آبائياتأبحاث

قيامة المسيح وقيامة الأجساد ج2 – ق. يوحنا ذهبى الفم – د. سعيد حكيم يعقوب

قيامة المسيح وقيامة الأجساد ج2 - ق. يوحنا ذهبى الفم - د. سعيد حكيم يعقوب

قيامة المسيح وقيامة الأجساد ج2 – ق. يوحنا ذهبى الفم – د. سعيد حكيم يعقوب

قيامة المسيح وقيامة الأجساد ج2 - ق. يوحنا ذهبى الفم - د. سعيد حكيم يعقوب
قيامة المسيح وقيامة الأجساد ج2 – ق. يوحنا ذهبى الفم – د. سعيد حكيم يعقوب

 

الجزء الأول: قيامة المسيح وقيامة الأجساد ج1 – ق. يوحنا ذهبى الفم – د. سعيد حكيم يعقوب

 

كان

 المُطوب بولس من هذا النوع من الناس ولهذا قال: ” من سيفصلنا عن محبة المسيح أشدة أم ضيق أم اضطهاد أم جوع أم عرى أم خطر أم سيف كما هو مكتوب إننا من أجلك نُمات كل النهار قد حسبنا مثل غنم للذبح ولأننا فى هذه جميعها يعظم انتصارنا بالذي أحبنا ” (رو35:8ـ37). وهذا ما يعنيه هنا بالضبط ” إن كان إنساننا الخارج يفنى فالداخل يتجدد يومًا فيومًا“. أما الجسد فضعيف وأما الروح فقوى وأكثر قوة وأكثر حرية. فالجندى المُصاب بمرض ثقيل جدًا حتى ولو كان جسورًا وقادرًا فى الحرب لا يمثل لأعدائه أى انزعاج لأن ثقل المرض سيشكل عائق فى حرية حركته. هكذا فكل من يجعل جسده أكثر خفة بالأصوام والصلوات والصبر الكثير على الضيقات، يكون مثل طائر يحلق من أعلى وباندفاعة قوية يسقط على صفوف الشياطين وينتصر بسهولة على كل القوات المضادة ويخضعها. نفس الأمر حدث لبولس تلقى ضربات كثيرة أُلقى فى السجن رُبط فى آلة من خشب[*]، جسده كان ضعيفًا جدًا مُنهكًا من المتاعب الكثيرة، لكن نفسه كانت قوية ومُشرقة. هذا المُقيد كان قويًا جدًا وبصوته فقط كان يزعزع أساسات السجن، ويُحضر أمام قدميه حارس السجن المرتعب والأبواب المغلقة تُفتح. إذن فالرسول بولس يعطينا بهذا تعزية غير قليلة قبل القيامة، إننا نستطيع أن نصير أفضل وبفكر أكثر استنارة حتى داخل التجارب ولهذا يقول: ” الضيق ينشئ صبرًا والصبر تزكية والتزكية رجاء والرجاء لا يخزى” (رو4:5ـ5)، ويقول قديس آخر: [ إنسان لم يمر بتجربة هو غير مختبر وغير المختبر غير مستحق أبدًا للكلمة ].

 

          فمن الضيقة نثمر الكثير ويكون لدينا نفسًا مختبرة وأكثر حكمة وأعمق فهمًا، وبهذا نتخلص من كل حيرة. لهذا يقول: “ إن كان إنساننا الخارج يفنى فالداخل يتجدد يومًا فيومًا” أخبرنى كيف يتجدد؟ يُطرح الخوف خارجًا، تُخمد الشهوة الرديئة وتتلاشى محبة المال والمجد الباطل وكل الأفكار الأخرى الفاسدة. أما النفس التي لا تثمر ولا تعمل، فتسيطر عليها الشهوات بسهولة. هكذا فإن النفس التي تنشغل بالجهاد من أجل الفضيلة بلا انقطاع ليس لديها وقت للتفكير فى هذه الشهوات، حيث إن الاهتمام بالجهادات المستمرة يُبعد النفس عن كل هذه الشهوات. ولهذا قال ” تتجدد يومًا فيومًا“. ثم بعد ذلك يعزى أيضًا النفوس التي تتألم بسبب المتاعب المنتظرة ولا تعرف أن تتقبل هذه المتاعب بحكمة، فهو يوجه نظرهم للرجاء نحو الأبدية قائلاً: ” لأن خفة ضيقتنا الوقتية تنشئ لنا أكثر فأكثر ثقل مجد أبدى ونحن ناظرين للأشياء التي لا تُرى، لأن الأشياء التي تُرى وقتية وأما التي لا تُرى فأبدية” (2كو17:4ـ18). وحديثه هذا يحمل المعنى الآتى: أن الضيقة تفيد أنفسنا جدًا وتجعلها أكثر حكمة وأشد وعيًا ثم تكون سببًا لنصيب عظيم من الصلاح فى الدهر الآتى ليس كمقابل للأتعاب، لكن بالأكثر كمكافأة للجهاد الروحى الكثير والذي من كل القلب.

