روايات مسيحيةكتب

وصار السجن سماء ف13 – كتاب البحار المغامر – حلمي القمص يعقوب

وصار السجن سماء ف13 - كتاب البحار المغامر - حلمي القمص يعقوب

وصار السجن سماء ف13 – كتاب البحار المغامر – حلمي القمص يعقوب

وصار السجن سماء ف13 - كتاب البحار المغامر - حلمي القمص يعقوب
وصار السجن سماء ف13 – كتاب البحار المغامر – حلمي القمص يعقوب

 

 

الفصل الثالث عشر : وصار السجن سماءاً

 

         وفي شهر أغسطس ( أول مسرى ) سنة 311م ، ومع بداية صوم ” العذراء مريم والدة الإله ” أقامت كاتدرائية العذراء مريم ذات الألف عمود نهضة روحية ، فأقيمت القداسات صباح كل يوم والعشيات والعظات مساء كل يوم ، وإحتشدت الجموع وإرتفعت أصوات الترانيم والتسابيح 00 هوذا المسيحيون الشجعان يتحدون الموت ، فلم يعد منظر الإستشهاد وسفك الدماء ، وذبح الأباء والأبناء أمام أعينهم يهزهم ، إنما كانوا يحيطون بساحات الإستشهاد ، يطلقون صلوات سهمية تجاه السماء من أجل المتقدمين للإستشهاد ، ليصلوا بسلام إلى أورشليم السمائية حيث الأحضان الإلهيَّة ، والسماء لم تبخل أبداً عن إعلان مساندتها للشهداء ، إذ تفتح أعينهم ليعاينوا شيئاً من أمجادها ، وأيضاً تعين السماء وتعضد هؤلاء الأبرياء فيحتملون من الألم على قدر طاقتهم ، وكل مازاد عن طاقتهم لا يشعرون به على الإطلاق ، لأن سيدهم المصلوب يحملها عنهم 00

         وإختلط الإستشهاد بالأمجاد ، والموت بالحياة ، وهكذا سارت الحياة ولم تتوقف ، فالناس هنا في الإسكندرية مدينة الشهداء المحليين والوافدين إليها يعيشون حياتهم في وداعة ورضى وسلام ، بل يعيشون أمجد أيامهم ، لأن السماء قد إنفتحت على الأرض 00 حقاً أنه أمر عجيب أن تعيش في مجتمع كهذا ، فأبيك أو إبنك الذي يعيش معك اليوم ، قد لا يُكمل اليوم معك ، بل يفارقك سريعاً إلى ساحة الإستشهاد ، وينطلق منها إلى السماء ، وقد غيَّر عنوان إقامته 00 عجيب أن تعيش في حرب عجيبة وصراع غريب كهذا ، فهو حرب وصراع من جانب واحد ، متغطرس قوي ومتجبر عنيد ، أما الطرف الآخر فالوداعة هي سمته وطيبة القلب عنوان حياته 00 إنها حياة الحملان الوديعة التي لا تعرف العداوة ، إنما تحب الذئاب وتصلي بلجاجة من أجلهم ، وصلواتهم تستجاب ، حتى أن أعداد المتنصرين تفوق كثيراً أعداد الشهداء 00 إنظر كم جذب مارجرجس من نفوس ضالة وشريدة ؟!0

إن ذئباً واحداً لو أُلقي بين غنم كثير ولو بلغ عدة آلاف لأرتعب القطيع كله رغم عدم قدرة الذئب على إفتراس الكل !! لكن الكل يخافونه 00 فأي مشورة ، أو أي تدبير ، وأية قوة هذه حتى لا يبث الله ذئباً وسط الغنم ، بل يرسل غنماً وسط الذئاب !! 00 إنه لا يقترب بهم نحو الذئاب بل في وسط الذئاب0

إنظر !! 00 لقد كان هناك قطيع من الذئاب وقلة من الغنم فعندما إفترست الذئـاب الكثيـرة الغنمات القليلة 00 تحوَّلت الذئاب إلى غنم !!(94)0

