آبائياتأبحاث

مفهوم الفدية في الكتاب المقدس والتقليد – د. أنطون جرجس عبد المسيح

مفهوم الفدية في الكتاب المقدس والتقليد - د. أنطون جرجس عبد المسيح

مفهوم الفدية في الكتاب المقدس والتقليد – د. أنطون جرجس عبد المسيح

المحتوى

مفهوم الفدية في الكتاب المقدس والتقليد - د. أنطون جرجس عبد المسيح
مفهوم الفدية في الكتاب المقدس والتقليد – د. أنطون جرجس عبد المسيح

 

المقدمة

يتناول هذا البحث موضوع شائك جدًا اختلفت حوله الآراء، ألا هو موضوع الفدية، ومفهوم الفدية في الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد، وكيف فهم آباء الكنيسة الجامعة شرقًا وغربًا موضوع الفدية في إطار عمل المسيح الخلاصي على الصليب. كما يتناول هذا البحث موضوع شائك أيضًا وهو محاولة الإجابة على سؤال مهم جدًا: هل الله علة الموت؟ ويحاول هذا البحث أيضًا محاولة الإجابة على سؤال في غاية الأهمية: هل الله يعاقب البشر بالموت؟ لذا قد قمت في هذا البحث بتناول موضوع الفدية ومفهومها في الكتاب المقدس والتقليد الرسولي والآبائي، وذلك من خلال النصوص الآبائية المختلفة التي تناولت وعالجت موضوع الفدية، كما استعنت أيضًا بآراء الأساتذة والباحثين اللاهوتيين المعتبرين في العالم من أجل الوقوف على أفضل تصور عن موضوع الفدية سواء في الكتاب المقدس، أو في التقليد. كما تناولت مفهوم الفدية عند أنسلم رئيس أساقفة كانتربري، الذي يُعتبر أهم نموذج من اللاهوت المدرسي ولاهوت العصر الوسيط على مفهوم الفدية الذي كان متداولاً في تلك الحقبة من العصور الوسطى.

أرجو أن يكون هذا العمل سبب بركة واستفادة لكثيرين، بصلوات العذراء مريم والدة الإله، وصلوات آبائي الرسل القديسين، وصلوات آبائي القديسين معلمي الكنيسة الجامعة، وصلوات أبينا وراعينا البابا تواضروس الثاني، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية.

د. أنطون جرجس عبد المسيح

القاهرة – ديسمبر 2022

 

مفهوم الفدية في تعليم الكتاب المقدس والتقليد

مفهوم الفدية في الكتاب المقدس

لقد استخدم السيد المسيح تعبير ”فدية“ عن نفسه في العهد الجديد، حيث يقول: ”كَمَا أَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ، وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ“ (مت20: 28). كما استخدمه بولس الرسول عن المسيح ليوضح عمل الفداء الذي قام به المسيح كالتالي: ”الَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً لأَجْلِ الْجَمِيعِ، الشَّهَادَةُ فِي أَوْقَاتِهَا الْخَاصَّةِ“ (1تي2: 6).

وهكذا يتتبع البروفيسور هاستنجس راشدال Hastings Rashdall فكرة الفدية وأصولها في العهد القديم ويقول التالي: ”نجد تعبير الفدية في ’الأَخُ لَنْ يَفْدِيَ الإِنْسَانَ فِدَاءً، وَلاَ يُعْطِيَ اللهَ كَفَّارَةً عَنْهُ‘. (المزامير7:49) وفي ’إِنْ وُجِدَ عِنْدَهُ مُرْسَلٌ، وَسِيطٌ وَاحِدٌ مِنْ أَلْفٍ لِيُعْلِنَ لِلإِنْسَانِ اسْتِقَامَتَهُ، يترأف عَلَيْهِ وَيَقُولُ: أُطْلِقُهُ عَنِ الْهُبُوطِ إِلَى الْحُفْرَةِ، قَدْ وَجَدْتُ فِدْيَةً‘. (أيوب24-23:33) وفي ’مِنْ يَدِ الْهَاوِيَةِ أَفْدِيهِمْ. مِنَ الْمَوْتِ أُخَلِّصُهُمْ. أَيْنَ أَوْبَاؤُكَ يَا مَوْتُ؟ أَيْنَ شَوْكَتُكِ يَا هَاوِيَةُ؟ تَخْتَفِي النَّدَامَةُ عَنْ عَيْنَيَّ‘. (هوشع14:13). كما يأتي تعبير λύτρον في النص السبعيني بصيغة الجمع τά λύτρα ١٧ مرة من أصل ٢٠ مرة، وتُعادِل الكلمات العبرية التالية: (1) فدية kopher (الأصل kaphar, kipper) كما في (خر٢١: ٣٠، ٣٠: ١٢) حيث يتم شرحها عادةً في اللغة العربية بمعنى ’غطاء‘ أو عطية استرضائية، ولكن المعنى الأصليّ على الأرجح أكثر موجود في اللغتين البابلية والآشورية. حيث استخدام فعل ’تسديد الدَّين‘ من خلال فعل طقسي تعبدي، وكذلك في اللغة السريانية ’تسديد الدَّين‘. كما يشير درايفر Driver (Art. Expiation in Encycl. Of Religion & ethics) إلى أنه فكرة ’التطهير‘ في اللغة العبرية صاحبت الكلمة مُبكرًا، لذلك الفكرة هي عن التطهير بالحري وليس عن ’الاسترضاء‘. ولا يكون الله أبدًا موضوع أو هدف kipper أو ίλάσκομαι كما هو الحال في النص السبعيني، لأنها حالة ثابتة عند الكُتَّاب الوثنيين. (2) فداء g’ullah (الأصل ga’al أي ’إزالة المطالبة بالدعوى‘ وكذلك ’تبرئة‘ أو ’استرداد‘) وهو فعل أو حق الاسترداد، والخلاص والتعويض من أجل حقل أو عبد كما في (لا٢٥: ٢٤)، والتسديد مصنوع من أجل الخلاص أو تسديد الدَّين كما في (لا٢٥: ٢٦، ٥١). (3) فدية pidhyon, p’dhuyium (الأصل padhah) كما في (خر٢١: ٣٠) و (عد٣: ٤٨، ٥١) عن الثمن المدفوع كفدية. (4) الربح أو الثمن أو المهر m’hir (فعل غير مُستخدَم) كما في (إش٤٥: ١٣)، وإنْ استخدمه ربنا، فالمعنى المحتمل أكثر يبدو أنه kopher أيّ كفارة بالشكل الآراميّ. وإنْ كانت الكلمة تعود إلى البشير أو إلى التقليد، فلا نحتاج للاعتقاد بالمقابل الآراميّ. يُمكِن تخليص فكرة λύτρον بسهولة من الفكرة العامة للفداء άπολύτρωσις. حيث قد أفتدى الله إسرائيل أي اشتراه، وهكذا جعله خاصته، وهي فكرة مُنتشِرة في العهد القديم، وتحوَّلت في العهد الجديد إلى إسرائيل الروحي كما في (أف١: ١٤؛ أع٢٠: ٢٨). وبالتالي، لا تحتاج الفكرة لإعطاء إجابة على سؤال لمن دُفِعت الفدية؟ ولا حتى إجابة مُحدَّدة بعينها على سؤال مما تم خلاص شعب الله: الفكرة الرئيسية هي أنهم تم شرائهم لله، أي للملكوت، والخلاص، والسعادة الأبدية. ولا توجد كلمة λύτρον عند ق. بولس، بالرغم من أن لدينا كلمة άπολύτρωσις عدة مرات، والفكرة موجودة في (١كو٦: ٢٠، ٧: ٢٣): ’اشتُرِيتم بثمن‘. الكلمة التي قالها المسيح عن نفسه كفدية موجودة في (١تي٢: ٦)، حيث القراءة الصحيحة هي άντίλυτρον. يُعلِّق M. Riviére في كتابه (Le Dogme de la Rédemption, p. 49) أنه ’في العهد الجديد – وعادةً أكثر عند الآباء أيضًا – نجد فقط حرف الجر άντί عند تسميتها بكلمة ’فدية‘. حيث أنه من الملاحَظ إنه يُقال أحيانًا عن الله أنه ’فدية‘ λυτροϋν لشعبه بمعنى ’يُحرِّر‘ أو ’يُخلِّص‘ في آيات لا يوجد بها أيّ نوع من دفع الثمن أو المقابل كما في (خر٦: ٦) ga’al و (تث٢١: ٨) padhah وكذلك في (إر١٨: ٢٣؛ مز٧٨: ٣٨)، حيث تستخدم كلمة kipper عن فعل الله، وسوف تُمثِّل كلمة ’يُطهِّر بعيدًا‘ الفكرة، حيث يترجم درايفر Driver الكلمة ’يُطهِّر‘، بينما تقترب الفكرة عند ليرت Leart من pardon أي الغفران أو الصفح. الفكرة الرئيسة المفترضة من تعبير ’فدية‘ هي فكرة الثمن المدفوع من أجل تأمين المنافع للآخر- أو على وجه التحديد، الثمن المدفوع لتأمين الحياة أو الحرية“.[1]

 

 

تعاليم آباء الكنيسة الجامعة عن مفهوم الفدية

ق. أثناسيوس الرسولي

نجد مفهوم الفدية عند ق. أثناسيوس، حيث يشير ق. أثناسيوس إلى تقديم المسيح الفدية للموت من أجل خلاص كل الخليقة، وذلك من خلال مجيئه في الجسد كالتالي:

”فإن مجيء المخلص مُتجسِّدًا، قد صار فديةً للموت وخلاصًا لكل الخليقة“.[2]

ويتحدث ق. أثناسيوس في موضع آخر عن تقديم المسيح الفدية للموت من أجل خلاص الكل قائلاً:

”وبموته صار الخلاص للجميع، وتم الفداء لكل الخليقة. هذا هو ’حياة‘ الكل، الذي سلَّم جسده للموت كحَمَل فدية لأجل خلاص الكل، ولو لم يؤمن اليهود بذلك“.[3]

ويؤكد ق. أثناسيوس أيضُا على تقديم المسيح الفدية للموت عن حياة الجميع كالتالي:

”ولأن كلمة الله هو فوق الجميع، فقد كان لائقًا أن يقدم هيكله الخاص وأداته البشرية فديةً عن حياة الجميع موفيًا دَّين الجميع بموته. وهكذا باتخاذه جسدًا مماثلاً لجسد جميع البشر وباتحاده بهم، فإن ابن الله عديم الفساد ألبس الجميع عدم الفساد بوعد القيامة من الأموات. ولم يعد الفساد الفعلي بالموت له أي سلطان على البشر بسبب الكلمة الذي جاء وسكن بينهم بواسطة جسده“.[4]

ويشير ق. أثناسيوس إلى تقديم المسيح جسده للموت وإقامته ثانيةً كالتالي:

”ولهذا السبب أيضًا فإنه لم يتمم ذبيحته عن الكل بمُجرَّد مجيئه مباشرةً، بتقديم جسده للموت ثم إقامته ثانيةً“.[5]

ويؤكد ق. أثناسيوس على أن الدَّين المستحق على الجميع هو دَّين الموت، وبالتالي أسلم المسيح هيكله للموت من أجل إيفاء دَّين الموت كالتالي:

”ولما كان من الواجب وفاء الدَّين المستحق على الجميع، إذ – كما بيَّنا سابقًا – كان الجميع مستحقين الموت، فلأجل هذا الغرض، جاء المسيح بيننا. وبعدما قدَّم براهينًا كثيرةً على ألوهيته بواسطة أعماله في الجسد، فإنه قدَّم ذبيحته عن الجميع، فأسلَّم هيكله للموت عوضًا عن الجميع“.[6]

ويشدد ق. أثناسيوس أيضًا على أن موت الرب هو الفدية عن الجميع من أجل نقض حائط السياج المتوسط كالتالي:

”وإضافة إلى ذلك، إن كان موت الرب هو فدية عن الجميع وبواسطة موته هذا ’نقض حائط السياج المتوسط‘، وصارت الدعوة لجميع الأمم“.[7]

كما يتحدث ق. أثناسيوس عن تقديم المسيح الفدية للآب، ولكن ليس بمعنى الإبدال العقابي، بل من أجل تطهيرنا من الخطايا بدم نفسه، وبإقامتنا من بين الأموات. حيث يقول التالي:

”وعندما أراد الآب أن تُقدَّم الفدية لأجل الجميع، وأن تُعطَى النعمة الكل، عندئذ مثلما أرتدى هارون الجبة؛ أخذ الكلمة جسدًا من الأرض مُتخِذًا له من مريم الجسد كما من أرض بكر حتى إذ يكون له – كرئيس كهنة – شيء يُقدِّمه، فهو يُقدِّم ذاته للآب، ويُطهِّرنا جميعًا من الخطايا بدم نفسه، ويقيمنا من بين الأموات“.[8]

لذا يؤكد البروفيسور توماس ويناندي Thomas G. Weinandy على أن مفهوم الدَّين أو الفدية عند ق. أثناسيوس هو دَّين الموت كما ذكرنا سابقًا، ولقد قام المسيح بإيفاء دَّين الموت بموته عن الجميع ليهبهم حياة القيامة عديمة الفساد، حيث يقول التالي: ”السبب في أن الكلمة المتجسِّد يضمن للبشر حياة القيامة عديمة الفساد هو أنه يُقدِّم ’إلى الموت، الجسد الذي قد أخذه هو نفسه كتقدمة وذبيحة بلا عيب، لأنه أبعد للتو الموت عن جميع نظرائه بتقديم النظير. وبما أنه فوق الجميع، وَفَىَ كلمة الله بالطبيعة عن طريق تقديم هيكله وأداته الجسدية الدَّين بموته من أجل حياة الجميع‘ (تجسد الكلمة ٩: ١-٢؛ ٢٠: ٢، ٥-٦). لأن الكلمة، وقد اتخذ طبيعتنا عينها، يُقدِّم حياته البشرية النقية والطاهرة كذبيحة بدلاً عنا ولأجلنا، فينقض ويفي بدَّين الموت الذي جلبته وهكذا أقرته الخطية. وبالتالي نعي هنا بوضوحٍ مركزية الصليب داخل سوتيرلوجية أثناسيوس“.[9]

ويؤكد البروفيسور جوستاف ألين Gustaf Aulen نفس الكلام عن مفهوم الدَّين أو الفدية عند ق. أثناسيوس إن معناه دَّين الموت، حيث يقول التالي: ”نفس الشيء هو حقيقي عن مجاز الدَّين، الذي يُوازِيه مجاز الفدية، ولكنه أقل استخدامًا للغاية. حيث يتحدَّث أثناسيوس عن كلمة الله بأنه عن طريق تقديم جسده ’مُوفيًا الدَّين عن الجميع بموته‘، وإنه بذلك الموت تم ’إيفائه‘، كما يربط أيضًا هذه الفكرة مع فكرة الذبيحة، ويقول إن ’الكلمة أتخذ الجسد الذي أخذه قربانًا، كذبيحة غير دنسة بالموت، وهكذا أزال الموت من جميع أخوته بذبيحته النيابية‘ (تجسد الكلمة، ٩). وبالتالي يُعد الدَّين مدفوعًا في المقام الأول للموت“.[10]

كما يتحدَّث البروفيسور جون كيلي John Kelly عن تعليم ق. أثناسيوس الخلاصي، نافيًا وجود أي تعليم عن البدلية العقابية عند ق. أثناسيوس قائلاً: ”لم يشفنا المسيح فقط، بل حمل العبء الثقيل لضعفنا وخطايانا. المظهر الخارجي للتعليم هو أحد تعليم البدلية، ولكن ما يُحاوِل أثناسيوس إبرازه، لم يكن أكثر من أن ذبيحة واحدة كانت بديلة عن الأخرى، حيث ’استُنفِذَ موت الجميع في جسد الرب‘ (تجسد الكلمة، ٢٠). بمعنى آخر، إنه بسبب الاتحاد بين جسده وجسدنا، كان موته وانتصاره بالأساس لنا (أي موتنا وانتصارنا). تمامًا كما ورثنا الموت من خلال ارتباطنا بآدم الأول، هكذا نهزم الموت ونرث الحياة من خلال ارتباطنا بـ ’الإنسان من السماء‘ (ضد الآريوسيين ١: ٤٤: ٢، ٦١؛ ٢: ٦٧)“.[11] وهذه هي البدلية التي يقصدها ق. أثناسيوس مُبادلة الموت بالحياة، والفساد بعدم الفساد، والظلمة بالنور، والخطية بالقداسة… إلخ.

يقول البروفيسور لورانس جرينستيد Lawrence Grensted مقارنًا بين تعليم أثناسيوس السوتيريولوجي وتعليم البدلية العقابية التالي: ”لا يوجد مُبرِّر للادعاء بأن أثناسيوس هو أصل وبادرة النظريات العقابية اللاحقة. لا توجد إشارة إنه يَعتبر الموت في أيّ موضع أنه بمثابة مُعاناة عقابية، وقليلاً ما يَعتبر أن موت المسيح بمثابة عقابًا نيابيًا. وإن كان يستخدم بالفعل عبارات ’تألم نيابةً عن الكل‘ و ’الموت نيابةً عن الكل‘ ولكن ينبغي تفسير تلك العبارات بحسب فهمه القوي لوحدة الجنس البشريّ في الكلمة المتجسِّد ’بالنظر إلى موت الجميع فيه‘“.[12]

كما يشرح البروفيسور هستنجس راشدال Hastings Rashdall تعليم القديس أثناسيوس الخلاصي ويُقارِن بينه وبين تعليم ”البدلية العقابية“ في اللاهوت الغربي قائلاً: ”هذا هو التعليم المحدَّد عن الذبيحة النيابية، ولكنه مع ذلك، لم يكن بكلماتٍ واضحةٍ تعليم العقاب النيابي. يبدو أن الفكرة هي كالتالي، إنه بموت هذه الذبيحة، تم إيفاء دَّين الموت – الذي جلبته خطية آدم – واستُوفِي في حالة الجميع الذين يشتركون في ذلك الناسوت، الذي اتحد الكلمة به في حالة الجسد الواحد. حيث يبدو واضحًا أكثر من عند إيرينيؤس، أن موت المسيح لا يُمثِّل مُجرَّد مُعادِل، بل مُساوٍ حقًا لموت الجميع (تجسد الكلمة ٢٠: ٤، ٥): مات الجميع بالفعل حرفيًا في موت الواحد. بالرغم من ذلك، لم يكن التركيز على فعل الذبيحة المتعلِق بالماضي، بل على آثار التجديد التابعة، والآثار التابعة من القيامة أكثر من الموت. […] هذا هو خط التفكير الذي قابلناه بالفعل عند إيرينيؤس، ولكنه أكثر تطورًا وتنظيمًا بكثير عند أثناسيوس. يُحاوِل [أثناسيوس] توضيح أن قابلية الفساد ليست عقوبة جزائية تعسفية فرضها الله، بل نتيجة طبيعية وحتمية للخطية“.[13]

وهكذا يتضح من خلال آراء الأساتذة والباحثين المعتبرين في العالم عدم وجود تعليم ”البدلية العقابية“ عند ق. أثناسيوس كما هو الحال في اللاهوت الغربيّ بشقيه المدرسيّ والبروتستانتيّ.