 

          إن هذين الأمرين يظهرهما بولس ويُقارن بين كثرة الأخطار وبين امتياز المكافأة. ويقابل بين الوقتى والأبدى، بين الهين والثقيل، بين الضيقة والمجد. لأنه كما يقول من ناحية، هناك الضيقة وهي وقتية وخفيفة، ومن ناحية أخرى هناك المجد وهو أكبر بكثير من مجرد الراحة بل هو أبدى ومستمر وعظيم. وهو لا يعنى بالثقل هنا شئ يثقل حمله ولكن يعنى شيئًا عظيمًا وعالى القيمة جدًا. ووفق عادة الكثيرين فإنهم يدعون كل ما هو ثقيل بالشيء القيم الفخم. إذن بقول ثقل مجد فهو يعنى مجد فائق.

 

          هكذا يقول لا تحتسب لهذا فقط، أنك تُضطهد وتُجلد، لكن أنظر إلى الأكاليل والمكافآت لأنها أفضل بكثير وأكثر إشراقًا من الأمور الحاضرة، فأمور الدهر الآتى ليس لها نهاية.

 

          لكن ربما تقول إن أمور العالم الحاضر نراها، وأمور الدهر الآتى نترجاها، وأن أمور العالم الحاضر هي واضحة وأما أمور الدهر الآتى هي غير ظاهرة. لكن على الرغم من أنها غير ظاهرة فهي أكثر وضوحًا من الأمور الظاهرة، ماذا أعنى بقولى أكثر وضوحًا؟ أمور الدهر الآتى نستطيع أن نراها أكثر من أمور هذا العالم، لأن أمور هذا العالم هي وقتية أما أمور الدهر الآتى فهي أبدية. “ ونحن ناظرين إلى الأشياء التي لا تُرى، لأن التي تُرى وقتية أما التي لا تُرى فأبدية “. لو قلت كيف أستطيع أن أرى الأشياء التي لا تُرى؟ سأحاول أن أتى بك إلى هذا الإيمان بواسطة أمور هذه الحياة. لأنه ولا حتى أمور هذا العالم الفانى يستطيع الإنسان أن يتلامس معها بسهولة إن لم يستطع أن يرى غير المنظور قبل أن يرى المنظور. على سبيل المثال فإن قبطان السفينة يتحمل عواصف كثيرة وأمواج تأتى عليه ومصاعب أخرى كثيرة جدًا، لكن عندما يصل إلى الميناء ويتصرف فى هذه الأحمال ويبيعها، فإنه يتمتع بالربح المادى. الأمر الواضح كانت العواصف والأمر غير الواضح كان الربح المادى. فإن لم ينظر أولاً إلى ما هو غير واضح والذي ينتظره بالرجاء، لم يكن يستطيع أن يتمتع بهذا الربح، لو لم يحتمل هذه الأمور الحاضرة والظاهرة.

 

          هكذا أيضًا فإن الفلاح يشقى ويحرث الأرض ويقلبها ويلقى البذور وينفق كل ما يملك ويصبر على البرد والصقيع والأمطار وعلى متاعب أخرى كثيرة، لكن بعد كل هذا التعب ينتظر أن يرى ظهور السنابل وأن يملأ أجرانه بالقمح. أرأيت إذن كيف يكون التعب أولاً ثم بعد ذلك المكافأة؟ من ناحية، فإن المكافأة هي أمر غير واضح، بينما التعب هو أمر واضح، المكافأة توجد داخل الرجاء (فى المستقبل) بينما التعب يوجد فى الحاضر.

