آبائياتأبحاث

الخطية الجدية في تعليم ق. ساويروس الأنطاكي – د. أنطون جرجس عبد المسيح

الخطية الجدية في تعليم ق. ساويروس الأنطاكي - د. أنطون جرجس عبد المسيح

الخطية الجدية في تعليم ق. ساويروس الأنطاكي – د. أنطون جرجس عبد المسيح

المحتوى

الخطية الجدية في تعليم ق. ساويروس الأنطاكي - د. أنطون جرجس عبد المسيح
الخطية الجدية في تعليم ق. ساويروس الأنطاكي – د. أنطون جرجس عبد المسيح

 

الخطية الجدية في تعليم القديس ساويروس الأنطاكي

سوف نقدم في هذا البحث القصير بعض ملامح فكر ق. ساويروس الأنطاكيّ حول الخطية الجدية وآثار السقوط على الجنس البشريّ كله، وذلك من خلال كتابات القديس ساويروس الأنطاكيّ المتنوعة سواء كتب أو رسائل أو عظات ألقاها القديس نفسه في الكاتدرائية فيما يُعرف بـ ”عظات المنابر“ أو ”العظات الكاتدرائية“. ونهدف في بحثنا ذلك الوقوف على أفضل تصور عن فكر ورؤية ق. ساويروس الأنطاكيّ للخطية الجدية وآثارها على الجنس البشريّ كله.

الكتابات ضد يوليان أسقف هاليكارنيسوس

الخطية عدم لا يُورَّث

يسير ق. ساويرس الأنطاكيّ عَلى خُطى ق. كيرلس الإسكندري، حيث يُؤكِّد على أنَّ الخطيئة ليس لها كيان، ولا تنتقل طبيعيًا بالتناسل من الآباء إلى أطفالهم، وهكذا يُنكِر وراثة الخطية بالتناسل والتزاوج. حيث يقول التالي:

”ويترتب على كل هذا أنَّ خطيئة أولئك الذين أنجبونا؛ أي خطيئة آدم وحواء ليست مختلطة بالطبيعة مع كياننا [جوهرنا]، كمثل الرأي المنحرِف والفاسد لجماعة المصلِين، أو كقول غيرهم من المانويين، ولكن لأنهما فقدا نعمة الخلود بسبب الخطية والتعدي، ومن ثم فإنَّ الإدانة والأحكام قد بلغت إلينا، لذا فإنه وفقًا لقانون الطبيعة، فإننا نُولَد مائتين، باعتبار أننا وُلِدنا من آبائنا مَائِتين، ولسنا خُطأة لأننا وُلِدَنا من آباء خَاطِئين. وذلك لأنَّ الخطية ليس لها كيان، ولا تنتقل طبيعيًا بالتناسُّل من الآباء إلى أطفالهم“.[1]

الموت هو الفساد

يؤكِّد ق. ساويروس الأنطاكيّ على أن الفساد هو الموت، والموت هو الفساد، وأننا صرنا فاسدين ومائتين من جراء معصية آدم للوصية الإلهية، ليس لأننا عصينا الوصية الإلهية مع آدم، حيث يؤكِّد على أن ق. كيرلس لم يعرف شيء اسمه ”وراثة الخطية الأصلية“، وبالتالي، ينكر ق. ساويروس معه أي تعليم بخصوص وراثة الخطية الأصلية. وهكذا ق. ساويروس متبعًا خطوات ق. كيرلس الإسكندري في تعريف ’الفساد‘، يُفرِّق بين نوعين من الفساد، أي الفساد الطبيعيّ وهو القابلية للموت، والفساد الأخلاقي وهو ممارسة الخطية. حيث يقول التالي:

”يقول [أي ق. كيرلس]: ’لم نعص معه الوصية الإلهية‘، و ’أننا وُلِدنا أمواتًا من مائتٍ‘، والفساد لا ندعو به مَنْ هو مُدنَّس بالخطية فقط، كما يظن الأسقف المكرَّم يوليان، بل مَنْ هو مائت أيضًا، فبعد أن تحدَّث عن آدم ’مولدين منه كما من أب فاسد، وُلِدنا فاسدين‘، كما قال القديس كيرلس أيضًا حتى يُوضِّح هذا القول: ’وُلِدنا أمواتًا كما من مائت‘، حتى يُعلِّمنا أن هذا الفساد هو الموت، ويُوضِّح أن المسيح لم يُبِد الموت بتجسُّده، بل بواسطة موته بإرادته وقيامته من الأموات“.[2]

رفض الآباء اليونانيين لتعليم وراثة الخطية

يؤكِّد ق. ساويروس في رده على يوليان المهرطق أسقف هاليكارنيسوس أن الآباء اليونانيين لا يعرفون شيء اسمه ”وراثة الخطية الأصلية“، وإن هذا التعليم سيء السمعة؛ لأنه تعليم مانويّ هرطوقيّ، حيث يُخاطِبه قائلاً:

”ولتنظر قداستكم إلى طريقة تعبيركم ذاتها، إنْ كان من المناسب أن تقول بأن الجسد البشريّ في الخطية، في الحقيقة إنه وصف غير مألوف، وقد أذى أذني بطريقة غريبة، لأنه حتى هذا اليوم، فإنني لم أجد أيّ شخص من أولئك الذين علَّموا في الكنائس باللغة اليونانية، قد دوَّن هذا التعبير في أطروحاته، لأنه يعطي إيحاء بفكر سيء لمَّن يسمعه. في الحقيقة أنه كما أن القول بأن الجسد ذو نفس يعني أنه يوجد اقتران طبيعي بين النفس والجسد، هكذا أيضًا مَنْ يقول إن الجسد في الخطية، فإنه يُوحِي بأن الجسد يشتمل في تكوينه على الخطية بشكل طبيعي، أقول هذا، لأن هذا التعبير له خصائص غير لائقة أو معتادة. إذ من الواضح أن قداستكم تعترف في كل مكان أن الخطية قد أتت للإنسان كمرض، مرةً أخرى يجب على الحكماء أمثالك أن يختاروا الألفاظ بعناية ومنتهى الدقة“.[3]

