ، يعتقدون بآراء آريوس وأولئك الأشخاص هم : أوكسنتيوس من ميلانو ، وأورساكيوس وفالنس وغاريوس من بانونيا .

          وجميع هؤلاء المجتمعين كتبوا فى كل مكان (إذ لأن مثل هؤلاء الرجال يخترعون أسماء مجامع لمساندتهم) ، ألاّ يُذكر أى مجمع فى الكنيسة الجامعة سوى ذلك المجمع وحده الذى عُقِدَ فى نيقية الذى كان انتصارًا عظيمًا على كل هرطقة ، ولا سيما الهرطقة الاريوسية ـ والتى بسببها ـ فى الحقيقة اجتمع ذلك المجمع وقتئذٍ .

          فكيف إذن بعد هذه الأمور ، لا يزال البعض يحاول أن يثير مجادلات أو تساؤلات ؟ فلو كانوا ينتمون إلى الآريوسيين فلا يكون هناك غرابة فى الأمر ، إذن كانوا يذمون ما كُتب ضدهم ، مثلهم مثل اليونانيين الذين حينما يسمعون القول ” أصنام الأمم فضة وذهب عمل أيدى الناس” (مز4:115)، فإنهم يعتبرون التعليم الخاص بالصليب الإلهى جهالة .

          أما الذين يريدون أن يبحثوا كل شئ عن طريق إثارة الأسئلة ، فإن كانوا من الذين يظنون أنهم مؤمنون ، وأنهم يحبون ما جاهر به الآباء ، فإنهم لا يعملون شيئًا آخر سوى ما جاء فى الكتاب ” إنهم يسقون صاحبهم حثالة الخمر ” (حب15:2) وينازعون حول ما هو غير نافع ، أو ما يؤدى إلى هدم المستقيمين .

          2 ـ إننى أكتب هذا ، بعد اطلاعى على المذكرات التى كتبتها قدسك، التى ما كان يجب أن تُكتب كى لا يكون هناك ذِكر لهذه الأمور لمن يأتون بعدنا. لأن من سمع بمثل هذه الأمور قط ؟ من هو الذى علَّم هذا أو تعلّمه؟ ” لأنه من صهيون ستخرج شريعة الله ، ومن أورشليم كلمة الرب ” (إش3:2) ولكن من أين خرجت هذه الأمور . وأى عالم سفلى تقيأ القول بأن الجسد الذى من مريم هو من نفس جوهر لاهوت الكلمة ؟ أو بأن الكلمة قد تحوّل إلى لحم وعظام وشعر وكل الجسد ، وتغيّر عن طبيعته الخاصة ؟ أو من سمع فى الكنيسة أو بين المسيحيين على العموم ، بأن الرب لبس جسدًا خياليًا وليس طبيعيًا ؟ أو من كفر إلى مثل هذه الدرجة حتى يقول ، وهو فى نفس الوقت يعتقد أيضًا بأن اللاهوت ذاته الذى من نفس جوهر الآب ، قد صار ناقصًا خارجًا من كامل ، والذى سُمِرَ على الخشبة لم يكن هو الجسد بل هو جوهر الحكمة الخالق ذاته ؟ أو من سمع بأن الكلمة حوّل لنفسه جسدًا قابلاً للتألم ، (هذا الجسد) ليس من مريم بل من جوهره الذاتى. فهل يمكن أن يُدّعى مسيحيًا من يقول هذا ؟ أو من الذى اخترع هذا الكفر الشنيع ، حتى يدور فى مخيلته أن من يُعلِّم بأن جسد الرب هو من مريم إنما يعتقد أنه لا يوجد فى اللاهوت ثالوث فقط بل رابوع . لذلك فالذين يكفرون هكذا ، يقولون إن الجسد الذى لبسه المخلص من مريم إنما هو من جوهر الثالوث . ومرة أخرى ، فمن أين تقيأ البعض ذلك الكفر المساوى للكفر السابق ذكره، حتى يقولون بأن الجسد ليس أحدث من لاهوت الكلمة، بل هو مساوٍ له فى الأزلية وهو معه على الدوام ، حيث إنه قد تكوّن من جوهر الحكمة ؟

          أو كيف يتجاسر أولئك الذين يُدعون مسيحيين ، أن يَشُكوا فيما إذا كان الرب المولود من مريم ، بينما هو ابن الله بالجوهر والطبيعة ، فإنه من نسل داود من جهة الجسد ومن جسد القديسة مريم ؟

          أو من هم إذن هؤلاء الذين تجاسروا هكذا حتى يقولوا ، بأن المسيح المتألم بالجسد والمصلوب ، ليس هو الرب والمخلص والإله وابن الآب .

