روايات مسيحيةكتب

أبواب السماء ف10 – كتاب البحار المغامر – حلمي القمص يعقوب

أبواب السماء ف10 - كتاب البحار المغامر - حلمي القمص يعقوب

أبواب السماء ف10 – كتاب البحار المغامر – حلمي القمص يعقوب

أبواب السماء ف10 - كتاب البحار المغامر - حلمي القمص يعقوب
أبواب السماء ف10 – كتاب البحار المغامر – حلمي القمص يعقوب

 

الفصل العاشر : أبواب السماء

 

مرت الكنيسة منذ القرن الأول وحتى بداية عصر دقلديانوس بتسعـة إضطهادات من الأباطرةنيرون ” (54 – 68م ) و ” دوميتيان ” (81 – 96م) و ” تراجان ” (98 – 117م ) و ” ماركوس أوريليوس ” (169 – 177م) و ” سبتيمـوس سافيروس ” (193 – 209م) و ” مكسيميانوس ” (236 – 238م) و ” ديسيوس ” (249 – 251م) و ” فاليريان ” (253 – 260م) و” أوريليان ” ( 270 – 274م )0

 وفي هذه الأيام ولأسباب عديدة شنَّ ” دقلديانوس ” ( 284 – 305م ) منذ سنة 303م سلسلة إضطهادات قاسية ومرة على المسيحيين الأبرياء ، لم يرحم شيخاً ولا إمرأة ولا طفلاً ، بل تلذذ بأن يسبح في بحيرة من دماء المسيحيين ، والشهداء في عصره يقدَّرون بمئات الألوف ويقاربون المليون شهيد 00 لقد إنتقم من المسيحييـن الذيـن لا يؤلّهونـه ولا يسجدون لتماثيله ، وهم موضع غضب آلهتـه 0 كمـا قيـل أنه في حربه مع الفرس وقع ” نيقوميدوس ” إبن ملك الفرس أسيراً في يده ، فسلَّمه لبطريرك أنطاكية ، ونجح ملك الفرس في فك أسر إبنه عن طريق رشوة البطريرك ، وعاد الإبن لساحة الوغي وسقط أسيراً للمرة الثانية في يد دقلديانوس ، وبعد عودة دقلديانوس من الحرب سأل البطريرك عن الأسير ، فأخبره أنه قد مات منذ شهرين ، فطلب منه أن يرى مقبرته وجسده ، فأراه البطريرك جسد أخيه الأكبر الذي قُتل في الحرب ، فقال له دقلديانوس : ” أما الجسد فقد رأيته بعيني ، ولكني لا أثق بقول لا يؤيده دليل ، فأقسم على المذبح بأن هذا الجسد هو جسد نيقوميدوس “0

وفي اليوم التالي أقام البطريرك القداس الإلهي وأمسك بالجسد وأقسم أن ما رآه دقلديانوس هو جسد نيقوميدوس ، فذهل دقلديانوس من جرأة البطريرك في الكذب ، وإنتظر أن تنزل ناراً من السماء تأكل هذا الرجل الكاذب المرتشي ، فلم يحدث ، فأظهر نيقوميدوس للبطريرك الذي أُسقط في يده ، وألقى دقلديانوس بالكأس المقدَّس ، وعذب البطريرك ، حتى أنه وضع في حلقه الذهب المنصهر الذي إشتهاه فمات0

وعقد ” دقلديانوس ” مشاورات سرية مع جاليروس وبعض كبار الموظفين ، وتم الإتفاق على ضرورة القضاء على العقيدة المسيحية ، وتم تحديد يوم 23 فبراير 303م لبدء هذه الحملة ، وفي ذلك اليوم كان دقلديانوس وجاليروس في نيقوميديا ، وكان عيداً للوثنيين ، فأصدر دقلديانوس ” المرسوم الأول ” للقضاء على المسيحية وشمل المرسوم :

  • هدم جميع الكنائس وإزالتها من الوجود0
  • إحراق جميع الكتب المقدَّسة في أي مكان كانت0
  • تجريد المسيحيين من وظائفهم الحكومية ، وحرمانهم من حقوقهم الوطنية ومصادرة أملاكهم0
  • لا يُعتق عبد مسيحي قط0

وعندما بادر أحد الضباط المسيحيين الشجعان بإنتزاع هذا المنشور وتمزيقه ، وهو الشهيد العظيم أمير الشهداء البطل الروماني ” مارجرجس ” ، دخل في سلسلة عذابات رهيبة إستمرت شهور وسنين تعرَّض خلالها لأنواع شتى من العذابات ، بل تعرض للموت أكثر من مرة ، والرب كان يقيمه ، وإستطاع أن يجتذب المئات للمسيحية ، ولاسيما تلك المرأة الخليعة التي أرسلوها إليه لتسقطه في الخطية وتكسر أنفه ، وإنتهت الليلة وفي الصباح إذ هي مسيحية تعترف بإله مارجرجس ، وتقول لمارجرجس : ” جئت لأسقطك بسحـر خلاعتـي فجذبتنـي بسحر طهارتك ” 0 وإنتصر ” مارجرجس ” على الإمبراطور بكل قواته وعذاباته وشياطينه ، وإنتشرت معجزاته بعد إستشهاده أكثر مما حدث في حياته آلاف المرات0 أما سيرته العطرة وشجاعته النادرة فلن يقوى الزمن أن يمحيها ، بل تزداد بريقاً ولمعاناً مع الأيام ، وحتى المجئ الثاني ، بل وفي الدهر الآتي أيضاً0

