أبحاثكتب

في الإنسان ف7 – فيوض في الفكر المشرقي – الخوري بولس الفغالي

في الإنسان ف7 - فيوض في الفكر المشرقي - الخوري بولس الفغالي

في الإنسان ف7 - فيوض في الفكر المشرقي - الخوري بولس الفغالي
في الإنسان ف7 – فيوض في الفكر المشرقي – الخوري بولس الفغالي

 

 

 

الفصل السابع

في الإنسان

 

اخترنا ثلاثة نصوص من كتاب نميسيوس أسقف حمص، من كتابه في طبيعة الانسان، وجعلنا عنوانًا لكل نصّ: جسد الانسان، في النفس، إجتماع النفس والجسد.

 

1- جسد الانسان

 

ومن أجل أنَّ جسد الإنسان مركَّبٌ من الطبائع، يُصيبه ما يُصيب الطبائع الأربع من التغيير والهراقة والقَطع. فإنَّ هذا التهيُّج الذي سمَّينا، هو للجسد لأنَّ الجسد يتغيَّر من اختلاف(1) الطبائع ويُفرَّغ، وإنَّ الحيَّ لا يزال يهراق من نحو القوَّة الدافعة، وعامَّة القوَّة الدافعة هي بيِّنة، ومنها ما يخفى من الرَّشْح، وسنقول في تفصيل ذلك حتّى نُبيِّنه ونُفصِّله بعدما قلنا فيه.

 

فإنَّ كلَّ شيء يُفرَّغ من الجسد، فلا بُدَّ له من أن يُسدَّ مكانُه وإلاَّ هلك الحيّ من هراقة التفريغ. فمن أجل أنَّ الذي يفرَّغ إنَّما هو يابس ورطبٌ ولطيف، يحتاج إلى أطعمة(2) يابسة ورطبة وإلى لطيف للنَفَس. فإنَّما الطعام للطبائع التي رُكِّبت منها الأجساد، وإنَّ كلَّ شيء من الأشياء إنَّما يُطعم شبهَه ويتداوى بما يخالفه(3). ولأنَّا نُطعَم أحيانًا بعضَ الطبائع الأربع كما هي مِثل الماء وأحيانًا مخلوطةَ الشرابِ والزيت وسائر الأطعمة المختلفة. وكذلك أيضًا ننالُ الهواءَ حتّى نستنشقه وأحيانًا يُخالِط طعامَنا وشرابَنا؛ وكذلك ننال من النار ما نستدفئ به، وأحيانًا تُخالِط طعامَنا وشرابَنا، وإنَّ طبيعة النار تدخُل في كلِّ قليل وكثير؛ وأمّا الأرض فلا ينالُها جسدُنا ولكن ينال ما يخالطها وتختلط به وما يكون منها فإنَّه يكون منها الطعام؛ وكثير من الحيوان ينالها كماهية أحيانًا وحدها كالعصافير والحمام والحجل(4) والأفاعي.

 

وكذلك أقول(5): إنَه لم يتكوَّن للإنسان جِلد غليظ كجُلود البقر وما أشبهها من الحيوان، ولا شعرٌ طويل على جلده كشعر المعَز وأمثال ذلك، ولا صوف كالضأن، ولا وبَرٌ كوبر الجمال، ولا قُشور كالحيّات والحيتان، ولا أصداف كبعض ما يكون لدواب البحر، ولا ريش كالطير؛ فاعتزل ذلك كلَّه عنه لاعتداله ولصُورة الحُسن والجمال، ولأنَّ الإنسان أفضل في الحسِّ من سائر الحيوان، فلذلك يحتاج الإنسان إلى اللباس لتمام ما نقصت طبيعتُه من طبيعة سائر الحيوان؛ فجعل له بحيلته الكِنّ ليسكُنَ فيه ويتحرَّز به ممّا يُؤذي طبائعه، وعلِم الطبَّ بفطنته ليشفي ما اعترض جسده من داءٍ من نُقصان الطبائع أو زيادتها؛ ومن أجل ذلك احتاج الإنسان إلى الطعام والشراب ليسدَّ ما فُرِّغ منه، ويحتاج إلى غطاء لأنَّه ليس من طبيعته ما يُغطِّيه، ويحتاج إلى الكنّ من أجل الأمطار والحرِّ والبرد، ويحتاج إلى الطبّ لِما يحسُّ به من الأوجاع؛ فإنّا لو لم نحسّ لم نألَم، ولو لم نألم لم نحتج إلى الشفاء وبلينا قبل أن نعلمَ ما الذي يُصيبنا(6).