          أو كيف يريدون أن يُدعوا هؤلاء الذين يقولون بأن الكلمة قد حلّ على إنسان قديس كما كان يحلّ على أى واحد من الأنبياء ، ولم يصر هو نفسه (الكلمة) إنسانًا باتخاذه الجسد من مريم ، (ويقولون) إن المسيح هو شخص وأن كلمة الله الموجود قبل مريم ، وهو ابن الآب من قبل الدهور ، هو شخص آخر ؟ .

          3 ـ هذه هى التساؤلات المُشار إليها فى المذكرات، وهى رغم تباينها، لكنها تحوى فكرًا واحدًا يهدف بفاعليته نحو عدم التقوى . ولأجل هذه الأمور ، كان الذين يتفاخرون باعتراف الآباء فى المجمع المنعقد فى نيقيا، يتجادلون ويتطاحنون بعضهم مع بعض.

          ولكنى تعجبت لمعناة واحتمال تقواكم ، وأن قدسكم لم يوقف هؤلاء الذين يقولون هذه الأشياء ، بل شرحت لهم الإيمان المستقيم، حتى إذا سمعوا يهدأون ، أما إذا قاوموا فإنهم يُعتبرون هراطقة . لأن ما قالوه لا يمكن أن يُقال أو يُسمع من مسيحيين ، بل هى أقوال غريبة من كل ناحية عن التعليم الرسولى . لذلك ، وكما سبق ان قلت ، قد أدرجت فى رسالتى، ما قاله هؤلاء ، وذلك فقط لكى يدرك كل من يسمع ، ما تحويه من عار وكفر ، رغم أنه كان من اللازم أن نتهم ونفضح بشدة حماقة أولئك الذين اعتقدوا مثل تلك الأفكار . ولقد كان من المستصوب أن يكتفى خطابى بهذه الكلمات فلا أكتب أكثر من ذلك لأنه ليس من الواجب ممارسة واختبار مثل تلك الأمور التى من الواضح أنها شريرة هكذا جهارًا ، لئلا تبدو بالنسبة للمتنازعين كأنها أمور محتملة . فإنه يكفى أن أقول مجيبًا على مثل تلك الأقوال بما يلى :

          يكفى أن هذا ليس تعليم الكنيسة الجامعة ، ولا اعتقد الآباء بهذه الأمور. ولكن لئلا يجد ” المبتدعون شرورًا ” حجة لصفاقتهم بسبب صمتنا التام ، فإنه حسن أن نذكر بعض الأقوال من الكتب الإلهية ، وبالتأكيد ، بعد أن يخجلوا ، فإنهم يكّفون عن هذه الحيل النجسة .

          4 ـ من أين طرأ عليكم يا هؤلاء ، أن تقولوا إن الجسد واحد فى الجوهر مع لاهوت الكلمة . (لأنه من الحسن أن نبدا بهذه النقطة لكى عندما يظهر أن هذا الرأى غير سليم ، فإن جميع الآراء الأخرى أيضًا تتضح أنها غير سليمة كذلك) . كما أن ما يقولونه لا يوجد منه شئ فى الكتب الإلهية .

          وهم يقولون إن الله قد صار فى جسد بشرى . أما الآباء الذين اجتمعوا فى نيقية فقد قالوا أيضًا إن الابن نفسه ـ وليس الجسد ـ هو من نفس جوهر الآب (أو واحد مع الآب فى الجوهر)، وإنه بينما هو (الابن) من جوهر الآب، فإنهم اعترفوا أيضًا بحسب الكتب ، بأن الجسد هو من مريم.