كما يؤكد الأب الخوري بولس الفغالي، وهو أب كاثوليكيّ يؤمن بعقيدة وراثة الخطية الأصلية، على أن ق. ساويروس الأنطاكيّ في كتاباته ضد يوليان المهرطق أسقف هاليكارنيسوس، لم يؤمن بشيء اسمه ”وراثة الخطية الأصلية“، كما هو موجود كعقيدة وتعليم عند أوغسطينوس أسقف هيبو في الغرب اللاتينيّ، لأن ق. ساويروس الأنطاكيّ ينتمي بالأساس إلى اللاهوت الشرقيّ اليونانيّ، حيث درس وتعلَّم على أيدي آباء الكنيسة الشرقية اليونانية، وكتب جميع كتاباته باللغة اليونانية، لغة اللاهوت والفلسفة في عصره، ومن المعروف أن آباء الكنيسة الشرقية اليونانية، لا يؤمنون بشيء اسمه ”وراثة الخطية الأصلية“، كما هو في صورته الأصلية عند أوغسطينوس والغرب اللاتيني بعد ذلك. حيث يقول الأب الكاثوليكيّ بولس الفغالي التالي:

”كان يوليان أسقف بسودروم في كاريا (تركيا الحالية) يعمل مع ساويروس في الإطار المونوفيسيّ. ولكن أطلَّ الاختلاف حول جسد المسيح قبل القيامة. رأى ساويروس أن هذا الجسد معرَّض للفساد [الطبيعي]. فردَّ عليه يوليان [المهرطق]: في المجلد (الطوموس): جسد الرب بمنأى عن الفساد والألم والموت، وذلك في طبعه. لبث ساويروس على موقفه، بحيث كانت القطيعة بين الصديقين. خفَّف ساويروس نتائج خطية آدم على نسله، وأعتبر أن آدم خُلِقَ منذ البداية قابلاً للفساد والموت كنتيجة للخطيئة. وبما أن المسيح في منأى عن الخطيئة، نتج أن جسده، شأنه شأن جسد آدم قبل الخطيئة، كان في منأى عن الفساد والألم والموت. أمَّا ساويروس فأعتبر أن المسيح نال تلك الصفات بعد القيامة“.[4]

 

 

عظات المنابر أو العظات الكاتدرائية

التفسير الأرثوذكسي لآية (رو 5: 12-14)

حيث يتعرض ق. ساويروس الأنطاكيّ لتفسير آية (رو 5: 12-14) ”مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَأَنَّمَا بِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ دَخَلَتِ الْخَطِيَّةُ إِلَى الْعَالَمِ، وَبِالْخَطِيَّةِ الْمَوْتُ، وَهكَذَا اجْتَازَ الْمَوْتُ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ، إِذْ أَخْطَأَ الْجَمِيعُ. فَإِنَّهُ حَتَّى النَّامُوسِ كَانَتِ الْخَطِيَّةُ فِي الْعَالَمِ. عَلَى أَنَّ الْخَطِيَّةَ لاَ تُحْسَبُ إِنْ لَمْ يَكُنْ نَامُوسٌ. لكِنْ قَدْ مَلَكَ الْمَوْتُ مِنْ آدَمَ إِلَى مُوسَى، وَذلِكَ عَلَى الَّذِينَ لَمْ يُخْطِئُوا عَلَى شِبْهِ تَعَدِّي آدَمَ، الَّذِي هُوَ مِثَالُ الآتِي“، والتي تُستخدم عادةً بطريقة خاطئة لإثبات عقيدة وراثة الخطية الأصلية، كما فهم أوغسطينوس من هذه الآية في الترجمة اللاتينية الخاطئة التي كانت يقرأ منها. وهكذا يؤكد ق. ساويروس على أننا نولد مائتين من آدم المائت، ولم يتعرض لا من قريب ولا من بعيد لموضوع وراثة ذنب آدم، الذي يُعتبر تعليم مانويّ غير أرثوذكسيّ لدى ق. ساويروس الأنطاكيّ كالتالي:

”فآدم هذا عاش حياة الفردوس المطوَّبة وتكلَّل بنعمة الخلود (اللا موت). ولكن بعد أن تجاوز الوصية التي اتخذها لامتحان حريته لكي يحفظ الخيرات التي وُهِبَت له، ولكي يمتلك ما سوف يُزاد له، وحين استحق حكم الموت بسبب خطية المعصية (اللا ستماع) وتجاوز الخطيئة، سمع: أنت تراب وإلى التراب تمضي (تك 3: 19). منذ ذلك الوقت، نحن أيضًا الذين من أبٍ مائتٍ بالتالي أبناء مائتين، وليس هذا فقط بل ’كسحاء‘ بما يتعلق بالبر وبممارسة كل فضيلة، وكأنَّ طبيعتنا مرضت بحب الملذات، ودُفِعَت لكي تزلق وتسقط بسهولةٍ في الخطيئة، بحيث قال الله: وُضِعَ وجدان الإنسان في الشر منذ صباه وهناك يرتاح (تك 8: 21). فهذا ما يقوله بولس حقًا: بيد إنسان واحد دخلت الخطيئة إلى العالم وبيد الخطيئة الموت وهكذا عبر الموت إلى جميع البشر لأنهم جميعهم خطئوا. فكأنه قال: كانت خطيئة آدم زرع الموت، والموت نفسه بعد أن عبر في كل أبنائه مثل السنابل فأنتج ثمارًا (أو غلات) وافرةً وأنبت خطايا كثيرة، لأن جميع الناس بدوا وكأنهم دُفِعوا في شباك الخطايا“.[5]

حكم فساد الموت على الإنسان

وهكذا يؤكد ق. ساويروس على أن حكم فساد الموت سار على الإنسان بعدما تعدى الإنسان الوصية الإلهية التي كانت من أجل امتحان حرية إرادته، وهكذا حُكِمَ على الإنسان بالتعاسة والأحزان والمضايقات بعد السقوط من الفردوس، ولم يأت ق. ساويروس الأنطاكي على ذكر أية إشارة إلى وراثة خطية آدم كالتالي:

”لأن ما قاله الحكيم: ’فإن الجسد الفاسد يثقل النفس والخيمة الترابية عبء للعقل الكثير الهموم‘ (حك 9: 15). هذا لم يحدث إلا بعد تعدي الوصية وبحدوثه حُكِمَ على الإنسان بالسقوط من الفردوس وبالمضايقات وبالتعاسة وبالأحزان وبفساد الموت؛ فكان يسمع فعلاً: ’ وَشَوْكًا وَحَسَكًا تُنْبِتُ لَكَ، وَتَأْكُلُ عُشْبَ الْحَقْلِ. بِعَرَقِ وَجْهِكَ تَأْكُلُ خُبْزًا حَتَّى تَعُودَ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أُخِذْتَ مِنْهَا. لأَنَّكَ تُرَابٌ، وَإِلَى تُرَابٍ تَعُودُ‘ (تك 3: 18، 19). لكن قبل أن يعصي وصية الله الذي كان يمتحن حريته، كان مكرَّمًا بنعمة الخلود، لأن الذي قال: ’فإن الجسد الفاسد يثقل النفس‘، قال بعد ذلك بقليل: ’لأن الله لم يصنع الموت ولا يُسر بهلاك الأحياء‘ (حك 1: 13). إن الهموم أيضًا قد سادت بسبب الخطية والشر؛ وكتوب فعلاً في سفر أيوب المملوء حكمةً: ’الشِّرِّيرُ هُوَ يَتَلَوَّى كُلَّ أَيَّامِهِ، وَكُلَّ عَدَدِ السِّنِينَ الْمَعْدُودَةِ لِلْعَاتِي‘ (أي 15: 20)“.[6]