 

وأقول: إنَّ الإنسان متفكِّر بموت يقبل العِلم، وإنَّه حرّ لأنَّه صميم، ذو نفس محسَّة. وإنَّما قلتُ إنَّه متفكِّر، لتمييزه، من البهائم التي لا تتفكَّر؛ وقلتُ إنَّه يموت، لتمييزه ممّا يخلد؛ وقلتُ إنَّه يقبل العِلم، من أجل أنَّ علمه بالتعليم ولأنَّه يقبل التعليم، ولأميِّزه من الجنّ الذين علمهم بغير تعليم.

 

والخلق كلُّه مختلف، منه ما تكوَّن لنفسه ومنه ما تكوَّن لغيره. فأمّا الذي تكوَّن لنفسه، فهو الإنسان المتفكِّر الحيّ العالِم؛ وأمّا الذي تكوَّن لغيره، فالذي لا يتفكَّر وما لا نفس له. ومن أجل أنَّ الإنسان هو أعلى الطبائع كلِّها جوهرًا، إنَّما تكوَّن لنفسه ولم يتعبَّد لشيء من الخَلق لكمال طبائعه، وتعبُّد الأشياء لنُقصانها. فينبغي ألاَّ يخدُمها إذ صار أتمَّ منها وصار مسلَّطًا عليها لا يعجزه ولا يغلِبه ولكن يقصد ويترك الشهوات ويبرأ من أعمال الجسد الغليظ.

 

فكما قلتُ: إنَّ جميع الخلق إنَّما تكون للإنسان، كذلك أقول: إنَّ الأشياء أيضًا تكوَّنت بعضها لبعض، فكان بعضُها لبعض سببًا، وذلك أنَّها لم تتكوَّن من أجل أنفسها، إنَّما تكوَّنت بعضها لبعض. فالأرض، إنَّما تكوَّنت للنبات؛ وكذلك أقول: إنَّ أسباب النبات لم تتكوَّن لطبائعها، إنَّما تكوَّنت من أجل النبات ولأنَّ أسباب النبات الأمطار والرياح اللوافح. وكذلك أقول: إنَّ سبب الأمطار هي حركة الرياح وسبب حركة الرياح حركة الفلك والشمس والقمر، فالشمس والقمر والكواكب إنَّما تكوَّنوا من أجل النبات، والنبات إنَّما تكوَّن من أجل الإنسان والبهائم.

 

وإنَّ البهائم التي لا أحلام لها والتي إنَّما غلبتها حركةُ اشتهاء الطبيعة ونظرها تحت الأرض والتي خلْقُها وشكلُها للتعبُّد إنَّما تكوَّنت من أجل الإنسان ومن أجل أنَّ الإنسان فيه شبه كلِّ شيء، فلذلك يعرف كلَّ شيء. وأقول: إنَّ في الإنسان القوَّة المتفكِّرة والتي لا تفكُّر لها، وكذلك أقول: إنَّ التي لا تفكُّر لها هي متعبِّدة للمتفكِّر.

 

فأمّا التفكُّر فهو الآمِر، والاشتهاء والغضب مأمور للحاجات التي يأمر بها المتفكِّر إذا كانت طبيعة الإنسان صافية؛ فأمّا إذا كان الذي لا يتفكَّر يأمر المتفكِّر، حينئذٍ تغيَّرت المراتِب وانقلبت الطبائعُ وأبتْ البهائمُ أن تتعبَّد لنا؛ وإنَّما يكون الذي لا يتفكَّر متعبِّدًا للمتفكِّر، وبيانُ ذلك أنَّ كثيرًا من الحيوان هي لخدمة الإنسان من الحوامِل والعوامِل والطير ودوابّ الماء ما يأكل الناس منه ويتلذَّذ الناس به.