 

          هكذا فإن الفلاح إن لم يتطلع إلى الأمور غير المنظورة، فإنه ليس فقط سيترك حرث الأرض وإلقاء البذور بل إنه لن يغادر منزله بالمرة لكي يعمل هذه الأمور.

 

كيف

 لا يكون إذن أمر غير معقول، أنه بينما فى أمور هذه الحياة يستطيع الإنسان أن ينظر إلى الأمور المحتجبة قبل أن يرى الأمور الظاهرة. فإنه يصبر على المتاعب ويتحمل كل المصاعب السابقة، ثم ينتظر الخيرات ويتلامس مع الأمور الظاهرة ناظرًا بالرجاء للأمور غير الظاهرة. بينما فيما يتعلق بالأمور المختصة بالله يتردد ويشك ويطلب المكافأة قبل أن يتعب ويظهر صغير النفس ويتضح أنه أقل من البحارة والفلاحين؟!

 

          ليس فى هذا فقط، لكن فى أمر آخر ستظهر أنك أسوأ من أولئك الذين يحزنون لأجل المستقبل. ما هو؟ إن أولئك الذين ليس لديهم إيمان يقينى بالآخرة لا يقبلون على التعب. أما أنت الذي لديك ضمان أكيد للأكاليل فكيف لا تتمثل بصبر هؤلاء البحارة والفلاحين واحتمالهم؟!

 

          فعلى الرغم من أنه فى مرات كثيرة عندما يبذر الفلاح أرضه ويزرعها وهو ينتظر أن يرى سنابل وفيرة يحدث العكس، بأن تصيب حقله مثلاً أمطار ثلجية أو يتعرض لجراد ويخسر كل شئ وبعد كل هذا الجهد يعود لبيته بأيدى فارغة. أيضًا القبطان عندما يشق البحار بسفينة مُحملة عن آخرها، يحدث مرات كثيرة أن تهاجمه الرياح فى مدخل الميناء ويرى السفينة تصطدم بصخرة وتنكسر ويُنقذ هو وحده مجردًا من كل شئ.

 

          بشكل عام فى أمور هذه الحياة، فمن المعتاد أن تحدث كوارث ويتعطل الهدف. لكن فى الجهاد الروحى ليس الأمر هكذا لأن من جاهد وبذر التقوى وجاز متاعب كثيرة سينجح فى هدفه مهما يكن الأمر. لأن الله لا يعلق مكافآته على تقلبات المناخ وضربات الرياح، لأن هذه المكافآت تنتظرنا فى أماكن الخيرات العتيدة التي لا تضمحل.

 

          لذلك فإن الرسول بولس يقول: ” الضيق ينشئ صبرًا والصبر تزكية والتزكية رجاء والرجاء لا يُخزى “. إذن لا تقل إن أمور الدهر الآتى غير ظاهرة لأنك لو قصدت أن تنظرها فهي أكثر وضوحًا من الأمور الملموسة باليد. وهذا بالضبط ما يوضحه لنا الرسول بولس، فهناك أمور يسميها أبدية، وأخرى يسميها وقتية، ويعنى بالوقتية الأمور الباطلة لأن هذه الأمور غير ثابتة وتحولاتها فجائية واكتسابها أمرٌ غير مؤكد. ونعنى بها الغنى والمجد والسلطة الأرضية والجمال الجسدى والقوة المادية، وبشكل عام كل أمور الحياة التي نظن أن لها قيمة. ولهذا فإن عاموس النبى يسخر من الذين يعيشون فى المتع ويشتهون الأموال وكل بريق عالمى آخر إذ يقول: ” إنهم يحسبون لبقائهم ولا يحسبون لرحيلهم ” (عا5:6س). وكما أنك لا تستطيع أن تتحكم فى الظل هكذا أمور الحياة الحاضرة. وهذه الأمور تُفقد بالموت وتُفقد أيضًا قبل الموت، وتذهب بسرعة أكثر من سرعة تيار جارف. بينما فى أمور الأبدية ليس الأمر هكذا، لأن الأمور الأبدية لا تعرف تغيرًا ولا تتعرض لفقدان ولا لشيخوخة ولا تفسد لكن تظل دائمًا فى ازدهار وإشراق وسمو.

 

          فإن كان من الواجب أن نتحدث عن بعض الأمور غير الواضحة وغير المؤكدة فإننا نعنى بها الأمور الحاضرة التي لا تبقى على حالها، لكنها تتغير من حين إلى آخر وتنتقل كل يوم من شخص إلى شخص. هذه الأمور أوضحها لنا الرسول بولس ولهذا، فأمور العالم الحاضر سماها بالوقتية وأمور الدهر الآتى بالأبدية.