          فإمّا أن تنكروا إذن ، المجمع المنعقد فى نيقيا ، وكهراطقة يجلبون تعليمًا بالإضافة إلى (ما قرره المجمع) ، وإمّا ، إن أردتم أن تكونوا أبناء الآباء ، فلا تعتقدوا بغير ما كتبه هؤلاء الآباء.

          ومن هذا أيضًا تستطيعون أن تروا كم هو سخيف هذا الرأى : فإنه لو كان الكلمة من نفس جوهر الجسد الذى هو من طبيعة أرضية ، فى حين أن الكلمة هو من نفس جوهر الآب ، بحسب اعتراف الآباء ، فإن الآب نفسه أيضًا يكون من نفس جوهر الجسد الصائر من الأرض . فلماذا تلومون الآريوسيين الذين يقولون إن الابن مخلوق ، وأنتم أنفسكم تزعمون أيضًا أن الآب من نفس جوهر المخلوقات ، فأنتم تذهبون بعيدًا إلى كفر آخر ، مدّعين أن الكلمة تحول إلى لحم وعظام ، وشعر وأعصاب والجسد كله ، وأنه تحول عن طبيعته الخاصة . لقد حان الوقت لكم ، لكى تقولوا علانية ، إنه قد صار من الأرض ، لأن طبيعة العظام بل والجسد كله من الأرض . إذن ماذا يكون هذا الهذيان حتى تتشاجروا فيما بينكم أيضًا ؟ لأن الذين يقولون إن الكلمة هو من نفس جوهر الجسد ، إنما ” يقصدون الواحد عندما يشيرون للآخر ” .

          أما الذين يحوّلون الكلمة إلى جسد فإنهم يتخيلون تغيير الكلمة ذاته . ومن سيظل يحتملكم إذن ، وأنت تتشدقون بهذه الأقوال . فأنتم انحرفتم إلى الكفر أكثر من كل هرطقة .

          لأنه لو كان الكلمة من نفس جوهر الجسد ، فإن ذكر مريم وضرورتها يكونان أمرين لا لزوم لهما ، إذ أنه كان من المستطاع أن يكون موجودًا أزليًا قبل مريم ، كما أن الكلمة ذاته أزلى أيضًا . فلو كان الكلمة حقًا من نفس جوهر الجسد حسبما تقولون ، فأية حاجة كانت هناك لكى يقيم الكلمة بيننا، لكى يلبس ما هو من نفس جوهره الخاص، أو أن يتحول عن طبيعته الذاتية فيصير جسدًا؟ لأن اللاهوت لم يأتِ لمساعدة نفسه حتى يلبس ما هو من نفس جوهره، كما أن الكلمة لم يخطئ فى شئ وهو يفتدى خطايا الآخرين، حتى يصير جسدًا ويقدم ذاته ذبيحة لأجل نفسه وفتدى نفسه .

5 ـ لكن حاشا له أن يكون هكذا. لأنه كما قال الرسول جاء لمساعدة[2] نسل إبراهيم، من ثمّ كان ينبغى أن “يشبه اخوته فى كل شئ”(عب17،16:2) ويتخذ جسدًا مشابهًا لنا. ولهذا السبب أيضًا كانت مريم فى الحقيقة مفترضة من قبل[3]. ليأخذ الكلمة منها (جسدًا) خاصًا به ويقدمه من أجلنا .

          وقد أوضح إشعياء هذا متنبئًا فقال: “هاهى العذراء” (إش14:7) وأرسل الله جبرائيل إليها، ليس إلى مجرد عذراء، بل “إلى عذراء مخطوبة لرجل” (لو27:1) لكى يتبين من كونها مخطوبة ، أن مريم كائن بشرى بالحقيقة. ولهذا السبب ذكر الكتاب أيضًا أنها ولدته ، وأنها ” قمطته ” (لو7:2) ولذلك فإن الثديين اللذين رضعهما، يُعتبران مباركين (قارن لو27:11). وقد قدم ذبيحة ، لأنه بولادته فتح الرحم (أنظر لو23:2) وهذه كلها براهين على أن العذراء هى التى ولدته .