وفي اليوم الذي أصدر فيه دقلديانوس مرسومه ، كانت هناك أمام القصر ، وعلى ربوة عالية كاتدرائية ضخمة ، فأسرع الوالي مع جنود الشر وهجموا على الكنيسة وحطموا أبوابها ، ولم يكتفــوا بهــذا ، إنمـا هدموها حتى ساووها بالأرض ، ويقول ” لاكتانتيوس ” : ” بأنه تم حرق الكتب المقدَّسة ، والسماح للجميع بالسرقة والنهب والسلب والتمرد والفوضى ، وتم النقاش حول مسألة إشعال النار في الكنيسة إلاَّ أن دقلديانوس خشى أن تشتعل النار في المباني المحيطة بالكنيسة فتتأثر بذلك المباني المحيطة بها من المدينة لذا رأى أن تُهدم ، ولهذا أمر بإحضار حرس الإمبراطور مزودين بالفئوس وأدوات أخرى محطمين هذا المعبد الشهير الشامخ وجعلوه يسوى بالأرض (70)0

وبدأت موجات الإضطهاد العاتية تجتاح المدن والقرى ، ومما زاد الطينة بلة أن القصر الإمبراطوري تعرَّض لحريق مرتين في خلال أسبوعين متتاليين ، ووصلت ألسنة اللهيب إلى غرفة نوم دقلديانوس ، ولم يُعرَف المتسبب ، وإتهم ” جاليريوس ” بعض المسيحيين العاملين بالقصر ، تماماً كما إتهم ” نيرون ” من قبل المسيحيين بحرق روما وهو الذي أحرقها وراح يغني منتشياً بمشاهد الحريق ، ولكيما يزيد ” جاليريوس ” من حرارة الحريق الذي أشعله ، ترك القصر عائداً إلى مكانه بحجة أن الإنسان لا يأمن على حياته في هذا القصر0

وكانت النتيجة أن ” دقلديانوس ” أمر بتعذيب كل الخدم ، وغضب على زوجته ” بريسكا ” Prisca   وإبنته ” فاليريا ” Valeria وخيَّرهما بين السجود لآلهته أو الإعدام ، وإختارتا المسيحية مع الإعـدام ورفضتا عبادة الأوثان مع الحياة0 كما حكم ” دقلديانوس ” بالإعدام على بعض كبار موظفي القصر المسيحيين مثل ” دورثيوس ” ، و ” جورجونيوس ” ، و ” أندرياس ” ، كما أعدم ” أنتيموس ” أسقف نيقوميديا ، وإشتد حنق دقلديانوس على المسيحيين ، فسيقت أعداداً غفيرة من المسيحيين العاملين بالقصر إلى السجون ، وخضعوا للتعذيب الشديد للإعتراف بجريمة لم يرتكبوها ، وعندما فشلوا في إنتزاع هذا الإعتراف منهم سيق بعضهم للحريق ، ورُبطت أعناق البعض بالأحجار الثقيلة وطُرحوا في البحر ، وسُفكت دماء البعض بالسيف ، وعوضاً عن إعدام المسيحيين فرادي ، كانوا يشعلون كل يوم نيران عظيمة ويُلقى فيها الشهداء بالجملة ، وشدَّد دقلديانوس على شركائه في الحكم لمحو المسيحية عن وجه الأرض ، فهاج الوحوش الثلاث ” دقلديانوس ” إمبراطور الشـرق ومعاونـه ” جاليريــوس ” قيصر الشرق ، و ” ماكسيميان ” إمبراطور الغرب ضد أتباع يسوع الوديع الهادي متواضع القلب رئيس السلام ، ولاسيما أن إمبراطور الغرب كان سلوكه رديئاً وطبيعته عدوانية ” فكان حاكماً متسلطاً خاصة بعد أن إستطاع قمع سلطة مجلس الشيوخ ، مروُّعاً إياهم بأساليبه المزعجة ، وبما حمل في شخصيته من صلف وتهييج وما كان في طبعه من توحش0 تلك الصفات التي كانت تلازمه والتي ظهرت أمام من كان يُنزل بهم العقاب ، فكان عهده سيئاً مكروهاً ، وقد نعته رعاياه بعصر الحديد من شدة قسوته وإستبداده ، ومن شدة تعطشه إلى التسلط 00 هذه الصفات أضفت على شخصيته ونزعته الوحشية روحاً إنتقامية وعدوانية ، كما أن شعوره بكراهية المحيطين به وعدم إخلاصهم له ، ملأه بالشك والريبة ، فكان يندفع ليبطش بأي شخص دون ما سبب فصنع المذابح ، وقد دفعته مخاوفه ، وتحت ستار الغيرة الدينية المشوبة بالخبث والحقد أن يكون من أشد الأباطرة إضطهاداً للمسيحيين(71)0

         وبدأت تحدث فتن وإضطرابات وثورات في أرمينيا وسوريا ، هذان الإقليمان اللذان ترتفع فيهما نسبة المسيحيين ، فعزوا هذه القلاقل لرجــال الإكليـروس ولذلك أصدر دقلديانوس ” المرسوم الثاني ” في شهر مارس 303م بالقبض على جميع رجال الإكليروس والزج بهم في أعماق السجون ، فامتلأت السجون من الأساقفة والقسوس والشمامسة حتى لم يعد بها مكان للمجرمين الخارجين عن القانون ، وحلَّ الإستشهاد بكل مكان ، باستثناء بلاد الغال وبريطانيا الواقعة تحت حكم ” قنسطنطنيوس ” ، الذي أمر فقط بهدم أسوار الكنائس وبعض الجدران ، بحيث يمكن إعادة بناءها بسهولة0

         وفي صيف 303م ترك ” دقلديانوس ” نيقوميديا ، وتوجه إلى روما للإحتفال بالعيد العشرين لتوليه السلطة وفي 2 نوفمبر 303م إحتفل ” دقلديانوس ” مع ” مكسيميان ” في روما بهذه المناسبة ، وقاما بتوزيع الهدايا على الشعب وسط تهليل وهتاف الجماهير في روما ، وبنـى ” دقلديانوس ” قوس النصر تخليداً لإسمه ، وكان من المعتاد أن يُصدِر الإمبراطور في مثل هذه المناسبة قراراً بالعفو العام عن المساجين ، فكيف العمل وهو لا يريد أن يطلق رؤساء الكنائس ؟!00 ولذلك أصدر هذا العفو العام وجعله مقترناً بشرط أن يقدم هؤلاء الأساقفة والقسوس والشمامسة العبادة للآلهة ، وإلاَّ تعرضوا للتعذيب الشديد ، فكان هذا العفو الذي جر وبال التعذيب على الإكليروس المعتقلين هو بمثابة المنشور الثالث الذي نص صراحة على أن رجال الإكليروس هم أعداء للحكومة ، فلا يخلى سبيل أحد منهم إلاَّ إذا ضحى للآلهة ، فتعرَّض رجال الإكليروس للعذابات المُرة وأُقتيد كثير منهم للعمل في المناجم في ظروف قاسية 0