 

          ويتكلم عن قيامة الأموات فيقول: ” لأننا نعلم إنه إن نُقض بيت خيمتنا الأرضى فلنا فى السموات بناءً من الله بيت غير مصنوع بيدٍ، أبدى ” (2كو1:5). ولاحظ كيفية استخدامه للكلمات بدقة وكشفه لقوة معانيها. لأنه لا يكتفى بأن يدعو الجسد بالخيمة، لكنه أوضح لنا أن الحياة الحاضرة هي حياة وقتية ثم بعد ذلك تأتى الحياة الأفضل. فكأنه يقول: لماذا تبكى وتئن أيها المحبوب، لأنك ضُربت واضطهدت وأُلقيت فى السجن؟ لماذا تتوجع بسبب بعض الإساءات بينما من الواجب أن تقبل انحلال الجسد؟ أو بالأحرى تلاشى الفساد الموجود فى الجسد. وهو يبين لنا أن هذه الإساءات البسيطة هي أبعد من أن تحزننا، بل على العكس يجب أن تفرحنا، وأن الانحلال الكامل والأخير هو غاية أملنا.

 

          ويقول: ” فإننا فى هذه أيضًا نئن مشتاقين إلى أن نلبس فوقها مسكننا الذي من السماء” (2كو2:5). وقبل كلامه هذا، عندما كان يتكلم عن الجسد قال: ” إن نُقض بيت خيمتنا الأرضى “. بيت خيمتنا أى البيوت التي نسكن فيها والمدن التي نعيش بها أى شكل الحياة الحاضرة. وهو لم يقل فقط: لأننى أعلم، ولكن ” لأننا نعلم”، لأنه يشعر بوحدته مع كل المؤمنين. وكأنه يقول لا أتكلم عن الأمور المشكوك فيها ولا عن أمور مجهولة ولكن عن الأمور التي تعلمتموها وآمنتم بها، إذ آمنتم بقيامة الرب. لذلك يسمى أجساد الذين ماتوا خيمة. لاحظوا مقدار الدقة فى استخدام الكلمة، لم يقل قُتل أو أُهلك ولكن نُقض، مبينًا أنه نُقض لكي يقوم بفرح أكثر وإشراق أكثر، كما قارن فيما بعد بين المتاعب والمكافآت، لاحظ الزمان والكيفية والمكان. فالجسد الذي ينحل يسميه خيمة والجسد الذي يقوم يسميه مسكن، ليس فقط مسكن بل أبدى، وليس فقط أبدى بل سماوى، مبينًا امتياز الجسد من جهة الزمن ومن جهة المكان فى القيامة. الواحد أرضى والآخر سماوى، الواحد وقتى والآخر أبدى. نحن الآن نحتاج إلى جسد وبيوت بسبب الضعف الجسمى، أما فى الأبدية سيكون نفس الشيء الجسد والمسكن لكن بدون احتياج إلى بيت ولا حتى إلى أغطية، حيث الخلود يغطى كل شئ.

 

          ثم بعد ذلك يبين الخيرات العتيدة التي تنتظرنا فيقول: ” فإننا فى هذه نئن مشتاقين إلى أن نلبس فوقها مسكننا“، ولم يقل: أئن، لكنه جعل الموقف مشتركًا لأنه يريد بذلك أن يجذبهم إلى فكره المستنير وأن يجعلهم شركاء فى رؤيته. لم يقل فقط: نلبس، ولكن: نلبس فوقها، وينتهي إلى “ إن كنا لابسين لا نوجد عراة “. ربما يبدو أن ما قاله فيه شئ من عدم الوضوح، لكنه صار أكثر وضوحًا فيما بعد عندما أضاف ” فإننا نحن الذين فى الخيمة نئن مثقلين إذ لسنا نريد أن نخلعها بل أن نلبس فوقها لكي يُبتلع المائت من الحياة ” (2كو4:5). أرأيت كيف انه لا يسمى هذا الجسد مسكن بل خيمة؟ ولا يقول نلبس مرة أخرى بل نلبس فوقها. وهنا استطاع أن يوجه ضربة قاضية لأولئك الذين يتكلمون بالسوء على الجسد، فقد قال     ” نئن إلى أن نلبس فوقها “، لكي لا يعتقد أحد أنه ينظر للجسد كشيء سيئ. أو أنه يعتبر الجسد شئ شائن أو عدو صريح. اسمع كيف يصحح هذه الشكوك. فهو يفعل ذلك أولاً بعبارة ” نئن مشتاقين أن نلبس فوقها مسكننا الذي من السماء“. وبالحقيقة من يكسو شيئًا فإنه يضع فوقه شيئًا آخر، لذلك يضيف ” نئن مثقلين إذ لسنا نريد أن نخلعها بل أن نلبس فوقها“.