         وفي قداس عيد العذراء مريم إبتهج الشعب السكندري إذ فرَّح ” قداسة البابا بطرس ” القلوب بسيامة تلميذيه المشهود لهما من الجميع ” أرشيلاوس ” و ” ألكسندروس ” ، فمنحهما نعمة الكهنوت ، إذ سامهما قسين على كنيسة الله الجامعة المقدَّسة بالمدينة العظمى الإسكندرية ، بأسميّ ” القس أرشيلاوس ” و ” القس ألكسندروس “0

         ومرت أيام قلائل ، وإذ جلبـة وضوضاء في فناء الكاتدرائية ، وأسرع أبوينا أرشيلاوس وألكسنـدروس يستطلعا الخبر ، وإذ بخمسة من كبار الضباط مع جنودهم الرومان في الفناء 00 لماذا جاءوا ؟! 00 وماذا يريدون ؟! 00 وفي لحظات إحتشد الفناء بالمسيحيين الذين أسرعوا على عجل يستوضحون الأمر ، والأمر العجيب أن هؤلاء الجنود القساة الذين ترتسم ملامح الشراسة على وجوههم في مأموريتهم هذه يبدو عليهم السلام والإطمئنان الكامل ، فهم يثقون ثقة عمياء أنهم لن يضطروا لإستخدام سيوفهم قط ، ولن يدخلوا في معركة مـع هـذا القطيـع الوديع0 وإستفسر ” أبونا ألكسندروس ” بلباقة وأدب جم من قائد المهمة عن طبيعة مهمتهــم فأخبـره القائــد بأنهـم مُرسَلين من قبل الإمبراطور ” ماكسيميان ” لإلقاء القبض على ” البابا بطرس ” أسقف الإسكندرية للأسباب الآتية :

  • تحقير البابا بطرس للآلهة ، وتحريض الآخرين على رفض السجود لآلهتنا العظيمة0
  • تجرؤ البابا بطرس على إقامة الشعائر المسيحية جهراً0
  • شكوى سقراطيس ضد البابا الذي عمد إبنيه بدون رغبته0

وإذ بباب القلاية البطريركية يُفتح ، وإذ بـ ” قداسة البابا بطرس ” يخرج وبيده عصا الرعاية ، يرتدي ملابسه وكأنه ذاهب في مهمة رسمية ، وإشراقة جميلة تطل على وجهه الوديع ، وتقدم بهدوء ووقار فحيَّا قائد الجند 00 لم يسأله : لماذا أتيت ؟! أو ماذا تريد ؟! بل تصرف وكأنه عالِم بكل شئ ، إذ قال لهذا القائد : هيا بنا 00

وحلت الدهشة والوجوم على الوجوه ، وكأن على رؤوسهم الطير ، فالكل فقد القدرة ليس على التصرف فقط ، بل حتى عن التعبير عما يعتمل من مشاعر داخل نفسه 00 فمادام البابا سلَّم نفسه بإرادته ، فمن يجرؤ أن يدافع عنه ، وجالت نظرات البابا سريعاً بين تلك الوجوه 00 إنها نظرات وداع أب عظيم لأبناء عظماء 00 يبدو الموقف وكأنك في جنازة مهيبة والمصيبة جلل 00 الكل يدرك أن خروج البابا من هذا المكان مع هؤلاء الجنود الرومان يعني أمراً واحداً لا غير ، وهو أن قداسة البابا لن يدخل هذا المكان ثانية على قدميه 00 كان من السهل على الحشد أن يعيق هذه القوة الرومانية ويمنح الفرصة للبابا للهرب ، لكن ماذا يفعلون إن كانت هذه إرادة البابا ورغبته التي إشتهاها على مدار أعوام طويلة 00 إن أحداً من الواقفين لن ينطق ببنت شفةٍ0