         وعاد ” دقلديانوس ” إلى نيقوميديا في يناير 304م وكان الوقت شتاءاً قارصاً والأمطار غزيرة ، فأصيب بمرض أخذ يشتد عليه ، وبدأ يعاني من إضطراباً عقلياً وفي سنة 305م إعتزل دقلديانوس الحكم وله من العمر 59 عاماً ، وتوارى عن الأنظار ، فصـار ” جاليريــوس ” إمبراطــوراً للشـرق ، ولم يعين إبنه ” مكسنتيوس ” Mexentius نائباً له ، إنما عيَّن ” مكسيميانوس دايا ” Maxminus Daia قيصراً معاوناً له ، وأيضاً في نفس العام 305م إعتزل ” ماكسيميـان ” إمبراطور الغرب الحكم (72) ، فصار ” قنسطنطينـوس ” هــو الإمبراطــور ، ولم يعين إبنه ” قسطنطين ” نائباً له ، إنما عيَّن ” فاليريوس سفيروس ” قيصراً معاوناً له0 وكان ” جاليريـوس ” قد إستغل فرصة مرض دقلديانوس ، فأصدر ” المرسوم الرابع ” لإضطهاد المسيحيين في ربيع 304م ، وهو المرسوم الأشد والأفظع ، وفيه أمر بأن يقدم جميع المسيحيين ، وليس الإكليروس فقط ، العبادة للآلهة والتضحيات ، حتى لو كان هذا مصحوباً بالعذابات الشرسة أو الإعدام ، فعمَّ الإضطهاد على كل المسيحيين رجالاً ونساءاً وشيوخاً وأطفالاً ، وعُلقت الإعلانات في شوارع المدن تلزم الجميع بالتوجه إلى المعابد لتقديم الذبائح للآلهة0

وهكذا إشتعلت نيران الإضطهاد شرقاً وغرباً ، وسالت دماء الأبرياء بحوراً تروي الأرض العطشى لتثمر مؤمنين جدداً0

وقال البعض عن تخلي ” دقلديانوس ” عن الحكم أنه أقام حفل الإعتزال في أول مارس 305م في سهل فسيح على بُعد 3 كم من نيقوميديا ، وله من العمر 59 عاماً ، حيث جرَّد نفسه من الأوسمة والشعارات الإمبراطورية ، وإستقل عربة خاصة وإنطلق إلى ” سالونا ” Salona  التـي إختارها مقراً لتقاعده ، كما إعتزل ” ماكسيميان ” الحكم في معبد جوبتر بميلان بناء على وعده لدقلديانوس ، وذهب إلى ” لوكانيا ” Luconia جنوب إيطاليا كمقر لتقاعده ، وأمضى ” دقلديانوس ” السنين التسع الباقية له في الحياة في قراءة الأدب والبناء والزراعة وفلاحة البساتين ، وعندما أرسل إليه ” مكسيميان ” يحفزه على إستعادة الحكم وإستعادة الحلة الأرجوانية ، أجابه دقلديانوس بأنه لو رأى الكرنب الذي زرعه بيديه في سالونا ، فإنه لن يعود يصغى لأي إغراء يدعوه للتخلي عن هذه المتعة طلباً للسلطة (73)0

كما قال البعض عن نهاية حكم دقلديانوس أنه حلَّ به المرض ، وفقد رشده فخُلع عن كرسيه ، وأصدر مجلس الشيوخ أمره بنفيه إلى جزيرة ” واروس ” الكثيرة الأحراش ، وكان في الجزيرة بعض المسيحيين الذي تعرضوا للنفي ، فكانوا يقدمون له طعامه اليومي ويهتمون به ، حتى إسترد عقله وطمع في العودة للحكم ، ولكن قادة الجيش رفضوا ذلك قائلين ” أن هذا الرجل فقد عقله وأُصيب بالبله وعزلناه من الحكم فلا نريد أن نعيده(74) فصار حزيناً يبكي حتى أظلَّم عقله وفقد بصره0

         ولـم ينتهي الإضطهـــاد بنهاية حكم دقلديانــوس لأن ” جاليريوس ” الذي هو أكثر شراً وشراسة من دقلديانوس قد تولى إمبراطوراً للشرق وحرص على تفعيل ” المرسوم الرابع ” يعاونه في هذا ” مكسيميانوس دايا ” الذي إرتكب جرائم وحشية في الإسكندرية وكل مصر والخمس مدن الغربية ، فاشتعلت النيران ، ودُقت الصلبان ، وأُطلقت الوحوش الجائعة 00

أما في الإسكندرية فقد أقبل الشهداء على وسائل القتل والنيران المشتعلة كأنها مراكب نارية تقلهم للملكوت 00 نفث الشيطان كل غيظه وحقده وسمومه ليفني المسيحية عن وجه الأرض فإذ بشجرة المسيحية ترتوي بدماء الشهداء فتنمو وتترعرع وتزدهر وتمتد أغصانها إلى السماء ، وجنت المسيحية ثمار الإستشهاد وكسبت كثيراً أكثر مما خسرت ، لقد فضحت مبادئ المسيحية السامية فساد العبادة الوثنية ، ورأى الوثنيون روح الفرح والرجاء والرضى والثقة والإيمان والصفح والمحبة التي يتحلى بها الشهيد المسيحي ، فتدافعوا يعانقون صليب الإستشهاد ويحملونه بفرح سواء كانوا من النبلاء أو عامة الشعب أو العبيد ، فصار الموت ضعيفاً ، وصارت قوته وجبروته وسلطانه باهتاً ، فجاز فيه الرجال والنساء والشيوخ والأطفال برضى وسرور وفــرح ، والإعلانـات الإلهيَّة تعين وتسند الكارزين بالدم 00