 

ولعلَّ قائلاً يقول: إنَّ بعض هذه الأشياء لم تتكوَّن للإنسان لأنَّها تضرُّه، وإنَّما جاءت المضرَّةُ للإنسان باجتراء الأشياء عليه وإنَّما اجترأت عليه حين يعبُد الذي لا يتفكَّر المتفكِّر، وهو الاشتهاء والغضب، وتسلَّط ذلك على التفكُّر اجترأت الأشياءُ عليه لأنَّه صار في طبائعها وهو ضدُّها. فلذلك ضرَّ به.

 

فأمّا إذا كان المتفكِّر قاهِرًا للذي لا يتفكَّر لم تضرَّه الأشياء ولم تجترئ عليه، ورجع إلى الجوهر الأوَّل الذي ابتدأ له أنَّ الذي لا يتفكَّر متعبِّدًا للمتفكِّر.

 

فمن يُطيق أن يحصي فضائل الإنسان وقد صار وصلاً بينما يموت وبينما يخلُد وبين المتفكِّر والذي لا يتفكَّر، فإن عمل بعمَل المتفكِّرة عُدَّ في المتفكِّرة، وإن عمل بالشهوات عُدَّ فيمَن لا يتفكَّر، وإن عمل في إبطان الموت وإظهار الحياة صار خالدًا، فمن عمل بعمل المتفكِّرة وأبطن أعمال من لا يتفكَّر، عُدَّ في المتفكِّرة وهو أتمُّ الخلائق طبعًا. يقطع البُحور ويصعد في السماء ويهبط في الأرض، ويبلغ الأطراف ويعلم حركة النجوم ومسافة ما بينها ويتعاهد ما يغيب عنه بأمره درايةً وكتابةً، ويبلغُ ما كان غائبًا. فمن يستطيع أن يُحصي فضائلَ الإنسان!

 

2- في النفس

 

قد أُخبرت بعلَّة العالم الأكبر وما يكون فيه من الحيوان والنبات والمعادن، اختلفوا وأنا قائلٌ في النفس وواصفٌ اختلاف الحكماء فيها لأن الحكماء اختلفوا في النفس اختلافًا شديدًا وذلك من لطافتها ودقَّة كيانها.

 

قد قال إبقورس(7) وديموقريطوس(8): إنَّ النفس جسد. فتوافقوا في هذه الكلمة، ثمَّ اختلفوا في صميم النفس.

 

وأمّا أصحاب الأسطوان(9) فقالوا: إنَّما النفس ريح كهيئة النار.

 

وأمّا قرطياس(10) فقال: إنَّما النفس دم.

 

وأمّا إيبُن(11) فقال: إنَّما هي ماء.

 

وأمّا ديموقريطوس فقال: إنَّما هي نار. وقال: إنَّما هذا الذي نرى من شعاع الشمس إذا دخلنا في البيوت نار يعرج بعضها في بعض فتكون أنفسًا.

 

وأمّا إيراقليطوس(12) فزعم أنَّ النفس عامَّة وأفراد؛ فأمّا النفس العامَّة فبخارٌ من رطوبة؛ وأمّا أنفس الحيوان فمن بُخار النفس العامَّة الخارج ومن بخار الأجساد الباطن.

 

فاختلف أيضًا هؤلاء الذين زعموا أنَّ النفس جسدٌ. فقال بعضهم: إنَّما النفس صميمٌ (= أصلٌ وخالصٌ)، خالدة، وقال آخرون: إنَّ النفس ليست بجسد ولا صميم ولا خالدة.

 

وقال ثالِس(13): إنَّ النفس تتحرَّك من نحو طبيعتها ولا يُحرِّكها شيء. حركتُها دائمة.

 

وأمّا فيثغور(14) فقال: إنَّما هي عددٌ يتحرَّك من نحوها.

 

وقال أفلاطون(15): هي صميم (= قائمة في ذاتها) معقولة تتحرَّك بتوفيق من طبيعتها.

 

وأمّا أرسطوطاليس(16) فقال: هي ابتداء حركة جسد ذي طبيعة ذات إناء فيه قوَّة الحياة.

 

وأمّا دينركوس(17) فقال: هي توفيق امتزاج الأربع طبائع السخونة والبرودة والرطوبة واليبوسة.