وإكتسب ” قداسة البابا بطرس ” إعجاب وإحترام ضباط الإمبراطور وجنوده ، فلو لم يسلم هذا الرجل الشجاع نفسه لهم ربما لإستحال عليهم تأدية المهمة المكلفين بها وسط حشد يفيض حباً ووجداناً تجاه باباه ، فكـل منهم مستعد أن يموت عشرات المرات ولا يسلـم أبيــه للمــوت ، ولاسيما أبوينـا ” أرشيلاوس ” و ” ألكسندروس ” ، والبحار المغامر الضابط ” ديمتري ” الذي توافق وجوده في هذه اللحظات الأليمة ، وهو يبدو عليه التوتر ، وأنه يبذل قصارى جهده لضبط نفسه ، حتى لا يرتكب حماقة ، وهو المتمرن على فنون القتال والمعارك ، مما يغضب أبيه الروحي ، فظل ملاصقاً للبابا لم يقدر أحد على زحزحته ، وعندما تقدم البابا ليعتلي العربة الرومانية التي يجرها إثنان من الجياد البيضاء المختارة ، وضع ديمتري في نفسه أن يرافق البابا مهما كان الثمن ، وأدرك البابا ما يمكن أن يحدث من إشتباك وسفك دماء ، وإذ بالبابا يأمر ديمتري : إبقى هنا ياإبني 00

فكان هذا أصعب أمـر يتلقاه ” ديمتري ” في حياته المدنية والعسكرية ، وبصعوبة تفوق الوصف أطاع 00

         وما أن جلس البابا في العربة بين جنديين رومانيين مفتولي العضلات حتى أطلق قائد المركبة العنان لجياده لتعبر إلى الطريق الكانوبي الذي يصل بك إلى السجن العمومي على بُعد نحو ثلاثة كيلومترات00 إنطلقت الجياد تسابق الريح ، وسط كوكبة من الفرسان ، وكأنـه موكـب إمبراطوري ، وأعين الكل تتعلق بالموكب 00

         وقف ” ديمتري ” مصدوماً ، و ” أبونا أرشيلاوس ” يطلب من الواقفين الدخول إلى داخل الكنيسة ليرفعوا شكواهم للسماء0 أما مشاعر ” أبونا ألكسندروس ” فهي كانت مشاعر إليشع ومعلمه يُخطف منه ، وليس له إلاَّ الصراخ الصامت من عمق القلب ” ياأبي ياأبي 00 مركبات إسرائيل وفرسانها “00

وسريعاً ما طارت الأخبار فعمت الأرجاء وإرتجت المدينة العظمى الإسكندرية 00 منذ أن قُبض على البطريرك الأول وسحل في شوارع الإسكندرية ، منذ أكثر من مائتي عام ، وحتى البابا بطرس السابع عشر لم يُقَد أحد من الآباء البطاركة إلى ساحة الإستشهاد ، ولهذا إرتجت المدينة العظمى لهـذا الحدث الجلل ، وتباينت المشاعر ، فالذين يعلمون شخصية البابا جيداً ، وأن هذه هي رغبته منذ سنوات ، سلموا الأمر لله ضابط الكـل ، وإرتضوا بالوضع القائم ، وعلى رأس هؤلاء أبوينا أرشيلاوس وألكسندروس ، أما البعض الآخر فكان الأمر أصعب من إحتمالهم ، فصاروا يصارعون مع الله : لماذا يارب ؟! 00 إلى متى ؟! 00 أين قوتك وعملك وسـط شعبــك ؟! 00 وعلـى رأس هؤلاء الضابط الصالح ” ديمتري ” وصديقه ” ميناس ” 00 وقليل من المسيحيين إمتلأت صدورهم بالغضب والثورة العارمة ، وجميعهم من الشباب المملوء بالحيوية والغيرة ، فأخذ ينادي أن الحل في المقاومة المسلحة للمستعمر الروماني ، فيجب أن يرحل0

لم تمر دقائق قليلة إلاَّ وكان ” قداسة البابا بطرس ” في أعماق السجن العام ، وما أن وطأت قدمـاه السجن حتى إرتج السجن ، فمئات من الكهنة والشمامسة والأراخنة الذين سبق القبض عليهم تجمعوا في غمضة عين ، وكأنهم كانوا في إنتظار البابا ، وإذ هم يقفون مواجهة أمام باباهم الحبيب ، تضاربت المشاعر ، فالقلوب تهلَّلت فرحاً برؤية باباها ، وفي نفس الوقت حلَّ بها الأسى العميق على الراعي الأمين ، فمكتوب ” إضرب الراعي فتتشتَّت الغنم ” ، لذلك لم تكن رغبة أحد منهم أن يرى باباه في هذا المكان 00