قال الشهيد ” ترتليانـوس ” فـي رسالـة إلى مضطهديه : ” إستمروا في تعذيبنا ، إصحنونا إلى مسحوق ، فإن أعدادنا تتزايد بقدر ما تحصدوننا !0 إن دماء المسيحيين لهي بذار محصولهم 00 من ذا الذي بعد إنضمامه إلينا لا يشتاق إلى التألم(75)0

وقال الشهيد الفيلسوف ” يوستين ” في دفاعه المُقدَم للإمبراطور : ” ها أنت تستطيع أن ترى بوضوح أنه عندما تُقطع رؤوسنا ، ونُصلب ، ونُلقى للوحوش المفترسة ، ونُقيَّد بالسلاسل ، ونُلقى في النار ، إننا لا نترك إيماننا ، بل بقدر ما نُعاقب بهذه الضيقات بقدر ما ينضم مسيحيون أكثر إلى إيماننا وديانتنا باسم يسوع المسيح(76)0

كما قال الشهيد ” يوستين ” أيضاً : ” لا شئ يستطيع أن يحولنا عن إيماننا ، لا سيف القاتل ، ولا صليب الضيق ، ولا أنياب الوحوش الضارية ، ولا القيود ، ولا النار ، ولا العذاب بأي نوع ، بقدر ما يزيدوا آلامنا بقدر ما يزداد عدد المؤمنين ، وبقدر ما يزداد عدد التلاميذ الذي ينحازون إلى المسيح (77)0

نعم إن الإيمان بالمسيح صـار مجازفة تكلف الإنسان حياته ، وبالرغم من أن الحكام كان يقبلون أي عمل بسيط مثل وضع حبات بخور أمام الآلهة الوثنية فيطلقون سراح المتهمين بالمسيحية ، إلاَّ أن الأيدي المقدَّسة رفضت أن تتنجس بهذا العمل الشيطاني 00 نعم إضطر البعض أن يهجر بيته ، والأغنياء هجروا قصورهم ، وتواروا عن الأنظار هرباً بإيمانهم ، فعاشوا في الجبال والقفار وشقوق الأرض من أجل عظم محبتهم في الملك المسيح0

         وكتب ” يوسابيوس القيصري ” يقول : ” إستمر التعذيب والقتل يوماً بعد يوم ، وشهراً بعد شهر ، وسنة بعد سنة ، وكان يستشهد في اليوم الواحد خمسون وثمانون ومائة ، حتى أن القتلة أنفسهم يسأمون أو يسقطون أعياء0 وكان الهمجيون من القتلة يرمون النساء والأطفال من السجون بعد جرهم على الأرض في الشوارع إلى أن تتجرَّح أجسامهم وتسيل منها الدماء0 فتروي التربة المصرية وتضيف إلى خصوبتها نعمة(78) كما كتب أيضاً يقول : ” وعلى الرغم من هذا كله فإن الشعب المصري الأرثوذكسي إندفع بشجاعة عجيبة وجرأة نادرة إلى حيث تنتظره الأهوال في رضا وحبور0 وكان المحكوم عليهم يسيرون وسط أناشيد التسبيح والتهليل كما لو كانوا ذاهبين إلى عرس (79) 0

         وكتب آخر يقول : ” على نحو ما توجد الروح في الجسد ، هكذا المسيحيون في العالم 00الروح كائنة في الجسد ، لكنها ليست منه ، والمسيحيون مقيمون في العالم ، لكنهم ليسوا من العالم 00 والمسيحيون كلما تعرَّضوا للآلام والعذابات إزدادوا عدداً(80)0

         أما نفسية الشهيد فيعبر عنها ” الشهيد أغناطيوس ” قائلاً : ” إني أشتهي الإستشهاد لكي أُظهر ذاتي مسيحياً لا بالقول فقط ، بل بالفعل 00 إنني إن أفنتني النيران وحولتني رماداً 00 أو عُلقت على صليب متجرعاً كـأس ميتة بطيئة 00 لو أُطلقت عليَّ النمور الكاسرة ، والأسود الضاريـة ، وكسرت عظامي ، وهشمت أعضائي ، وسحقت جسدي برمته ، فإني متحمل كل ذلك بفرح 00 بشرط 00 أن أحظى بيسوع المسيح 00 لأنه ملك العالم بأسره 0 إن الموت لي لأجل يسوع المسيـح ، أفضل من أن أملك كل الأقطار ، لأن قلبي تائق إلى من مات لأجلي ، ونفسي مشتاقة لمن قام من الموت لأجلي ” 0

         وفـي السنـة الثامنـة من هذا الإضطهاد القاسي ، أُصيب ” جاليريوس ” بمرض خطير ، حتى أنه صار يصرخ ويطلب الرحمة والصفح من المسيحيين ، وإعتذر عن الأفعال الوحشية التي إرتكبها في حقهم ، معللاً ذلك بأنه كان يروم الحفاظ على سلامة الإمبراطورية ، وبعد أيام قليلة مات جاليريوس0