 

والآن نُبيِّن أنَّ عامَّة هؤلاء الذين اختلفوا في النفس يزعمون أنَها صميم؛ وأمّا أرسطوطاليس ودينركوس فكانا يقولان: إنَّ النفس ليست بصميم. وكانا يقولان: إنَّ أنفس كلِّ شيء واحدة غير أنَّها تُقسَّم في الأجرام بالزيادة والنقصان، وقال قطرنوس(18): بل الأنفس كثيرة شتّى لكلِّ شرحٍ نحوه.

 

فمن أجل أنَّهم اختلفوا كما قصصنا في هذا الكتاب، ينبغي لي أن أبيِّنه وأفصِّله وأبدأ بنقض قول كلِّ الذين قالوا: إنَّما هي جسد، وسيكفيني في كلِّ شيء ما قالوا هؤلاء الذين اختلفوا قولَ أمونيوس(19) معلِّم بلُطينوس(20) وقول نومينيوس(21)، فإنَّهما قالا: إنَّ الأجساد من سوس (= مطلق) طبيعتها أن تتغيَّر وتتفرَّق وتتفصَّل إلى أجزاء لا عدد لها، فمن أجل ذلك تحتاج إلى ما يجمعها ويضمُّها ويملكها وليس شيء يملكها إلاَّ النفس لأنَّها تحييها وتجمعها. فإن كانت النفس كما يقولون جسدًا لطيفًا، فإنَّ النفس إذا كانت جسدًا تحتاج إلى كلِّ ما يجمعها ويضمُّها، ولأنَّ كلَّ ذي جسد ذي طبيعة يحتاج إلى ذلك؛ فإن كانت جسدًا فإنَّها تحتاج لا تزال، كما يقولون، إلى ما يجمع أجزاءها ويؤلّف بين المتباين كالذي ذكرنا حتّى ننتهي إلى نفسٍ ليست بجسد، فتلك هي التي تجمع بين أجزاء الجسد كما قلنا(22).

 

وإن كانت كما يزعم أهل الأُسطوان لها حركتان، إحداهما خارجة من داخل فهي التي تعظِّم والأخرى تدخل من خارج، فأمّا ما كان خارجًا من داخل فهي التي تُعظِّم الجسد، وأمّا ما كان داخلاً من خارج فهي تضُمُّه(23)، فقلنا لهم: أخبرونا ما هذه الحركة التي تذكرون وأيُّ شيء يُحرِّكها؟ فإن كانت من قوَّة شيء فما هذه القوَّة وما صميمُها؟ وإن كانت القوَّة من عنصر فإنَّها تعود إلى ما قلنا من شأن الأجساد، وإن لم تكن عنصرًا وكانت شيئًا يُرى في العنصر فإنَّه إذًا شيء ويكون ذلك الشيء إمَّا جسدًا وإمّا عنصرًا. فإن كان أحدهما فقد احتاج إلى ما يُحرِّكه وإمّا ألاّ يكون عنصرًا أو لا جسدًا فقد بطل قولُهم.

 

وإن قالوا: إنَّ كلَّ جسد ذو ثلاث مساوف (= أبعاد) من أجل أنَّ النفس متداخلة في الجسد، وإنَّ النفس إذا كانت ذات ثلاث مساوف فهي إذًا جسد. وإنّا نرجع إليهم في ذلك فنقول: ليس كلُّ ذي ثلاث مساوف متداخلة جسدًا، فإنَّ المكان والصورةَ(24) كلّ واحد منهما على حدته ليس واحد منهما الجسد ولكن يكونان في الإجساد من الأحداث. فكذلك النفس إذا كانت على حدتها، فليست لها مسافة من أجل أنَّ الجسد ذو ثلاث مساوف.

 

وأقول أيضًا في جواب ما قالوا: إنَّ كلَّ جسد تحرّكُه من داخل ومن خارج. فما كانت حركته من خارج، فهو جسد ليس له نفس؛ وما كانت حركته من داخل فهو جسد ذو نفس. فإن كانت النفس كما يزعمون جسدًا وكانت حركتها من خارج فإنَّها جسد لا نفس لها(25). وإن كانت حركتها من داخل فإنَّها ذات نفس. ولم يُصِب هؤلاء الذين قالوا: إنَّ للنفس نفس أخرى أو النفس غير النفس. فقد تبيَّن بهذا القول أنَّ النفس ليست بجسد.