أما ” قداسة البابا بطرس ” بوجهه البشوش الوديع فقد أضفى سلاماً على تلك القلوب الواجفة ، ورحب بهم وكأنه في قلايته البطريركية ، وطلب منهم الجلوس ، فجلس الجميع ولم يعد يُسمع صوت في المكان ولو همس بسيط ، فكل ما يُسمع هو الصوت الوديع الهادئ صوت البابا بطرس المُحب الذي حمل صورة سيده الفادي ، فأخذ يعظ أولاده ويثبتهم على الإيمان : فجميع الذين يريدون أن يعيشوا بالتقوى في المسيح يسوع يضطهدون ، ولم يعد السجن ولا العذابات ولا القتل عقوبة ، إنما بركة للأجيال تجدد شباب كنيسة المصلوب من جيل إلى جيل 0 ثم سُمع بين جدران السجن صوت التسبيح ، وتحوَّل السجن إلى سماء 00 عجباً ياربي عجباً 00 أليس هذا المكان هو مكان اللصوص والمجرمين وسافكي الدماء 00 فما بالي أراه قد إمتلأ بالنفوس الوديعة البريئة حلوة المعشر ، حتى أنه بالحقيقة لم يعد هنا مكان لقاتل أو زاني ؟! 00 فقد رأت السلطات أن المتهم بالمسيحية هو الأولى بالسجن من أي مجرم آخر ، فالمسيحية هي الأشد خطراً على الإمبراطورية الرومانية من أي شر آخر 00 فرح الإمبراطور بإيداع أتباع يسوع الوديع الهادئ هذه السجون ، وفرحت السماء بهذه النفوس التي تُمجِد إسم يسوع بما تتحمله من آلام وعذابات تفوق الوصف شهادة للحق0

وفي مساء هذا اليوم عاد ” ديمتري ” إلى منزله ، وكل مشاعره منهمكة بالحدث الجلل ، وجافى النوم جفونه ، فظل مستلقياً على ظهره ، بينما حلَّقت أفكاره في الآفاق العالية علو السموات : ماذا كان يمكن أن يحدث اليوم لو لم يقل لي أبي البابا بطرس ” إبقَ هنا ياإبني ” 00

بلاشك أن الجنود كانوا سيتصدون لي ، وبلاشك أيضاً أنني لن أقدر على ضبط نفسي0 إذاً الأمر كان سيحسم بمجرد أن يبدأ ، فعدة لكمات من قبضتي وعدة طعنات نافذة من خناجرهم ، تسيل دمائي على أعتاب الكاتدرائية ، وهوذا المقابر خلف السور الغربي00

حقاً كان هذا شرف لي حُرمت منه فإن كنتُ لا أستطيع فداء أبي ، لكنني أكون قد أخذتُ فرصتي في التعبير عن حبي بدمائي 00 لكن لا تنسى ياديمتري أن إلهك قال : ” رد السيف إلى غمده فالذين يأخذون بالسيف بالسيف يؤخذون ” 00

ثم تنبه ” ديمتري ” لكلمة ” إلهك ” !! 00 وحلَّقت أفكاره أعلى وأعلى : أنظر ياديمتري أن أبيك الصالح البابا بطرس قد فداك من موت مُحقَّق اليوم وذهب إلى السجن ، فلماذا ترفض الحب الذي يقود المُحب للتضحية 00 يهوه يصير إنساناً !! 00 ربما من أجل الحب الأبوي 00 يهوه يُضرب ويُهان ويُعرى ويُصلب ويموت !! 00 ربما من أجل الحب الإلهي الذي قال لي عنه أبي البابا بطرس أنه يفوق الحب الأبوي 00 ولحظات لم يدري ديمتري بنفسه ، إذ نام نوماً هادئاً ، فلم يعد صوت العقل يزعجه ، وبدأ يستريح لفكرة التجسد الإلهي والفداء 00 وقال في نفسه : آه 00 لو كان هذا الأمر حقيقة 00 فما أجمله وما أعظمه أن يهوه يقترب مني بهذه الصورة 00 يصير إنساناً مثلي ، ويموت ليفديني ، ويقوم ويقيمني معه 00