          وجبرائيل حمل إليها البشارة بيقين كامل ولم يقل مجرد “المولود فيك” ، حتى لا يُظن أن الجسد غريب عنها ومجلوب إليها من الخارج ، بل قال “المولود منك ” لكى يعتقد الجميع أن المولود خارجًا منها ، إذ أن الطبيعة تبين هذا بوضوح ، فمن المستحيل على عذراء أن تدر لبنًأ إن لم تكن قد ولدت. ومن المستحيل أن الجسد يتغذى باللبن ويُقمط إن لم يكن قد وُلد بصورة طبيعية قبل ذلك .

          وهذا هو المقصود بالختان فى اليوم الثامن بعد ولادته: إن سمعان تلقاه فى أحضانه وهذا يدل على أنه قد صار طفلاً ، وأنه نما حتى صار له من العمر اثنتا عشر سنة (أنظر لو21:2ـ42) إلى أن بلغ الثلاثين عامًا (أنظر لو23:3). وليس كما يظن البعض أن جوهر الكلمة نفسه قد خُتِنَ بعد أن تحوّل. لأنه لا يقبل التحوّل ولا التغيّر . لأن المخلص نفسه يقول ” أنظروا، أنظروا ، لأنى أنا هو ، وأنا ما تغيرت ” (ملاخى6:3س).

          أما بولس فيكتب قائلاً : ” يسوع المسيح هو هو بالأمس واليوم وإلى الأبد ” (عب8:13) ولكن كلمة الله غير المتألم والذى بلا جسد ، كان فى الجسد الذى خُتِنَ وحُمِلَ ، والذى أكل وشرب ، والذى تعب ، والذى سُمِرّ على الخشبة وتألم .

          هذا الجسد هو الذى وُضِعَ فى قبر ـ عندما تخلى عنه الكلمة ـ ولكنه لم ينفصل عنه ـ وذلك ” ليكرز للأرواح التى فى السجن ” كما يقول بطرس (1بط19:3).

          6 ـ وهذا يبين بالأكثر ، هوس الذين يقولون إن الكلمة قد تحوّل إلى عظام ولحم ـ فلو كان الأمر كذلك ، لَما كانت هناك حاجة إلى قبر ، ولكان الجسد ذاته قد مضى بنفسه ليكرز للأرواح التى فى الهاوية . أما الآن فإنه مضى هو بنفسه ليكرز ، أما الجسد فبعد أن كفنه يوسف بالكتان (قارن مر46:15) ، وضعه فى الجلجثة . وهكذا اتضح أن الجسد لم يكن الكلمة، وإنما هو جسد الكلمة. وإنه عندما قام الجسد من بين الأموات لمسه توما ورأى فيه آثار المسامير (قارن يو25:20) التى احتملها الكلمة ذاته، والتى رآها (توما) مخترقة جسد (الكلمة) ذاته ، والتى كان فى استطاعته أن يمنعها ولكنه لم يمنعها، بل بالعكس فإن الكلمة الذى بلا جسد خصص لنفسه خصائص الجسد باعتباره جسده ذاته . فلماذا حينما ضرب العبد ، الجسد ، تألم الكلمة نفسه وقال ” لماذا تضربنى ” (يو23:18) ورغم أن الكلمة بطبيعته لا يمكن لمسه، إلاّ أنه قال “أسلمت ظهرى للسياط، وخدى للطمات، ولم أرد وجهى عن خزى البصقات ” (إش6:50).

          لأن تلك الأشياء التى كان يتألم منها ، جسد الكلمة ، البشرى ، كان الكلمة الذى سكن فى الجسد ينسبها لنفسه ، لكى نستطيع نحن أن نشترك فى لاهوت الكلمة .

          ومن الغريب ، أن الكلمة نفسه كان متألمًا وغير متألم ، فمن ناحية ، كان (الكلمة) يتألم لأن جسده هو الذى كان يتألم وكان هو المتألم فيه، ومن الناحية الأخرى ، لم يكن الكلمة يتألم ، لأن الكلمة ـ إذ هو إله بالطبيعة ـ فهو لا يقبل التألم. وكان الكلمة غير الجسدى موجودًا فى الجسد الذى يتألم، وكان الجسد يحوى فيه الكلمة غير المتألم الذى كان يبيد العلل التى قبلها فى جسده. وكان يصنع هذا ، وهكذا كان يصير ، كى ، بعد أن يأخذ ما لنا (أى الجسد) ويقدمه كذبيحة ، يقضى على (العلل والضعفات) كلها. وهكذا يلبسنا ما له ، وهذا ما يجعل الرسول يقول : ” لأن هذا الفاسد لابد أن يلبس عدم فساد، وهذا المائت يلبس عدم موت ” (1كو53:15).