ق. كيرلس الأورشليمي

ويتحدث ق. كيرلس الأورشليمي عن تقديم الفدية من أجل رد السخط من جهة الجنس البشري كالتالي:

”وإذ كان فينحاس عندما زادت غيرته ذبح فاعل الشر، فرد سخط الرب، فهل يسوع الذي لم يذبح غيره، بل بذل نفسه فديةً (1تي 2: 6) لا يرد السخط الذي كان من جهة الجنس البشري؟“.[14]

ولكن يتحدث ق. كيرلس الأورشليمي أيضًا عن تقديم المسيح جسده كطُعم للموت، حيث أراد إبليس أن يقبض على المسيح، ولكن المسيح هو الذي قبض عليه، وابتلع الموت إلى الأبد قائلاً:

”لذلك صار جسده طُعمًا للموت، وإذ صار موضع أمل للوحش [الشيطان] أن يقبض على المخلص، قبض المخلص عليه. لأنه ’يبلع الموت إلى الأبد، ويمسح السيد المسيح الدموع عن كل الوجوه‘ (إش ٢٥: ٨)“.[15]

ويؤكد ق. كيرلس الأورشليمي في موضع آخر على تقديم المسيح نفسه إراديًا كفدية للموت غير المنظور، لكي يطرد الموت خارج الذين ابتلعهم الموت كالتالي:

”أُلقِي الواحد [أي يونان] إلى بطن الحوت، والآخر [أي المسيح] بإرادته نزل هناك، حيث يوجد وحش الموت غير المنظور، نزل بإرادته لكي يطرد الموت خارجًا عن أولئك الذين ابتلعهم، كما هو مكتوب: ’من قوة القبر أفديهم، من يد الملاك أخلصهم‘ (هو 13: 4)“.[16]

ق. إيرينيؤس أسقف ليون

يتحدث ق. إيرينيؤس أبو التقليد الكنسي عن تقديم المسيح الفدية للشيطان، وهنا ينبغي توضيح أمر في غاية الأهمية، وهو أن هناك فرق شاسع بين العقيدة كعقيدة في حد ذاتها، وشرح العقيدة نفسها، فالعقيدة ثابتة وراسخة، ولكن شروحات العقيدة قد تختلف وتتنوع من أب لآخر. وينبغي التنويه إلى أن الفدية هو نوع من مجاز الحروب والمعارك الذي استخدمه الآباء لشرح تدبير الخلاص، حيث يعترف جميع الآباء بعقيدة الفداء والخلاص، ولكن تختلف شروحاتهم حول هذه العقيدة الراسخة والثابتة. ويُعتبر مجاز الفدية أحد هذه الشروحات لعقيدة الفداء والخلاص، ولكنه يختلف من أب لآخر. فنجد أن ق. إيرينيؤس يتحدث عن تقديم المسيح الفدية للشيطان على اعتبار أننا كنا مأسورين تحت عبودية إبليس بسبب خطايانا. وهكذا أراد الله أن يحرر الإنسان من قبضة إبليس لا بوسائل عنيفة، بل بطريقة عادلة تليق بصلاح الله وعدله، لذا فدانا الرب بدمه باذلاً نفسه عن نفوسنا وجسده عن أجسادنا كالتالي:

”وهو الذي فدانا بطريقة تُناسِب العقل، أعطى نفسه كفدية لأولئك الذين وقعوا في الأسر. وحيث أن الارتداد [إبليس] طغى علينا ظلمًا، رغم أننا بالطبيعة ملك الإله كلي القدرة، فإن الارتداد [إبليس] جعلنا غرباء عن الله ضد الطبيعة، إذ جعلنا تلاميذه، فإن كلمة الله القوي في كل شيء، وليس ناقصًا من جهة عدله قام ضد ذلك الارتداد بطريقة عادلة، وأفتدى خاصته منه لا بوسائل عنيفة، مثلما تسلط الارتداد علينا في البداية، حينما انتزع بدون شبع ما لم يكن له، بل عن طريق الإقناع كما يليق بإله المشورة، الذي لا يتعامل بوسائل عنيفة ليحصل على ما يريد، حتى أنه لا تُنتهك العدالة من ناحية، ولا تهلك صنعة يدي الله من ناحية أخرى، وحيث إن الرب قد فدانا بدمه هكذا، باذلاً نفسه عن نفوسنا وجسده عن أجسادنا“.[17]

العلامة أوريجينوس الإسكندري

ويتحدث العلامة أوريجينوس أيضًا عن تقديم المسيح الفدية للشيطان، وكما رأينا لم يكن العلامة أوريجينوس هو أول مَن تحدث عن تقديم المسيح الثمن لإبليس، بل سبقه في ذلك ق. إيرينيؤس في شرح فداء المسيح على أنه ثمن مدفوع لإبليس من أجل تحرير أسراه من البشر، الذين كانوا مأسورين عنده بسبب خطاياهم كالتالي:

”فإذَّا كُنا قد اشتُرِينا بثمنٍ، كما يؤكِّد بولس الرسول، فبلا شك فإننا اشتُرِينا من شخص كنا عبيدًا له، وقد طالب أيضًا بالثمن الذي أراده، كي ما يُحرِّر من سلطانه مَنْ هم في قبضته. الآن كان إبليس هو مَنْ يمسكنا، الذي أُخِذنا له بسبب خطايانا. لذلك فقد طالب بدم المسيح كثمن له. وبالتالي متى قُدِّمَ دم المسيح الذي كان ثمينًا جدًا، بحيث يكفي وحده لفداء الكل“.[18]

ق. باسيليوس الكبير

لا بد من التنويه أولاً أن موضوع الفدية هو نوع من مجاز الحروب والمعارك والأسر، استخدمه الكتاب المقدس ليشرح به أمور روحية تشبه الحرب والأسر، ولكنها للأسف غير منظورة، فهي حرب روحية بين الله وملائكته والبشر وبين أجناد الشر الروحية في السماويات. لذا لجأ الآباء إلى تفسير موضوع الفدية من خلال التقليد والكتاب المقدس، وكان في فكرهم أنه ما دام الشيطان هو الذي يأسر أرواح البشر في الجحيم قبل مجيء وتجسد وخلاص المسيح، فلا بد أنه هو المسيطر عليهم بإرادتهم لأنهم أرادوا الاستمتاع بالشر والخطية تحت سلطانه، لذا منطقيًا البشر مأسورين تحت عبودية إبليس، ولا بد من فك أسرهم من إبليس، ويتطلب هذا دفع الفدية لفك سبي هؤلاء المأسورين تحت إبليس، وهذا المجاز الحربي كان منتشر بين أوساط التدين الشعبي، كما نرى هذه الأيام، وفي نفس الوقت يتحدث الكتاب المقدس عن تقديم المسيح نفسه كذبيحة كفارية لله، لذا كان ق. باسيليوس الكبير يتأرجح ما بين منطقية تقديم الفدية للشيطان لأنه هو الذي يأسر البشر، وليس الله هو الذي يأسر البشر، وفي نفس الوقت، تقديم المسيح نفسه كذبيحة كفارية لله عن البشر باعتباره الإله المتأنس القادر على خلاص البشرية.

نجد أن ق. باسيليوس الكبير يتحدَّث عن تقديم المسيح الفدية للموت الذي كان مُستوليًا على البشر كعبيد بسبب الخطية، وإن كان يستخدم الموت والشيطان بالتبادل كالتالي:

”فطهَّرنا بالماء وقدَّسنا بالروح القدس وبذل نفسه فديةً للموت [إبليس] الذي كان مستوليًا علينا ارقاءً تحت الخطية، وانحدر بالصليب إلى الجحيم ليمتلئ الكل منه، فحلَّ أوجاع الموت وقام في اليوم الثالث“.[19]

ويقول ق. باسيليوس في موضع آخر مُوضِّحًا تقديم المسيح الفدية للشيطان، الذي كنا مأسورين تحت سلطانه، ولكن الشيطان لم يكن ليقتنع بتقديم مجرد إنسان عادي كفدية عن جميع البشر الذين في قبضته، لذا كان لا بد أن تكون الفدية أكثر بكثير من مجرد إنسان عادي، بل لا بد أن يكون الفادي والفدية أثمن بكثير وأسمى بكثير من الأسير أو العبد، لذا تطلب ذلك أن يقدم المسيح نفسه فديةً من أجل تحرير الأسرى كالتالي:

”اسمعوا أنتم محتاجون للفداء لكي تربحوا حريتكم التي فقدتموها، لأنكم هُزِمتم من عنف الشيطان الذي بعدما جعلكم تحت سلطانه، لن يترككم تتحرَّروا من استبداده السابق، قبل أن يقتنع بفدية كبيرة ذات قيمة تُرضِيه، ويريد أن يُقاضِيكم بها. إذًا، يجب ألا تكون الفدية مُساوية للأسرى، بل أن تكون مختلفة كثيرًا بحسب القياس، طالما أنه يكون مزمعًا بإرادته أن يُحرِّر الأسرى. إنَّ الأخ لا يستطيع أن يُحرِّركم أو يفديكم، ولا يوجد إنسان قادر أن يُقنِع الشيطان أن يفك أسر مَنْ قبض عليه قبلاً من سلطانه، وذلك بسبب خطايا الإنسان الخاصة، لا يستطيع أن يُقدِّم ذبيحة كفارية لله. […] فلينصت إلى حقيقة الأمر كله أن كل نفس إنسانية قد خضعت لنير العبودية لعدونا المشترك، وبعدما فقدت الحرية التي وهبها لها الخالق، تصبح أسيرةً للخطية. إنَّ كل أسير يحتاج فديةً لأجل تحريره. ولا يقدر أحد أن يفدي نفسه، لأن الفادي لا بد أن يكون أسمى بكثير ممَّن هو بالفعل أسير وعبد. لكن على العموم، لا يوجد إنسان له سلطان بالنسبة لله، حتى يطلب غفرانًا للخاطئ، لأنه هو نفسه تحت دينونة الخطية، أو تحت حُكم الخطية، لأن: ’الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله، مُتبرِّرين مجانًا بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح‘ (رو3: 23- 24)“.[20]

سوف أستعرض الآن آراء الأساتذة والباحثين المعتبرين في العالم كله عن مفهوم الفدية عند ق. باسيليوس الكبير للوقوف على أفضل تصور لمفهوم الفدية عند ق. باسيليوس الكبير، حيث يعرض هؤلاء الأساتذة الكبار آراء ومفاهيم الأب بكل حيادية وموضوعية، وسوف نجد أن طرحهم يتفق مع طرحنا لمفهوم الفدية عند ق. باسيليوس الكبير، الذي كان يفسر موت المسيح متأرجحًا ما بين فرضيتي تقديم المسيح الفدية للشيطان بصورة تقليدية ومنطقية، وتقديم المسيح ذبيحة كفارية لله بصورة كتابية فيما يلي.

يتحدَّث البروفيسور جون موزلي John Mozley أستاذ تاريخ العقيدة في جامعة كامبريدج بإنجلترا عن مفهوم الفدية عند ق. باسيليوس الكبير باعتبارها ثمن فوري مدفوع للشيطان الذي أسر البشر عنده؛ لأنهم كانوا عاجزين عن إيفاء ما أراده الله كالتالي: ”يربط (باسيليوس) في موضع آخر معنى محدد أكثر بموت المسيح، مُفسرًا إياه في أحد عظاته بأنه ثمن مدفوع فوريًا لإبليس، الذي كان يأسر البشر، وكفارة έξίλασμα عن جميع البشر، لأنهم كانوا عاجزين عن إيفاء ما أراده الله“.[21] ويعلق البروفيسور جون موزليJohn Mozely  في حاشية رقم ٣ على طرحه السابق هذا مؤكدًا على تأرجح فكر ق. باسيليوس ما بين فكر الشيطان وفكر الله قائلاً: ”حيث الانتقال من فكر الشيطان إلى فكر الله يتم بصورة متأرجحة. لأنه يعتمد على المنطق في نقطته الأولى (الفدية للشيطان)، وعلى الكتاب المقدس في نقطته الثانية (ذبيحة كفارية لله). ولكنه لا يتوصل إلى أنها تمثل نظرية حقيقية“.[22]

ويشرح البروفيسور جون كيلي John Kelly أستاذ تاريخ العقيدة بجامعة أكسفورد مفهوم الفدية عند ق. باسيليوس الكبير أنها كانت مدفوعة للشيطان كالتالي: ”لقد لاقت نفس النظرية تمامًا عن حق الشيطان في إبقاء البشرية تحت العبودية حتى يُمنَح تعويضًا مناسبًا، دعمًا مع أخيه الأكبر باسيليوس [المقصود غريغوريوس النيسي الأخ الأصغر للقديس باسيليوس الكبير]. حيث علَّم (باسيليوس) بخضوع جميع البشر لسلطان رئيس هذا العالم، ولكن المسيح هو وحده القادر على أن ينادي (راجع يو ١٤: ٣٠) بأنه ليس له فيَّ شيء. ومن ثم فإن الفدية ضرورية، إن كان سيتم تحريرهم، ولا يمكن أن تشمل أي إنسان عادي. لأنه من الصعب إقناع الشيطان بتسليم أسراه عن طريق القبول بمجرد إنسان عادي، لأن هذا الإنسان يحتاج في جميع الأحوال فداءً عن نفسه. ولكن ما نحتاجه هو شخص يفوق الطبيعة البشرية – في الواقع، نحتاج يسوع المسيح الإله-الإنسان. وهكذا نلاحظ أن صور غريغوريوس الغريبة عن الطعم والخُطَّاف (الصنارة) غائبة هنا، ولا يبدو أن باسيليوس يركز على هذه النظرية. ولكنه يتأرجح في نفس السياق بين تفسير موت المسيح على أنه فدية مدفوعة للشيطان وذبيحة مُقدَّمة لله“.[23]

يشرح البروفيسور هستنجس راشدال Hastings Rashdall مفهوم الفدية عند ق. باسيليوس الكبير موضحًا أن ق. باسيليوس نادى بتقديم المسيح الفدية للشيطان كلغة معتادة في ذلك العصر بين الأوساط الشعبية لتفسير طبيعة وماهية موت المسيح كالتالي: ”وهناك فقرات يتحدَّث [باسيليوس] فيها بالطريقة المعتادة عن الحيلة التي تم خداع الشيطان بها لتطويقه بموت المسيح، والبحث عن القضاء عليه. وبالتالي، يقبل باسيليوس اللغة التقليدية دون دفاع أو تفسير، ولكن التركيز على حقوق الشيطان أقل من التركيز على القيمة العليا أو الجدارة لمَّن عُرِضَ عليه [أي المسيح] كفدية. إن الفدية ليست أكثر من مجرد وسيلة للتعبير عن ضرورة موت المسيح من أجل مغفرة الخطايا، والتي اعترف بها باسيليوس بشكل رسمي مثله مثل الآباء اليونانيين الآخرين، على الرغم من رغبتهم العامة في جعل الخلاص يعتمد على التجسد ككل. فيبدو واضحًا أن الطريقة العرضية التي يتطرق بها هؤلاء الكُتَّاب إلى فكرة دفع الفدية للشيطان، قد لعبت دورًا أكثر في التدين الشعبي أكثر منه في أذهان المتعلمين. لأنها (الفدية) تنتمي إلى التقليد المقبول عامةً، وربما لمجرد أنها كانت مقبولة بالإجماع، لم تكن موضوعًا قابلاً للنقاش، أو أساسًا للتفكير“.[24]

ق. غريغوريوس النيسي

ونجد ق. غريغوريوس النيسي أيضًا يتحدَّث عن تقديم المسيح الفدية للشيطان، حيث رأى الشيطان في المسيح شيئًا أعظم ليبادل به الأسرى المحبوسين عنده في سجن الموت، لذلك اختاره الشيطان كفدية مقابلهم كالتالي:

”وهكذا فإن العدو، الذي كان ينظر إلى تلك القوة (التي للرب يسوع)، رأى فيه أيضًا شيئًا أعظم للمبادلة، مقابل (الإنسان) الذي كان يمتلكه. لهذا السبب اختاره [أي إبليس] فديةً لمَّن كانوا محبوسين في سجن الموت“.[25]

ق. يوحنا ذهبي الفم

يؤكد ق. يوحنا ذهبي الفم على أن الثمن المدفوع من المسيح لأجلنا هو الصليب، هذا الصليب الذي خلَّص العالم وغيَّره تمامًا كالتالي:

”لهذا فبولس أيضًا وهو يقودنا إلى هناك، أقصد إلى الحرية التي تليق بنا، قادنا إليها على هذا الأساس، وقد ذكَّرنا بالصليب وبدم ربنا. يقول: ’قد اشتُريتم بثمنٍ، فلا تصيروا عبيدًا للناس‘ (1كو 7: 23). إنه يقول: تأمل الثمن الذي دُفِعَ من أجلك، ولن تصير عبدًا لإنسان؛ ويقصد بالثمن الصليب […] لأن هذا الصليب قد خلَّص العالم وحوَّله، وطرد الضلال، وأرجع الحقيقة، وصنع الأرض سماءً، وصاغ الناس إلى ملائكة. بسبب هذا لم تعد الشياطين مفزعةً فيما بعد، بل خسيسةً؛ ولا الموت موتًا، بل رقادًا؛ بسبب هذا طُرِحت كل تلك الحرب ضدنا أرضًا ووطئتها الأقدام“.[26]

ويشير ق. يوحنا ذهبي الفم إلى مفهوم الفدية على أنها موت المسيح من أجل أن يخلصنا من الموت كالتالي:

”يُظهِر الآن لماذا مات مرةً واحدةً، فهو مات مرةً واحدةً لكي يخلصنا. يقول: ’وكما وُضِعَ للناس أن يموتوا مرةً‘. هذا إذًا ’مات مرةً‘، وقد صار هذا من أجل كل البشر. ماذا إذًا؟ ألا نموت بعد ذلك موتًا؟ بالطبع نموت، لكننا لا نبقى في هذا الموت، الأمر الذي لا يُعتبر موتًا. لأن طغيان الموت، والموت الحقيقي هو ذلك الموت الذي لا يسمح للمائت أن يعود إلى الحياة مرةً أخرى، لكن إذا كان يحيا بعد الموت، ولأجل حياة أفضل، فهذا ليس موتًا، بل رقادًا. إذًا ولأن الموت سيسود على الجميع، لهذا مات الرب، لكي يخلصنا من الموت. وهكذا مات المسيح مرةً. مَن الذي قاده إلى الموت؟ بالطبع هو نفسه. هنا لا يقدمه بولس الرسول ككاهن فقط، بل كذبيحة، ويضيف بعد ذلك السبب الذي لأجله ’ذُبِحَ‘. يقول: ’هكذا المسيح أيضًا بعدما قدَّم مرةً لكي يحمل خطايا كثيرين‘ (عب 9: 28)“.[27]

وهكذا يقرر ق. يوحنا ذهبي الفم أن المسيح أخذ الخطايا من البشر وحملها، وقدَّمها للآب، لا لكي يقرر ضدهم شيئًا، بل من أجل غفران الخطايا كالتالي:

”ماذا يعني بقول: ’يحمل خطايا‘؟ تمامًا مثلما نقول بالتقدمة التي نُقدِّمها من جهة الخطايا: ’أغفر لنا خطايانا التي صنعناها بإرادتنا، والتي صنعناها بغير إرادتنا‘ أي أننا نتذكر أولاً الخطايا، ثم بعد ذلك نطلب الغفران، هذا ما قد حدث هنا. أين صنع المسيح هذا؟ اسمعه هو نفسه يقول: ’ولأجلهم أُقدِّس أنا ذاتي‘ (يو17: 19). ها قد حمل الخطايا، أخذها من الناس، وقدَّمها للآب، لا لكي يقرر شيئًا ضدهم، بل فعل هذا من أجل غفران الخطايا. يقول: ’سيظهر ثانيةً بلا خطية للخلاص للذين ينتظرونه‘، فماذا يعني بقوله ’بلا خطية‘؟ يعني أنه في ظهوره الثاني لن يحمل خطايا، ولا سيأتي للمرة الثانية لأجل الخطايا، ولا يموت مرةً أخرى، لأنه حتى عند مات مرةً واحدةً، لم يمت لأنه كان محكومًا عليه بالموت، ولم يكن بسبب خطية. ولكنه ’لماذا سيظهر‘؟ فأنت تقول: لكي يدين. ولكنه لم يقل ذلك، بل قال الأمر المفرح ’سيظهر ثانيةً بلا خطية للخلاص للذين ينتظرونه‘، إذ لن يكون هناك احتياجًا لذبيحة من أجل خلاصهم، لكنه سيصنع هذا حسب أعمالهم“.[28]

ويشير ق. يوحنا ذهبي الفم إلى مفهوم الدَّين الذي دفعه المسيح لنا كعلامة محبته الفائقة للبشر قائلاً:

”أي بمثال، مثال الخروف. كيف؟ لأنه بتضحية الخروف، أُنقِذَ إسحاق، حتى أنه بواسطة الخروف الذي أخذه، ذبح الخروف بدلاً من ابنه. هذه بالطبع كانت أمثلة تُعبِّر عن الحقيقة، لأنه هنا ابن الله هو الذي ذُبِحَ. ولاحظ من فضلك، كم كانت محبة الله للبشر فائقة، لأنه كان يُعدّ للبشر نعمة عظيمة، راغبًا ألا يجعل هذا كمُتفضل، بل كمديون، أولاً جعل ابنه إنسانًا لكي يُسلِّمه تنفيذًا للأمر الإلهي، وحتى لا يظهر الله وهو يُقدِّم ابنه وكأنه يفعل شيئًا عظيمًا، ما دام أن هناك إنسان [أي إبراهيم] قد فعل هذا، لكي لا يُعتقد أنه فعل هذا من محبته للبشر فقط، بل وكدَّين أيضًا، لأن أولئك الذين نحبهم، نريد أن نمنحهم هذا أيضًا، حتى تقوى ثقتهم طالما أننا سبق وأن أخذنا شيئًا بسيطًا منهم، ولهذا نُقدِّم لهم كل شيء، ونفتخر بالأكثر جدًا لذلك الذي أخذناه. ولهذا يقول: ’الذين منهم أخذه أيضًا في مثال‘ أي بطريقة رمزية، تمامًا مثلما حدث عند تشبيه الخروف بإسحاق، هكذا كان إسحاق رمزًا للمسيح. أي لأنه اكتملت الذبيحة وذُبِحَ إسحاق بالنية [أي نية إبراهيم] ولهذا فقد منحه الله للبطريرك [أي لإبراهيم]“.[29]

ويؤكد ق. يوحنا ذهبي الفم أن المسيح قدَّم الثمن أو الفدية للموت كالتالي:

”فمحبتنا للمال لن تكون بقدر ما يشتهي هو خلاصنا، إذ إنه لم يدفع مالاً من أجل خلاصنا، بل دفع دمه. ومن أجل هذا لا يحتمل أن يترك هؤلاء، الذي من أجلهم دفع هذا الثمن الكبير جدًا. لكن انتبه لقوته أيضًا، كيف يُظهِر إنها قوة لا يُعبَّر عنها. ’لهذا مات وعاش لكي يسود على الأحياء والأموات‘. وفيما سبق قال: ’فإنْ عشنا وإنْ متنا فللرب نحن‘. أرأيت مثل هذه السيادة المطلقة؟ أرأيت مثل هذه القوة التي لا تُقهر؟ أرأيت الاهتمام التام والكامل؟ ولكيلا تقول لي إنه يعتني بالأحياء، يشير إلى اهتمامه بالأموات أيضًا. وإن كان يعتني بالأموات، فمن الواضح أنه يعتني بالأحياء أيضًا. إذًا، لا شيء قد غاب عن هذه السيادة، إذ أعطى لذاته الحق بالاعتناء بنا نحن البشر أكثر مما نحرص نحن عليه، بدون النظر إلى أي أمور أخرى. لأن الإنسان بالطبع يدفع أموالاً، ولهذا فإن عبده يُبدِي قدرًا كبيرًا من الاحتمال، بينما المسيح دفع الكثير مقدمًا نفسه للموت، ولن يقدم حسابًا لأحد من أجل الخلاص، ذاك الذي اشتراه بهذا الثمن الباهظ، ذاك الذي ربح السلطان بواسطة هذه العناية الفائقة، وهذا العمل“.[30]

ويشير ق. يوحنا ذهبي الفم إلى مفهوم الفدية أنها فعل محبة من الله نحو البشرية ينبغي أن نتمثل به في علاقتنا مع الآخرين كالتالي:

”وفيما بعد ولكي يبين لمَّن أُعدَّ هذا الجلوس (عن اليمين وعن اليسار)، وبعدما دعاهم، قال: ’مَن أراد أن يكون فيكم عظيمًا فليكن لكم خادمًا‘ (مت 20: 26)، وأظهر حالة التواضع والمحبة. لكنه يطلب محبة قوية، لذلك لم يتوقف عند هذا الحد، بل أضاف: ’كما أن ابن الإنسان لم يأت ليُخدَم، بل ليخدمَ، وليبذلَ نفسه فديةً عن كثيرين‘ (مت 20: 28). هكذا يبين أنه ينبغي أن نُحب بهذا القدر، حتى أننا نقبل أن نُقدِّم ذواتنا ذبيحةً لأجل مَن نحبهم، لأن هذا تحديدًا هو معنى أن نُحب الله“.[31]

ويؤكد ق. يوحنا ذهبي الفم أن موت المسيح وانتصاره جعلنا شركاء في انتصاره للتمتع بالأكاليل، ولم يكن دَّينًا عليه، بل فعل محبة فائقة منه للبشر كالتالي:

”إن المسيح هو الذي أقام نُصب الانتصار، بل وجعلنا شركاء في التمتع بالأكاليل، وهذا ليس دَّينًا عليه، بل فقط بسبب محبته الفائقة للبشر“.[32]

ويُحدِّد ق. يوحنا مفهوم التقدمة أو الفدية أو الذبيحة بأن الابن وحَّد نفسه بنا وقدَّمنا كذبيحة في نفسه كالتالي:

”يقول الرسول وبتشديد أكثر أن كل ما هو للآب هو للابن أيضًا، لأنه صار ميتًا لأجلنا، ووحَّد نفسه بنا. لم يقل الرسول ’باكورةً‘ كما في الثمار، ولم يقل ’قيامةً‘ فحسب، بل قال ’باكورة القيامة‘ مظهرًا أنه قد قدَّسنا كلنا، وقدَّمنا كما لو كنا ذبيحةً. إن البعض يستخدم تعبير ’الملء‘ كنايةً عن اللاهوت، كما قال يوحنا: ’ومن ملئه نحن جميعًا أخذنا‘ (يو 1: 16). أي مهما كان الابن، فالابن كله حلَّ هناك ليس بنوع من الطاقة، بل كجوهر“.[33]

ويشير ق. يوحنا ذهبي الفم إلى امتلاك إبليس للصك الذي صنعه الله مع آدم، والصك هو أن الموت هو نتيجة العصيان، لكن المسيح مزَّقه بنفسه إلى نصفين، ثم يبين أن الصك أو الدَّين هو دَّين الموت، وأن المسيح مزَّق هذا الصك أي الموت، بموته، وهكذا بموته أمات الموت وأباده كالتالي:

”إنه يقصد إما ما قالوه لموسى وهو: ’كل الأقوال التي تكلم بها الرب نفعل ونطيع‘ (خر 24: 3)، أو إن لم تكن هذه، فهي إننا مديونين لله بالطاعة، أو إن لم تكن هذه، فهو يقصد أن إبليس امتلك الصك الذي صنعه الله مع آدم بقوله: ’يوم أن تأكل من الشجرة موتًا تموت‘ (تك 2: 17). لذلك، كان الصك في حوزة إبليس، والمسيح لم يُعطه لنا، بل مزَّقه بنفسه إلى نصفين، وهذا تصرُف مَن يغفر بابتهاج. ’إذ جرَّد الرياسات والسلاطين‘ فهو يقصد القوات الشيطانية، لأن الطبيعة البشرية قد جعلت نفسها تصطف ضمنها، أو لأن لهم – كما لو كان – قبضةً، فعندما صار [المسيح] إنسانًا، أبعد عن نفسه تلك القبضة. فما معنى ’أشهرهم‘؟ حسنًا هو قال هذا، فلم يكن الشيطان أبدًا في ورطة مخزية جدًا كهذه. فرغم أنه كان يتوقع أن يفوز به، لكنه خسر حتى ما كان له، وعندما سمَّر ذلك الجسد على الصليب، قام من الأموات. هناك تلقى الموت طعنته، إذ تلقى ضربته القاتلة من جسد ميت. وكمصارع عندما يظن أنه قد صرع خصمه، هو نفسه يتلقى ضربةً قاتلةً، هكذا بالحق أظهر المسيح أيضًا أن الموت بثقة [أي عدم خوف] هو خزي الشيطان […] وحيث أن الملائكة لم تعانِ شيئًا كهذا، لذلك هو يعمل كل شيء لأجل أن يبين أن موته أنجز عملاً جبارًا. كان هناك كما لو كان معركة وحيدة. الموت طعن المسيح، لكن المسيح إذ طُعِنَ، قتل بعد ذلك الموت. ذاك [الموت] الذي كان يبدو خالدًا قد تمت إبادته بواسطة جسد ميت“.[34]

وهكذا يتحدث ق. يوحنا ذهبي الفم عن مفهوم الدَّين نافيًا مفهوم تدبير الله لأن يُسلِّم يهوذا المسيح للموت كالتالي:

”إن إبليس أهلك الإنسان الأول عندما أمسكه مُتلبسًا بالخطية (لأنه ’بالخطية دخل الموت‘ رو 5: 12). لكنه لم يجد فيَّ [أي في المسيح] خطيةً. فلماذا وثب عليَّ وسلَّمني إلى الموت؟ لماذا وضع في قلب يهوذا أن يسلمني للموت؟ لا تقولوا لي عن هذه النقطة إن الله دبَّر ذلك، وأن هذا لم يكن نتيجةً لتدبير الشيطان، بل لحكمة الله، ولكن لنجعل همَّنا الآن فحص التفكير الذهني لهذا الشرير. فكيف سيُدان العالم فيَّ؟ إنه سيتم توجيه الكلام التالي لإبليس كما لو كان يُحاكَم في ساحة القضاء، ويُوجَّه إليه الاتهام التالي: بافتراض أنك أهلكت كل البشر لأنك وجدتهم مذنبين بالخطية، لكن لماذا قتلت المسيح؟ أليس من الواضح أنك تصرفت هكذا ظلمًا؟ لذلك، حسنًا – فمن خلاله سيتبرر كل العالم. وأيضًا لكي أجعل هذا الأمر أكثر وضوحًا، سأشرح هذه النقطة بمثل توضيحي: لنفترض أنه يوجد طاغية ما قد باع نفسه للعنف، وأحدث شرورًا لا تُحصَى لمَّن وقعوا تحت يديه. فلو أقدم على العراك مع الملك أو ابن الملك (وهو متخفٍ) وقتل الأخير ظلمًا، فإن موت الملك أو ابنه سيتسبب عنه مجازاةً له (ودينونة) عن الآخرين أيضًا. لنفترض (أيضًا) أن مدينًا ما كان يضبط مدينيه، ويضربهم ويلقيهم في السجن، ولنفترض بعد ذلك أنه بنفس هذا التصلُّف ألقى في السجن مَن ليس مدينًا له بشيء. فهذا المدين سيدفع العقوبة لما فعله بالآخرين، لأن الإنسان البريء سيفضحه (سيهلكه). وهكذا حدث هذا أيضًا في حالة الابن. لأن إبليس مطلوب عقابه لما فعله بنا بسبب ما تجرأ وعمله بالمسيح. ولإثبات أن المسيح كان يقول هذا بطريقة غير مباشرة، فاسمع لما قال: ’الآن يُطرَح رئيس هذا العالم خارجًا‘ بموتي، ’وأنا إنْ ارتفعت عن الأرض أجذب إليَّ الجميع، قال هذا مشيرًا إلى أية ميتة كان مزمعًا أن يموت‘ (يو 12: 31- 32). وأيضًا لئلا يقول شخص ما: كيف سيُطرَح خارجًا إنْ كان أيضًا قد تغلب عليك وقتلك على الصليب؟ إن المسيح أعلن: إنه لم يغلبني، لأنه كيف يمكنه أن يغلبني، إنْ كنتُ سأجذب إليَّ الجميع؟ وأيضًا فإنه لم يذكر القيامة، بل ذكر شيئًا أعظم من القيامة وهو قوله: ’أجذب إليَّ الجميع‘. لو كان فقط تكلم عن القيامة، لما كان أوضح أبدًا أنهم سيؤمنون أيضًا به، لكن بإعلانه أنهم سيؤمنون (إذ سينجذبون إليه)، فهو كان يؤكد كلا الشيئين في الحال، وسيؤكد بذلك حقيقة أنه سيقوم ثانيةً. لأنه لو بقى ميتًا، وكان هكذا مجرد إنسان، لما آمن به أحد. ’سوف أجذب إليَّ الجميع‘ فكيف قال إن الآب يجتذبهم (أنظر يو 6: 44)؟ لأنه عندما يجتذبهم الابن، فالآب يكون هو الجاذب لهم“.[35]

ق. أمبروسيوس أسقف ميلان

ويؤكد ق. أمبروسيوس أسقف ميلان على تقديم المسيح الفدية للشيطان، حيث يرى أن ثمن حريتنا من قبضة إبليس هو دم ربنا يسوع المسيح، الذي كان ينبغي دفعه للشيطان الذي كنا مُباعين له من قِبل خطايانا كالتالي:

”ولكن ينبغي علينا أن نُقدِّم الرد التالي لأولئك الذين يؤمنون بالرب يسوع المسيح، الذي لم نكن نرغب في الكشف عنه، عندما كنا نُناقِش آراء الوثنيين. لأننا إذ لم نكن قد افتُدِينا بالفضة والذهب الفاسدين، بل بدم ربنا يسوع المسيح الثمين، ولم نُشتر من أي أحد إلا ممَّن قد اشترانا بالمال، وكان المالك، أي المالك لخدمات جنسنا الخاطئ الآن، فإنه بلا شك قد طالب بالثمن من أجل إطلاق أولئك الذين قد استعبدهم من خدمته. ولكن ثمن حريتنا كان دم الرب يسوع، الذي كان من الضروري دفعه لمَّن كنا مُباعين له [أي إبليس] من قِبل خطايانا“.[36]

أوغسطينوس أسقف هيبو

يُؤيِّد أوغسطينوس فكرة دفع المسيح الفدية للشيطان، ويرى أن دم المسيح كان الثمن من أجل فدائنا من قبضة إبليس، الثمن الذي قبله إبليس لكي ما يحررنا من قيوده، ولكنه لم يتمتع به، بل كان مقيدًا في ذلك. حيث يقول التالي:

”لأن دم المسيح في هذا الفداء، قد أُعطِي ثمنًا لأجلنا بموافقة وقبول إبليس الذي لم يغتنِ به، بل كان مُقيَّدًا لكي ما يُطلِقنا من قيوده“.[37]

ويتحدث أوغسطينوس في موضع آخر عن أن المسيح عرض ثمننا على إبليس كطُعم ومصيدة على الصليب لكي ما يخلصنا كالتالي:

”لأن ثمننا الذي عرضه عليه [أي إبليس] على صليبه يُشبِه مصيدة فأر، وكطُعم موضوع عليها بدمه“.[38]

كما يؤكد أوغسطينوس أيضًا في نفس السياق على تقديم المسيح الفدية للشيطان، الذي كنا مأسورين تحت سلطانه ومستعبدين له، لذلك دفع الفادي الفدية بدمه لكي ما يحررنا قائلاً:

”والحال أن البشر كانوا أسرى تحت سلطان إبليس، وكانوا عبيدًا للشياطين؛ لكنهم أُعتِقوا من تلك العبودية. كان بوسعهم أن يُباعوا، لا أن يُفتدوا. ولكن جاء الفادي ودفع الفدية؛ بذل دمه، وبثمنه اشترى العالم كله. إن كنتم تسألون ماذا اشترى، أنظروا ماذا دفع، فتعرفون ماذا اشترى. دم المسيح هو الثمن الذي دُفِعَ. فما الذي يستحق أن يُدفَع لأجله هذا الثمن؟ أ يكون أقل من العالم بأسره؟ أ يكون أقل من جميع أمم الأرض؟“.[39]

ويكرر أوغسطينوس موضوع تقديم المسيح الفدية للشيطان في موضع آخر، متحدثًا عن أن المسيح تحمل فديتنا على الصليب، التي كانت بمثابة فخ لإبليس وضع عليه دمه كطُعم كالتالي:

”ولأننا قد وقعنا في يد رئيس هذا العالم الذي أغوى آدم، وجعله عبدًا له، وابتدأ في امتلاكنا كعبيد له. جاء الفادي، وانهزم المُغوِّي. فماذا فعل مخلصنا لمَّن أسرنا؟ لأن فديتنا التي تحملها على الصليب كانت بمثابة فخًا؛ حيث وضع فيها دمه كطُعم. لقد كان لديه [أي الشيطان] حقًا القدرة على سفك دمه، ولكنه لم يشربه“.[40]

البابا لاون الكبير Leo The Great

ويُؤيِّد البابا ليو (لاون) الكبير Leo The Great أيضًا فكرة تقديم المسيح الفدية للشيطان اللص عديم الضمير من أجل إبطال مواعيد الصك المميت المكتوب علينا بسبب الحكم العام للخطية الأصلية كالتالي:

أصرَّ اللص عديم الضمير والسارق الجشع على الهجوم عليه [أي على المسيح]، مَنْ ليس له فيه شيء يخصه، وتخطى بتنفيذ الحكم العام على الخطية الأصلية القيد الذي أوثقه [أي إبليس] به، وطالب بمعاقبة الإثم ممَّن لم يجد فيه أيّ ذنب، وبالتالي، تم إبطال المواعيد المؤذية للصك المميت، وتم إلغاء الدَّين كله من خلال ظلم الثمن الفاحش“.[41]

البابا غريغوريوس الكبير Gregory The Great

ويُؤيِّد البابا غريغوريوس الكبير Gregory The Great فكرة تقديم المسيح الفدية للشيطان الذي خدعه الرب مثل عصفور، عندما ظهر أمامه في آلام ابنه الوحيد كطُعم يخفي فيه حبل المشنقة لإبليس قائلاً:

خدعه الرب مثل عصفور، عندما ظهر أمامه في آلام ابنه الوحيد كطُعم، ولكنه أخفى حبل المشنقة“.[42]

ق. غريغوريوس النزينزي

في الواقع، يرفض ق. غريغوريوس فكرة تقديم المسيح الفدية لإبليس، ويَعتبر الفدية هي القضاء على الفساد والموت وتطويقهما، وهذا الرأي نجده عند آباء آخرين، كما يرفض ق. غريغوريوس أيضًا تقديم الابن كفدية للآب، وهذا ما سوف نقوم بإثباته من خلال نصوص ق. غريغوريوس اللاهوتي التي تحدثت عن مفهوم الفدية. ثم سنقوم بعرض آراء الأساتذة واللاهوتيين المعروفين على مستوى العالم التي تدعم طرحنا بخصوص مفهوم الفدية عند ق. غريغوريوس اللاهوتي، ثم سنقدم تفسيرنا لهذا النص محل النقاش الذي تدعمه آراء الأساتذة اللاهوتيين المعروفين في العالم الأكاديمي، ولهم ثقل كبير في هذه الأمور.

هناك نص ق. غريغوريوس اللاهوتي الشهير في عظته الفصحية الثانية رقم ٤٥، والذي تحدَّث فيه عن موضوع الفدية لمَّن قُدِّمت؟ وسوف أقوم بعرض ترجمتين مختلفتين لهذا النص أحدهما من ترجمة القس لوقا يوسف عن مجموعة الآباء اليونان باترولوجيا جريكا PG والترجمة الأخرى ترجمتي الخاصة لنفس النص من مجموعة آباء ما بعد نيقية السلسلة الثانية والمجلد السابع NPNF.