ومرت الأيام ، والبابا قابع في سجنه ، يعمل عملاً جباراً ، فقد صيَّر السجن سماء من جهة ، ومن جهة أخرى إلتهبت الكنيسة بأصوام وصلوات قوية ، وسرت موجة عارمة من الروحانية عمت الشعب 00 صارت السماء منفتحة على أرض الإسكندرية ، فصارت الإسكندرية بكل أحياءها سماء ، لأنه لا يوجد حي واحد من أحياء الإسكندرية يخلو من الشهداء والمعترفين 0 وصار أبوينا أرشيلاوس وألكسندروس وسيلة الصلة بين قداسة البابا وشعبه ، يحملون له آمال شعبه وآلامهم ويحملون للشعب صلوات البابا ونصائحه الثمينة لهم0

وأرسل والي الإسكندرية للإمبراطور ” مكسيميانوس دايا ” يخبره بأن أوامره المقدَّسة قد تم تنفيذها بالتمام ، وهوذا ” البابا بطرس ” أسقف الإسكندرية رهن السجن ، وطلب مشورته ، هل يرسله إليه أم ماذا يفعل إزاءه ؟ 00

وفي الإسكندرية تجد شخصاً قلقاً للغاية على حياة البابا ليس بسبب محبته له ، بل بسبب محبته لنفسه ، فهو شخص لا مبدأ له ، يظهر غير ما يبطن ، ولذلك إدَّعى كذباً أنه عاد إلى الإيمان المستقيم ، ويخشى أن البابا يستشهد وهو غاضب عليه ، والحقيقة أنه كان يطمع في سماحة البابا ورضاه عنه ، لأن آماله العريضة وأحلامه المتسعة صوَّرت له أنه يمكن أن يكون البابا القادم بعد إستشهاد البابا بطرس 00

فماذا فعل ” أريوس ” ؟ 00 لقد خدع بعض الآباء الكهنة والأراخنة متمسكناً أمامهم ، طالباً وساطتهم لدى البابا ليحله من الحُرم الذي سبق وأوقعه عليه ، ونجح هذا الوفد في الحصول على تصريح جماعي للقاء قداسة البابا في سجنه0

وسعد الوفد بلقاء بقداسة البابا 00 قبلوا يديه في لهفة وشوق ، وإنحنوا أمامـه طالبيــن بركته ونصائحه ، ثم قالوا له :  نحن نتقدم إلى قداستكم ، ونلجأ إلى عطفكم وحنانكم ، ونخضع لرئاستكم ، فقد تحملت ياسيدنا الآلام والإغتراب من أجل السيد المسيح 0 حقاً دعاك الرب أيها الآب المثلث الطوبي لتقبل إكليل الإستشهاد وذلك لسمو إيمانك 00 فهل يحق لنا أن نطمع في تقواك كما إعتدنا بأن تصفح عن القس أريوس “0

وما أن سمع الآب البطريرك إسم ” أريوس ” حتى إحتد رافعاً يمينه قائلاً : ليكن أريوس محروماً في هذا العالم وفي الدهر الآتي 00

ليس له نصيب في مجد إبن الله يسوع المسيح إلهنا “0

         فارتعب الواقفون لأنهم لم يتعودوا قط من الآب البطريرك الوديع هذه الحدة ، ولم يجرؤ أحد أن يراجع قداسة البابا ، أما هو فقد إنتحى جانباً بتلميذيه القسيسين ” أرشيلاوس ” و ” ألكسندروس ” وكأنه يريد أن يطلعهما على سر خطير :