          7 ـ وهذه الأشياء لم تحدث بالظن ، حاشا ! كما يفترض البعض ، أيضًا : بل فى الواقع فإنه بصيرورة المخلص إنسانًا بالحقيقة، صار الخلاص للإنسان كله .

          فلو كان الكلمة فى الجسد بمجرد الظن، كما يقول أولئك، فإن هذا الظن يكون ضربًا من الخيال ، وبناء على ذلك فإن خلاص الإنسان وقيامته يعتبران مجرد إدعاء غير حقيقى ، بحسب ما يقول مانى أشد الكافرين .

          إلاّ أن خلاصنا ، فى واقع الأمر ، لا يُعتبر خيالاً ، فليس الجسد وحده هو الذى حصل على الخلاص ، بل الإنسان كله من نفس وجسد حقًا ، قد صلار له الخلاص فى الكلمة ذاته .

          وهكذا فإن المولود من مريم هو بشرى بالطبيعة، بحسب الكتب الإلهية. وأن جسده هو جسد حقيقى، وهو حقيقى لأنه هو نفس جسدنا، حيث إن مريم هى أختنا، لأننا نحن جميعًا (هى ونحن) أيضًا من آدم .

          ولا يجب أن يرتاب فى هذا، حينما يتذكر ما كتبه لوقا. لأنه بعد القيامة من بين الأموات، ظن البعض أنهم لن يشاهدوا الرب فى الجسد المأخوذ من مريم، بل ظنوا بدلاً من هذا، أنهم نظروا روحًا، فكتب لوقا يقول : “أنظروايدى ورجلى ” ومواضع المسامير، إنى أنا هو، جسونى وانظروا فإن الروح ليس له لحم وعظام كما ترون لى، وعندما قال هذا، آراهم يديه ورجليه” (لو40،39:24) ومن هذا الكلام نستطيع أن نفند كلام الذين يتجاسرون مرة أخرى أن يقولوا إن الرب قد تغير إلى لحم وعظام، لأنه لم يقل كما تشاهدوننى وأنا لحم وعظام، بل قال “كما ترون إنه لى” لكى لا يعتقد أحد بأن الكلمة نفسه قد تحول إلى هذه الأشياء قبل الموت، وبعد القيامة.

          8 ـ وإذ قد تم إثبات هذه الأشياء هكذا، فإنه يكون من نافلة القول أن نتعرض للموضوعات الأخرى، وندخل فى جدل حولها ، إذ أن الجسد الذى كان فيه الكلمة لم يكن من نفس جوهر اللاهوت ، بل هو حقًا مولود من مريم. والكلمة نفسه لم يتحول إلى عظام ولحم بل قد صار فى الجسد . لأن ما قيل فى إنجيل يوحنا ” الكلمة صار جسدًا ” (يو14:1) له هذا المعنى ، كما يمكن أن نجد هذا فى موضع مشابه ، فقد كتب بولس ” المسيح صار لعنة لأجلنا ” (غلا13:3). وكما أنه لم يصر هو نفسه لعنة، بل قيل إنه قد صار لعنة لأنه احتمل اللعنة من أجلنا، هكذا أيضًا ، فإنه قد صار جسدًا لا بتحوله إلى جسد ، بل باتخاذه لنفسه جسدًا حيًا من أجلنا، وصار إنسانًا . لأن القول ” الكلمة صار جسدًا ” هو مساوٍ أيضًا للقول “الكلمة صار إنسانًا”. حسب ما قيل فى يوئيل “إنى سأسكب من روحى على كل جسد” (يو28:2) لأن الوعد لم يكن ممتدًا إلى الحيوانات غير الناطقة، بل هو للبشر الذين من أجلهم قد صار الرب إنسانًا .