يُناقِش معلمنا ق. غريغوريوس اللاهوتي في عظته الفصحية الثانية موضوع الفدية كالتالي:

”والآن لنفحص حقيقة أخرى والتعليم اللذين أغفلهما الكثيرون، والتي بالنسبة إلىَّ تستحق فحصها بتوسع: إلى مَن أُعطِي الدم الذي سُفِكَ من أجلنا؟ ولأي شيء سُفِكَ الدم العظيم والمعروف جيدًا، دم الإله ورئيس الكهنة والذبيحة في الوقت نفسه؟ لأننا نوجد تحت عبودية الشرير، ومُباعين بالخطيئة مقابل تمتعنا بالشر والرذيلة. والآن، إن لم تكن الفدية لأجل مَن كان تحت العبودية، فإني أتساءل: لمَّن قُدِّمت؟ ولأي سبب؟ إذا قُدِّمت لأجل الشرير، فليبعد عني مثل هذا التجديف! إن كان اللص يأخذ فدية ليس من الله فقط، بل الله نفسه، ويأخذ أجرًا رفيعًا من أجل استبداده بالبشر حسب رغبته، فلأجل مَن يكون من العدل أن يشفق علينا؟ إن كان لأجل الآب، فسؤالي الأول هو: كيف؟ لأننا لم نكن مُقيَّدين من قِبله. وسؤالي الثاني هو: لأي سبب كان دم الوحيد الجنس مسرةً الآب، الذي لم يقبل حتى إسحاق حينما كان أبوه يقدمه كذبيحة، بل بدَّل الذبيحة واضعًا حملاً عوضًا عن الذبيحة العقلية؟ ومن ثم، فإنه من الواضح أن الآب يأخذ دون أن يسأل أو يلتمس، ولكن من أجل تدبير الخلاص، ولأنه كان يجب أن تتقدس الإنسانية بإنسانية الله، حتى يحررنا المسيح نفسه، ويقهر الشيطان الطاغية، ويجذبنا إلى نفسه بوساطة ابنه الذي دبَّر هذا كرامةً لأبيه الذي يعطي الابن كل شيء. لقد تحدثنا كثيرًا عن المسيح، وبقي أن نكرمه بالأكثر بصمتنا“.[43]

سأقوم بعرض ترجمتي الخاصة لنفس النص من مجموعة آباء ما بعد نيقية لمقارنة النص المترجم عن اليوناني والنص المترجم عن الإنجليزي للوصول إلى أفضل فهم لمعنى النص كالتالي:

”ينبغي أن نفحص الآن حقيقة أخرى، وتعليم يُهمِله أغلب الناس، ولكنه يستحق في رأيي البحث فيه. لمَّن قُدِّم هذا الدم المسفوك لأجلنا؟ ولماذا سُفِكَ؟ أقصد الدم الثمين والمعروف جدًا لإلهنا ورئيس الكهنة والذبيحة. لقد قيَّدنا الشرير في العبودية، مُباعين بالخطية، ومستمتعين في المقابل بالشر. الآن، ما دامت الفدية تخص فقط مَن يستعبدنا، لذلك أتساءل لمَّن قُدِّمت هذه (الفدية)؟ ولأي سبب؟ إن كانت للشرير، فإنني أستنكر هذه الإساءة! إذ أن السارق يأخذ الفدية، لا فقط من الله، بل الفدية هي الله نفسه، ويمتلك هذا الثمن الغالي من أجل استبداده، الثمن المستحق الذي سعى من أجله لكي يحررنا تمامًا. ولكن إن كانت للآب، فأتساءل أولاً: كيف؟ لأنه لم يكن هو الذي كنا تحت سطوته؛ وثانيًا، على أي أساس يسُر الآب دم ابنه الوحيد، الذي لم يقبل حتى بإسحاق عندما قدَّمه أبوه، بل استبدله بذبيحةٍ، واضعًا كبشًا عوضًا عن الذبيحة البشرية؟ أليس من الواضح قبول الآب له، ولكنه لم يطلبه، ولم يحتاجه، بل من أجل التجسُّد، ومن أجل أن البشرية ينبغي أن تتطهر ببشرية الله، لكي ما يخلصنا لنفسه، ويغلب الطاغية، ويجتذبنا إلى نفسه بوساطة ابنه، الذي دبَّر ذلك كرامةً للآب، الذي من الواضح أنه يطيعه في كل شيء؟ وهكذا قد تحدثنا كثيرًا عن المسيح، وأعظم ما يمكننا قوله هو إكرامه في صمت“.[44]

للأسف الشديد يُحرِّف البعض معنى نص الفدية الذي للقديس غريغوريوس اللاهوتي بذهنية وعقلية لاهوت العصر الوسيط، واللاهوت المدرسي، والبروتستانتي، ليجعله مناسبًا لقناعاته المغلوطة والخاطئة عن تدبير الخلاص، حيث يرى أن العقوبة من الآب، والآب يأخذ الابن ليعاقبه فديةً بدلاً عنا وعن عقوبة خطايانا، وهذا ضلال وبهتان، وبعيد كل البعد عن المعنى المقصود في النص. حيث يرفض النزينزي تقديم الابن كفدية للآب، لأن الآب لم يأسرنا ولم يسبنا، ولا يمكن أن يُسر برؤية دم ابنه الوحيد مسفوكًا، كأنه إله سادي يتلذذ ويُسر ويستمتع بسفك دماء ابنه الوحيد، يا لضلال! ويا لفداحة! ويا لسادية! هؤلاء الذين لا يقبلون ذلك على أبنائهم، ويقبلونه ببساطة على الآب أن يصنعه في ابنه لكي يستمتع بسفك دمائه، وحسرتاه! إنهم فقدوا عقولهم، وعميت أبصارهم، وأظهروا طبائعهم غير الآدمية.

سأقوم بعرض نصوص أخرى عن الفدية عند ق. غريغوريوس اللاهوتي للوقوف على أفضل تصور لمفهوم الفدية عنده، حيث يتحدث في عظة رقم ١٤ عن محبة الفقراء بخصوص تقديم الابن نفسه كفدية من أجل حياة العالم، ويعدد بعد ذلك بركات هذه الفدية وسر الخلاص الجديد من الحصول على طريق الحياة، والقضاء على الموت، وإكليل النصرة على الذي هزمنا، وعطايا الشركة في الروح القدس قائلاً:

”لقد أظهر الرحمة نحونا بطرق عظمى، وفوق كل شيء، بإعطائنا الناموس والأنبياء، بل وحتى قبلهما بإعطائنا ناموس الطبيعة غير المكتوب، معيارًا للحكم على جميع أعمالنا، يفحصنا، وينصحنا، ويدرِّبنا، وأخيرًا، قد أعطى نفسه فديةً من أجل حياة العالم. وقد أنعم علينا بالرسل، والإنجيليين، والمعلمين، والرعاة، والأطباء، والعلامات المذهلة، طريقًا يقود إلى الحياة، والقضاء على الموت، وإكليل النصرة على مَن هزمنا، وعهدًا في الظل، وظلاً في الحقيقة، وعطايا جعلتنا نشترك في الروح القدس، سر الخلاص الجديد“.[45]

ويناقش ق. غريغوريوس اللاهوتي موضوع الفدية في قصيدة لاهوتية له، حيث يرفض تقديم الابن كفدية للشيطان، كما يستنكر أيضًا تقديم الابن كفدية للآب، لأن الآب لم يأسرنا أو يسبنا، أو يضعنا في الأسر، ويتعجب ق. غريغوريوس كيف يمكن أن يتم سبي ماسح المسيح [أي الله] ووضعه في الأسر، ويقول إننا نقبل بهذه النماذج المقبولة في عالم السماويات، أي يمكننا قبول هذه كرموز ونماذج للأمور المقبولة في السماويات قائلاً:

”لذا أتساءل: لمَّن سُفِكَ دم الإله؟ إن كان للشرير – فيا للأسف! أن يُقدَّم دم المسيح للشرير! ولكن إن قلت لله – كيف يمكن أن يكون هذا، في حين أننا كنا مستعبدين لآخر (غير الله)؟ فالفدية تخص مَن يحتجز الأسرى دائمًا. أ يمكن أن يكون هذا حقًا، أن يُقدَّم ذبيحةً لله لكي ما ينتزعنا الله نفسه بعيدًا عن سلطان مَن يأسرنا، ويأخذ المعادِل لمَّن أنزل المسيح؟ لأنه لا يمكن أن يؤخذ ماسح هذا المسيح في الأسر. وهذا هو ما نعتقده. ولكننا نقبل بالنماذج المقبولة في السماويات“.[46]

ونستعرض نص آخر للقديس غريغوريوس اللاهوتي يتحدث فيه عن مفهوم الفدية، حيث يرى أن الفدية والمصالحة تتمثل في استردادنا لحريتنا بأخذ الابن لشكل العبد، وارتفاعنا بنزوله، وتمجيدنا بإهانته، وخلاصنا بموته، وانتشالنا من محنة الخطية بقيامته كالتالي:

”لقد أخذ شكل العبد لكي ما نسترد حريتنا، نزل لكي ما نرتفع، جُرِبَ لكي ما ننتصر، أُهين لكي ما يُمجِّد، مات لكي ما يخلص، قام لكي ما يجتذبنا إلى نفسه، نحن الذين كنا راقدين في محنة الخطية. أعطى الجميع، وقدَّم الجميع، لمَّن أسلم ذاته فديةً ومصالحةً لأجلنا“.[47]

سوف أستعرض الآن آراء الأساتذة الأشهر في العالم الذين قرأوا وفسروا نص الفدية للقديس غريغوريوس اللاهوتي بلغته اليونانية، وكيف إنهم لم يروا أن ق. غريغوريوس اللاهوتي يتحدث عن تقديم الابن كفدية للآب. فلا يمكننا أن نقرأ نصوص الآباء ونفسرها بقناعاتنا المسبقة وبحسب أهوائنا الشخصية، بل لا بد من الرجوع إلى المتخصصين والأساتذة في علم الآباء وتاريخ العقائد لنتأكد هل فهمنا للنص صحيح وعليه إجماع أكاديمي من أشهر الأساتذة في هذا المجال أم لا؟ حتى لا نضل أنفسنا ونضل الآخرين بخزعبلات وتأويلات شخصية خاصة بنا لنصوص الآباء.

يتحدث البروفيسور جوستاف ألين Gustave Aùlen وهو أسقف ولاهوتي سويدي لوثري، وصاحب أشهر كتاب عن عقيدة الفداء والخلاص باسم ”كريستوس فيكتور“ عن مفهوم الفدية عند ق غريغوريوس اللاهوتي، حيث يؤكد ألين أن ق. غريغوريوس اللاهوتي يرفض تقديم الابن كفدية للآب قائلاً: ”في النهاية، يرفض ق. غريغوريوس النزينزي فكرة الفدية تمامًا، ولا يسمح بدفع الفدية سواء للشيطان، ولا حتى لله، لأننا لم نكن، كما يقول، مأسورين ومُستعبدين لله“.[48]

ويتحدث البروفيسور جون كيلي John Kelly أستاذ تاريخ العقيدة بجامعة أكسفورد بإنجلترا عن مفهوم الفدية عند ق. غريغوريوس اللاهوتي، ويوضح رفض ق. غريغوريوس اللاهوتي لفكرة تقديم الابن كفدية للآب كالتالي: ”استمر ق. غريغوريوس [النزينزي] في إثبات أن دم المسيح لم يكن فديةً مدفوعةً، بالمعنى الدقيق للكلمة، لله الآب أيضًا، لأنه لا يُعقل أنه قد استمتع بدم ابنه الوحيد. بل على العكس، حقيقة قبول الآب لها، لم يكن بسبب أنه قد طالب بها، أو أحتاج إليها، بل بسبب أنه كان يليق في تدبير الخلاص أن يتم استعادة التقديس للطبيعة البشرية من خلال البشرية [الناسوت] التي أتخذها الله. أما بالنسبة إلى إبليس، فقد هُزِم بالقوة“.[49]

ويتحدث البروفيسور هستنجس راشدال Hastings Rashdall أستاذ تاريخ العقيدة المعروف عن مفهوم الفدية عند ق. غريغوريوس اللاهوتي، ويؤكد على أن ق. غريغوريوس اللاهوتي يرفض مفهوم الفدية على الإطلاق سواء للشيطان أو للآب، ويستعرض أسباب ق. غريغوريوس اللاهوتي في ذلك قائلاً: ”ولكن يرفض [ق. غريغوريوس] أن تكون فدية على الإطلاق في الخطبة المخصَّصة تحديدًا لعقيدة الخلاص: لأنه من المستهجن الاعتقاد بأن السارق يمكنه أن يأخذ الله نفسه كثمن مدفوع لأجلنا، لذلك يتساءل: إن كانت مدفوعة للآب، فأولاً، قد يتساءل المرء: كيف؟ لأنه لم يكن [الآب] هو الذي احتجزنا كسجناء. ثانيًا، كيف يمكن أن يُعقل أن الآب يُسر ويستمتع بدم الابن الوحيد، وهو الذي رفض إسحاق، عندما قدَّمه والده، بل وضع كبشًا عوضًا عن الذبيحة العقلية. وبالتالي، يتضح أنه إذَّا قَبِلَ الآب دم ابنه، فليس لأنه قد طالب به، أو كان في حاجة إليه، بل بسبب تدبير الخلاص، وبسبب حاجة الإنسان إلى التقديس بما كان إنسانيًا في الله لكي ما يخلصنا في ذاته، منتصرًا على الطاغية بالقوة، ولكي ما يرجعنا إلى ذاته بوساطة ابنه، الذي قد صنع كل شيء من أجل مجد الآب، الذي يبدو واضحًا أنه قد خضع له في كل شيء Oration 45, 22, Migne 36. 654“.[50]

ق. كيرلس الإسكندري

يُؤكِّد ق. كيرلس الإسكندري على نفس مفهوم الفدية عند ق. غريغوريوس النزينزي، حيث يُعطِينا المخلِّص نحن البشر الحياة والنصرة على الفساد والموت بموته وقيامته. كما يرفض ق. كيرلس أيضًا تقديم المسيح الفدية لإبليس، ويُؤكِّد على تقديم الفدية لأجلنا، حيث قدَّم المسيح الفدية نفسه لأجل نفوسنا، وجسده لأجل أجسادنا كعطية ثمينة لأجلنا كالتالي:

”لقد أعطانا حقًا عطية ثمينة، جسده لأجل جسدنا ونفسه فديةً لأجل نفوسنا، ورغم ذلك قام إذ إنه كإله بطبيعته هو الحياة ذاتها“.[51]

ويؤكد ق. كيرلس – مثلما أكد الآباء السابقين عليه – على تقديم المسيح جسده كفدية للموت عن حياة كل البشر قائلاً:

”لذا كان من الضروري أن يُقدِّم ابن الآب الحي جسده الخاص للموت كفديةٍ عن حياة كل البشر، لكي عن طريق جسده المتحد بالكلمة يمهد الطريق لأجسادنا المائتة حتى تستطيع أيضًا أن تنتصر على رباطات الموت“.[52]

ويشير ق. كيرلس في موضع آخر إلى أن الفدية كانت من أجل الجميع لإماتة الموت بموت المسيح، وإقامة طبيعة الإنسان الساقطة، حيث يقول التالي:

”(يقول الرب): إني أموت من أجل الجميع لكي أُحِيي بذاتي الجميع، وقد جعلت جسدي فديةً لأجل الجميع، لأن الموت سيموت بموتي، ومعي سوف تقوم ثانيةً طبيعة الإنسان الساقطة. لأنني لهذا صرت مثلك إنسانًا، أي من ذرية إبراهيم، حتى ’أُشبِه أخوتي في كل شيء‘ (أنظر عب 2: 17)“.[53]

ويتحدَّث ق. كيرلس عن الفدية في موضع آخر مشيرًا إلى القيمة العظيمة لموت الكلمة المتجسِّد، الذي لم يكن إنسانًا عاديًا، بل الله المتأنس كالتالي:

”نجد هذا الذي لم يعرف خطيةً، أقصد المسيح، قد تألم بكل ما يليق بالملعونين جراء قرارٍ ظالمٍ؛ حتى يُمكِن لهذا الذي هو جدير بالكل، أن يموت لأجل الجميع، لكي يحل جرائم عصيان الكل، ويشتري المسكونة بدمه. لأن إنسانًا عاديًا لا يُمكِنه أن يكون جديرًا بالجميع للجميع. لكن، بما أن الله هو الذي تأنس وتألم من جهة جسده، فالخليقة كلها تتضاءل مقابله، وبالتالي، يصل موت جسده إلى درجة أن يكون فديةً، إذ أن هذا الجسد هو جسد الكلمة، الكلمة المولود من الله الآب“.[54]

كما يؤكد ق. كيرلس على تقديم المسيح جسده كفدية لحياتنا جميعًا كالتالي:

”وعندما قدَّم جسده كفدية لحياتنا جميعًا“.[55]

ويؤكد ق. كيرلس على تقديم المسيح ذاته فديةً للجميع، للكبير والصغير، وللغني والفقير، ولليهودي والأممي كالتالي:

”لأنه هكذا خلص المسيح الكل باذلاً ذاته فديةً للصغير والكبير، للحكيم وغير الحكيم، وللغني والفقير، ولليهودي واليوناني“.[56]

وهذا ما يؤكده ق. كيرلس أن المسيح أعطى جسده فديةً لأجلنا، لأنه لم يكن إنسانًا عاديًا، بل الإله المتجسِّد الأجدر من الجميع، لذلك كان دمه كافيًا لفداء العالم كله وتسديد الدَّين كالتالي:

”إذًا، فقد افتُدينا، طالما أنه أعطى جسده لأجلنا فديةً، فإذا اعتقدنا أنه إنسان عادي، كيف يكون دمه كافيًا لحياة الكل؟ بينما لو اعتقدنا أنه هو الله بالجسد الأكثر جدارةً من الجميع، سيكون فداء كل العالم بدمه كافيًا للدَّين، وهذا صحيح جدًا“.[57]

ويؤكد ق. كيرلس على أن المسيح افتدانا من إبليس الذي كان يأسرنا، وليس الآب. فلم يتحدث ق. كيرلس أبدًا عن أننا كنا مأسورين عند الآب، وتوجب دفع الفدية لديه ليطلقنا من الأسر، بل يؤكد ق. كيرلس مرارًا وتكرارًا – مثله مثل جميع الآباء- على أننا كنا مأسورين عند الشيطان قائلاً:

”ويُعلِن بالأثنين التالي: طالما أنه افتدانا ربنا يسوع المسيح من مصر وأشور أي من استبداد أولئك الذين أسرونا (وهؤلاء هم الأشرار والشياطين الدنسة)، نقلنا إلى أرض مليئة بالأشجار والثمار، أي الكنيسة“.[58]

ويؤكد ق. كيرلس أيضًا أننا كنا مأسورين عند الشيطان وليس عند الآب قائلاً:

وكانوا أسرى وفي قبضة الشيطان، وذلك لأنهم قاوموا الله، لأجل هذا رُفِضوا وفقدوا كل العناية السماوية“.[59]

وهكذا يؤكد ق. كيرلس على أن المسيح قام بأسر الشياطين – الذين كنا مأسورين عندهم، وليس عند الآب – باذلاً دمه لأجلنا لإبعاد الموت، وإبطال الهلاك، ومنح الحياة لنا كالتالي:

”نفس الأمر أيضًا، ربنا يسوع المسيح الذي انتصر على جميع الشياطين النجسين، وقام بأسرهم باذلاً دمه لأجلنا، هكذا أبعد الموت، وأبطل الهلاك، وجعلنا خاصته، إذ لا نحيا بعد حياتنا، بل حياته؛ لأنه لو لم يمت لأجلنا لما خلُصنا، ولو لم يُحسَب من بين الأموات، لما انهدمت حصون مملكة الموت“.[60]

ويؤكد ق. كيرلس أيضًا على أن المسيح افتدانا من الموت ومن يدي الهاوية، إذ قدَّم ذاته فديةً للموت كالتالي:

”لأنه افتدانا من يدي الهاوية، أي من بطش الموت، وأن موت المسيح يُدرَك كطريقة للفداء. لأنه تعرض لأجلنا للموت فوق الصليب، وانتصر على الرؤساء والسلاطين مسمرًا عليه الصك الذي علينا (أنظر كو ٢: ١٤، ١٥) […] يسوع المسيح الذي مات لأجلنا، أو الأفضل ‘الذي بذل نفسه فديةً لأجل الجميع، الشهادة في أوقاتها الخاصة’ (١تي ٢: ٦)، الأكثر استحقاقًا من الكل، بواسطته وبه صرنا أغنياء (أنظر ١كو ١: ٥)، لكي نرجع ثانيةً إلى عدم الفساد“.[61]