يأولادي أطلب من الرب إله السموات أن يعينني حتى أتمم شهادتي على إسمه القدوس 00

أنت ياأبونا أرشيلاوس ستأتي بعدي على هذا الكرسي وأبونا ألكسندروس يكون بعدك 00

لا تظنا إني قاسي القلب أو عنيد 00 لكن صدقوني إن خداع أريوس يفوق كل كفر ويعلو كل شر 00 إنني لا أحرمه من ذاتي00 ففي هذه الليلة بعد أن صليت ونمت ، رأيتُ وكأني واقف في قلايتي أصلي ، وإذ بصبي يبلغ حوالي الثانية عشر من عمره دخل فجأة إلى قلايتي 00 بهاء وجهه لم أقدر على معاينته ، إذ أبرق بنور عظيم ملأ القلاية كلها 00 كان يرتدي ثوباً كتانياً مشقوق إلى إثنين من الرأس حتى القدمين ، وقد أمسك بيده جانبي الثوب ، وهو يضمهما إلى صدره ليغطي عريه 00

إذ رأيتُ ذلك إنتابتني دهشة ، ولما تمالكت نفسي صرخت : من الذي شقَّ ثوبك ياسيدي ؟

أجابني : أريوس هو الذي شقـه ، فأحذره تماماً ولا تقبله في الشركة ، فإنه سيأتيك بالغد بعضاً يشفعون فيه لديك فلا يرضى قلبك عليه ، ولا تحله ، بل زيده حرماناً 00 بالحري أوصِ أرشيلاوس وألكسندروس الكاهنين اللذين يجلسان على الكرسي من بعد رحيلك ألاَّ يقبلاه ، فإنك سرعان ما تصير شهيداً 00

والآن ، ها أنتما تنظران أنه ليس للرؤيا معنى آخر 00

لقد عرفتكما بكل شئ ، وأخبرتكما بكل ما أُمرت به ، وصار الأمر بين أيديكما تفعلان ما تشاءان في هذا الأمر 00 هذا بخصوص أريوس0

         أيها العزيزان 00 أنتما تعرفان تماماً كيف كنت أسلك بينكما ، وتعرفان التجارب التي حلَّت بي من الوثنيين الذين لم يكفوا في جنونهم ، فدعوا من ليسوا هم آلهة أنهم آلهة ، إذ جهلوا الرب المخلص 00 أنتما تعرفان كيف كنتُ أهرب من موضع إلى آخر ، متجنباً ثورة مضطهدييَّ 00

         وسط كل هذه الكوارث لم أكف ليل نهار عن الكتابة لقطيع الرب الذي أؤتمنت أنا الضعيف عليه ، وكنت أثبتهم في الإتحاد بالسيد المسيح 00

         كان قلبي يئن بغير إنقطاع متألماً ، لا يجد راحة ، وليس لي سـوى تفكيـري فـي تسليم هذا القطيع بين يديَّ القدرة الإلهيَّة 00

         أنتما تعلمـان أيضـاً كيف كنت قلقاً للغاية من جهة الأساقفـة المطوبين ” فيلاس ” و” هيثيخوس ” و ” باخوميوس ”  و ” ثيؤدورس ” الذين تقبلـوا دعوة الإستشهاد باستحقاق من قبل نعمة الله ، هؤلاء الذين إحتملوا مع بقية المعترفين عذابات كثيرة من أجل الإيمان بالسيد المسيح0 فإن هذا الصراع قد ضم لا كهنة فحسب ، بل علمانيين معروفين ومعلمين0 فكنت أخاف جداً لئلا يخوروا بسبب الضغـط المستمر فيكون إرتدادهم عثرة ويسبب جحداً للإيمان ، فقد وُجد معهم أكثر من ستمائة وستين نسمة مسجونين معهم في الحبس الداخلي 00 الأمر الذي يرعبني الحديث عنه0 وبالرغم مما كنت أعانيه من ضغوط وأتعاب كثيرة لم أكفُّ عن الكتابة إليهم ، أذكَّرهم بالعبارات النبوية ، وأحثهم على نوال إكليل الشهداء ، وذلك بقوة الوحي الإلهي0