          وبما أن هذا هو معنى النص المُشار إليه ، فإنهم يدينون أنفسهم أولئك الذين يظنون أن الجسد المولود من (مريم) كان موجودًا قبل مريم، وأن الكلمة كانت له نفس بشرية قبلها (قبل مريم) ، وأن هذه النفس كانت فيه دائمًا حتى قبل مجيئه . وهكذا سيكف أيضًا الذين يقولون إن الجسد لم يكن قابلاً للموت، وإنه كان من طبيعة غير مائتة. لأنه لو لم يكن قد مات، فكيف إذن سلّم بولس إلى الكورنثيين ما قبله هو أيضًا : ” أن المسيح مات من أجل خطايانا حسب الكتب ” (1كو3:15)، وكيف قام مطلقًا إن لم يكن قد مات أيضًا ؟ وسيحمّر بالخجل العظيم كل من يدور فى مخيلته عمومًا أى احتمال لأن يكون هناك رابوع بدلاً من ثالوث، وذلك فى حالة القول إن الجسد إنما هو من مريم .

          فهم يزعمون إننا نقول ، إن الجسد من نفس جوهر الكلمة ، وهكذا يبقى الثالوث ثالوثًا . لأنه لا يكون هناك شئ غريب قد أُضيف إلى الكلمة، ولكن إن قلنا إن الجسد المأخوذ من مريم إنما هو بشرى، فمن الضرورى حيث إن الجسد غريب فى جوهره عن الكلمة ، والكلمة كائن فيه، فإن إضافة الجسد تجعل هناك رابوعًا بدلاً من ثالوث (حسب ظنهم).

          9 ـ إن الذين يتناولون هذه الأمور بهذه الطريقة ، لا يدركون أنهم يقعون فى تناقض مع أنفسهم ، لأنهم حتى وإن قالوا إن الجسد ليس من مريم بل إنه من نفس جوهر الكلمة، (وهذا ما يتظاهرون أنهم يفكرون به، وذلك لكى لا يظهر حقيقة ما يفكرون به)، فإنه بحسب تفسيرهم هذا، يمكننا ان نوضح أنهم يقولون برابوع . لأنه كما أن الابن، بحسب الآباء ، هو من نفس جوهر الآب، وليس هو الآب نفسه، بل يُقال إنه ابن من نفس جوهر الآب، هكذا جسد الكلمة (الذى يقولون) إنه من نفس جوهر الكلمة لا يكون هو الكلمة ذاته بل هو آخر بالنسبة للكلمة .. ولكونه آخر (غير الكلمة) ، فإنه بحسب رأيهم يكون ثالوثهم رابوعًا .

          لأن الثالوث الحق ، والكامل بالحقيقة، وغير المنفصل لا يقبل إضافة ، بل إن فكرة (الإضافة) قد اختلقها هؤلاء الأشخاص .

          وكيف يمكن أن يظلوا مسيحيين أولئك الذين يخترعون إلهًا آخر مختلفًا عن الإله الكائن . ومرة أخرى فإنه فى الإمكان أن نرى فى سفسطتهم الأخرى منتهى الحماقة .

          لأنهم يظنون أنه بسبب ما هو موجود فى الكتب وما قيل فيها من أن جسد المخلص هو من مريم وأنه بشرى، فإنهم يعتبرون بذلك أن هناك رابوعًا بدلاً من ثالوث، كما لو كانت قد حدثت إضافة بسبب الجسد، وهكذا فإن الذين يساوون الخالق بالخليقة يضلون كثيرًا ، إذ أنهم يتوهمون بأنه من الممكن أن يقبل اللاهوت إضافة . وعجزوا عن أن يدركوا ، أن الكلمة صار جسدًا ، ليس لأجل إضافة (شئ ما) إلى اللاهوت، بل من أجل أن ينال الجسد قيامة. ولم يأتى الكلمة من مريم لكى يرتقى هو، بل لكى يفدى الجنس البشرى. فكيف إذن يفكرون أن الجسد وهو الذى افتداه الكلمة وأحياه، يقوم بإضافة شئ ما من ناحية اللاهوت إلى الكلمة الذى أحياه ؟ بل بالعكس فإن الجسد البشرى ذاته هو الذى حدثت له زيادة كبيرة ، بسبب شركة الكلمة معه واتحاده به ، لأنه (الجسد) صار غير مائت بعد أن كان مائتًا ، ورغم أن الجسد كان حيوانيًا (نفسانيًا) فقد صار روحانيًا ، ورغم أنه من تراب الأرض فقد اجتاز الأبواب السماوية .