ويؤكد ق. كيرلس على أن الآب نفسه هو الذي بذل وقدَّم ابنه كفدية وثمن لأجل خلاصنا كالتالي:

”وإنه حق وقد تم التيقن من الحقائق ذاتها أن الآب بذل ابنه لأجل خلاصنا. وبالتالي، كما يقول بولس: ‘قد اشتُريتم بثمن فمجَّدوا الله’ (١كو ٦: ٢٠)، فنحن لسنا ملكًا لذواتنا. ويقول أيضًا: وهو مات لأجل الجميع كي يعيش الأحياء فيما بعد لا لأنفسهم، بل للذي مات لأجلهم وقام“.[62]

كما يؤكد ق. كيرلس على دفع الفدية من أجل الإنسان لكي ما يحيا، لأن الله لم يُسر بهلاك الإنسان مثلما يحدث مع الشياطين قائلاً:

”فلا يُسر بأن يحدث للإنسان كما يحدث للشياطين الدنسة التي هلكت (أنظر مت ٨: ٢٨- ٣٤)، فأمر بأن تُدفَع الفدية لأجله [أي للإنسان]، ونحن نعترف بأننا مديونون له بحياتنا. […] بينما الفدية الحقيقية المقدَّمة عن الجميع هي المسيح، الذي بواسطته انتصرنا على الموت، لأنه قدَّم ذاته لأجلنا“.[63]

لذلك، إن كان الآب هو مُقدِّم الابن وباذله لأجل خلاصنا، فكيف يكون الآب هو نفسه المُقدِّم للفدية والمُقدَّم إليه الفدية، هل الآب يقدم ابنه فديةً لنفسه؟ هل هذا معقول؟ لو لم يكن مفهوم تقديم الابن الفدية للآب له مفهوم آخر عند ق. كيرلس، غير مفهوم لاهوت العصر الوسيط، ومفهوم الإبدال العقابي البروتستانتي، الذي ينسبه البعض عن جهل ودون وعي خطاءً للأرثوذكسية ولتعاليم آباء الكنيسة الشرقيين عامةً، وق. كيرلس الإسكندري خاصةً. وهذا ما يوضحه ق. كيرلس قائلاً:

”والمسيح قدَّم نفسه رائحة طيبة لله، لكي يقدمنا نحن بواسطة نفسه وفي ذاته لله الآب، وهكذا يُلاشِي العداوة الناشئة من عصيان آدم، ويُبطِل الخطية التي استعبدتنا جميعًا، لأننا نحن الذين كنا نصرخ منذ زمن طويل قائلين: ’التفت إليَّ وارحمني‘ (مز ٢٥: ١٦)“.[64]

أخيرًا، نستنتج أن الفدية عند ق. كيرلس الإسكندري تم تقديمها للموت من أجل تطويق الموت والقضاء عليه نهائيًا ليقدم المسيح للآب الجنس البشري جنسًا مقدسًا، وطاهرًا، وحيًا، فيه وبه. فالسمة الغالبة عند ق. كيرلس في موضوع الفدية هي أن الفدية هي موت المسيح للقضاء على الموت والفساد، وليس كما يدَّعي البعض عن جهل أنها تسديد لعقوبة الموت من الآب على البشرية، فالابن لم يكن في موضع المعاقَب من الآب لأجل البشر. كما أن الموت هو نتيجة سقوط الإنسان وتعديه، وليس الله هو علة الموت، أو يميت البشر، لأن الله حياة وليس موت. فالموت ليس أحد صفات جوهر الثالوث القدوس منذ الأزل، بل دخل الموت إلى العالم بحسد إبليس وبالخطية. الله لا يميت أحدًا، ولا يُعاقِب أحدًا بالموت، فالله لا يسره موت الخاطئ مثلما يرجع ويحيا، فهلاك الأحياء لا يسره كما نقرأ في الكتاب المقدَّس، ونصلي في الليتورجية، وفي الأجبية. فعل الإماتة لم يكن في الله منذ الأزل، ولم يُمارِس الله صفة الموت أو الإماتة بين أقانيمه الثلاثة منذ الأزل، فلم نر الآب يميت الابن، والعكس صحيح، لم نر الابن يميت الآب، وهكذا لم نر الروح القدس روح الحياة، يُمارِس فعل الإماتة مع الأقنومين الأخرين، فهذا تجديف على الله! حاشا! الله الثالوث هو الحياة ومصدر وينبوع الحياة، ولم يكن في أي وقت من الأوقات موت أو ينبوع ومصدر الموت. فلم يقل المسيح أبدًا في الإنجيل أنا هو الموت، ناسبًا صفة الموت أو الإماتة لنفسه، بل قال أنا هو القيامة والحياة، وأنا هو الطريق والحق والحياة. لذا ادعاء البعض عن جهل أن الله يُعاقِب البشر بالموت هو محض تجديف على الله!

الأب يوحنا الدمشقي

يرفض الأب يوحنا الدمشقي أيضًا تقديم المسيح الفدية للشيطان؛ ويُؤكِّد على أن الفدية هي حل قيود الإنسان من حكم الموت والفساد الذي جلبه على ذاته بالعصيان والخطية. حيث يقول الدمشقي عن المسيح:

إنه قدَّم ذاته فديةً عنا، وبذلك يحلنا من الحكم علينا، ولكن حاشا أن يكون دم الرب قد تقرَّب للطاغية [إبليس]“.[65]

ويتحدث الأب يوحنا الدمشقي عن موضوع الفدية في موضع آخر، حيث يشير إلى أن الله قد أنتصر في تجسده لحساب الإنسان على إبليس، الذي كان منتصرًا على الإنسان المقهور، وكان هذا من فرط محبته ورأفته على البشرية قائلاً:

”فإن المسيح قد صار إنسانًا لكي ينتصر ما كان مقهورًا. والذي هو قادر على كل شيء لم يكن عاجزًا – نظرًا إلى مطلق حريته وقدرته – أن ينتصر بذاته للإنسان من الطاغية. ولكن ذلك يكون عرضةً لاحتجاج الطاغية على أنه – وقد كان المنتصر على الإنسان – قد أصبحت الغلبة لله. إذًا، فلكي يُطهِّر الله المغلوب منتصرًا، فقد شاء برأفته ومحبته للبشر أن يصير إنسانًا ليُصلِح المثل بالمثل“.[66]

ويتحدث الأب يوحنا الدمشقي عن موضوع الفدية أيضًا موضحًا أن الفدية هي النصرة على الطاغية أي إبليس والقضاء على الموت الذي استعبد الإنسان بالخطايا منذ القدم، وهكذا نال الإنسان النصرة والغلبة في المسيح عندما تجسَّد الله وخلَّص المثل [أي البشرية] بمثله [أي بالبشرية المتحدة به]، وهزم الشيطان والموت، وشفى الإنسان من المعصية، وقدَّم الإنسان مطيعًا فيه لله الآب كالتالي:

”ومن ثم فإن الرب البارئ نفسه قد أخذ على عاتقه الدفاع عن جبلته الخاصة، فصار بعمله معلمًا. فإن العدو لما كان قد خدع الإنسان بأمل التأله، فقد انخدع هو بظهور جسد، واتضح للحال صلاح الله، وحكمته، وعدله، واقتداره: فقد ظهر صلاحه تعالى بأنه لم يحتقر ضعف جبلته الخاصة، بل تعطف عليها في سقطتها ومدَّ يده لها. وقد ظهر عدله بأن الإنسان لما كان مغلوبًا، لم يترك الله لغيره أن يقهر الطاغية، ولا انتشل الإنسان من الموت بالقوة، بل إن الصالح والعادل قد جعل ذاك نفسه الذي كان الموت قديمًا قد استعبده بالخطايا يعود اليوم من جديد فينتصر، فخلَّص المثل بمثله. وقد كان الأمر مستعصيًا، وكان من شأن الحكمة أن تجد حلاً لائقًا جدًا للأمور المستعصية […] وبما أنه منا، فقد صار مطيعًا لأبيه، وبما أنه على مثالنا، فقد صار شافيًا معصيتنا، وصار لنا مثالاً، لا نخطى على الخلاص بدونه“.[67]

 

 

مفهوم الفدية عند أنسلم الكانتربري[68]

لقد طوَّر أنسلم نظرية مؤثرة عن الخلاص في كتابه ”لماذا تجسَّد الله؟“ Cur Deus Homo (الذي أنتهى من كتابته عام 1098م). وبالتالي يمكن ترجمة عنوان العمل بطريقتين: الطريقة الأولى، ”لماذا صار الله إنسانًا؟“؛ ولكن يمكن أيضًا ترجمته: ”لماذا الإله الإنسان؟“. وهكذا تركت المقالة بصمة عميقة على اللاهوت الكاثوليكي كله عبر القرون. ولكن تم توجيه النقد لنظريته أيضًا بصورة حادة. فعلى سبيل المثال، يشكك اللاهوتيون أصحاب الذهنية الليبرالية في مفهوم المغزى الخلاصي من تألُّم إنسان بريء؛ أي يسوع الناصري. لذلك قد قيل إن نظرية أنسلم عن الترضية تقترب بشكل خطير من تحويل الله إلى إله منتقم عقابي؛ يحتاج إلى ذبيحة دموية قبل أن يتصالح مع هذا العالم الخاطئ. لذا نظرية الترضية -كما يُتداول عنها كثيرًا- هي نظرية قانونية (قضائية)، تعود بالأكثر إلى الفئات الإقطاعية منها إلى الكتاب المقدس.[69] وتُمجِّد بصورة مؤثرة تعذيب البريء، بل وتمدنا بدلاً من ذلك بمصادر لتحديها. ولذلك نجد إدوارد شيرليبكس Edward Schillebeeckx يرى بشكل ذائع الصيت متفقًا مع هذا النقد أننا قد خلصنا ”بغض النظر عن الصليب[70]“. حيث يكتب: ”تُجرِّد العديد من نظريات فدائنا بيسوع المسيح القائمة يسوع من رسالته وعمله بقوتها الهدَّامة، بل وحتى الأسوأ من ذلك، أنها تُقدِّس وتُكرِّس للعنف كحقيقة داخل الله. فيمكن الحديث عن الله أنه يحتاج ذبيحةً دمويةً من أجل تهدئة أو تسكين إحساسه بالعدل[71]“.

فدعونا نفحص الأمور بتفصيل أكثر قليلاً. يتخلى أنسلم أولاً في كتابه ”لماذا تجسَّد الله“ المكتوب على هيئة حوار بين أنسلم وتلميذه بوزو Boso عن نظرية حقوق إبليس. فلا يصمد ببساطة الرأي القائل بامتلاك إبليس لدعوى قانونية على الله في علاقته مع البشرية عند أنسلم (لماذا تجسد الله 1: 7). وهكذا يوضح آرائه الخاصة في باقي الكتاب مدافعًا عن ”ضرورة“ التجسُّد كالتالي. نظرًا لحقيقة (1) أن البشرية كلها كانت خاضعة للخطية البشرية؛ (2) وأن الخطية شوَّهت النظام السليم (rectitude or rectus ordo) الذي قد أنشأه الله في خليقته؛ وتُشكِّل ”دَّينًا“ ندين به إلى الله (لمشيئة مَن ينبغي أن تخضع له كل الخلائق)؛[72] (3) وأنه من الضروري في ضوء العدالة والكرامة الإلهيتين عدم إبقاء استحقاق هذا الدَّين؛[73] (4) وأن البشرية -بسبب السقوط- ليست في وضع يسمح لها بتقديم الترضية لله؛ بالرغم من أن عبء مسئولية القيام بذلك يقع على عاتق البشرية بالفعل (لأننا نتحمل الدَّين)؛ (5) وأن الله وحده -لكونه بلا خطية- يمكنه تسديد الدَّين الذي قد تحملناه، وبالتالي ينتج عن ذلك أنه كان من ”الضروري“ أن يقوم بذلك شخص ما يكون إلهًا (الذي بإمكانه فقط القيام بعملية السداد) وإنسانًا (الذي ينبغي عليه التسديد) (لماذا تجسَّد الله 2: 6).

وهكذا يرتبط التصريح بنظرية بمثل هذا النمط الموجز بإتاحة المجال لتعرُّض الإقطاع إلى النقد المعروف الذي قد أُثير ضده. فدعونا الآن نُناقِش بعضًا من هذا النقد. أولاً، لا تحتاج فكرة تسكين غضب الله بطريقة أو بأخرى من خلال ذبيحة ابنه أن تستوقفنا؛ لأن فكرة الإله المتقلب هي فكرة غير مستساغة في لاهوت العصر الوسيط.[74] لأن الخلاص هو لأجلنا Pro nobis، لذا فهو يؤثر علينا وعلى علاقتنا بالله أكثر منه على الله نفسه. لأنه ليس كما لو كان الله في احتياج إلى الفداء. فلا يشعر إله أنسلم بالإهانة والاستياء من الخطية: ”لا يمكن إضافة أي شيء إلى كرامة الله أو الانتقاص منها، إلا فيما يطال الله نفسه“ (لماذا تجسَّد الله 1: 15). بل قد أوضَّح أنسلم في وقت سابق أن ”استعادة كرامة الله“ يستلزم التالي: ”عدالة أو استقامة مشيئتنا“. ويقول أنسلم إن هذا العدل هو ”التكريم الوحيد، والتكريم الكامل، الذي ندين به لله، والذي يطلبه الله منا“ (لماذا تجسَّد الله 1: 2). فتكريم الله بالنسبة إلى أنسلم ليس أي شيء آخر سوى أن نعيش في حياة الفضيلة بإطاعة مشيئة الله: ”وعندما يرغب مثل هذا الكيان [الكيان العاقل] فيما هو عادل، فإنه يُكرِّم الله، لا لأنه يمنح أي شيء لله، بل لأنه يُخضِع ذاته طواعيةً لمشيئته وحكمه، ويُحافِظ على وضعه المناسب في الحياة داخل الكون الطبيعي، ويُحافِظ بأقصى ما في استطاعته على جمال الكون نفسه“ (لماذا تجسَّد الله 1: 15).

ثانيًا، ينبغي على أولئك الذين يرون ميل آراء أنسلم إلى الفئات الإقطاعية أكثر منها إلى الإيمان المسيحي أن يتذكروا أن مفهوم ”الترضية“ له جذور آبائية[75]. فإنْ كان هناك أي شيء -كما لاحظ ياروسلاف بليكان Jeroslav Pelikan- فيتشابه مفهوم أنسلم عن ”الترضية“ مع نظام التوبة (أو التكفير عن الخطايا) المتطور في كنيسة القرن الحادي عشر أكثر منه مع الفئات الإقطاعية[76]. فعلى سبيل المثال، يوضح أنه أحد الأهداف الأساسية لعمله هو إثبات كيفية التوفيق بين العدل والرحمة الإلهيين في صليب المسيح. في الواقع، نجد أنسلم في نهاية عمله ”لماذا تجسَّد الله“ -بعدما قد شرح كيف أن المسيح الإله الإنسان ”يرضي“ الله نيابةً عن البشرية، وبالتالي يستعيد النظام العادل داخل الكون- يختم بالتالي:

”والآن، بدت رحمة الله -مع مراعاة عدل الله وخطية الجنس البشري- أنها مائتة، والتي قد وجدنا أنها عظيمةً جدًا، ومنسجمةً جدًا مع العدل، فلا يمكن أن توجد رحمة أعظم وأعدل من ذلك. في الواقع، ما هو الشيء الذي يمكن تخيله أنه أكثر رحمةً من أن يقول الله الآب للخاطئ المدان بالعذابات الأبدية، وتنقصه أية وسيلة لفداء نفسه: ”خُذ ابني الوحيد، أعطيه عوضًا عنك“، ويقول الابن: ”خذني وأفدي نفسك“. لأنه هذا الشيء من ذلك القبيل هو الذي يقولونه عندما يدعوننا ويدفعوننا إلى الإيمان المسيحي“. (لماذا تجسد الله 2: 20).

أخيرًا، مفهوم أنسلم للذبيحة متأثر بالمفهوم الأوغسطيني عن الذبيحة، الذي قد قمنا بمناقشته بالفعل. لقد رأى أوغسطينوس عدم احتياج الله لأية ذبيحة من أجل إرضائه، بل إنه يشأ ما تشير إليه الذبائح: ”القلب المنكسر والمتواضع“ (مز51: 18) -هذه هي بالضبط اللغة التي يتبناها بوزو Boso للحديث عن تسديد الدَّين (لماذا تجسَّد الله 1: 20). فكما رأينا في الفصل السابق، ينبغي أن نرى الذبيحة بحسب أوغسطينوس أنها شكل من أشكال بذل الذات الذي يعكس ذبيحة المسيح. وهكذا يتضح بالفهم في ظل هذا السياق الأكبر كيف أن مصطلحات أنسلم يمكن أن تختلف ما بين ”تسديد ديوننا“، و ”تقديم الترضية“ (Satisfacere)، و ”القربان“ إلى لغة ”بذل الذات“ (dare, datio, trader se) دون أي اختلافات ملحوظة. يمكن أن توجد نماذج على الأمر الأخير عبر نص أنسلم كله. ولكن يكفي مثال واحد للتوضيح: ”ألا يكون من اللائق للإنسان؛ الذي بارتكابه الخطية يبعد ذاته بقدر استطاعته عن الله، أن يقدم عطية ذاته بفعل بذل الذات (dare) بأقصى ما عنده كتعويض لله (Satisfaciendo)“ (لماذا تجسَّد الله 2: 2). فيقترح هذا الاقتباس (والمقالة بوجه عام) تمحور ”تقديم الترضية“ حول استرداد العلاقة مع الله عن طريق عطية المسيح الذاتية. في الواقع، ذبيحة الإله-الإنسان هي عطية إلهية ذاتية وعطية البشرية لله في المسيح: ”لأن المسيح نفسه هو الله، وابن الله، والتقدمة التي قدَّمها عن نفسه كانت من أجل كرامته ومن أجل كرامة الآب والروح القدس أيضًا؛ أي أنه قدَّم بشريته إلى ألوهيته“ (لماذا تجسَّد الله 2: 18).

باختصار، لا نحتاج إلى فهم ”الترضية“ على أنها شيء موجه لله، بل بالأحرى للعلاقة بين الله والبشرية. الترضية هي تطهير الخاطئ (والخليقة) في علاقته مع الله. حيث يعطي أنسلم مثال اللؤلؤة الجميلة والثمينة (البشرية) التي تسقط في الطين وتتسخ (بالخطية): أ يكون من المعقول أن نعيد اللؤلؤة إلى الصندوق دون تنظيفها أولاً؟ وهكذا يوافق بوزو Boso قائلاً: ”بالتأكيد، إن أفضل طريقة بشكل ملحوظ هي إبقاء لؤلؤته وحفظها نظيفةً وليست متسخةً، أليس كذلك؟“ (لماذا تجسَّد الله 1: 19). ويوضح هذا المثال ضرورة فهم تقديم الترضية من ناحية تنقية وتطهير الخاطئ. ولما كان الأمر كذلك، فيتبع ذلك أنه إنْ كان الله يغفر الخطايا دون حدوث هذا التطهير، فلا يمكن استرداد العلاقة بين الله والإنسان بالفعل. حتى وإنْ كان الله يغفر الخطايا دون طلب التوبة، فلن نصل نحن إلى الغبطة (لماذا تجسَّد الله 1: 24). فيسمح الله في المسيح باستردادها بالعلاقة مع خالقها.[77] يتطلب العدل عدم سيادة الشر ومعاقبته؛ ولكن على الرغم من ذلك، تؤثر ”ترضية“ المسيح من خلال طاعته ومحبته، كما هو واضح في آلامه، مما يجعل ”العقوبة“ غير ضرورية: في حين يُسأ فهم ”الترضية“ بشكل شائع فيما يتعلق بإيفاء مطالب العدالة الإنتقامية (لأن المسيح معاقب بدلاً عنا)، لأن ترضية أنسلم (التي ينبغي فهمها من ناحية التوبة أو التكفير عن الخطايا) تستبعد العقوبة: إما العقوبة أو الترضية aut poena aut satisfaction. وهذا له أهمية كبيرة: حيث يتضمن رأي أنسلم عن العلاقة بين الترضية والعقوبة نقدًا إلى التفسيرات الخاطئة المتداولة عن نظريته فيما يتعلق بالبدلية العقابية.