الأقمصة الجلدية وحالة الفناء

ويشير ق. ساويروس إلى نتائج السقوط على الجنس البشريّ، حيث لبس آدم القمصان الجلدية أي لبس الفناء التابع لحكم الموت، لأن الجلد هو علامة الموت، ويشير إلى مرض البشرية وسقوطها تحت عبودية الحالة الجسدانية، ولكن الله أعدَّ لها الشفاء من هذه المرض اللعين، لكي يعيدها ثانيةً إلى حالة سكنى الفردوس والحالة الأولى الصحية السليمة كالتالي:

”في الواقع، كما أنه منذ أن لَبِسَ آدم القمصان الجلدية، بعد أن تعدى الوصية، قد لَبِسَ الفناء الذي يتبع الحكم بالموت، والثقل والوزن اللذين يأتيان عنه، والجلد هو علامة الموت […] ولأننا أصبحنا مرضى وسقطنا تحت عبودية الحالة الجسدانية، فقد أعدَّ الله لنا مقدَّمًا أطعمةً مناسبةً. ولكن كما أن الطبيب يغذي المريض بينما يزيل الأسباب الفعلية للأمراض فيجعله يعود إلى الصحة الطبيعية، كذلك الله يغذينا من الناحية الجسدية مثل المرضى، ويجعلنا نعود إلى حالة سُكنى الفردوس وفي الحالة الأولى السليمة، وذلك برسمه الصوم عن هذه الأطعمة المادية، وبتذكرته الروح بكرامتها الأولى بواسطة الناموس والأنبياء وأيضًا بوصايا الأناجيل والرسل“.[7]

دحض تعليم خطية الطبيعة أو طبيعة الخطية

ويدحض ق. ساويروس الأنطاكي فكرة ”خطية الطبيعة“، أي أن الطبيعة البشرية صارت خاطئة ومذنبة، وكأن الطبيعة البشرية شخص عاقل حر ومريد له إرادة يمارس بها الخطية، وكأن الخطية صارت جزءًا من الطبيعة البشرية، وهذه كلها تعاليم غنوصية ومانوية يرفضها ق. ساويروس رفضًا قاطعًا كالتالي:

”فإذًا، ليست طبيعة الإنسان سبب العثرات، لكنه العالم، أي المعيشة الشريرة البائسة المتمسكة بالخطايا ومرض الفكر. فإنه بالحقيقة السيد المسيح له المجد يقصد العالم إذ يقول: ’فَلاَ بُدَّ أَنْ تَأْتِيَ الْعَثَرَاتُ‘ (مت 18: 7)“.[8]

فساد الخطية وتجديد الخليقة

كما يؤكد ق. ساويروس على سقوط الخليقة وخضوعها لفساد الخطية، ولكن جاء التجسُّد الإلهيّ ليصلح ويخلق من جديد نفس الخليقة الساقطة وليس خليقة أخرى، وهكذا يوضح ق. ساويروس البعد الشفائيّ لتجسُّد الرب يسوع من أجل تجديد وإعادة خلقة الخليقة التي فسدت بالخطية، كما يشير أيضًا إلى الانجماع الكليّ للجنس البشريّ في المسيح، الذي ألقى بذاته مثل الخميرة في كل مجموع الجنس البشريّ كالتالي:

”الذي خلق وكوَّن، جاء ليُصلِّح ويخلق من جديد، ليست خليقة أخرى، لكن تلك الخليقة التي كانت قد سقطت وخضعت لفساد الخطية، وذلك بواسطة التجسُّد الإلهيّ، حينما ألقى بنفسه مثل خميرة في كل مجموع الجنس البشريّ، وصار آدم الثاني، وخلَّصنا بقيامته، وجعلنا نعبر من الحالة الأرضية الزائلة إلى الحياة السمائية غير الفاسدة، أفلا تشعرون أنكم تحرمون البشر من الخيرات التي من هذا النوع، وتجعلونهم غرباء عن هذا التجسُّد الذي يعين به مَن سقطوا؟ أتظنون أنه يمكن أن يصيب جسدنا دنس وهو متَّحد بالله الكلمة؟ إنه لا يوجد سوى شيء واحد يمكن أن يُدنِّس، إنه فساد الخطية“.[9]

شفاء العصيان بالطاعة

ويشير ق. ساويروس إلى نتائج السقوط على البشرية كلها، ولم يذكر فيها وراثة ذنب آدم أو خطيته الأصلية، بل يؤكد على دخول الموت وعبوره إلى جنس البشر كله، ولم يذكر أي شيء عن ”وراثة الخطية الأصلية“ كالتالي:

”إن خطيئة آدم كانت العصيان وتعدي الوصية. بينما كان المسيح، آدم الثاني، يبذل نفسه فداءً فيمحو الخطية. إن الوصية التي أخذها من الآب هي خلاصنا. فبتنفيذه هذه الوصية وإطاعته للآب، كان يُقدِّم لنا مثال الحياة الأفضل، يشفي العصيان بالطاعة والعصيان مصدر الشرور، منه خرج تيار الخطية الجارف فدخل الموت إلى جنس البشر كله وتملك فيه. وأصبح ضروريًا أن يُقدِّم المسيح الطاعة بدلاً منا، فيذهب حتى إلى الموت الذي كان آدم يستحقه بعصيانه، وبهذا غرس نعمة الخلود بقيامته“.[10]

دحض التعليم بسبق التعيين والاختيار

ويدحض ق. ساويروس تعليم سبق التعيين المزدوج للخلاص أو للهلاك، ويدحض التعليم عن القدرية والجبرية الذي كان يُعلِّم أوغسطينوس به في سياق تعليمه عن وراثة الخطية الأصلية، حيث يرى أوغسطينوس الفساد الكلي والعجز التام للبشرية عن ممارسة الخير بسبب وراثة الخطية الأصلية، لذلك سبق الله فحدَّد وعيَّن وأختار أناس للخلاص وأناس آخرين للهلاك منذ الأزل، حيث أن كل إرادات البشر تعود في الأخير إلى الإرادة الكلية لله. لذا يدحض ق. ساويروس هذا التعليم مؤكدًا على حرية إرادة الإنسان كالتالي:

”ومنذ البدء بعد أن خلق الإنسان وجعله سيدًا على كل ما في الأرض، كان الشر يزيد -مع أنه منذ البدء قد عَرِفَ ما سوف يحدث- فقال بنفس الطريقة مبينًا أن حرية الإرادة هي المسئولة عن ذلك [أي الشر]، والإنسان له السيطرة الكاملة على ما يأتيه: ’أَمْحُو عَنْ وَجْهِ الأَرْضِ الإِنْسَانَ الَّذِي خَلَقْتُهُ، الإِنْسَانَ مَعَ بَهَائِمَ وَدَبَّابَاتٍ وَطُيُورِ السَّمَاءِ، لأَنِّي حَزِنْتُ أَنِّي عَمِلْتُهُمْ‘ (تك 6: 7)“.[11]

الأقمصة الجلدية وحالة الموت

ويرى ق. ساويروس سقوط النفس الإنسانية من الفردوس وابتعادها عن نعمة الخلود، وصارت إلى حالة الموت بعدما لَبِسَت الأقمصة الجلدية كالتالي:

”توجد أيضًا درجة عليا عند صفوة الذين يشعرون بالحزن وهم مِن المغبوطين فقد يأخذ الإنسان في اعتباره كرامته بعد أن يُطهِّر نفسه مِن المادة، ويُعرِّف نفسه كرامتها، وكيف أنها بعد أن سقطت من الفردوس ونُبِذَت بعيدًا عن نعمة الخلود، لَبِسَت قمصان الجلد التي ترمز إلى حالة الموت، فيشتهي الانطلاق مع المسيح كقول بولس الرسول: ’فَإِنِّي أَنَا الآنَ أُسْكَبُ سَكِيبًا، وَوَقْتُ انْحِلاَلِي قَدْ حَضَرَ‘ (2تي 4: 6)، ’فَإِنِّي مَحْصُورٌ مِنْ الاثْنَيْنِ: لِيَ اشْتِهَاءٌ أَنْ أَنْطَلِقَ وَأَكُونَ مَعَ الْمَسِيحِ، ذَاكَ أَفْضَلُ جِدًّا‘ (في 1: 23)، ’فَإِنَّنَا نَحْنُ الَّذِينَ فِي الْخَيْمَةِ نَئِنُّ مُثْقَلِينَ، إِذْ لَسْنَا نُرِيدُ أَنْ نَخْلَعَهَا بَلْ أَنْ نَلْبَسَ فَوْقَهَا، لِكَيْ يُبْتَلَعَ الْمَائِتُ مِنَ الْحَيَاةِ‘ (2كو 5: 4)“.[12]

عدمية الخطية

يرفض ق. ساويروس الأنطاكيّ القدرية والجبرية في ممارسة الخطية بسبب وراثة الخطية الأصلية، ووراثة خطية الطبيعة، ويؤكد، كما أكَّد الآباء الشرقيين من قبله، على عدمية وعدم جوهرية الشر والخطية، ويصف الخطية بالعمى الروحي، مثلما العمى هو غياب النور، هكذا الخطية هي العمى الروحي الناتج عن تحوُّل وتغيُّر إرادتنا الحرة وانفصالها عن الله نحو الشر والخطية غير الجوهريين. حيث يقول التالي:

”وفي الواقع، لقد كنا مُرتبطين بالرغبة الروحية والجمال الإلهي، لإطاعة نواميسه ولتحويل طاقة روحنا الحرة تجاهه. ولكن بعدما تحوَّلنا عنه، سقطنا في الخطيئة، التي هي العمى الروحي. تمامًا مثلما، من ناحية، خلق الله عينًا لنا التي يمكنها استقبال النور، وتوجيه خطوات أرجلنا. فمن ناحية أخرى، إنْ أظلمنا هذه العين بإرادتنا الحرة، فإننا نحن مَنْ نكون علة هذا العمى. كذلك، من ناحية، لقد خلق، كعين، الذكاء الموجود فينا، الذي يمكنه إدراك الإلهيات، ويُشرِق بالنور الآتي منه، ولكن من ناحية أخرى، إنْ أظلمنا هذا الذكاء، فيوجد ظلام الخطية حالاً فينا مثل العمى. فالآن، العمى هو انعدام النور، وليس الله هو علة الانعدام؛ لأنه خالق الجواهر، وليس العدم واللا وجود. وبالتالي الخطية والشر هما العدم وانعدام الجوهر؛ لأنهما تغيُّر عن المشيئة الصالحة“.[13]

كتاب ’محب الحق‘

رفض التعليم بخطية الطبيعة أو طبيعة الخطية

يرفض ق. ساويروس الأنطاكي فكرة ”خطية الطبيعة“ التي أدخلها أوغسطينوس إلى اللاهوت اللاتيني الغربي، وينكر ق. ساويروس أن تكون الخطية طبيعية أو لها طبيعة، أو أن هناك شيء اسمه ”خطية الطبيعة“، كما أنكر ذلك ق. كيرلس الإسكندريّ هذا المصطلح والمفهوم الغريب عن الأرثوذكسية من قبله كالتالي:

”الفصل الرابع والأربعون للمعارض [الخلقيدوني]: للقديس كيرلس، من نفس الرسالة إلى سوكينسوس (PG, 77, 233 C-D = ACO, I, I, 6a, 155. 5): ’فبسبب معصية آدم، أُصِيبت الطبيعة البشرية بالفساد، وصار عقلنا مضطربًا بالرغبات الجسدية، أي الحركات الطبيعية التي أُدخِلَت على الطبيعة، فنحن نقول إذًا، إنه كان من الضروري لأجل فدائنا نحن الذين على الأرض، أن يصير كلمة الله إنسانًا، لكي يجعل الجسد الإنسانيّ الخاضع للفساد والمريض بالشهوة خاصًا به، وحيث إنه هو الحياة ومُعطِي الحياة. فقد كان يُبِيد الفساد في الجسد، وينتهر حركاته الطبيعية، أقصد بالطبع تلك التي تميل نحو الشهوة. وهكذا بالحقيقة كان يُمِيت الخطية فيه‘. الدفاع [للقديس ساويروس الأنطاكي]: مِن المناسب في البداية أن نُلاحِظ أن المعارض بحمقٍ زائدٍ، أعتقد أن القديس كيرلس يحتاج إلى حكمته هو. فبينما قال القديس: ’الحركات الطبيعية‘، أضاف هو كحكيم: ’التي أُدخِلَت على الطبيعة‘، كمَّن يصحح كلمات القديس. كأننا كنا سنعتقد أن القديس قال إن الخطية طبيعية، لو لم يُضفِ هذه الإضافة! لكن يظهر جليًا، أنه ولا في هذا الأمر أيضًا، ابتعد عن تهمة الجهل. فرغبة الأكل والشرب هي بالفعل حركات طبيعية للإنسان، إنما عندما تصل إلى حد الإفراط، فإن (الإنسان) يُعاني من الشره. أيضًا الرغبة الفاضلة [أي رغبة الزواج] متأصلة فينا طبيعيًا، لكن عندما تتحول هذه (الرغبة) إلى شهوة، فقد سقطنا في الزنا. هكذا فإن هذه الحركات هي حركات طبيعية، بينما التغيير الناتج عن الخطية هو عرضيّ. فعندما يُسمِي القديس كيرلس الشهوة التي أصابت الحركات الطبيعية مرضًا، فكيف يَعتبر الخطية طبيعية؟ لأن المرض من الأمور التي تستجد من الخارج، ولا يمتلكها الإنسان طبيعيًا. وهكذا قال: ’والمريض بالشهوة‘، وأيضًا: ’وينتهر حركاته الطبيعية، أقصد بالطبع تلك التي تميل نحو الشهوة‘. لكن فلنأتي الآن إلى الموضوع المطروح“.[14]