وفي خريف 308م وبعد إعتزال دقلديانوس سنة 305م ، أصدر ” مكسيميانوس دايا ” ” المرسوم الخامس ” بإعادة هياكل الأوثان ، فأقيمت الهياكل في كل مدينة ، وعيَّن في كل مقاطعة موظفاً سياسياً بمثابة رئيس كهنة ، وألزم الجميع رجالاً ونساءاً ، شيوخاً وأطفالاً لتقديم القرابين والأضاحي للآلهة الوثنية ، وأن يُكره المسيحيون على تذوق ما ذُبح للأوثان ، وخُلطت لحوم هذه الذبائح مع اللحوم المعروضة للبيع في الأسواق ، حتى يأكل منها المسيحيون بعلم أو بدون علم ، وصار الوثنيون يأخذون المياه أو النبيذ الذي إستعمل في تقديم ذبائح الآلهة الوثنية ، ويرشونه على الخضروات والفواكه المعروضة للبيع في الأسواق ، وزادوا من عذابات المسيحيين ، ففاضت أنهار أخرى من دمائهم البريئة ، وصارت الفترة من 308 – 311م أفظع فترة في تاريخ الإضطهاد في الشرق ، فإحتجت السماء وأعلنت غضبها فامتنعت الأمطار وعمت الأمراض والأوبئة ، فكثر الموتى ، وترك الوثنيون ذويهم ولم يهتموا بهم خشية العدوى ، فإهتم بهم المسيحيون ورعوا المرضى ودفنوا الموتى منهم0 أما المسيحية فما لبثت شامخة 0

ويصف ” يوسابيوس القيصري ” جانب من هذه الأهوال فيقول : ” وكانت بعض النساء من أشرف العائلات في المدن تتجولن في الأسواق للإستجداء ، وكانت تتبين عليهن دلائل الثراء السابق من إحتشامهن في مظهرهن ووقارهن في هيئتهن0 وإذ حل الضنك بالبعض وأصبحوا على حافة الموت فعثروا وتمايلوا هنا وهنالك ، وكانوا أضعف من أن يستطيعوا الوقوف ، فسقطوا في وسط الشوارع ، وكانوا وهم منطرحين يتوسلون أن تُعطى إليهم لقمة خبز صغيرة ، وفي أخر نفس يصرخون قائلين : جائع ، ولم تكن لهم قدرة إلاَّ على أن يبعثوا هذه الصرخة الأليمة جداً 00 ظلت الجثث العارية منطرحة وسط الأسواق والأزقة أياماً طويلة دون أن تُدفن ، فكانت منظراً أليماً جداً لمن شاهدوها ، وأصبح البعض أيضاً طعاماً للكلاب 00 والأسوأ من هذا تلك الأوبئة التي كانت تقضي على بيوت وعائلات برمتها 00 هكذا كان جزاء إفتخار مكسيميانوس ، وجزاء الإجراءات التي إتخذتها المدن ضدنا ، وعندئذ ظهرت لكل الوثنيين أدلة غيرة المسيحيين وتقواهم ، لأنهم وحدهم وسط تلك المصائب أظهروا عطفهم وإنسانيتهم بأعمالهم ، ففي كل يوم إستمر البعض في إظهار عنايتهم نحو الموتى ودفنهم 00 والآخرون كانوا يحملون في مكان واحد من عضتهم المجاعة بأنيابها في كل المدينة ويقدمون الطعام لهم جميعاً0 وهكذا أُذيعت بين الجميع هذه الأنباء فمجدوا إله المسيحيين ، وإذ إقتنعوا بالحقائق نفسها إعترفوا بأن المسيحيين هم الوحيدون الأتقياء والمتدينون (81)0

وكان ” دقلديانوس ” قد عيَّن بعض الولاة المشهورين بقسـاوة القلـب والتجبـر ، فعيَّـن ” أريانوس ” والياً لأنصنا ، و ” أرمانيوس ” والياً للإسكندرية ، و ” لومبيوس ” والياً للفرما ، وهلم جرا00 فظلوا في غيهم وظلمهم وقسوتهم وعجرفتهم بعد عصر دقلديانوس ، وإزدحمت مدينتنا العظمى بالآف الشهداء السكندرييـن أو الذيـن سيقـوا من خارج الإسكندرية ليقفوا أمام ” أرمانيوس ” الوالي الشرير ، وهكذا سيق الآلاف أيضاً إلى أنصنا ليمثلوا أمام ” أريانوس ” وهناك مدن ذهب إليها ” أريانوس ” فصار في كل بيتٍ منها شهيد أو أكثر ، وهوذا مدينتي ” أخميم ” و ” أسنا ” تقفان شاهدتان أمام التاريخ ، بل يقف التاريخ أمامهما طويلاً يقدم الإحترام والتوقير والتبجيل إكراماً لإبنائهما الأبطال الذين شهدوا للمسيح إلى النفس الأخير0

وإزاء شراسة الإضطهاد الذي أثاره ” دقلديانوس ” وأتباعـه ، وإذ أخذ السيف يعمل بلا هوادة ، خشى الشعب السكندري على الأب البطريرك ” قداسة البابا بطرس ” لئلا يمسه الإضطهاد ، ولشدة محبتهم له ضغطوا عليه لكيما يذهب إلى أرض فلسطين ، فرحل البابا وكان يراسل تلميذيه ” أرشيلاوس ” و ” ألكسندروس ” ، لكنه لم يقوى على إحتمال هـذا الفراق طويلاً ، فعاد إلى الديار المصرية ، وصار ” قداسـة البابا بطرس ” ينتقل من مكان إلى آخر ، ومن بلدة إلى أخرى يشجع أولاده على عبور محنة الإستشهاد ، فالسيف يحصد في أولاده يوماً فيوماً في طول البلاد وعرضها ، وقد تحوَّلت السجون إلى أماكن للعبادة والتسابيح والتهليل ، وروح الله يعمل في هذه النفوس المجاهدة فيهبها قوة وصبراً وإحتمالاً ومعونة0 والإستشهاد هو أقصر طريق للملكوت ، فصار البابا يُصبّر أولاده الذي سُلبت ممتلكاتهم ، فأي شهيد يتم إستشهاده تقوم الدولة على الفور بمصادرة ممتلكاته ، وتترك أسرته للعوز الشديد ، ولولا معاضدة ومساندة المؤمنين لهلك ألاف الأطفال جوعاً0

وتفنَّن الأشرار في وسائل تعذيب الأبرياء ، ومن هذه الوسائل ما يلي (82) :