فلا يمكن القول بأن نظرية أنسلم مُحصَّنة ضد النقد المبرَّر. فعلى سبيل المثال، يخفق أنسلم في توضيح العلاقة بين فعالية ترضية المسيح ومشاركتنا فيها. وهذه هي نقطة الضعف الأساسية في نظريته، وقد ساهم في الفهم الخاطئ لها تعبيرات المقايضة (أو تعبيرات المعاملات التجارية). مرةً أخرى، يبدو أن مفهومه عن ”مغفرة الخطايا“ في بعض الأحيان محدود نسبيًا (أي فيما يتعلق بعدم المعاقبة).

بالتأكيد، لا يجب أن يكون الصليب هو المركز الوحيد للتأمل السوتيريولوجي (الخلاصي). فاللاهوتيون المعاصرون محقون في التأكيد على أفكار أساسية أخرى أيضًا، مثل: تدشين الملكوت، أو القيمة الخلاصية لحياة المسيح. ولكن تجاهل مركزية الصليب في خلاصنا، أو الزعم بأننا قد خلُصنا ”بغض النظر عن الصليب[78]“ كلاهما غير كتابي وغير تقليدي. لقد أوضَّح أنسلم أنه من المقبول لاهوتيًا رؤية مركزية الصليب دون الاضطرار إلى تبني مفهوم ملتبس وانتقامي عن الله. من ناحية أخرى، لا بد من الاعتراف بأن أنسلم أهتم قليلاً بحياة المسيح، ولم يربط بصورة كافية بين السوتيريولوجي واللاهوت الثالوثي.

ولكن إنجاز أنسلم الشامل هو إنجاز واسع. وبرهنت نظريته عن الخلاص على تأثير بالغ، في حين استمر ما يُسمى بالبرهان الأنطولوجي (الوجودي) في إثبات وجود الله يداعب عقول اللاهوتيين والفلاسفة بعد ذلك. ولكنه نجح في عصر ازدياد العقلانية في توجيه ضربة إلى التوازن السليم بين احترام أسرار الإيمان، ومحاولاتنا لفهمها من خلال المنطق في ضوء التعليم الأساسي عن الإيمان. في حين أنه لم يستخدم نصوص إثبات من الآباء أو الكتاب المقدس من أجل تطوير لاهوته، بل يبدو واضحًا أن لاهوته بأكمله يتخلله ويُشكِّله الإيمان المسيحي. فأنسلم كراهب بندكيتي Benedictine يستعرض العالم النسكي القديم، ولكنه يقدم أيضًا نوعًا جديدًا من الثقة في العقل البشري. حيث يجمع عمله بين أفضل ما في العالمين.

مع ذلك، تُسجِّل البروفيسور كاثرين ساندرجير Katherine Sanderegger اعتراض البعض على مفهوم أنسلم عن إيفاء الدَّين وذبيحة الترضية بأنه مفهوم نسطوري على نحو خطير، مما يُؤكِّد على اختلاف مفهوم اللاهوت الغربي عن اللاهوت الشرقي في شرح تدبير الخلاص. حيث تقول التالي: ”علاوة على ذلك، سردية أنسلم عن ’إيفاء الدَّين‘ و ’ذبيحة الترضية‘ تبدو للبعض نسطورية بشكلٍ خطيرٍ، كما لو كان يمكن تقديم ناسوت المسيح كعمل مُستقِل للموت البريء، بمعزل عن الاتحاد الأقنومي الملازِم للألوهة. بالإضافة إلى ذلك، تبدو مُعالجة أنسلم المدرسية المبكرة لفكرة اللا محدودية، سواء في تقدير الخطية، وفي قيمة الاستحقاق الشخصيّ للمسيح بالنسبة للانتقادات الموجَّهة له ذات العقلية الفلسفية غير قوية وغير مقنعة“.[79]

 

 

هل الله علة الموت؟

يدَّعي البعض عن جهل وبدون وعي أن الله يُنزِل الموت على البشر كعقوبة، وكأن الله هو علة موت الإنسان. وهذا التعليم عارٍ تمامًا عن الصحة، بل وضد تعاليم الكتاب المقدس والتقليد الرسولي والآبائي كما سنرى.

تعاليم الكتاب المقدس

يُعد الموت في تعاليم الكتاب المقدس هو نتيجة التعدي والعصيان، وليس من الله، حيث قال الله للإنسان: ”وَأَمَّا شَجَرَةُ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَلاَ تَأْكُلْ مِنْهَا، لأَنَّكَ يَوْمَ تَأْكُلُ مِنْهَا مَوْتًا تَمُوتُ“ (تك 2: 17 فاندايك). ويذكر سليمان الحكيم أن الشرير يموت من خطيته وليس بإنزال الله الموت عليه قائلاً: ”الشِّرِّيرُ تَأْخُذُهُ آثَامُهُ وَبِحِبَالِ خَطِيَّتِهِ يُمْسَكُ. إِنَّهُ يَمُوتُ مِنْ عَدَمِ الأَدَبِ، وَبِفَرْطِ حُمْقِهِ يَتَهَوَّرُ“ (أم 5: 23 فاندايك). ويقول إرميا النبي أن الموت هو نتيجة ذنب الشخص نفسه كالتالي: ”بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ يَمُوتُ بِذَنْبِهِ. كُلُّ إِنْسَانٍ يَأْكُلُ الْحِصْرِمَ تَضْرَسُ أَسْنَانُهُ“ (إر 31: 30 فاندايك).

وهكذا يتحدث سفر الحكمة أن الموت هو نتيجة أفعال البشر الشريرة، وليس من الله كما يدَّعي البعض عن جهل، حيث يقول التالي: ”لا تغاروا على الموت في ضلال حياتكم ولا تجلبوا عليكم الهلاك بأعمال أيديكم، اذ ليس الموت من صُنع الله ولا هلاك الأحياء يسره“ (حك 1: 12، 13)، ويؤكد سفر الحكمة أيضًا أن البشر هم مَن جلبوا الموت على أنفسهم بأيديهم وأقوالهم، وليس الله هو مَن أنزل الموت كالتالي: ”لكن المنافقين هم استدعوا الموت بأيديهم وأقوالهم ظنوه حليفًا لهم فاضمحلوا وإنما عاهدوه لأنهم أهل أن يكونوا من حزبه“ (حك 1: 16)، ويؤكد سفر الحكمة أن الموت دخل إلى العالم بحسد إبليس، ولم يكن الله هو علة موت الإنسان كالتالي: ”فإن الله خلق الإنسان خالدًا وصنعه على صورة ذاته، لكن بحسد ابليس دخل الموت الى العالم“ (حك 2: 23، 24).

ويؤكد حزقيال النبي أن النفس التي تخطئ هي التي تموت، وليس الله هو مَن يميتها قائلاً: ”اَلنَّفْسُ الَّتِي تُخْطِئُ هِيَ تَمُوتُ“ (حز 18: 4 فاندايك)، ويقول الله في سفر حزقيال أنه لا يسره موت الشرير، فكيف يكون الله هو علة موته كالتالي: ”هَلْ مَسَرَّةً أُسَرُّ بِمَوْتِ الشِّرِّيرِ؟ يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ. أَلاَ بِرُجُوعِهِ عَنْ طُرُقِهِ فَيَحْيَا؟“ (حز 18: 23 فاندايك). ويؤكد يشوع بن سيراخ أن الموت دخل إلى العالم بخطية المرأة حواء، وليس من الله كالتالي: ”من المرأة ابتدأت الخطيئة وبسببها نموت نحن أجمعون“ (سي 25: 33). ويؤكد سفر المكابين الثاني أن الله هو رب الحياة وليس رب الموت كالتالي: ”ودعا رب الحياة والروح أن يردهما عليه ثم فاضت نفسه“ (2 مك 14: 46).

ويشدد المسيح له كل المجد أن الله هو إله أحياء وليس إله أموات قائلاً: ”لَيْسَ اللهُ إِلهَ أَمْوَاتٍ بَلْ إِلهُ أَحْيَاءٍ“ (مت 22: 32 فاندايك). وهكذا يؤكد بولس الرسول أن الموت دخل إلى العالم بالخطية، وليس من الله قائلاً: ”مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَأَنَّمَا بِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ دَخَلَتِ الْخَطِيَّةُ إِلَى الْعَالَمِ، وَبِالْخَطِيَّةِ الْمَوْتُ، وَهكَذَا اجْتَازَ الْمَوْتُ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ، إِذْ أَخْطَأَ الْجَمِيعُ“ (رو 5: 12 فاندايك). وهكذا يشدد بولس الرسول على أن أجرة أو ثمن الخطية هو الموت، وبالتالي، الموت نتيجة للخطية وليس من الله قائلاً: ”لأَنَّ أُجْرَةَ الْخَطِيَّةِ هِيَ مَوْتٌ، وَأَمَّا هِبَةُ اللهِ فَهِيَ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا“ (رو6: 23 فاندايك). وهذا ما يقوله معلمنا يعقوب الرسول أن الموت هو نتيجة عن الخطية، وليس نتيجة عن الله كما يدَّعي البعض عن جهل كالتالي: ”ثُمَّ الشَّهْوَةُ إِذَا حَبِلَتْ تَلِدُ خَطِيَّةً، وَالْخَطِيَّةُ إِذَا كَمَلَتْ تُنْتِجُ مَوْتًا“ (يع 1: 15 فاندايك). وهكذا نجد أن الكتاب المقدس بعهديه يؤكد على أن الخطية والشر هما علة الموت، وليس الله هو علة الموت. فالله لم يقل في الكتاب المقدس: ”أنا هو الموت“ حاشا! بل قال: ”أَنَا هُوَ الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ. مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا، وَكُلُّ مَنْ كَانَ حَيًّا وَآمَنَ بِي فَلَنْ يَمُوتَ إِلَى الأَبَدِ“ (يو 11: 25 فاندايك)، وقال أيضًا: ”أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ“ (يو 14: 6 فاندايك).

فالحياة هي صفة جوهرية من صفات الجوهر الإلهي منذ الأزل، فالله هو معطي الحياة وواهبها، وجابل الخليقة من العدم إلى الحياة، فكيف يميت الله الإنسان بعدما أحضره من العدم إلى الوجود والحياة؟! الحياة هي صفة من صفات أقانيم الثالوث القدوس ولا يوجد الموت كصفة من صفات الجوهر الإلهي، فكيف يميت الله البشر، أو يُنزِل الموت عليهم؟ هل الموت صفة أزلية في الله الثالوث يمارسها بين أقانيمه منذ الأزل كصفات المحبة، والقداسة، والحكمة، والبر، والحياة… إلخ؟ بالطبع، لا. بل الآب والابن هما مصدر الحياة ولهما الحياة في ذاتيهما وليس الموت أو الإماتة كما يدَّعي البعض عن جهل، حيث يقول يوحنا الرسول التالي: ”لأَنَّهُ كَمَا أَنَّ الآبَ لَهُ حَيَاةٌ فِي ذَاتِهِ، كَذلِكَ أَعْطَى الابْنَ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ لَهُ حَيَاةٌ فِي ذَاتِهِ“ (يو 5: 26 فاندايك).

وتمارس أقانيم الثالوث فعل الإحياء، وليس فعل الإماتة، كما يقول يوحنا الرسول: ”لأَنَّهُ كَمَا أَنَّ الآبَ يُقِيمُ الأَمْوَاتَ وَيُحْيِي، كَذلِكَ الابْنُ أَيْضًا يُحْيِي مَنْ يَشَاءُ“ (يو 5: 21 فاندايك). والروح القدس هو روح الحياة وليس روح الموت. فأريد أن أسأل أولئك الذين يدَّعون بالباطل على الله أنه يميت البشر، كيف يميت الله خليقته التي جلبها من العدم إلى الوجود، ليرجعها مرةً أخرى من الوجود إلى العدم؟ فلماذا جلبها بالأساس من العدم إلى الوجود لكي يعيدها مرةً أخرى من الوجود إلى العدم؟ أليس هذا تناقض صارخ؟!

 

 

تعاليم آباء الكنيسة الجامعة

سوف أستعرض الآن تعاليم الآباء القديسين المعلمين في الكنيسة الجامعة التي تؤكد على أن الله لم يخلق الموت، وليس هو علة الموت، بل الموت كان نتيجة عن الخطية، وأن الموت والإماتة ليسا لهما وجود في طبيعة الله، بل الله حي ويحيي الأشياء، كما يقول الكتاب: ”لأَنَّنَا بِهِ نَحْيَا وَنَتَحَرَّكُ وَنُوجَدُ“ (أع 17: 28 فاندايك).

ق. ثيؤفيلوس الأنطاكي

ينفي ق. ثيؤفيلوس أن يكون الله هو علة موت الإنسان، بل الإنسان جنى بالعصيان الموت لنفسه، وبالتالي، الإنسان هو المسئول عن موته، وليس الله هو المسئول قائلاً:

”مرةً أخرى، لو خلقه الله فانيًا، كان سيبدو أن الله مسئول عن موته […] ولكن إنْ توجه [الإنسان] إلى أعمال الموت عاصيًا الله، صار مسئولاً عن موته […] لأنه كما بالعصيان جنى الإنسان الموت لنفسه، هكذا بالطاعة (رو 5: 18، 19) لمشيئة الله، يستطيع كل مَن أراد أن يحصل على الحياة الأبدية لنفسه“.[80]

ويؤكد ق. ثيؤفيلوس أن بداية الموت ظهرت في العالم بسبب حسد إبليس، وليس أن الله أوقع الموت على البشر، وهكذا حرَّض إبليس قايين على قتل أخيه هابيل، فظهرت بداية الموت في العالم كالتالي:

”عندما رأى إبليس أن آدم وزوجته ليسا فقط أحياء، بل أنجبا ذريةً أيضًا، غُلِبَ من الحسد، لأنه لم يكن بالقوة الكافية ليميتهم. ولأنه رأى أن هابيل يُرضِي الله، فعمل على أخيه المُسمَى قايين، وجعله يقتل أخاه. ومِن ثم ظهرت بداية الموت في هذا العالم، ليصل الجنس البشري بكامله إلى هذا اليوم“.[81]

ق. يوستينوس الشهيد

يؤكد ق. يوستينوس أن البشر هم الذين جلبوا الموت على أنفسهم مثل آدم وحواء بعصيانهم، وليس أن الله يجلب الموت على البشر كالتالي:

”ولكنني لا أنوي الخوض في هذه النقطة، بل أن أثبت أن الروح القدس يُوبِّخ الناس المخلوقين على صورة الله، متحررين من الألم والموت بشرط إطاعة وصاياه، وحُسِبوا مستحقين أن يُدعوا أبناء الله، ولكنهم مثل آدم وحواء جلبوا الموت على أنفسهم“.[82]

ق. أثناسيوس الرسولي

يؤكد ق. أثناسيوس أن الموت هو نتيجة تعدي الإنسان للوصية، ولم يكن الموت من الله على الإنسان، حيث جلب البشر الموت على أنفسهم كالتالي:

”أما إذَّا تعدوا الوصية وارتدوا عن الخير، وصاروا أشرارًا، فليعلموا أنهم سيجلبون الموت على أنفسهم حسب طبيعتهم“.[83]

ويشير ق. أثناسيوس إلى أن البشر هم أنفسهم السبب فيما حدث لهم من فساد الموت، وليس الله كما يدَّعي الجهلاء كالتالي:

”ولكن البشر حولوا وجوههم عن الأمور الأبدية، وبمشورة الشيطان تحولوا إلى أعمال الفساد الطبيعي، وصاروا هم أنفسهم السبب فيما حدث لهم من فساد بالموت. لأنهم كانوا – كما ذكرت سابقًا – بالطبيعة فاسدين، لكنهم بنعمة اشتراكهم في الكلمة، كان يمكنهم أن يفلتوا من الفساد الطبيعي، لو أنهم بقوا صالحين“.[84]

ويؤكد ق. أثناسيوس أن الموت دخل إلى العالم بحسد إبليس، وليس من الله كالتالي:

”وبسبب أن الكلمة سكن فيهم، فإن فسادهم الطبيعي لم يمسهم كما يقول سفر الحكمة: ’الله خلق الإنسان لعدم فساد، وجعله على صورة أزليته، لكن بحسد إبليس دخل الموت إلى العالم‘ (حك 2: 23- 24)، وبعدما حدث هذا بدأ البشر يموتون“.[85]

ويكرر ق. أثناسيوس أيضًا أن البشر هم الذين جلبوا الموت والفساد على أنفسهم، ولم يُنزِل الله عليهم الموت قائلاً:

”فالبشر لم يقفوا عند حد معين في خطاياهم، بل تمادوا في الشر، حتى أنهم شيئًا فشيئًا تجاوزوا كل الحدود، وصار يخترعون الشر حتى جلبوا على أنفسهم الموت والفساد“.[86]

ق. باسيليوس الكبير

يؤكد ق. باسيليوس أن الله لا يميت أحد ويحيي آخر، بل يحيي بالأشياء المائتة، ويشفي بالأمور المؤلمة كالتالي:

”إذًا، الله لا يميت أحد، ويحيي آخر، ولكن هو يحيي بالأشياء التي تميت، ويشفي بالأمور التي تجرح“.[87]

ويوضح ق. باسيليوس أن الإنسان أمات نفسه بنفسه بخطيئته، وجلب وصنع الموت لنفسه، فالموت ليس له كيان في حد ذاته، بل هو انعدام الحياة كالتالي:

”إذًا، فهو الذي وقع في الخطية عن طريق اختياره السيء، ومات بسبب الخطية، ’لأن أجرة الخطية هي موت‘ (رو6: 23)، أي أن كل مَن يبتعد عن الحياة، يقترب من الموت، لأن الله هو الحياة، وغياب الحياة هو موت. هكذا جلب آدم الموت على نفسه، وصنعه بابتعاده عن الله وفق المكتوب في المزمور ’لأنه هوذا البعداء عنك يبيدون‘ (مز 73: 27). هكذا ليس الله هو خالق الموت، لكن نحن الذين جلبناه على أنفسنا بالإرادة الشريرة“.[88]

كما يشير ق. باسيليوس إلى أن الإنسان سقط في الموت بالخطية عن طريق خداع الحية، ولم يكن الله هو المنفذ لهذا الموت كالتالي:

”لقد كُنتُ حسنًا بالطبيعة وصالحًا، ولكنني ضعيف، لأني سقطت في الموت بالخطية عن طريق خداع الحية“.[89]

ق. غريغوريوس النيسي

يؤكد ق. غريغوريوس النيسي مثله مثل جميع الآباء السابقين عليه أن الموت لم يغرسه الله في الإنسان عندما كان في الفردوس، ولم يغرسه بالطبع بعدما خرج الإنسان من الفردوس، لأن الموت في حد ذاته عقيم، وليس له أصل أو جذر، ولم يطرأ تغير على الله قبل وبعد سقوط الإنسان، بحيث قبل السقوط لم يكن يميت الإنسان، ثم صار بعد السقوط، يميت الله الإنسان كالتالي:

”والدرس الذي يجب أن نتعلمه هو أن الحياة هي المركز الأصلي لكل عمل الله، ولم يغرس الله الموت، ولم يكن له جذر ولا مكان له في الفردوس، لأن الموت عقيم، ولأن الحياة كانت هي مركز كل شيء خلقه الله، وللموت طبيعة، وهي توقف الحياة“.[90]

وينفي ق. غريغوريوس أن يكون الله هو خالق الموت، بل الشيطان هو مصدر الموت، لأن الموت دخل إلى العالم بحسد إبليس كالتالي:

لم يخلق الله الموت، وإنما أب ومصدر الموت هو ملك الشر أي الشيطان، لأن الموت دخل إلى العالم بحسد إبليس“.[91]

ويشير ق. غريغوريوس إلى أن الشر هو بداية الموت وأساس الفساد، وليس الله كالتالي:

”فيما الشر هو مختلف الألوان، ويمثلُ أمامنا بحيث نحسبه شيئًا، ومع الخبرة يتبين لنا شيئًا آخر. وإن معرفته، أي تقبله بالخبرة، هي بداية الموت وأساس الفساد“.[92]

كما يؤكد النيسي على أن التعدي بالآكل من شجرة معرفة الخير والشر هو أم الموت بالنسبة للبشر، وليس الله هو مُنزِله على البشرية كالتالي:

”وأصبحت هذه الأكلة أم الموت بالنسبة إلى البشر“.[93]

ق. كيرلس الإسكندري

يؤكد ق. كيرلس على قبول آدم للموت كنتيجة للعصيان والخطية، لذا نستنتج أن الخطية والعصيان هما علة الموت، وليس الله كالتالي:

”وكما أن آدم قَبِلَ الموت كنتيجة للخطية والعصيان، أصبح التبرير بواسطة المسيح جرمًا بحسب جهل اليهود، هكذا، فإنه بألم الموت، كُلِّل المسيح بالكرامة والمجد بحسب كلمات بولس الطوباوي (أنظر عب 2: 9؛ في 2: 9)“.[94]

ثم يتحدث ق. كيرلس عن أن الإرادة الإلهية تُمقِت إفناء المخلوقات، لأن الله خلق كل شيء للوجود، وليس للفناء كالتالي:

”لأنه يقول: ’الله خلق كل شيء ليكون موجودًا، وتكوين العالم خلاص، ولا توجد مملكة الجحيم على الأرض. بل جاء الموت إلى العالم من حسد الشيطان‘ (حك1: 14). فقد بدَّلت الإرادة الإلهية الموت، وأبطلت الفساد، وهي تمقت إفناء المخلوقات؛ لأن الله خلق كل شيء لكي يوجد كما هو مكتوب“.[95]

ويؤكد ق. كيرلس بوضوح في موضع آخر أن الخطاة هم قتلة أنفسهم، وليس الله يعاقبهم بالموت كما يدَّعي البعض عن جهل كالتالي:

”ليس أمرًا غير متوقع أن يُحسَب كل الذين أُسِروا بخطاياهم، كأنهم قاتلون لأنفسهم، بالرغم من أنهم انجرفوا إلى هذا الوضع السيء دون إرادتهم، وصاروا مخالفين لله كما يقول الكتاب: ’لأن تصور قلب الإنسان شرير منذ حداثته‘ (تك 8: 21)“.[96]

ق. يوحنا ذهبي الفم

كما يؤكد ق. يوحنا ذهبي الفم مثله مثل الآباء السابقين واللاحقين عليه أن خطية الإنسان هي سبب الموت، وليس الله نفسه هو علة الموت كالتالي:

”لأن خطية الإنسان كانت هي سبب الموت، ولكن بعد أن أتى المسيح، أبطل الخطية، وحرَّرنا منها عن طريق المعمودية“.[97]

 

 

الليتورجية القبطية

كما تحوي الليتورجية القبطية على العديد من الإشارات التي تنفي أن يكون الله علة موت الإنسان، أو يميت الإنسان كعقوبة له على الخطية، بل الله جبل الإنسان على غير فساد (موت)، بينما دخل الموت إلى العالم بحسد إبليس. حيث يصلي الكاهن في صلاة الصلح في القداس الباسيلي الآتي:

”يا الله العظيم الأبدي الذي جبل الإنسان على غير فساد: والموت الذي دخل إلى العالم بحسد إبليس هدمته بالظهور المحيي الذي لابنك الوحيد الجنس ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح“.[98]

وهكذا يصلي الكاهن في القداس الغريغوري في صلاة ”قدوس“ مؤكدًا على أن الإنسان هو الذي بإرادته خالف الوصية، وأختطف له قضية الموت، ولم يكن الله هو الذي عاقبه بالموت كالتالي:

”غرس واحد نهيتني أن آكل منه، فأكلتُ بإرادتي، وتركتُ عني ناموسك برأيي. وتكاسلت عن وصاياك. أنا اختطفت لي قضية الموت“.[99]

ويصلي الكاهن أيضًا في طلبة ”أنت يا سيدي“ في القداس الغريغوري مُخاطبًا الله الذي حوَّل عقوبة الموت إلى خلاص، وليس هو الذي عاقب الإنسان بالموت، بل وأدَّب الله الإنسان بالتأديبات المؤدية للحياة، وليس إلى الموت كالتالي:

”أنت يا سيدي حوَّلت لي العقوبة خلاصًا. كراعٍ صالحٍ سعيت في طلب الضال. كأبٍ حقيقي تعبت معي أنا الذي سقط. أدبتني بكل التأديبات المؤدية إلى الحياة. أنت الذي أرسلت لي الأنبياء من أجلي أنا المريض“.[100]

ويصلي الكاهن في صلاة المجمع بالقداس الغريغوري مؤكدًا على أن الله لا يشأ موت الخاطئ مثلما يرجع ويحيا، وليس أن الله يميت الخاطئ كعقوبة له على خطيئته كما يدَّعي البعض عن جهل ودون وعي قائلاً:

”لأنك أنت هو الله الرحوم الذي لا يشأ موت الخاطئ مثلما يرجع ويحيا. ردنا يا الله إلى خلاصك. وأصنع معنا كصلاحك“.[101]

 

 

هل الله يعاقب البشر بالموت؟

سنحاول في هذا البحث الرد على سؤال غاية في الأهمية، وهو هل الله يعاقب البشر بالموت؟ سوف نستعين في هذت المقال بآيات من الكتاب المقدس للوقوف على أفضل تصور عن هذا الموضوع الشائك. كما سوف أستعين أيضًا بكتابات آباء الكنيسة الجامعة للرد على هذا السؤال المهم جدًا.

الكتاب المقدس

يشير الكتاب المقدس في إشارات عديدة إلى أن إبليس هو الذي كان قتالاً للناس منذ البدء، وليس الله هو الذي يعاقب البشر بالموت. حيث يؤكد الكتاب المقدس على أن الشر هو الذي يميت الشرير، وليس الله قائلاً: ”الشَّرُّ يُمِيتُ الشِّرِّيرَ، وَمُبْغِضُو الصِّدِّيقِ يُعَاقَبُونَ“ (مز 34: 21).

وهكذا نرى في قصة طوبيا أن الشيطان هو الذي كان يقتل أزواج سارة، لذا نجد طوبيا يتحدث عن أن الشيطان هو الذي قتل أزواج سارة السبعة قائلاً: ”فأجاب طوبيا وقال: إني سمعت أنه قد عُقِدَ لها على سبعة أزواج فماتوا، وقد سمعت أيضًا أن الشيطان قتلهم“ (طو 6: 14). فالشيطان إذًا هو الذي يقتل البشر وليس الله.

كما يتحدث السيد المسيح له كل المجد عن أن الشيطان كان قتالاً للناس، ويميت البشر منذ البدء، وليس الله كالتالي: ”أَنْتُمْ مِنْ أَبٍ هُوَ إِبْلِيسُ، وَشَهَوَاتِ أَبِيكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَعْمَلُوا. ذَاكَ كَانَ قَتَّالاً لِلنَّاسِ مِنَ الْبَدْءِ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي الْحَقِّ لأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ حَق. مَتَى تَكَلَّمَ بِالْكَذِبِ فَإِنَّمَا يَتَكَلَّمُ مِمَّا لَهُ، لأَنَّهُ كَذَّابٌ وَأَبُو الْكَذَّابِ“ (يو 8: 44).

ويؤكد بولس الرسول أن إبليس هو مَن له سلطان الموت، أي القدرة على إماتة البشر، وليس الله هو الذي يعاقب البشر بالموت كالتالي: ”فَإِذْ قَدْ تَشَارَكَ الأَوْلاَدُ فِي اللَّحْمِ وَالدَّمِ اشْتَرَكَ هُوَ أَيْضًا كَذلِكَ فِيهِمَا، لِكَيْ يُبِيدَ بِالْمَوْتِ ذَاكَ الَّذِي لَهُ سُلْطَانُ الْمَوْتِ، أَيْ إِبْلِيسَ“ (عب 2: 14).

ويشبه بطرس الرسول إبليس خصم البشر بأنه كأسد زائر يلتمس مَن يبتلعه ويميته، وليس الله هو الذي يميت البشر كالتالي: ”اُصْحُوا وَاسْهَرُوا. لأَنَّ إِبْلِيسَ خَصْمَكُمْ كَأَسَدٍ زَائِرٍ، يَجُولُ مُلْتَمِسًا مَنْ يَبْتَلِعُهُ هُوَ“ (1بط 5: 8).

ويتحدث بولس الرسول عن تسليم الخاطئ إلى الشيطان لهلاك الجسد مؤكدًا على أن الموت والهلاك من الشيطان، وليسا عقوبةً من الله للبشر كالتالي: ”أَنْ يُسَلَّمَ مِثْلُ هذَا لِلشَّيْطَانِ لِهَلاَكِ الْجَسَدِ، لِكَيْ تَخْلُصَ الرُّوحُ فِي يَوْمِ الرَّبِّ يَسُوعَ“ (1كو 5: 5).

ولكن قد يتحجج البعض ويقول إن الكتاب يذكر عن الله أنه يحيي ويميت كالتالي: ”الرَّبُّ يُمِيتُ وَيُحْيِي. يُهْبِطُ إِلَى الْهَاوِيَةِ وَيُصْعِدُ“ (1صم 2: 6)، فنرد أن الكتاب ذكر أيضًا أن الله هو خالق الظلمة وخالق الشر كالتالي: ”أَنَا الرَّبُّ وَلَيْسَ آخَرُ. مُصَوِّرُ النُّورِ وَخَالِقُ الظُّلْمَةِ، صَانِعُ السَّلاَمِ وَخَالِقُ الشَّرِّ“ (إش 45: 6، 7). فنتساءل هل الله هو خالق الظلمة والشر أيضًا مثلما يميت؟ بالطبع لا، ولكن الكتاب المقدس كان يهتم بالإعلان عن وحدانية الألوهة في وسط الشعوب التي تؤمن بمذهب تعدد الآلهة، ويجعلون لكل شيء إله، إله للنور، وإله للظلام، وإله الخير، وإله الشر، وإله الموت… إلخ. وكانت هناك الشعوب التي تؤمن بمذهب ثنائية الألوهة كالزرادشتية والغنوسية والمانوية، حيث يرون أن هناك إلهان: إله الخير وإله الشر، النور والظلمة، الحياة والموت، وهكذا. لذا كان يحارب الكتاب المقدس هذه المذاهب المنحرفة عن الألوهة بنسب كل الأشياء إلى الإله الواحد الوحيد، حتى لو كان الله ليس هو خالق الظلمة، أو الشر، أو الموت، بل الله صالح وهو خالق النور والخير والحياة، وبالتالي، لا بد أن ننتبه إلى حديث الكتاب المقدس عن وحدانية الألوهة للتأكيد على وجود كل الأشياء في دائرة سيطرة الله وتدبيره وعنايته بالخليقة كلها، فلا يحدث شيء خارج سيطرة الله الواحد الوحيد.

 

 

تعاليم آباء الكنيسة الجامعة

ونتنقل الآن إلى آباء الكنيسة المعلمين الذين يؤكدون على حقيقة مهمة جدًا، ألا وهي أن الموت دخل إلى العالم بحسد إبليس وبخطية الإنسان، متبعين الكتاب المقدس في ذلك. ولم يكن الموت عقوبة من الله للبشر، بل يؤكدون على أمر غريب جدًا، ألا وهو أن الموت كان لصالح الإنسان حتى لا يظل الإنسان يُمارِس الشر والخطية إلى الأبد، وبالتالي، تأبيد الشر والخطية واستمرارهما إلى الأبد. لأنه إذا كانت العقوبة القانونية في حالة العقوبات البشرية القضائية العادية مثل عقوبة السجن على سبيل المثال، تُعتبر سلبًا لحرية الشخص المعاقب، وعقوبة الإعدام هي سلب لحياة الشخص المعاقب، وبالتالي، تُعتبر العقوبة البشرية القانونية شرًا بالنسبة للشخص المعاقب، وليس خيرًا أو في مصلحته. وهكذا، لو كانت العقوبة الإلهية -بحسب المنادين بالعقوبة القانونية- هي عقوبة قانونية أو جزائية أو انتقامية من الله للبشرية، فسوف تكون العقوبة هي شر بالنسبة للكائن المعاقب، وليست لصالحه، لأنها سوف تؤدي إلى هلاك الشخص المعاقب وموته.

ولكن يرى آباء الكنيسة على العكس من ذلك، أن الموت الذي دخل إلى العالم بعد السقوط كان في مصلحة البشرية، وليس شرًا للإنسان، وبالتالي، لم يكن الموت عقوبة قانونية من الله للبشرية، بل كان الموت في مصلحة البشرية من أجل الحفاظ عليها من البقاء في الشر والخطية إلى الأبد.

ق. إيرينيؤس أسقف ليون

حيث يؤكد ق. إيرينيؤس على أن الموت كان لصالح الإنسان، وليس عقوبة من الله للإنسان، حتى لا يستمر الإنسان خاطئًا إلى الأبد كالتالي:

”لذلك أيضًا، طرد الله الإنسان من الفردوس، ونقله بعيدًا عن شجرة الحياة، ليس لأنه يحسده على شجرة الحياة، كما يزعم البعض، بل لأنه أشفق عليه، ولم يرغب له أن يستمر خاطئًا إلى الأبد، ولا تكون الخطية، التي أحاطت به خالدةً، ولا يكون الشر غير متناهٍ، وعديم العلاج. ولكنه وضع حدًا لخطيئته بأن أدخل الموت، وهكذا أوقف الخطية، بأن وضع لها نهاية بانحلال الجسد، الذي يحدث في داخل الأرض، حتى أن الإنسان، إذ يكف عن الحياة في الخطية، ويموت عنها، ويبدأ أن يحيا لله“[102].

ق. ميثوديوس الأوليمبي

كما يؤكد ق. ميثوديوس الأسقف والشهيد على حقيقة أن الله وضع نهاية للخطية بالموت، وليس أن الموت عقوبة من الله للبشر كالتالي:

”والآن، كانت خيمتنا في الأول مزودةً بحالة سامية ثابتة؛ لكن تحولت بواسطة التعدي، وانحنت إلى الأرض. ولكن الله وضع نهاية للخطية بالموت، خشية فناء الإنسان من أن يعيش خاطئًا، وتعيش الخطية فيه، فيكون معرضًا للعنة الأبدية“[103].

نوفاتيانوس الأفريقي

يرى نوفاتيانوس الأفريقي – وهو أحد الآباء اللاتين- أن العقوبات الإلهية هي عقوبات شفائية، ولا تنبع في الله من رذيلة أو ضعف، بل لإرجاع البشر إلى المسار الصحيح كالتالي:

”كذلك حقيقة أن الله يغضب لا تنبع من أي رذيلة فيه. وإنما يتصرف هكذا لمنفعتنا. فهو رحيم حتى عندما يهدد، لأنه بهذه التهديدات يُرجِع البشر إلى المسار الصحيح. فالخوف أمر ضروري لمن يفتقدون إلى الحافز إلى الحياة الصالحة، حتى أن الرافضين للعقل يتحركون على الأقل بدافع الخوف. ولذلك، فكل هذه المواضع عن الغضب والكراهية وما شابه ذلك من جانب الله، قد أُعلِنت، كما يتبيَّن من حقيقة الأمر، لشفائنا، وهي تنبع عن قصد متعمد، وليس من رذيلة أو من ضعف“[104].

ق. أثناسيوس الرسولي

بينما يشير ق. أثناسيوس إلى أن الله أعلن حكم الموت بسبب التعدي، حتى لا تصير النتيجة مرعبة وغير لائقة، ألا وهي تأبيد الشر والخطية كالتالي:

”لأن الموت أيضًا، وكما قُلت سابقًا، صارت له سيادة شرعية علينا (بسبب التعدي)، ومنذ ذلك الوقت فصاعدًا، وكان من المستحيل التهرُّب من حكم الناموس، لأن الله هو الذي وضعه بسبب التعدي، فلو حدث هذا لأصبحت النتيجة مرعبة حقًا وغير لائقة في نفس الوقت[105].

ق. غريغوريوس اللاهوتي

يؤكد ق. غريغوريوس أن الموت كان في مصلحة الإنسان حتى لا يصير الشر خالدًا، فكيف يكون الموت عقوبة جزائية إنتقامية من الله على البشرية، ويكون في مصلحة البشرية في نفس الوقت لكي يمنع تأبيد الشر؟ حيث يقول ق. غريغوريوس التالي:

”وأول نتيجة [لهذا السقوط] أن أدركه الخجل والخزي، واختفى عن الله، وربح [الإنسان الأول] الموت، وقطع الخطيئة، لئلا يصير الشر خالدًا، وهكذا يبيت العقاب إحسانًا بالبشر، لأني هكذا أؤمن بأن الله يجازي“[106].

ق. باسيليوس الكبير

وهذا ما يؤكده ق. باسيليوس أيضًا، أن الله لم يخلق الموت، بل جلب الإنسان الموت عليه بإرادته الشريرة، وهكذا لم يوقف الله الموت حتى لا يظل المرض أي الخطية إلى الأبد بلا نهاية كالتالي:

”لأن أجرة الخطيئة هي موت (رو 6: 23) أي كل مَن يبتعد عن الحياة، يقترب من الموت، لأن الله هو الحياة، وغياب الحياة هو موت. هكذا جلب آدم الموت على نفسه، وصنعه بابتعاده عن الله وفق المكتوب في المزمور: ’لأنه هوذا البعداء عنك يبيدون‘ (مز 73: 27). هكذا ليس الله هو الذي خلق الموت، لكن نحن الذين جلبناه على أنفسنا بالإرادة الشريرة. لكن الله لم يُوقِف الانحلال الذي يحمله الموت حتى لا يظل المرض بدون نهاية[107].

ق. غريغوريوس النيسي

ويشير ق. غريغوريوس النيسي في نفس سياق الآباء السابقين إلى دخول الموت إلى العالم، حتى لا يظل الشر مؤبدًا في البشر كالتالي:

”ولكن لأن كل جلد ينفصل عن الحيوان هو شيء ميت، أعتقد أن شافي شرنا ببصيرته، قد كسا بعد ذلك البشر بهذه القوة نحو الموت، التي هي خاصية الطبيعة غير العاقلة، حتى لا يبقى الشر بعد ذلك في البشر إلى الأبد. لأن الأقمصة هي شيء يُوضَع خارجنا مقدمًا خدمة مؤقتة لأجسادنا، وليست متأصلة في طبيعة الإنسان“[108].

ق. كيرلس الإسكندري

يرى ق. كيرلس أن وجود الموت الجسدي كان في مصلحة الإنسان حتى لا يصل الإنسان إلى مرحلة الدمار الكامل كالتالي:

”هكذا حُكِمَ على الإنسان بالموت والفساد، لأن الله رأى أن هذا الحكم هو لصالحه. بمعنى أنه طالما مال الإنسان مرةً للخطيئة، وأصاب طبيعته مرض الميل للشر، مثل الأرواح النجسة، وانعطف نحو الشر. فحسنًا، بطريقة مفيدة، وُجِدَ الموت الجسدي الذي لم يؤد بالإنسان إلى الدمار الكامل[109].

وهكذا، نستنتج مما سبق، أن الله لا يُعاقِب البشر بالموت، بل الموت دخل إلى العالم بحسد إبليس، ونتيجة خطية الإنسان لصالح الإنسان وخيره، وذلك لإنقاذه من البقاء في الشر والخطية إلى الأبد. لأنه لو الموت له أصل إلهي في الله، لصار الموت سرمديًا أي أزليًا وأبديًا، وهذه هي الثنائية الغنوسية والمانوية، التي تجعل من الموت كيانًا موازيًا لله، طالما أن الله يُعاقِب البشر بالموت، فمعنى ذلك أن فعل الإماتة أو إنزال الموت كعقوبة له أصل أزلي في الله، فيكون الموت أزلي أبدي، وبالتالي، معنى ذلك تأليه الموت والعدم، وهذه هي الهرطقة الغنوسية والمانوية عينها التي تجعل من الشر والموت والظلام إلهًا في مقابل إله الخير والحياة والنور.