          إذن فالثالوث هو ثالوث، رغم أن الكلمة حصل على جسد من مريم، والثالوث كامل لا يقبل زيادة ولا نقصانًا ، ولا نعرف إلاّ لاهوتًا واحدًا فى الثالوث، وهكذا يكرز فى الكنيسة بإله واحد هو أب الكلمة .

          10 ـ ومن أجل هذا فسيصمت أولئك الذين سبق أن قالوا إن الذى جاء من مريم ليس هو المسيح والرب الإله. لأنه لو لم يكن إلهًأ فى الجسد ، فكيف بمجرد ولادته من مريم دُعىَ ” عمانوئيل الذى تفسيره الله معنا ” (مت23:1) وأيضًا لو لم يكن هو الكلمة فى الجسد ، فكيف كتب بولس إلى أهل رومية : ” ومنهم المسيح حسب الجسد الكائن على الكل إلهًا مباركًا إلى الأبد آمين ” (رو5:9). وأولئك الذين سبق لهم أن أنكروا أن المصلوب هو إله ، فليعترفوا بأنهم قد أخطأوا، لأن الكتب الإلهية تحضهم ـ وبنوعٍ خاص ـ توما ، الذى بعد أن رأى فيه آثار المسامير، صرخ قائلاً ” ربى وإلهى ” (يو28:20). لأن الابن إذ هو الله ورب المجد، كان فى الجسد الذى سُمِرَ وأُهين بخزى، أما الجسد فكان يتألم وهو على الخشبة، وكان يسيل من جنبه (المطعون) دم وماء. ولكن بسبب أنه كان هيكل الكلمة بالحقيقة، فقد كان مملوءًا من اللاهوت . ولهذا السبب إذن عندما رأت الشمس خالقها وهو يتألم فى الجسد المُهان ، سحبت أشعتها ، وأظلمت الأرض ولكن الجسد نفسه ، وهو من طبيعة مائتة ، قام بطبيعة تفوق طبيعته بسبب الكلمة الذى فيه، وتوقف فساده (إضمحلاله) الطبيعى ، وإذ قد لبس الكلمة الذى هو فوق الإنسان هذا الجسد ، فقد صار (الجسد) غير فاسد (غير مضمحل).

          11 ـ أما بخصوص ما يتخيله بعض (الناس) الذين يقولون إنه كما صار الكلمة إلى كل واحد من الأنبياء ، هكذا جاء (الكلمة) إلى إنسان واحد معين هو الذى وُلِدَ من مريم ، فمن العبث أن نجادل هذا القول ، حيث إن جنونهم يحوى فى طياته دنيونته الواضحة . لأنه لو كان قد جاء بهذه الطريقة ، فلماذا جاء هذا الإنسان من عذراء ولم يُولد هو أيضًا من رجل وامرأة ؟ فإن جميع (الأنبياء) القديسين وُلدوا هكذا (من رجل وامرأة) أما وقد جاء الكلمة هكذا (من عذراء) ، فلماذا لا يُقال إن موت كل واحد (من الأنبياء) قد حدث لأجلنا، بل (يُقال هذا فقط) على موت هذا الإنسان وحده؟ وإن كان الكلمة قد سكن بيننا لفترة قصيرة ، والأنبياء مثله قد أقاموا أيضًا فترة على الأرض، فلماذا يُقال عن المولود من مريم إنه استوطن بيننا “مرة واحدة عند إنقضاء الدهور ” (عب26:9) وإن كان قد جاء هو ، كما سبق أن جاء فى القديسين (الذين قبله) ، فلماذا مات جميع هؤلاء القديسين الآخرين ولم يقوموا بعد ، فى حين أن المولود من مريم وحده ، قام فى خلال فترة الثلاثة أيام ؟ .