  • السجن : في أماكن مظلمة رطبة ، حيث توثق الأيدي خلف الظهر ، وتضبط القدمان في المقطرة ، فيتعذر على الإنسان الجلوس أو النوم ، ولولا المعونة الإلهيَّة لانهار الآلاف ، ولكن بلا شك كانت هناك معونة إلهيَّة خفية سندت الشهداء حتى وصلت بهم إلى بر الملكوت0
  • العمل في المناجم : في ظروف قاسية للغاية تحت شمس الصحراء اللافحة ، ولهيب السياط ، ومن الذين سيقوا للعمل في المناجم بعض المعترفين الذين تعرضت إحدى أطرافهم للبتر ، فيعملون ويبذلون جهداً أكبر من طاقتهم جداً جداً ولا يجدن قوت يومهم ولا كأس الماء الذي يروي ظمأهم ، فمات منهم الكثيرون الذين عدتهم الكنيسة في رتبة الشهداء0
  • إجبار البعض على لبس أحذية تبرز منها أسنان مسامير ، كما حدث مع مار جرجس0
  • التعليق في الهواء : من يد واحدة أو رجل واحدة0
  • نزع الأظافر ، وسحق الأعضاء ، حتى تبرز العظام من خلال اللحم المهراء0
  • السحل : على الأرض فتسيل الدماء لتروي الأرض كما حدث مع مار مرقس0
  • الإلقاء في بحيرات الثلج حتى الموت ، كما حدث مع الأربعين شهيداً بسبسطه0
  • سلخ الجلد : وترك الإنسان ليموت موتاً بطيئاً0
  • العصر بالهنبازين : والهنبازين عبارة عن دولاب يتحرك نصفه العلوي في إتجاه عكسي لنصفه الأسفل الذي تبرز منه سكاكين حادة تشرح جسد الشهيد0
  • الزيت المغلي ، والقار المغلي ، والرصاص السائل0
  • تعذيب الإنسان حتى يقارب الموت ، ثم يُدفن حيَّاً0
  • الغرق : ربط حجر طاحونة في رقبة الإنسان وربط يديه وإلقاءه في البحر0
  • الحرق : شوي الجسد على نار هادئة أو ربط الشهيد في سرير حديد وإشعال النيران أسفله0
  • تغطية بعض أعضاء الجسم بقطعة كتان مبللة بالزيت وإشعال النيران فيها فيذوب الشحم ويتساقط كالشمع0
  • بتر بعض الأعضاء0
  • فقأ إحدى العينين أو كليهما0
  • الضرب بالسيف أو الفأس ، وهذه أسهل الميتات جميعاً0
  • الصلب وهي أصعب الميتات0
  • الإلقاء للحيوانات المفترسة0
  • الحرق الجماعي للرجال والنساء والأطفال والشيوخ0

وأترك المؤرخ الكبير ” يوسابيوس القيصري ” كشاهد عيان ليحكي لنا القليل عن قسوة الإضطهادات :

إنه ليعسر على الكاتب الماهر أن يصف مقدار ما تجرعه الشهداء في مصر من ألوان العذابات القاسية والآلام التي تشيب من ذكرها النواصي0 فقد كانوا يأتون بأولئك الشهداء ويشقون بالخناجر أجسادهم ، ويروحون ينزعون عنها الجلد عضواً عضواً حتى تُزهق الروح 0 أما النساء فقد كانت تُربط الواحدة منهن من إحدى قدميها وتُرفع في الهواء بآلة مخصصة لذلك ، وتظل معلقة هكذا بصورة تنفر منها الإنسانية حتى تزهق روحها0 وكانوا يقربون غصنين قويين من شجرتين متقاربتين بآلة صنعوها لهذا الغرض ، ثم يجيئون بالشهيد ويربطونه بهذين الغصنين ، ثم يتركونهما ليعودوا إلى وضعهما الأول ، والشهيد بينهما تتمزق أضلاعه وتُسحق عظامه سحقاً فتتطاير أشلاء جسمه في الفضاء0 وقد كانت هذه الفظائع تستمر أعواماً طويلة ، وكثيراً ما كان يصدر حكم بقتل عشرة أشخاص في لحظة واحـدة ، وأحياناً بقتل عشرين مرة واحدة ، وأحياناً ثلاثين ، وأحياناً ستين0 وقد حكموا مرة على مائة رجل بالموت فماتوا في يوم واحد مع زوجاتهم وأولادهم الصغار ، بعد أن ذاقوا من العذابات ما تقشعر منه الأبدان(83)0

وفي حديث ” يوسابيوس القيصري ” عن شهداء مصر يقول ” مات ميتات مختلفة ألوف من الرجال والنساء والأطفال ، محتقرين الحياة الحاضرة من أجل تعاليم مخلصنا0 فالبعض أُلقوا في النيران 00 وأنواع لا عدد لها من التعذيب بطريقة تقشعر لها الأبدان حتى من مجرد سماعها0 والبعض أُغرقوا في البحر ، والبعض قدموا رؤوسهم بشجاعة لمن قطعوها ، والبعض ماتوا تحت أيدي معذبيهم ، والآخرون هلكوا جوعاً وآخرون صُلبوا بعضهم بالطريقة المعتادة لصلب المجرمين ، والآخرون بطريقة أشنع إذ كانوا يُسمرون على الصليب ورؤوسهم منكسة إلى أسفل ، ويتركون أحياء على الصليب حتى يموتوا جوعاً (84)0