[1] Hastings Rashdall, Idea of atonement in Christian theology, (London: MACMILLAN & CO., 1919), p. 32& 33 n. 3.

[2] أثناسيوس (قديس)، المسيح في رسائل ق. أثناسيوس (الرسالة إلى أدلفيوس المعترف)، ترجمة: د. نصحي عبد الشهيد ود. صموئيل كامل، (القاهرة: المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، ٢٠١٧)، الفصل ٦، ص ٢٩.

[3] أثناسيوس (قديس)، تجسد الكلمة، ترجمة: د. جوزيف موريس، (القاهرة: المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2003)، 37: 7، ص 106.

[4] المرجع السابق، 9: 2، ص 24.

[5] المرجع السابق، 16: 4، ص 46.

[6] المرجع السابق، 20: 2، ص 57.

[7] المرجع السابق، 25: 3، ص 71.

[8] أثناسيوس (قديس)، المقالات الثلاثة ضد الآريوسيين، ترجمة: صموئيل كامل وآخرون، (القاهرة: المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2017)، ١: ١١: ٤١، ص 109.

[9] Thomas G. Weinandy, T&T Clark Companion to Atonement (Athanasius’s Incarnational Soteriology), Edit. by Adam J. Johnson, (London & New York: Bloomsbury, 2017), p. 142.

[10] Gustaf Aulén, Christus Victor: An Historical Study of The Three Main Types of The Idea of Atonement, Trans. by A. G. Hebert, (London: S. P. C. K, 1975), p. 56.

[11] J. N. D., Kelly, Early Christian doctrines, (London: Adam & Charles Black, 1968), 4th edit., p. 380.

[12] L. W. Grensted, A short History of The Doctrine of Atonement, (London & New York: Manchester University Press, 1920), p. 380.

[13] Hastings Rashdall, The Idea of Atonement in Christian Theology, (London: MACMILLAN & CO., 1919), Lect. 4, p. 296.

[14] تادرس يعقوب ملطي (قمص)، القديس كيرلس الأورشليمي (حياته -مقالاته لطالبي العماد- الأسرار)، (الإسكندرية: كنيسة مار جرجس سبورتنج، 2006)، مقالة ١٣: ٣، ص 182.

[15] المرجع السابق، المقالة ١٢: ١٥، ص ١٧٢.

[16] المرجع السابق، المقالة 14: 17، ص 208.

[17] إيرينيؤس (قديس)، ضد الهرطقات ج2، ترجمة: د. نصحي عبد الشهيد، (القاهرة: المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2019)، ٥: ١: ١، ص 272، 273.

[18] أوريجينوس (علامة)، تفسير رسالة رومية ج1، ترجمة: عادل ذكري، (القاهرة: مدرسة الإسكندرية للدراسات المسيحية، 2020)، ٢: ١٣: ٢٩، ص 179.

[19] باسيليوس الكبير (قديس)، الأفخولوجي الكبير (ليتورجية ق. باسيليوس)، ترجمة: الأسقف رافائيل هواويني، نشره: متروبوليت أنطونيوس بشير، (لبنان: بيرنوث وقلفاط، 1955)، ص ١٤٢.

[20] باسيليوس الكبير (قديس)، تفسير سفر المزامير ج2، ترجمة: د. سعيد حكيم، (القاهرة: المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2021)، عظة رقم 19 على مز 49، ص 93- 95.

[21] J. K. Mozley, The Doctrine of The Atonement, (New York: Charles Scribner’s Sons, 1916), p. 109.

[22] Ibid, n. 3.

[23] J. N. D. Kelly, The Early Christian Doctrines, (London: Adam & Charles Black, 1968), p. 382, 383.

[24] Hastings Rashdall, The Idea of Atonement in The Christian Theology, (London: MacMillian & Co., Limited, 1919), p. 311.

[25] غريغوريوس النيسي (قديس)، تعليم الموعوظين، ترجمة: د. جورج فرج، (القاهرة: المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2022)، 23: 2، ص 179، 180.

[26] يوحنا ذهبي الفم (قديس)، شرح إنجيل متى ج 3، ترجمة: د. عدنان طرابلسي، (لبنان، 2019)، عظة 54: 7، ص 62، 63.

[27] يوحنا ذهبي الفم (قديس)، تفسير رسالة بولس الرسول إلى العبرانيين، ترجمة: د. سعيد حكيم، (القاهرة: المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2015)، عظة 17: 2، ص 251.

[28] المرجع السابق، ص 251، 252.

[29] المرجع السابق، عظة 25: 1، ص 329.

[30] يوحنا ذهبي الفم (قديس)، تفسير رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية، ترجمة: د. سعيد حكيم، (القاهرة: المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2013)، عظة 26: 4، تعليق على (رو 14: 9)، ص 557.

[31] يوحنا ذهبي الفم (قديس)، تفسير رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس ج 2، ترجمة: د. سعيد حكيم، (القاهرة: المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2017)، عظة 32: 6، تعليق على (1كو 13: 3)، ص 241.

[32] المرجع السابق، عظة 42: 3، تعليق على (1كو 15: 57)، ص 426.

[33] يوحنا ذهبي الفم (قديس)، شرح رسالة بولس الرسول إلى أهل كولوسي، ترجمة: نشأت مرجان، (القاهرة: مكتبة المحبة، 2009)، العظة الثالثة، تعليق على (كو1: 18)، ص 63.

[34] المرجع السابق، العظة السادسة، تعليق على (كو 2: 13- 15)، ص 117 – 120.

[35] يوحنا ذهبي الفم (قديس)، شرح وعظات إنجيل يوحنا ج2، ترجمة: راهب من برية شيهيت، (القاهرة: مكتبة المحبة، 2008)، عظة 67، ص 236، 237.

[36] Ambrose of Milan, The letters of St. Ambrose of Milan, Trans. by member of The English Church, (Oxford: James Parker & CO., 1881), letter 72: 8, p. 426.

[37] أوغسطينوس، الثالوث، ترجمة: د. أنطون جرجس، تقديم: الأنبا أنجيلوس الأسقف العام، (القاهرة، 2021)، ١٣: ١٥: ١٩، ص 538.

[38] Augustine of Hippo, Sermon 130: 2, 134: 6.

[39] أوغسطينوس، عظات في المزامير ج 4، ترجمة: سعد الله سميح جحا، (لبنان: دار المشرق، 2017)، عظة في مز 95: 5، ص 379.

[40] Augustine of Hippo, NPNF-I vol. VI (Homilies on The Gospels), Trans. by R. G. MacMullen, Edit. by Philip Schaff, (Grand Rapids, MI: Christian Classics Ethereal Library, 1819-1893), Sermon 80: 2 on (Jn 6: 9), p. 1041.

[41] Leo The Great, Sermon 22: 3, 4.

[42] Gregory The Great, on Morals (Commentary on Job), Sermon 33: 15 on (Job 40: 24).

[43] غريغوريوس اللاهوتي (قديس)، عظات القيامة (العظة الفصحية الثانية)، ترجمة: القس لوقا يوسف، مراجعة: الأنبا إرميا، (القاهرة: المركز الثقافي القبطي الأرثوذكسي، 2015)، عظة 45: 22، ص ٣٨، ٣٩. حيث تمت الترجمة عن الأصل اليوناني الموجود في مجموعة باترولوجيا جريكا PG 36: 624- 663.

 

[44] Gregory of Nazianzus (St.), The Second oration on Easter (NPNF 2- 07), Trans. by Charles Gordon & James Edward, Edit. by Philip Schaff, (Michigan, CCEL, Grand Rapids, 1819- 1893), Or. 45: 22, p. 847, 848.

[45] Brian E. Daley, Gregory of Nazianzus (The early Church Fathers), Edit. by Carol Harrison, (London, New York: Routledge, 2006), Or. 14: 27, p. 90, 91.

[46] Poemata Dogmatica, I, VIII, 65- 69, Migne XXXVII, 470.

[47] Oliver B. Langworthy, Gregory of Nazianzus’s Soteriological Pneumatology, (Germany, Tunmbingen: Mohr Siebeck, 2019), Or. 1. 5. SC 247, 78, p. 53.

[48] Gustave Aùlen, Christus Victor: An Historical Study of The Three Main Types of The Idea of Atonement, Trans. by A. G. Hebert, Forwarded by Jaroslav Pelikan, (London: S. P. C. K., 1975), p. 50.

[49] J. N. D. Kelly, The Early Christian Doctrines, (London: Adam & Charles Black, 1968), p. 383, 384.

[50] Hastings Rashdall, The Idea of Atonement in Christian Theology, (London: MacMillian & Co., 1919), p. 309, 310.

[51] كيرلس الإسكندري (قديس) حوار حول تأنس الابن الوحيد، ترجمة: د. جورج عوض، (القاهرة: المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2012)، الفصل 7، ص 77.

[52] كيرلس الإسكندري (قديس)، شرح إنجيل يوحنا مج ٢، ترجمة: د. نصحي عبد الشهيد وآخرون، (القاهرة: المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، ٢٠١٥)، تعليق على (يو ١٨: ٧- ٩)، ص ٤٢٥.

[53] كيرلس الإسكندري (قديس)، شرح إنجيل يوحنا مج1، ترجمة: د. نصحي عبد الشهيد وآخرون، (القاهرة: المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2015)، 4: 2، تعليق على (يو6: 51)، ص 403.

[54] المرجع السابق، الرسالة التوضيحية الثانية، ص 209، 210.

[55] كيرلس الإسكندري (قديس)، تفسير إنجيل لوقا، ترجمة: د. نصحي عبد الشهيد، (القاهرة: المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، ٢٠١٦)، عظة ١٥٣، ص ٧٥٠.

[56] كيرلس الإسكندري (قديس)، تفسير سفر يونان، ترجمة: د. جورج عوض، (القاهرة: المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، ٢٠١٧)، تعليق على (يون ٤: ١٠- ١١)، ص ٤٧.

[57] كيرلس الإسكندري (قديس)، الإيمان القويم إلى الملكات، ترجمة: د. جورج عوض، (القاهرة: المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، ٢٠١٩)، الرسالة التوضيحية الأولى، ص ١٦٢.

[58] كيرلس الإسكندري (قديس)، شرح سفر زكريا، ترجمة: د. جورج عوض، (القاهرة: المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، ٢٠١٧)، الفصل ٧٣، تعليق على (زك ١٠: ١٠)، ص ١٥٢.

[59] المرجع السابق، الفصل ٢، تعليق على (زك ١: ١- ٢)، ص ١٨.

[60] كيرلس الإسكندري (قديس)، الجلافيرا على سفر الخروج، ترجمة: د. جورج عوض، (القاهرة: المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، ٢٠١٨)، المقالة ٢، ص ١٦٣.

[61] كيرلس الإسكندري (قديس)، تفسير سفر هوشع، ترجمة: د. جورج عوض، (القاهرة: المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، ٢٠٢٠)، تعليق على (هو ١٣: ١٤)، ص ٣١٤، ٣١٥.

[62] كيرلس الإسكندري (قديس)، الجلافيرا على سفر الخروج، ترجمة: د. جورج عوض، (القاهرة: المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، ٢٠١٨)، المقالة ٢، ص ١٦١، ١٦٢.

[63] المرجع السابق، ص ١٦٥، ١٦٦.

[64] كيرلس الإسكندري (قديس)، تفسير إنجيل لوقا، ترجمة: د. نصحي عبد الشهيد، (القاهرة: المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، ٢٠١٦)، عظة ٣، ص ٤٦.

[65] يوحنا الدمشقي (أب)، المائة مقالة في الإيمان الأرثوذكسي، ترجمة: الأرشمندريت أدريانوس شكور، (لبنان: منشورات المكتبة البولسية، 1984)، ٣: ٧١: ٢٧، ص 208.

[66] المرجع السابق، 3: 62: 18، ص 193.

[67] المرجع السابق، 3: 45: 1، ص 151، 152.

[68] تمت ترجمة هذا الجزء من مقطع بعنوان Anselm’s soteriology من كتاب

Rik Van Nieuwenhove, An Introduction to Medieval Theology, (Cambridge University Press, 2012), 93-98.

[69] أنظر على سبيل المثال بخصوص مفهوم تشكيل الفئات الإقطاعية لنظرية أنسلم بعمق (خاصةً الكرامة)

Southern, Saint Anselm, 221-27.

[70] Edward Schillebeeckx, Christ. The Christian Experience in the Modern World (London: SCM, 1980), 729.

[71] Edward Schillebeeckx, The Church. The Human Story of God, (London: SCM, 1990), 125.

[72] Cur Deus Homo 1. 2. The Translation used is by B. Davies & G. Evans from Anselm of Canterbury. The Major Works, (Oxford University Press, 1998), 260-356.

حيث نجد لغة ”الدَّين“ مستوحاة من صلاة ”الأبانا“ كالتالي: ”وأغفر لنا ذنوبنا (ديوننا)“ (debita nostra in Matt. 6. 12) المشار إليها في كتاب (لماذا تجسَّد الله 1: 19).

[73] لماذا تجسَّد الله 1: 2. ”كل شخص يخطئ هو مجبر على إعادة الكرامة لله التي قد سلبها منه عنوةً، وهذه هي الترضية التي من المفترض على كل خاطئ تسديدها إلى الله“.

[74] لماذا تجسَّد الله 1: 8. حيث الحديث عن عدم قابلية الطبيعة الإلهية للتغير والأهواء، وهناك إشارة أخرى في لماذا تجسَّد الله 1: 15.

[75] أنظر على سبيل المثال

Tertullian, De Poenitentia, Ch 5, CCSL, 1. 28.

[76] J. Pelikan, The Christian Tradition. A History of The Development of Doctrine, Vol. III: The Growth of Medieval Theology (600-1300), (Chicago University Press, 1978), 143-45:

”فالترضية من ثم كانت مصطلح آخر للذبيحة وفعل المسيح الكفاري للتكفير عن الخطايا جعل من الأفعال البشرية للترضية أن تكون مستحقة؛ لأنها لم تكن كذلك في حد ذاتها“.

[77] ”بالطبع، توجد أسباب أخرى أيضًا لماذا لا ينبغي غفران الخطية بدافع من الرحمة فقط دون طلب التعويض ستكون غير لائقة: فعلى سبيل المثال، سيكون الله يتعامل مع المذنب وغير المذنب بنفس الطريقة، والذي لا يليق: وهكذا يمتد هذا التناقض حتى إلى أبعد من ذلك، فيجعل الإثم يتساوى مع الله. لأنه تمامًا مثلما لا يخضع الله لأي ناموس، هكذا يكون الحال مع الإثم“ (لماذا تجسَّد الله 1: 12).

[78] Schillebeeckx, Christ, 729.

[79] Katherine Sanderegger, T&T Clark Companion to Atonement (Anselmanian Atonement), Edit. by Adam J. Johnson, (London & New York: Bloomsbury, 2017), p. 177.

[80] ثيؤفيلوس الأنطاكي (قديس)، الرد على أتوليكوس، ترجمة: عادل ذكري، (القاهرة: مدرسة الإسكندرية للدراسات المسيحية، 2019)، 2: 27، ص 82.

[81] المرجع السابق، 2: 29، ص 84.

[82] يوستينوس الشهيد (قديس)، الحوار مع تريفون اليهودي، ترجمة: أ. آمال فؤاد، (القاهرة: باناريون للتراث الآبائي، 2012)، الفصل 124، ص 299.

[83] أثناسيوس (قديس)، تجسد الكلمة، ترجمة: د. جوزيف موريس، (القاهرة: المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2003)، 3: 4، ص 9.

[84] المرجع السابق، 5: 1، ص 13.

[85] المرجع السابق، 5: 2، ص 13.

[86] المرجع السابق، 5: 3، ص 13.

[87] باسيليوس الكبير (قديس)، الله ليس مسببًا للشرور، ترجمة: د. جورج عوض، (القاهرة، 2012)، ص 26.

[88] المرجع السابق، ص 34.

[89] باسيليوس الكبير (قديس)، تفسير المزامير ج1، ترجمة: د. سعيد حكيم، (القاهرة: المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2020)، عظة 5: 5 على مز 30، ص 171.

[90] Gregory of Nyssa, Commentary on the Song of Songs, Tans. by C. Mc Cambley, Intro. by Panagiotes Chresteu, (Hellenic College Press, 1987), Homily 12, p. 216. See also Gregory of Nyssa, Homilies on The Song of Songs, Trans. & Intro. by Richard A. Norris, (Atlanta: Society of Biblical Literature, 2012), Homily 12, p. 369.

[91] Gregory of Nyssa, on the inscriptions of the Psalms, Trans. by C. Mc Cambely, (Hellenic College Press, 1988), p. 139. See also Gregory of Nyssa, Treatise on The Inspections of The Psalms, Trans. & Intro. by Ronald E. Heine, (Oxford: Clarendon Press, 1995), 2: 271, p. 209.

[92] غريغوريوس النيسي (قديس)، خلق الإنسان، ترجمة: المطران كيرلس بسترس والأب نقولا بسترس، (لبنان: منشورات المكتبة البولسية، 2021)، الفصل 20، ص 109.

[93] المرجع السابق.

[94] كيرلس الإسكندري (قديس)، الجلافيرا على سفر التكوين، ترجمة: د. جورج عوض، (القاهرة: المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2018)، المقالة الأولى، ص 125.

[95] كيرلس الإسكندري (قديس)، السجود والعبادة بالروح والحق، ترجمة: د. جورج عوض، (القاهرة: المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2017)، المقالة السادسة، ص 231.

[96] المرجع السابق، المقالة الثامنة، ص 339.

[97] يوحنا ذهبي الفم (قديس)، تفسير رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس، ترجمة: د. سعيد حكيم، (القاهرة: المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2017)، عظة 42: 3، تعليق على (1كو 15: 65)، ص 426.

[98] إيسيذوروس البراموسي (قمص)، الخولاجي المقدس وخدمة الشماس، مراجعة: نيافة الأنبا متاوؤس أسقف دير السريان، (القاهرة: مكتبة مار جرجس بشبرا، 1994)، ص 142.

[99] المرجع السابق، ص 200.

[100] المرجع السابق، ص 201.

[101] المرجع السابق، ص 213.

[102] إيرينيؤس (قديس)، ضد الهرطقات ج2، ترجمة: د. نصحي عبد الشهيد، (القاهرة: المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2019)، 3: 23: 6، ص 115، 116.

[103] ميثوديوس الأوليمبي (قديس)، وليمة العشر عذارى، ترجمة: الراهب القمص تيموثاوس المحرقي، (القاهرة، 2009)، 9: 2، ص 201.

[104] نوفاتيانوس، عن الثالوث، ترجمة: عادل ذكري، (القاهرة: رسالتنا للنشر والتوزيع، 2022)، 5: 1، ص 37.

[105] أثناسيوس (قديس)، تجسد الكلمة، ترجمة: د. جوزيف موريس فلتس، (القاهرة: المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2003)، 6: 2، ص 15.

[106] غريغوريوس اللاهوتي (قديس)، عظات القيامة، ترجمة: القس لوقا يوسف، (القاهرة: المركز الثقافي القبطي الأرثوذكسي، 2015)، العظة الفصحية الثانية 45: 8، ص 25.

[107] باسيليوس الكبير (قديس)، الله ليس مسببًا للشرور، ترجمة: د. جورج عوض، (القاهرة، 2012)، ص 34.

[108] غريغوريوس النيسي (قديس)، تعليم الموعوظين، ترجمة: د. جورج فرج، (القاهرة: المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2022)، 8: 4، ص 140.

[109] كيرلس الإسكندري (قديس)، الجلافيرا على سفر التكوين، ترجمة: د. جورج عوض، (القاهرة: المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2018)، المقالة الأولى، ص 114، 115.

 

مفهوم الفدية في الكتاب المقدس والتقليد – د. أنطون جرجس عبد المسيح

تقييم المستخدمون: 4.3 ( 1 أصوات)