          وإن كان الكلمة قد جاء بطريقة مماثلة لتلك التى (سبق) أن جاء بها فى الآخرين، فلماذا يُدعى المولود من مريم وحده ، عمانوئيل ، أى الذى وُلِدَ منها جسدًا مملوءًا بالألوهية ؟ لأن عمانوئيل تفسيره ” الله معنا ” .

          وإن كان قد جاء هكذا (أى بنفس الطريقة التى جاء بها فى الأنبياء) فلماذا لا يُقال عن كل واحد من (الأنبياء) القديسين ، عندما كان يأكل ويشرب ويتعب ويموت ، إن (الكلمة) نفسه أكل وشرب وتعاب ومات ، بل يُقال هذا فقط عن المولود من مريم وحده ؟ لأن ما تألم به هذا الجسد (جسد الكلمة) يُعتبر أن الكلمة قد تألم به .

          وبينما يُقال عن الآخرين إنهم فقط وُلدوا متناسلين يُقال فى حالة المولود من مريم وحده إن ” الكلمة صار جسدًا ” (يو14:1).

          12 ـ من كل هذا تبين أن الكلمة جاء إلى جميع الآخرين (الأنبياء) لكى يتنبأوا ، أما الكلمة نفسه الذى وًلد من مريم فقد اتخذ منها جسدًا وصار إنسانًا ، إذ هو بطبعه وجوهره كلمة الله ، أما من جهة الجسد فهو إنسان من نسل داود ومن جسد مريم كما قال بولس (أنظر رو3:1).

          وقد أظهره الآب فى الأردن وعلى الجبل قائلاً ” هذا هو ابنى الحبيب الذى به سررت ” (مت13:3). والآريوسيون أنكروه ، أما نحن فنعترف به ونعبده ولا نفصل الابن عن الكلمة ، بل نعرف أن الابن هو نفسه الكلمة ، الذى به قد كان كل شئ ، والذى به افتُدينا نحن .

          ولهذا السبب دُهشنا حقًا أن يحدث بينكم نزاع على الإطلاق حول هذه الأمور الواضحة جدًا. ولكن شكرًا للرب، إنه بقدر حزننا عند قراءة مذكراتكم، بقدر ما فرحنا بما انتهت إليه (هذه المذكرات). لأنهم مضوا بعد اتفاق وتصالح على الاعتراف بالإيمان الأرثوذكسى الحسن العبادة .

          وهذا فى الواقع ما دفعنى أيضًا أن أكتب هذه الكلمات القليلة بعد أن أمعنت الفكر كثيرًا أولاً ، خوفًا من أن يسبب صمتى ألمًا بدلاً من الفرح لأولئك الذين سببوا لنا فرحًا باتفاقهم معًا. لذلك أرجو أولاً من قدسكم وثانيًا من المستمعين لهذه الرسالة أن تتقبلوا ما فيها من كلمات بضمير نقى ، وإن كان فيها أى عجز من جهة التقوى فأرجو أن تصوبوه وتفيدونى. أما إن كنت قد كتبت كإنسان عامى فى الكلام (2كو6:11)، أو إن كان الحديث غير جدير أو غير كامل ، فاستميحكم جميعًا عذرًا بسبب ضعفى فى التعبير .

          سلّم على جميع الاخوة الذين معك . وكل الذين معى يسلمون عليك ، ولتكن حياتك فى الرب فى تمام الصحة ، أيها المحبوب والمشتاق إليه جدًا.

 

1 تُرجمت هذه الرسالة عن اليونانية ضمن الجزء الثالث لرسائل القديس كيرلس (ترجمة الدكتور موريس تاوضروس والدكتور نصحى عبد الشهيد) ، ونشرها مركز دراسات الآباء بالقاهرة سنة 1995م .

1  أى يمسك نسل إبراهيم (أنظر عب17،16:2).

2  كانت مضمنة فى خطة الخلاص فى قصد الله ليأخذ منها الكلمة جسدًا .

 

المسيح في رسائل القديس اثناسيوس ج3 – د. نصحى عبد الشهيد