 

          وهو بذلك يريد أن يقول إننا لا نرفض الجسد بل نرفض الفساد الذي فيه، لا نرفض الجسد بل نرفض الموت. الجسد شئ والموت شئ آخر، الجسد شئ والفساد شئ آخر. فلا الجسد هو فساد ولا الفساد هو جسد. ومن المؤكد أن الجسد فانٍ، لكن الفناء ليس هو الجسد، ومن المؤكد أيضًا فإن الجسد مائت، لكن الموت ليس هو الجسد. الجسد خلقه الله، أما الموت والفساد ليسا من الله بل دخلا بسبب الخطية.

 

          إذن فهو يريد أن يقول: إنى أخلع ما هو غريب عنى، والغريب ليس هو الجسد ولكن الفساد، ولهذا يقول: لسنا نريد أن نخلعها (أى خيمة الجسد) ولكن أن نلبس فوقها أى نلبس عدم الفساد. إذن نخلع الفساد ونلبس عدم الفساد. فهو يريد أن ينبذ ما جاء نتيجة للخطية، وفى الوقت نفسه يكتسب كل ما أعطته النعمة الإلهية. ولكي نعلم أن الخلع لا يقوله من جهة الجسد بل يقوله من جهة الفساد والموت. اسمع ما يقوله بعد ذلك مباشرة: ” إذ لسنا نريد أن نخلعها بل أن نلبس فوقها“، ولم يقل: لكي يُبتلع الجسدى من اللاجسدى، لكن ماذا يقول؟ ” لكي يُبتلع المائت من الحياة “. لهذا فهو لا يتحدث عن خلع الجسد بل عن خلع الموت والفساد. فالحياة التي تأتى إلى الجسد (بالقيامة) لن تبيد الجسد، بل الفساد والموت اللذين فى الجسد. إذن فالأنين ليس بسبب الجسد بل بسبب الفساد الموجود فى الجسد. فالجسد هو عبء ثقيل لا بسبب طبيعته ولكن بسبب الفساد الذي دخله فيما بعد. والجسد بحد ذاته لم يُجعل للفساد بل لعدم الفساد[†]. وهو يحمل تلك الخاصية حتى حين صار قابلاً للفساد. ولذلك فإن ظل الرسل كان يطرد القوات غير الجسدية، والملابس التي كانت تستر أجسادهم كانت تشفى المرضى وتعيدهم أصحاء. لا تحدثونى عن أمراض الجسد والأمور الأخرى التي يذكرها الذين يتكلمون ضد الجسد، لأن كل هذه الأمور لم تكن من طبيعة الجسد بل هي بسبب الفساد الذي دخل الجسد فيما بعد.

 

          لو أردتم أن تعرفوا حقيقة الجسد وقيمته، دققوا النظر فى خلق أعضاء الجسد وشكل هذه الأعضاء ودقائق أعمالها بتوافق وتناسق وانسجام، فإنك عندئذ ستتأكد أن أداء هذه الأعضاء والتوافق فيما بينها هو أمر أكثر مثالية وأكمل من مدينة تحترم قوانينها ومواطنيها جميعًا من الحكماء.