كما يقول أيضاً ” وقد شاهدت بعيني بينما كنت واقفاً بقرب النطع جمعاً غفيراً من المسيحيين جُمعوا لينالوا الشهادة ولكن بطرق مختلفة ، فكان بعضهم تجز رؤوسهم وبعضهم يحرقون في آتون النار المتقدة حتى أن السيف الذي كانت تُقطع به الرؤوس تلم وكلَّ حده وتحطم تحطيماً لكثرة ما سحق من الرقاب ، وكذلك السيافون تعبوا وخارت قواهم من ذبح الآدميين ، فكانوا يستريحون هنيهة ريثما يتنفسون الصعداء 00 إننا نحن شهود عدل على ما شاهدناه بأعيينا من الغيرة الخارقة ، والقوة الإلهيَّة الصحيحة والفرح في الروح القدس الذي ملأ قلوب هؤلاء الذين يؤمنون بالمسيح إبن الله إيماناً متيناً جعلهم يتقبلون الموت بصدور منشرحة وثغور باسمة ، حتى أنه عندما كان يصدر الحكم على واحد منهم بالإعدام كان الآخرون يندفعون من كل حدب مزدحمين في المحكمة أمام القاضي معترفين له بأنهم مسيحيين غير مبالين بما يلحق بهم من عذابات مريعة وإضطهادات شنيعة ، بل كانوا يجاهرون بكل صراحة وشجاعة بديانتهم الحقيقية التي تعلّم بوجود إله واحد عظيم خالق السماء والأرض والبحر وكل ما فيها0 ومن العجيب أنه عندما يصدر الحكم النهائي بموتهم ، كانوا يقابلون هذا الحكم بفرح وتهليل ، حتى أنهم كانوا يرنمون ويرتلون أغاني الحمد والشكر لله الذي آهلهم لأن يموتوا لأجله ، وكانوا يظلون يفرحون ويطربون إلى آخر نسمة من حياتهم عندما تفارق أرواحهم أجسادهم(85)0

ويقول ” يوسابيوس القيصري ” أيضاً عن هذه العذابات البشعة ” وكانوا يقطعون أصابع المسيحيين بالحديد المحمي بالنار ، وينزعون جفونهم ويحرقون عيونهم ، حتى إذا صمد الشهيد وإحتمل كل تلك الآلام ، قادوه رغماً عنه إلى مذبح الآلهة ووضعوا النار والبخور فوق يديه ، وأعتبروه جاحداً للإيمان ، ثم ألقوا به وهو شبه ميت إلى الوحوش تلتهمه ، فإذا جاهر أحد المسيحيين بإيمانه ضربوه على فمه وأجبروه على الصمت0 فإذا صمت أعتبروه مستسلماً وخاضعاً وأعتبروا أنفسهم منتصرين عليه ، وقد حاول رجال الشرطة أن يبذروا الشك في قلوب المسيحيين بوسائل شتى ، فكانوا مثلاً يقبضون على أحد الكهنة ويسجنونه بضعة أيام ، ثم يطلقون سراحه معلنين أنه قد جحد إيمانه وخضع لأوامر الحكام ، وكانوا بين الحين والحين ينفذون حكم الإعدام في جماعات عظيمة من الأقباط ليلقوا الفزع والرعب في قلوب الآخرين المتمسكين بإيمانهم ، وكانوا يخترعون أنواعاً عديدة من العذاب ليجعلوا موت المؤمنين أقسى ألماً وأبشع وأشنع عذاباً (86)0

وحدث في الإسكندرية أنه ” أُقتيد أحد المؤمنين الغيورين وإسمه ” أغابيوس ” إلى ساحة الإستشهاد ، وقدموه إلى الوحوش الضارية مع ” القديسة تكلا ” ، لمجرد العرض المسرحي ، ثم سحبوه ، ثم أعادوه إلى هذا العرض مرة ثانية ثم سجنوه ، وفي المرة التالية كان الإمبراطور حاضراً فأتوا بالقديس ، فدخل إلى الساحة أحد المجرمين الذي كان قد قتل سيده ، وقبل إلقائهما إلى الوحوش تراءف الإمبراطور على القاتل ، قائلاً : أنه جدير بالرحمة والعطـف ، فدوَّت الساحة بالتهليل والهتاف للعفو عن القاتل0 وأما ” أغابيوس ” المتمسك بعقيدته فقد أُقتيد أمام الإمبراطور ، فطلب منه أن يجحد إيمانه حتى ينال حريته ، فأجابه ” أغابيوس ” قائلاً :

إنني لا أُحاكم من أجل جريمة إرتكبتها ، بل من أجل إيماني بدين الإله الحقيقي للعالم ، ولذلك فأنني سأحتمل بكل شجاعة كل العذاب الذي سيلحق بي 00

         وقد ألقى الحكام الوثنيون القبض على شاب آخر جاهر بمسيحيته ، فانهال عليه الجنود ضرباً ، ثم ألقوه في السجن مقيَّداً بالأغلال الحديدية 0 وعندما جئ به أمام الحاكم طلب منه أن يقدم الذبائح للآلهة فرفض ، فمزقوا لحمه حتى ظهر عظامه وتشوه وجهه من اللكمات والضربات التي إنهالت عليه0 وإذ إستمر في إيمانه بعد هذا كله ربطوا قدميه بلفائف مبللة بالزيت ثم أشعلوا فيه النار0 وبعد أن إحترق ألقوا ما تبقى منه في البحر(87)0

         لقد كانت الوحوش المفترسة أحياناً أرحم من هؤلاء الأباطرة ، ويحكي ” يوسابيوس القيصري ” بعض المشاهد عن المؤمنين الذي تم جلدهم قبل أن يُلقوا للوحوش ليستثيروا غريزة الإفتراس لديها فيقول ” ونحن أنفسنا كنا حاضرين عندما تمت هذه الحوادث ، ودوَّنا قوة مخلصنا يسوع المسيح الإلهيَّة التي تجلت 00 ظلت الوحوش الملتهمة البشر وقتاً طويلاً لا تتجاسر على أن تلمس أو تقترب من أجساد أعزاء الله هؤلاء 00 لم تجرؤ قط أن تمس الأبطال المباركين وهم واقفون وحدهم عرايا 00 كلما هجمت عليهم كانت تقف وتتراجع وكأن قوة إلهيَّة قد صدتها0 ظل هذا وقتاً طويلاً وأحدث دهشة كبيرة للمتفرجين ، وعندما كان الوحش الأول لا يفعل شيئاً كان يطلق سراح وحش ثان وثالث ضد نفس الشهيد الواحد0