النفس المخلوقة لا النفس المولودة

يستشهد ق. ساويروس الأنطاكيّ من رسالة ق. كيرلس الإسكندريّ الأولى إلى الرهبان ليؤكد على إيمانه بأن أصل النفس هو الخلق وليس الولادة، حيث يُعتبر ق. ساويروس الأنطاكي تلميذ أمين ووفي للقديس كيرلس الإسكندريّ، والتعليم بالنفس المخلوقة عند ق. ساويروس هو تعليم آباء الشرق اليونانيّ في مقابل تعليم أوغسطينوس بالنفس المولودة، حيث يؤكد أوغسطينوس في سياق تعليمه عن وراثة الخطية الأصلية أن النفس الإنسانية تُولَد حاملةً الخطية الأصلية رأسًا من آدم وتنتقل إليها عن طريق التوالد من الوالدين بيولوچيًا وطبيعيًا. ولكن يرفض ق. ساويروس الأنطاكيّ متبعًا ق. كيرلس الإسكندريّ التعليم بأن أصل النفس هو الولادة من الأبوين، وبالتالي، يرفض انتقال الخطية الأصلية عن طريق النفس المولودة من الأبوين حاملةً للخطية الأصلية رأسًا من آدم كالتالي:

”الفصل السادس والستون للمعارض للقديس كيرلس من رسالته الأولى إلى الرهبان [PG, 77, 21 A-B = ACO, I, 1 a, 15.7.] ’لكن ربما تقول هذا: قل لي إذًا، هل العذراء صارت والدة اللاهوت؟ وردًا على هذا نجيب أن كلمة الله الحي والأقنوم، وُلِدَ بالحقيقة من نفس جوهر الله الآب، وهو المتمتع بوجود أبديّ بلا بداية زمنية، والموجود مع مَنْ ولده، ويُعرَف كائنًا فيه ومعه. إلا أنه في أزمنة الدهر الأخيرة، ولأنه صار جسدًا أي اتَّحد بجسد ذي نفس عاقلة، قيل عنه أيضًا أنه وُلِدَ جسديًا بواسطة امرأة. إن السر الخاص به يتشابه مع طريقة ولادتنا. ففي الحقيقة، إن أمهات أولئك الذين على الأرض، الخاضعات لطبيعة الإنجاب، لهن في بطونهن لحمًا، الذي قليلاً قليلاً يأخذ شكلاً جسديًا، وبفضل عمليات إلهية غير مُفسَّرة ينمو ويكتمل هناك مُحققًا هيئة إنسانية. ويغرس الله الروح في داخل الكائن الحي بطريقة هو وحده يعرف سرها. فهو ’جابل روح الإنسان في داخله‘ (زك 12: 1)، كقول النبي. لأن ماهية الجسد شيء، أمَّا ماهية النفس فشيء آخر‘“.[15]

حكم الموت على الجنس البشري

يشير ق. ساويروس في موضع آخر على أن حكم الموت صار على الجنس البشريّ بسبب معصية آدم، ولم يقل أننا نرث ذنب آدم أو خطيته، ويوضح أن الجنس البشريّ كان ينقصه الخلود بعد السقوط، ولذلك جاء المسيح ومات بالجسد وأقامه من بين الأموات ليُكمِل ما ينقصه، أي لكي ما يمنحه الخلود الذي كان ينقصه كالتالي:

”فبفضل تدخل الكلمة المتجسِّد، أُبطِلَت قدرة الموت عندما قام هو نفسه من بين الأموات، لأن الجسد القائم من الأموات هو خاص به. إذًا، ولأجل هذا السبب، جعل ضعفاتنا خاصة به، وأكمل نقصان جنسنا. فقد كان ينقصه الخلود، حيث حُكِمَ عليه بالموت بسبب معصية آدم“.[16]

الموت هو نتيجة طبيعية لضعف الجسد

يؤكد ق. ساويروس على أن الموت هو نتيجة طبيعية لضعف الجسد، ولكن الله الكلمة القادر على كل شيء اتحد بهذا الجسد الضعيف ليمنحه القوة والحياة، وهكذا يدحض ق. ساويروس الأنطاكيّ التعليم بالبدلية العقابية الذي يؤكد على أن الله الآب أنزل عقوبة الموت على المسيح كبديل عن البشرية، وأنه احتمل عقوبة الموت نيابةً عنا كالتالي:

”الدفاع: التعرض للموت هو بالفعل نتيجة طبيعية لضعف الجسد. لكن كلمة الله القادر على كل شيء، والذي هو نفسه القدرة والحياة، قد وحَّد أقنوميًا معه هذا الجسد الضعيف المحيَي بنفسٍ عاقلةٍ. أمَّا أنه تألم في الجسد من أجلنا، فهذا تؤكده الكتب الإلهية (1بط 4: 1)“.[17]

 

 

الرسائل مع سرجيوس النحوي

مرض الخطية

يرى ق. ساويروس الأنطاكيّ أن الخطية ليست جزءًا من جوهر البشرية، بل هي عبارة عن مرض قد حدث كنتيجة للغفلة، داحضًا بذلك أي تعليم عن وراثة الخطية الأصلية؛ كما لو كانت جوهرًا أو كيانًا أو فعلاً يمكن توارثه بيولوچيًا أو بالتناسل والتوالد الطبيعيّ كالتالي:

”لذا فحينما تسمع أن الحبل بعمانوئيل قد حدث بطريقةٍ إلهيةٍ وطريقةٍ بشريةٍ في نفس الوقت، فكيف تنقُل عنه الخواص الإنسانية، والتي قد قَبِلَها الكلمة المتجسِّد بإراداته؟ فإن لم نقُل إن الجسد كان قادرًا على قبول الأشياء التي تخصه باستثناء الخطية -لأن هذه ليست جزءًا من الجوهر، بل مرضًا قد حدث، كما قُلتُ، كنتيجةٍ للغفلة– فهو إذًا لم يكن قادرًا على احتمال الصليب لأجلنا، ولا على احتمال الموت. لكن مِن المعروف جيدًا أنه كان خاضعًا لهذه الأشياء التي كان للطبيعة أن تعانيها. والذي تجسَّد هو أيضًا الذي تألم بالجسد، بينما ظلَّ عديم التألم، لأنه الله“.[18]

 

 

الرسالة إلى يوحنا وثيؤدور ويوحنا الكهنة والأرشمندريتين

كتب ق. ساويروس الأنطاكيّ هذه الرسالة أثناء وجوده في مصر للرد على بدعة ظهرت في ذلك الوقت تنادي بتعاليم غنوسية ومانوية، حيث نادت بأن الخليقة المادية هي شر، ونادت أيضًا بعدم قيامة الأجساد بعد الموت، وفناء العالم والخليقة لأنهما شر وخطيئة، وقد أكَّد ق. ساويروس مستشهدًا بأقوال آباء الكنيسة على أن الخليقة المادية لن تذهب إلى فناء مطلق، بل ستتجدد نظير الإنسان، الذي سيقوم في عدم فساد. وقد كنى ق. ساويروس الشخص الذي نشر هذه التعاليم باسم ”الإسكندر“ (ألكساندر)، ربما لكونه مصريًا سكندريًا.[19]

الخليقة المادية ليست خطية

يدحض ق. ساويروس التعاليم الغنوسية والمانوية بأن الخليقة المادية ليست صالحة في حد ذاتها وأنها خطية وشريرة، وهذا لُب التعليم بوراثة الخطية الأصلية، حيث يرى هذا التعليم تلوث النفس والجسد بخطية آدم وانتقالها الطبيعيّ إليهما عن طريق التناسل والتوالد الطبيعيّ من آدم إلى نسله، لذا يدحض ق. ساويروس الأنطاكيّ هذا التعليم الفاسد قائلاً:

”من الممكن أن نسمع رجالاً حكماء من الخارج يقولون أيضًا: ’إن عدم الخطية على الإطلاق، وفعل كل شيء باستقامة هو من الله‘. ونرى الأسفار الإلهية أيضًا تقول عن كل شيء مخلوق: ’ليكن نور، فكان نور. ورأى الله النور أنه حسن‘، وبعد كل الأشياء سويًا التي، وإنْ جاز التعبير، دعاها وأجابت: ’ورأى الله كل ما عمله فإذا هو حسن جدًا‘ (تك 1: 3-31). كيف بعد ذلك يقدر أيّ أحد على القول بأن الأشياء التي هي صالحة في ذاتها، كُلٌّ بمفرده، وكذلك بسبب تناغمها مع بعضها البعض، تُكوِّن عالمًا واحدًا هي خطية بالنسبة لله؟ فلو أن الأمر هكذا أنها خطية، فهي ليست صالحة، ولكن إذَا كانت صالحة فهي ليست خطيةً. أمَّا إذَا كان بسبب أنها قابلة للفساد تكون بذلك خطية، فبالأحرى كما يقول رجلٌ حكيمٌ: ’خلق الله كل شيء وأتى به إلى الوجود، وجعله في هذا العالم سليمًا خاليًا من السم القاتل الذي للفساد، فلا تكون الأرض مملكة الموت‘ (حك 1: 14)“.[20]

آدم جلب الموت على الخليقة

يرى ق. ساويروس الأنطاكي أن آدم الإنسان الأول بعصيانه وتعديه الوصية جلب الموت على نفسه وعلى الخليقة، ولم يقل ق. ساويروس جلب الخطية الموروثة، وهكذا فقدت الخليقة نعمة عدم الموت التي كانت من الله، ولذلك حُكِمَ على الإنسان ذاته بالموت وخدمت الخليقة نفسها الفساد وخضعت للبُطْل كالتالي:

”ومرةً أخرى، لو أن الإنسان الأول كان قد حفظ الوصية، ولم يضل بالخطية التي بغواية الحية، لبقيتْ الخليقة ذاتها محتفظةً لنفسها بنعمة عدم الموت من الله. لأنه بموجب الحالة التي نحن فيها كما وُجِدَت من أجلنا، تزول أجزاؤها أيضًا. ولهذا السبب أيضًا حينما حُكِمَ على الإنسان ذاته بالموت، خدمتْ هي ذاتها أيضًا [الخليقة] الفساد، و ’أُخضِعَتْ للبُطْل‘ (رو 8: 20)، كما يقول الرسول، لكنها تأمل أن تكتسب معنا، ما كان لها منذ البدء، وسيكون لها خلودًا بغير فساد، حينما نبلغ القيامة وملكوت السماوات. حيث يقول بولس ذاته الأكثر حكمةً ويصرخ أيضًا: ’لأَنَّ الْخَلِيقَةَ نَفْسَهَا أَيْضًا سَتُعْتَقُ مِنْ عُبُودِيَّةِ الْفَسَادِ إِلَى حُرِّيَّةِ مَجْدِ أَوْلاَدِ اللهِ‘ (رو 8: 21)“.[21]

الفساد لم يكن في خطة الله

وهكذا يؤكد ق. ساويروس على أن الله لم يخلق العالم من أجل الفساد، لأن خليقة الله جيدة. ولكن لأن طبيعتها مائعة جدًا فهي قابلة للفساد، ولذا فهي تحتاج إلى تدخل الله لكي ما تشترك في عدم الفساد كالتالي:

”ولكن يا صديقي الصالح، في الواقع، إن الله لم يخلق العالم لكي يفسد، لأن كل خليقة الله جيدة كما قد سمعتَ. ولكن بما أنها من طبيعة مائعة جدًا، فعلى النقيض، قد أوجدها كيما تشترك في عدم الفساد، لأنه في الواقع ’الْخَلِيقَةَ نَفْسَهَا أَيْضًا سَتُعْتَقُ مِنْ عُبُودِيَّةِ الْفَسَادِ إِلَى حُرِّيَّةِ مَجْدِ أَوْلاَدِ اللهِ‘ (رو 8: 21)“.[22]

شخصانية الخليقة ولعنة الإنسان

يشير ق. ساويروس إلى شخصانية أو أقنومية الخليقة، بمعنى أن الخليقة صارت مثل الشخص أو الإنسان تئن وتتمخض، ويربط بين ما حدث للإنسان بعد السقوط وما حدث للخليقة بعد سقوط الإنسان كالتالي:

”إذًا، هذا ما يُوضِّحه بولس الرسول هنا، فيُشخصِّن الخليقة، ويقول كيف أنها تئن وتتمخض، لأنه سمع أنينًا يخرج من الأرض ومن السماء، لكي يشير إلى خيرات الدهر الوافرة جدًا، ويُعلِن الرغبة في التخلص من الشرور التي كانت سائدةً. ’إِذْ أُخْضِعَتِ الْخَلِيقَةُ لِلْبُطْلِ ­ لَيْسَ طَوْعًا، بَلْ مِنْ أَجْلِ الَّذِي أَخْضَعَهَا ­ عَلَى الرَّجَاءِ‘. ماذا يعني أن الخليقة أُخضِعَتْ للبُطْل؟ يعني أنها صارت فاسدة. لأيّ سبب ولماذا صارت فاسدةً؟ حدث هذا من أجلك أنت أيها الإنسان. لأنك أخذت جسدًا فانيًا وضعيفًا، ولأن الأرض قَبِلَت اللعنة، وأنبتت شوكًا وحسكًا. لكن السماء والأرض عندما تشيخ ستتحول في النهاية إلى مصير أفضل. اسمع النبي الذي يقول: ’اِرْفَعُوا إِلَى السَّمَاوَاتِ عُيُونَكُمْ، وَانْظُرُوا إِلَى الأَرْضِ مِنْ تَحْتُ. فَإِنَّ السَّمَاوَاتِ كَالدُّخَانِ تَضْمَحِلُّ، وَالأَرْضَ كَالثَّوْبِ تَبْلَى، وَسُكَّانَهَا كَالْبَعُوضِ يَمُوتُونَ. أَمَّا خَلاَصِي فَإِلَى الأَبَدِ يَكُونُ وَبِرِّي لاَ يُنْقَضُ‘ (إش 51: 6). أرأيت كيف أُخضِعَت الخليقة للبُطْل؟ وكيف ستتحرر من الفساد؟“.[23]

السقوط الكوني والتجديد الكوني

يشير ق. ساويروس مرةً أخرى إلى شخصانية (أقنومية) الخليقة، وكيف أن الخليقة نالها الشر والفساد بسبب سقوط الإنسان وفساده، ولكنه يقر بأن الخليقة مثلها مثل الإنسان ستنعتق من حالة الفساد إلى حالة عدم الفساد، وسوف تنال نعمة الخلود مثل أجساد البشر كالتالي:

لأن ما حدث هو بالحقيقة من أجلي أنا. هي [الخليقة] التي عانت أو جازت البطلان من أجلي. كيف ستُظلَم إنْ كانت تلك الأمور التي عانتها هي من أجل إصلاحي؟ فضلاً عن ذلك، فإن الحديث عن الظلم والعدل، لا يجب أن تمتد إليه الأشياء الجامدة وغير الحسية. لكن لأن بولس شخصَّن الخليقة، لم يقل أيّ شيء مما ذكرته، لكنه تحوَّل إلى الحديث عن أشياء أخرى. فقد بادر إلى تقديم تعزية كبيرة جدًا للمستمع، فماذا يقول؟ هل يقول إن الخليقة نالها الشر لأجلك، وصارت فاسدةً؟ لكن الظلم لم ينلها مطلقًا، لأنها ستصير فاسدةً أيضًا لأجلك. لأن هذا هو معنى ’على الرجاء‘، لكن عندما يقول: ’ إِذْ أُخْضِعَتِ الْخَلِيقَةُ لِلْبُطْلِ لَيْسَ طَوْعًا‘، لم يقل هذا لكي يُظهِر أن لها فكر، بل لكي تعرف أن كل الأشياء مرتبطة برعاية المسيح، وأن هذا الإنجاز [العتق من الفساد] غير مرتبط بالخليقة. حسنًا أخبرني إذًا على أيّ رجاء أُخضٍعَت الخليقة؟ ’لأَنَّ الْخَلِيقَةَ نَفْسَهَا أَيْضًا سَتُعْتَقُ مِنْ عُبُودِيَّةِ الْفَسَادِ‘، ماذا يعني بـ ’الخليقة نفسها‘؟ يعني أنها لن تكون بعد فاسدةً، بل ستتبع جمال الخلود الذي سيناله جسدك، لأنه تمامًا مثلما حدث، عندما صار جسدك فاسدًا، صارت الخليقة أيضًا فاسدةً. فطالما أنه صار غير فاسد، فسيلحق عدم الفساد بالخليقة أيضًا. هذا بالضبط ما أراد أن يُوضِّحه، لذلك أضاف: ’إِلَى حُرِّيَّةِ مَجْدِ أَوْلاَدِ اللهِ‘“.[24]

الله لم يخلق الفساد والعالم ليس خطيئته

يدحض ق. ساويروس غنوسية ومانوية المعترض السكندريّ، الذي يعتقد بأن العالم سيؤول إلى الفناء؛ لأنه فاسد بطبيعته، وبالتالي، ينتج عن ذلك اعتقاده بأن الله هو خالق الفساد في هذا العالم، ويرى ق. ساويروس أن من نتائج سقوط الإنسان هو فقدانه لنعمة الله، أي نعمة عدم الموت، التي كانت له في حالته الأولى قبل السقوط كالتالي:

”ولكن بقدر كون السكندريّ غريب وبربريّ عن الأسفار الإلهية، وليس بمعتاد على تعليم هذه الأسفار، يعتقد أن الله هو خالق الفساد، ويدعو العالم خطيئته، شيئًا له طبيعة مائعة، ولكنه مُكرَّم بنعمة عدم الفساد مع الإنسان الذي [أي العالم] أُوجِدَ من أجله. إنها لم تكن خطيئةً من الله أن المسيح أصلح إخضاع العالم أيضًا، الذي كان من أجل الإنسان، كيما يجلب عدة أشياء محل أشياء أخرى، كما يقول الرجل المخادع والفاسد، خلود الأرواح محل الأجساد التي سُلِّمَت للموت، وعدم فساد أبديّ محل فساد العالم، وفيض أعمال صالحة محل وفرة الخطية. ولكن من أجل أن يرفع الإنسان الذي سقط، وبالخطيئة فَقَدَ نعمة الله، والتي بها كان له عدم الموت، إلى حالته الأولى، وذلك بقيامة الأجساد إلى عدم الفساد، والتي بها سيُشارِك هذا العالم أيضًا الحرية والمجد، كما قد كتبنا“.[25]

 

 