 

          فإن كنت أنت تتغافل عن كل هذه الأمور وترى فقط فساد الجسد وفنائه، فنحن نستطيع أن نستخرج منها دليل الدفاع عنه. فالبشر لم يخسروا شيئًا من فساد الجسد، بل كان هناك ربح كثير للجنس البشرى، وهذا يتضح من أن كل القديسين قد عاشوا فى الجسد، وتمكنوا أن يعيشوا كملائكة ولم يعطلهم هذا العبء الثقيل عن التقدم فى حياة الفضيلة. أما هؤلاء الذين اندفعوا نحو الطغيان والجحود، فإن فساد الجسد لا يمنعهم من السير خطوات أخرى فى طريق مخالفتهم. الخلاصة أن بعض الناس المعرضين للموت مع أنهم لابسون جسدًا قابلاً للآلام والفساد، يتوهمون أنهم معادلون لله. كم من أناس بسطاء كان يمكن أن يُخدعوا بأحاديثهم لو لم يفطنوا إلى أنهم يلبسون هذا الجسد الضعيف والفانى؟. فإذا كان ذلك الجسد القابل للفساد يعطى الفرصة للقديسين لكي يظهروا شجاعة وشهامة النفس، فأى مغفرة تكون لأولئك الذين يتكلمون ضد الجسد؟

 

          نستطيع القول من جهة حقيقة الجسد وقيمته، إنه قد صار لنا سببًا لمعرفة الله، لأن الكتاب يقول: “ لأن أموره غير المنظورة تُرى منذ خلق العلم مُدركة بالمصنوعات قدرته السرمدية ولاهوته ” (رو20:1).

 

          واضح إذن إن النفس اُقتيدت لمعرفة الله الذي خلقها بواسطة الأعين والآذان، ولهذا فإن بولس كرّم الجسد وهو يقول: “ لسنا نريد أن نخلعها بل أن نلبس فوقها ” (2كو4:5).

 

          لا تقل لى كيف يقوم الجسد مرة أخرى ويصير غير قابل للفساد؟ لأنه حين تعمل قوة الله، فكل شئ يصير ممكنًا. أنت نفسك قد خلقك الله قادرًا أن تصير مبدعًا، وأنتم تختبرون كل يوم أعمال قيامة، إما فى مزروعاتكم أو فى فنونكم، أو فى الصناعات المعدنية. فالبذور لا تُخرج السنابل إن لم تمت فى البداية وتتعفن وتفسد. إذن لديك دليل واضح، فكما ترى البذرة تتعفن وتتحلل ثم بعد ذلك تنمو، فلا تشك فى القيامة، لأن نفس الشيء يجب أن تفكر فيه من جهة جسدك. فحينما ترى الفساد قد دخل فيه، فهذا يجب أن يجعلك تفكر فى القيامة. لأن الموت ليس إلاّ إبطالاً للفساد، فالموت لا يُبطل الجسد، بل الفساد الذي فى الجسد. نفس الشيء يراه الإنسان فى المعادن. يأخذ الخبراء التراب المخلوط بالذهب ويسلمونه للمعمل لاستخراج الذهب منه. أيضًا يخلطون الرمل مع مواد أخرى لكي يصنعون زجاجًا نقيًا.

          أخبرنى إذن إن كانت النار تصنع هذا، أفلاّ تستطيع نعمة الله أن تصنعه؟ فكر فى كيفية خلقك منذ البداية ولا تشك بالأولى فى القيامة؟. أليس بقليل من التراب قد خلق الله أجسادكم؟. أيهما أصعب أن يخلق من الطين لحم وأوردة وجلد وعظام وأعصاب وشرايين، وأن يضع أعضاء الحواس كالعيون والآذان والأنوف والأرجل والأيدى، وأن يعطى كل عضو قوة خاصة به كما يعطيه أيضًا قوة تربطه بغيره من الأعضاء. أو أن يجعل القابل للموت غير مائت؟

 

          ألاّ ترون أن الطين هو مادة متساوية الأجزاء، بينما الجسد متنوع فى أعماله وألوانه وشكله وجوهره وفى كل شئ. لا تسأل كيف صنع الله الكواكب السماوية التي لا تُحصى، والملائكة ورؤساء الملائكة والطغمات الأعلى منهم؟ أنا لا أعرف كيف، أقول فقط إنه أراد أن يخلقها.

 

          إذن فالذي خلق كل هذه الكائنات الروحية ألاّ يستطيع أن يجدد جسد الإنسان مرة أخرى، وأن يجعل القابل للفساد غير قابل للفساد ويرفعه إلى أعلا مرتبة؟

 

من

 يفكر بأن الجسد لا يقوم هو عديم الفهم. فعدم قيامة الجسد تعنى عدم قيامة الإنسان. لأن الإنسان ليس نفس فقط بل نفس وجسد معًا. فلو أن النفس هي التي تقوم فقط فهذا معناه أن نصف الإنسان فقط هو الذي يقوم وليس كله. ومن ناحية أخرى فإن القيامة بالنسبة للنفس ليس لها معنى واضح. فالقيامة هي للذى سقط وتحلل، النفس لا تتحلل ولكن الجسد هو الذي يتحلل.