         ولم يكن المرء يتمالك نفسه من الدهشة أما الثبات الذي لا يُقهر الذي أبداه هؤلاء المباركون 00 فكنت ترى شاباً لم يكمل بعد السنة الثانية والعشرين واقفاً غير مُوثَق وباسطاً يديه على شكل صليب ، بعقل غير متخوف أو غير مرتعب ، منشغلاً في صلاة حارة لله ، دون أن يتراجـع على الإطلاق عن المكان الذي وقف فيه ، بينما تكاد النمور والدبب تلمس جسده وهي تنفث تهديداً وقتلاً 00 وكنت ترى آخرين – كانوا خمسة – طُرحوا أمام ثور بري كان يقذف في الهواء بقرنيه كل من إقترب إليه من الخارج ويمزقه ويتركه بين حي وميت ، ولكنه عندما هجم بوحشية على الشهداء الأطهار ، وكانوا واقفين وحدهم ، لم يستطع أن يقترب منهم ، ورغم أنه رفس بقدميه أو بهز بقرنيه في كل جهة ونفث تهديداً وقتلاً بسبب تهيجه من الحديد المحمي الذي كان يُنخس به ، فقد تراجع إلى الوراء بقوة إلهيَّة ، وإذ لم يلحق بهم أي أذى أطلقوا عليهم وحوشاً أخرى 0 وأخيراً وبعد هذه الهجمات المروعة عليهم ، قُتلوا جميعاً بالسيف ، وبدلاً من دفنهم في الأرض طُرحوا في أعماق البحر (88)0

         ويحكي ” يوسابيوس القيصري ” أيضاً عن يأس الحكام من صمود المسيحيين فبدأوا يكتفون بقلع عيونهم فيقول ” ولكنهم في ختام هذه المصائب ، لما عجزوا نهائياً عن تدبير أنواع من القسوة أشد ، ووهنت قواهم في تنفيذ أحكام الموت ، وشبعوا بل بشموا من سفك الدماء ، تحوَّلوا إلى معاملة إعتبروها رحمة وإنسانية ، وهي أنهم تظاهروا بأنهم كفوا عن أن يدبروا أهوالاً ضدنا0 لأنهم قالوا أنه لا يليق أن تتلطخ المدن بدماء شعبهم ، أو أن تشوَّه سمعة حكومتهم 00 لذلك أمروا بقلع عيوننا وجدع أحد أطرافنا ، وأُعتبرت هذه في نظرهم شفقة 00 يستحيل التحدث عن العدد الذي لا يُحصى ممن فقئت عيونهم ، أولاً بالسيف ، ثم كويت بالنار 00 وفي كل هذا النضال أضاء شهداء المسيح النبلاء العالم كله ، وأذهلوا في كل مكان من شهد ببسالتهم ، وقد تجلت فيهم أدلة قوة مخلصنا الحقيقية الإلهيَّة التي لا يعبر عنها (89)

         وبينما جرت الإضطهادات من جانب الحكام والولاة والأباطرة ، فإن الكنيسة لم تكف عن مساندة الشهداء والإهتمام بأسرهم ، وجاء كوكب البرية ” الأنبا أنطونيوس ” ( سنة 311م ) من الصحراء الشرقية إلى مدينة الإسكندرية ، فقد كان يشتهي الإستشهاد ، فأخذ يزور السجون ويعظ المسجونين ، ويحدثهم عن زوال العالم سريعاً ومجده الباطل من جانب ، ومن الجانب الآخر يحدثهم عن أمجاد السماء وسمو الإستشهاد وسعادة ومجد وعظمة وكرامة الشهداء ، وبهذا كان يشجعهم على نوال أكاليل الشهادة ، ويشاركهم الصلاة والتسابيح ، ويحضر معهم المحاكمات ، ولا يكف عن مساندتهم 0 وفي إحدى المرات لبس ثوباً أبيض وإعتلى رابية كان الحاكم مزمعاً أن يمر بها ، معلناً مسيحيته0 أما الحاكم فأُعجب بشهامته ونظر إليه بإحترام وتركه وعبر0

(70)   معالي حسين محمد علي – رسالة ماجستير – الإمبراطور دقلديانوس ( 284 – 305م ) ص 76 ، 77

(71)   القمص مكسيموس وصفي – القديس موريس والكتيبة الطبية ص 11 ، 12

(72)  راجع  منيرة محمد الهمشري – النظام الإداري والإقتصادي في عهد دقلديانوس 284 – 305م ص 64

(73)   راجع معالي حسين محمد علي – رسالة ماجستير – الإمبراطور دقلديانوس 284 – 305م

(74)   يوحنا النفيوسي ص 418 ، 419 – كامل صالح نخلة – حياة البابا بطرس الأول خاتم الشهداء ص 19 ، 20

(75)   ملاك لوقا – البابا بطرس خاتم الشهداء ص 70

(76)   المرجع السابق ص 70

(77)   المرجع السابق ص 71

(78)   المرجع السابق ص 30 ، 31

(79)   المرجع السابق ص 31

(80)   من الرسالة إلى ديوجنيس – الأنبا يؤانس أسقف الغربية – الإستشهاد في المسيحية ص 19

(81)   ترجمة القس مرقس داود – تاريخ الكنيسة ص 427 ، 428

(82)   راجع زكي شنودة – الشهداء ص 106 – 110

(83)   المرجع السابق ص 72 ، وراجع يوسابيوس القيصري – ترجمة القس مرقس داود – تاريخ الكنيسة ص 369 ، 370

(84)   ترجمة القس مرقس داود – تاريخ الكنيسة ص 369

(85)  د0 ميخائيل مكس إسكندر – تاريخ الكنيسة المصرية لبوتشر ص 182 ، 183

(86)   زكي شنودة – الشهداء ص 72 ، 73

(87)   د0 مصطفى العبادي – من الإسكندر الأكبر إلى الفتح العربي ص 282

(88)   ترجمة القس مرقس داود – تاريخ الكنيسة ص 368

(89)   المرجع السابق ص 375 ، 376

 

أبواب السماء ف10 – كتاب البحار المغامر – حلمي القمص يعقوب

تقييم المستخدمون: كن أول المصوتون !