الخلاصة

لم يؤمن ق. ساويروس الأنطاكيّ، مثله مثل جميع الآباء اليونانيين في الشرق، بشيء اسمه ”وراثة الخطية الأصلية“، لأن هذا التعليم بالنسبة له هو تعليم غنوسيّ ومانويّ غير أرثوذكسيّ، طالما دأب على محاربته ودحضه في كتاباته المتنوعة وليس فقط في كتاباته ضد يوليان المهرطق أسقف هاليكارنيسوس. ويدحض ق. ساويروس أيّ تعليم عن خطية الطبيعة أو طبيعة الخطية؛ الذي علَّم به أوغسطينوس خطاءً في الغرب أثناء مواجهته للهرطقة البيلاجية، فتبنى تعليمًا مانويًا صرف يرى بأن الخطية صارت بعد سقوط آدم جزءًا من الطبيعة البشرية يتوارثها أبناء آدم من بعده. ويرى ق. ساويروس في أصل النفس أنها مخلوقة مثله مثل جميع آباء الشرق اليونانيين في عصره، ولا يؤمن بالنفس المولودة، هذا التعليم الذي استخدمه أوغسطينوس في مواجهته للهرطقة البيلاجية ليؤكد على انتقال الخطية الأصلية رأسًا من آدم إلى بنيه عن طريق النفس المولودة من آدم إلى بنيه بالتناسل والتوالد الطبيعيّ. كما يرفض ق. ساويروس أيّ تعليم عن سبق التعيين المزدوج سواء للخلاص أو للهلاك، الذي تبناه أوغسطينوس في مواجهته للهرطقة البيلاجية، بل يؤكد ق. ساويروس على امتلاك الإنسان لحرية الإرادة الكاملة ومسئوليته الكاملة عن خطاياه. وينادي ق. ساويروس بعدمية الخطية وعدم توارثها بالتناسل الطبيعي من الآباء إلى أطفالهم، ويرفض امتزاج واختلاط الخطية الأصلية بأجساد ونفوس البشر بسبب تناقلها وتوارثها عن طريق التوالد الطبيعيّ من آدم إلى آبائهم.

[1] چورچ فرج (دكتور)، الخطية الجدية بحسب تعاليم القديس ساويرس الأنطاكي ج1، (القاهرة، 2017)، ص 45.

[2] Severe d’ Antioche, Contra Additiones Juliani, CSCO, p. 42. 43.

[3] Ibid, p. 27, 28.

[4] بولس الفغالي (خوري)، فيوض في الفكر المشرقي، (لبنان: الرابطة الكتابية، 2009)، ص 302، 303. أنظر أيضًا

  1. Draguet, Julien d’ Halicarnasse et sa controverse avec Severe d’ Antioche, (Louvain, 1924); R. HESPEL, Severe d’ Antioche, La polemique antijulianiste, Vol I, (CSCO 244-245/ Syr 104-105), Peeters, (Leuven, 1964), Vol II, A, (CSCO 295-296/ Syr 124-125), 1968; Vol II B (CSCO 301-302/ Syr 126-127), 1969; Vol III (CSCO 318-319/ Syr 136-137).

[5] بولس الفغالي (خوري)، فيوض في الفكر المشرقي، (لبنان: الرابطة الكتابية، 2009)، ص 320. أنظر أيضًا

Patrologia Orientalis, Vol 35, 3: 165, (Brepols, 1969), p. 340-343.

[6] ساويروس الأنطاكي (قديس)، سيرة ومقالات القديس ساويروس الأنطاكي مج1، ترجمة: يوسف حبيب ومليكة حبيب يوسف، (وادي النطرون: دير العذراء البراموس، 2017)، عظة بعنوان ”الصوم“، ص 202. مترجم عن الفرنسية من الجزء الثامن من مجموعة Patrologia Orientalis, R. Graffin & F. Nau, Les Homelies Cathedrales de Severe d’ Antioche, Publiees et traduites par Maurice Briere, (Paris, 1941).

[7] المرجع السابق، عظة عن الصوم، ص 204-206.

[8] المرجع السابق، عظة بعنوان ”مَن هو أعظم في ملكوت السموات“، ص 300. مترجم عن الفرنسية من الكتاب الثاني من الجزء العشرين من مجموعة باترولوچيا أورينتاليس PO.

[9] المرجع السابق، عظة بعنوان ”الميلاد“، ص 363.

[10] المرجع السابق، عظة بعنوان ”الصعود“، ص 462.

[11] المرجع السابق، عظة 80 بعنوان ”في ذكرى يوم رسامته بطريركًا“، ص 559. مترجم من الكتاب الثاني من الجزء العشرين من مجموعة باترولوچيا أورينتاليس PO.

[12] المرجع السابق، عظة بعنوان ”طوبى للرحماء لأنهم يرحمون“، ص 589. مترجم من الكتاب الثالث من الجزء 26 من مجموعة باترولوچيا أورينتاليس PO.

[13] Severus of Antioch, Sermon (21) to Catechumen, http://www.stgeorgeministry.com/st-severus-of-antioch-homily-21/?fbclid=IwAR0NHij9JM0AZytQ8BUedceHXupUb7JZ3mR0ZTiXAXz0LR7xs6LtiqUECYU.

[14] ساويروس الأنطاكي (قديس)، كيرلس محب الحق، ترجمة: الراهب القس غريغوريوس آفا مينا، مراجعة: د. چورچ عوض، (القاهرة: المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2020)، الباب الرابع، ص 468، 469.

[15] المرجع السابق، ص 494، 495.

[16] المرجع السابق، ص 615.

[17] المرجع السابق، ص 616.

[18] إيان ر. تورانس، الخريستولوچي بعد مجمع خلقيدونية (الرسائل بين القديس ساويروس الأنطاكي وسرجيوس النحوي)، ترجمة: راهب من دير الأنبا أنطونيوس، مراجعة: الأنبا يسطس، (البحر الأحمر: دير الأنبا أنطونيوس، 2015)، الرسالة الأولى لساويروس، ص 291، 292.

[19] ساويروس الأنطاكي (قديس)، رسائل ساويروس الأنطاكي، ترجمة: الراهب جرجس الأنطوني، (القاهرة: مدرسة الإسكندرية للدراسات المسيحية، 2016)، الرسالة إلى يوحنا وثيؤدور ويوحنا الكهنة، ص 140.

[20] المرجع السابق، ص 141، 142.

[21] المرجع السابق، ص 143.

[22] المرجع السابق.

[23] المرجع السابق، ص 146.

[24] المرجع السابق، ص 147.

[25] المرجع السابق، ص 147، 148.

الخطية الجدية في تعليم ق. ساويروس الأنطاكي – د. أنطون جرجس عبد المسيح