          لكن ماذا تعنى هذه الكلمات “ إن كنا لابسين لا نوجد عراة “؟ هنا يطرح علينا سر خفى وعظيم. ما هو هذا السر؟ لقد أعلنه فى رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس حينما قال: ” هوذا سرٌ أقوله لكم لا نرقد كلنا ولكننا كلنا نتغير فى لحظة فى طرفة عين عند البوق الأخير ” (1كو51:15ـ52). وما معنى هذا الكلام؟ يعنى اليهود والأمم وعبدة الأوثان والهراطقة وكل إنسان عاش فى هذا العالم سيقوم فى اليوم الأخير. فالقيامة هي عامة للجميع، للأتقياء وغير الأتقياء، للأشرار والأبرار، لكي لا تعتقد أن هناك دينونة ظالمة وتقول فى نفسك، ماذا إذن؟ أنا الذي جاهدت كل هذه الجهادات أقوم، وعابد الأوثان الذي طغى وسجد للأوثان ولم يؤمن بالمسيح هو أيضًا سيقوم ويستحق نفس الكرامة؟ اسمع ماذا يقول الكتاب: ” وإن كنا لا بسين لا نوجد عراة“، ويتساءل المرء كيف يحدث هذا؟ طالما يلبس الإنسان الخلود وعدم الفساد كيف يُوجد عاريًا؟ هذا يحدث عندما نكون مجردين من المجد ومحرومين من الدالة أمام الله. إن أجساد الخطاة تقوم وتكون خالدة ولكن هذه الكرامة تتحول بالنسبة لهم إلى وسيلة للعقاب والعذاب. وحيث إن هذه النار المُعدة لا تُطفأ، هكذا أجساد هؤلاء لا تفنى أبدًا. ولهذا قال ” إن كنا لا بسين لا نُوجد عراة “.

 

          لأنه أن نقوم ونلبس عدم الموت (الخلود) ليس هو الهدف، الهدف هو ألاّ نوجد عراة من المجد الإلهي حتى لا نُسلم للنار. ثم بعد ذلك يجعل حديثه من جهة القيامة أكثر تأكيدًا وكمالاً عندما قال ” يُبتلع المائت من الحياة ” ثم يضيف “ ولكن الذي صنعنا لهذا عينه هو الله ” وهو يعنى بهذا أنه منذ البداية قد خلق الإنسان لهذا الهدف، لا لكي يفنى ولكن لكي يحيا إلى الأبد أى خُلق للخلود.

          حتى حينما سمح أن تكونوا عرضة للموت، سمح بذلك لكي تنصلحوا بهذا العقاب، حتى حينما تحيون بالفضيلة تستطيعوا أن تصِلوا مرة أخرى للخلود. هذا كان قصد الله منذ البدء وإرادته فى خلق الإنسان الأول. فلو لم تكن هذه هي إرادته منذ البدء، بأن يفتح لنا أبواب الخلود، لما ترك هابيل يعانى هذه المعاناة وهو الذي أظهر كل فضيلة وصار صديقًا لله.

 

          والآن فإن الله يُظهر لنا أننا نسير نحو حياة أخرى، وأن هناك حياة أفضل للأبرار ينالون فيها المكافآت والأكاليل، وهابيل البار الأول الذي تبرهن على أنه بار، لم يُكافأ هنا عن أتعابه ورحل دون أن ينال مكافأة. لكن بعد هذه الحياة هناك يكون الأجر وتكون المكافأة. لهذا فإن أخنوخ وإيليا اختُطفا معلنين لنا حقيقة القيامة فهما مثالان لقيامة الموتى.

 

إذن

 

 يكفينا فقط أن نؤمن بقوة ذاك الذي يستطيع أن يصنع هذا. ولو وُجد إنسان ضعيف ويريد دليلاً آخر وتأكيدًا للقيامة الآتية فإن الله يعطيه نعمة الروح القدس بوفرة وسخاء ويعلن له هذه الحقيقة.