         وعندما سمعت بمثابرتهم العظيمة ، وما بلغت إليه آلامهم من نهاية مجيدة ، سجدت حتى الأرض أُمجّد السيد المسيح وأشكره من أجل عطيته لهم من جهة قوة الإيمان وثباتهم في مسيحيتهم 00 وما هيأه لهم من أكاليل المجد والغلبة ، وقد توَّج بها رؤوسهم ، كما سألته أن يحسبني معهم 00

         ولماذا أتحدث عن ” ميلتيوس ” أسقف ليكوبوليس ؟! 00 أي إضطهادات ومكائد صبَّها ضدي 00 أنكم تعرفون ذلك جيداً 00 أنه لا يخشى تمزيق الكنيسة المقدَّسة التي فداها إبن الله بدمه الثمين 00 لم يكف ” ميلتيوس ” عن زج البعض في الحبس الداخلي ، وإلقاء الأحزان على كاهل الأساقفة القديسين ، حتى هؤلاء الذين منذ قليل إخترقوا السمـوات خلال الإستشهاد 00 أحذروا حيله المملؤة خداعاً 00

         إنكم ترون كيف سلكت بالمحبة الإلهيَّة ، مفضلاً بالحري أن أُتمّم إرادة الله فوق كل شئ 00 ولا أحسب حياتي الزمنية أثمن من نفسي 00 بالحري أشتهي أن أكمل سعيي الذي قدمني إليه ربي يسوع المسيح ، وبأمانة أرد إليه الخدمة التي تقبلتها منه0

         صليـا عني ياأخوتي ، فإنكما لن ترياني في هذا الحياة بعد 00

         إني أشهد أمام الله وأمامكم إني سلكت قدامكم بكل ضمير صالح ، فإني لم أمتنع عن أن أخبركم بأوامر الرب ولا رفضت أن أعلمكم بما سيكون ضرورياً لكم 00

         كونا حذرين وإهتموا بالقطيع الذي يقيمكم الروح القدس عليه بالتتابع أنت ياأبونا أرشيلاوس أولاً ، ثم أنت ياأبونا ألكسندروس من بعده0

أتوسل إليكما ، أنتما أحشائي أن تسهروا ، فإن شدائد كثيرة تلحق بكما ، فإننا لسنا أفضل من آبائنا 00 هل تجهلان بالحق بأبي ثاؤنا الأسقف المثلث القداسة الذي قام بتربيتي ، والذي تعهدت أن أكون أميناً على كرسيه الكهنوتي 00 نعمة الله التي حفظت هؤلاء جميعاً تحفظكما أنتما أيضاً 00 أستودعكم الله وكلمة نعمته القادرة أن تحفظكم وتحفظ قطيعه (95)0

         وبعد أن أنهى البابا حديثه مع تلميذيه جثى على ركبتيه وصلى معهما ، فقبَّل تلميذاه يديه ورجليه ، ثم عاد البابا إلى بقية القسوس والأراخنة فباركهم وصرفهم بسلام0

         وما أن عاد الوفد الكنسي إلى الكاتدرائية ، وإذ أريوس في إنتظارهم على أحر من الجمر ، يمني نفسه بكرسي مارمرقس ، وإذ رأى الوجوه واجمة ، وقد أشاح القسان أرشيلاوس وألكسندروس الوجه عنه ، وإستفسر عن الأمر ، فصُدم بالنتيجة وأصيب بخيبة أمل ، وأسرع بالإنصراف من الكاتدرائية يجر أذيال الخيبة ، واضعاً في نفسه أنه لن يكف عن عناده ، وسيدافع عن عقيدته للنفس الأخير0

(94)   قول للقديس أغطسينوس أورده القمص إيسوذورس البرموسي – البابا بطرس خاتم الشهداء ص 30 ، 31

(95)   راجع القمص تادرس يعقوب – البابا بطرس الأول خاتم الشهداء ص 28 – 34

 

وصار السجن سماء ف13 – كتاب البحار المغامر – حلمي القمص يعقوب

تقييم المستخدمون: كن أول المصوتون !