 

          لهذا فإن الرسول بولس فى معرض حديثه عن القيامة، أكد على علاقة قيامتنا بقيامة المسيح، وبقدرة الخالق الذي خلقنا، وباستخدامه عبارة ” أعطانا عربون الروح ” يشدد أكثر على تلك الحقيقة. والعربون الذي تشير إليه الآية هو الذي يُدفع مقدمًا، أو فى البداية كجزء من الكل. بالنسبة للكل (أى قيامة المجد) فإن الوعد أكيد. مثلما يحدث عند إجراء العقود، فإن الذي يأخذ العربون لا يكون قلقًا على بقية الثمن. وأنتم أيضًا أخذتم العربون بمعنى مواهب الروح، فلا تشكوا ولا ترتابوا أبدًا من نحو الخيرات التي تنتظركم. فأنتم أيضًا تقيمون أمواتًا، وتشفون عميانًا، وتطردون شياطين، وتطهرون برص وتشفون مرضى وتبطلون شوكة الموت. فإن كنتم تستطيعون أن تصنعوا كل هذا وأنتم فى هذا الجسد الفانى، فأى عذر لكم إن شككتم بعد ذلك فى قيامة الأموات؟.

 

          فإن كان الله قد اختصنا ونحن بعد فى زمن الشدائد والجهادات فوهب لنا فى هذه الحياة الحاضرة مثل هذه الأكاليل، وذلك قبل أن تأتى المكافآت المقبلة، فكم بالحرى تكون الخيرات التي سننالها عندما يحين موعد المكافآت؟.

 

          ولو قال أحد، نحن الآن لا نرى مثل هذه المعجزات وليس لدينا مثل هذه القوة لنصنع المعجزات، سأجيبه: إن الرسل كان لهم السلطان على صنع هذا، كما تشهد عليه الكنيسة الجامعة فى كل مكان، فالشعوب والأمم فى كل المدن انجذبوا بقوة نحو صيادى السمك. لأنه لم يكن لهؤلاء عديمى العلم والفقراء والمزدرى بهم أن يسودوا العالم، لو لم يكن لديهم معونة تلك المعجزات. أنتم أيضًا لستم مجردين من نعمة الروح القدس. يوجد الآن أمور كثيرة تشير إلى هذه النعمة وهذه العطية، وهي تفوق عمل المعجزات.

 

          فإقامة جسد من الموت هي أقل شأنًا من تخليص نفسٍ مائتة من الخطايا، وهذا ما يحدث بالمعمودية. وإزالة الأمراض الجسدية هي أدنى قيمة بكثير من رفع ثقل الخطية. وإعادة البصر إلى الأعمى هي أيسر جدًا من إنارة النفس المظلمة.

          فلو لم يكن لنا عربون الروح، لما كان لنا غفرانًا للخطايا ولا تبرير ولا تقديس، ولا كنا تمتعنا بالتبنى ولا اشتركنا فى الأسرار المقدسة. لأن الروح القدس هو الذي يقدس الجسد، والدم فى سر الإفخارستيا، ولما كان لدينا كهنوت مقدس، فالرسامات لا يمكن أن تتم بدون حلول الروح القدس.

 

          أمور أخرى كثيرة يستطيع الإنسان أن يذكرها، كإشارات لبيان نعمة الروح القدس. بالتالى فأنتم تأخذون عربون الروح القدس لتقيموا النفوس المائتة وتصححون الأفكار المريضة. وبما أننا قد نلنا تلك الضمانات، فيجب ألاّ يكون لدينا شك فى المستقبل (القيامة).

 

          لقد جمعنا كل الحجج والبراهين الخاصة بالقيامة، فلنُظهر إذن حياة مستحقة لهذا الإيمان، لكي نحصل على الخيرات الوفيرة الثابتة، والتي تتجاوز كل فكر إنسانى بالنعمة ومحبة البشر اللواتى لربنا يسوع المسيح الذي له المجد مع أبيه الصالح والروح القدس إلى دهر الدهور. آمين.

[*]  أداة خشبية كانت تُربط بها أرجل المتهمين فلا يستطيعوا أن يحركوها أبدًا.

[†]  أنظر صلاة الصلح فى القداس الباسيلى: “يا الله العظيم الأبدى الذي جبل الإنسان على غير فساد..”.

 

قيامة المسيح وقيامة الأجساد ج2 – ق. يوحنا ذهبى الفم – د. سعيد حكيم يعقوب