 

وقال إكسانوقراط فيما قال أصحاب الأسُطوان: إن كانت النفس تأكل، فإنَّما طعامها شيء، ليس بجسد(26)، وإنَّما طعام النفس العِلمُ وليس بشيء من الأجساد طعامُه إلاَّ الجسد، فلذلك لا تكون النفس جسدًا. فإن كانت النفس لا تأكل جسدًا، فكلُّ أجساد الحيوان تأكل الجسد. فهذا قولنا للذين زعموا: إنَّما النفس جسد(27).

 

وأمّا الذين قالوا: إنَّما النفس دم أو بُخار لأنَّه إذا فارق الجسد الدم أو البخور كان ميِّتًا، فإنَّ ناسًا أجابوهم في ذلك بغير صواب فقالوا: كان ينبغي في قولكم إذا هُريقَ يعضُ الدم أن تروا أنَّ بعض النفس قد هُريقت! ولم يُصيبوا. فإنَّ اشتباه الأجزاء القليل منها والكثير سواء. فإنَّ الماء قد قلَّ منه أو كثُر يُقال له ماء، وكذلك الورق والذهب وكلّ شيء لا تختلف أجزاؤه، وكذلك ما بقي من الدم على مثل ذلك، فإن كان الدم نفسًا، فقد بقيت نفس في الجسد وإن كان قد هُريق بعضها.

 

ولكنَّا لا نقول ذلك ولا نرُدّ عليهم هذا الردّ ولا نراه، ولكنّا نقول لهم: إن كان كما تقولون أنَّ الدم إذا فارق الجسد كان ميِّتًا. فلذلك تزعمون أنَّها نفس؛ فنحن حقيقون إذًا أن نقول: إنَّ كلَّ شيء فارق الحيَّ فمات فهو نفس؛ فإنَّ البلغَم والمِرَّتَين والكبد والدماغ والقلب والمعدة والكليتَين والأمعاء إذا فارق شيء منها الحيَّ مات؛ فقد كان حقُّهم أن يجعلوا كلَّ واحد ممّا عددنا نفسًا على حدته. ونقول في نحو آخر: إنَّ كثيرًا مِمَّا لا دمَ له ذوات أنفس من ذوات البحر مثل الصدف والسراطين وأشباه ذلك من حشرات الأرض فإن كانت أشياء تكون ذوات أنفس لا دم لها، فقد تبيَّن لنا أنَّ النفس ليست بدم.

 

وأمّا الذين قالوا: إنَّ النفسَ ماء لأنَّه لا حياة لشيء إلاَّ به، فإنّ نقول في ذلك: إنَّه يخالف ما قالوا أشياء كثيرة. فأوَّل ذلك أنَّهم لا يستطيعون العيش بغير طعام. فإن كانوا صادقين فإنّا حقيقون أن نعُدَّ كلَّ طعام على حدته نفسًا. ونقول في ذلك أيضًا: إنَّ كثيرًا من الحيوان لا يشرب الزمن الطويل، فإنَّها إذًا لا تبقى حيَّةً لا أنفُس لها مِثل العقبان والحجل وكثير من الطير. والهواء إذًا أحقُّ أن يقال هو نفس من الماء وسائر ما عددنا لأنَّا نعيش إن شئنا حينًا بغير ماء؛ وأمّا الهواء فلا حياة لنا إلاَّ به ولا ساعة. ولسنا نقول هو نفس ولكنَّ كثيرًا من الحيوان هو لا يستنشي الهواء مثل النحل والذَّرّ والنمل وكلّ شيء ليست له رئة وكثير من دوابّ البحر وكثير بما لا يستنشق الهواء ويعيش بغير الهواء(28).

 

وأمّا قلينثس(29) من أصحاب الأُسطوان وكرُسيبوس(30) قالا قولاً لسنا نصمُت عليه حتّى نقول فيه. فأمّا قلينثس فزعم إنَّما النفس جسدٌ لأنَّ الولد لا يُشبه الوالد في الجسد فقط ولكنَّه يشبهه في التهيُّج والسِّمت (= والحركة) والعلم؛ فإنَّ الشبه وغيرَ الشبه إنَّما هو للأجساد وليس لشيء سواها. فلذلك يقول قلينثس: إنَّ النفس جسدٌ: وهذا وهم في قوله أنَّ الشبه لا يكون في شيء ليس بجسد؛ فإنَّ الشبه يكون في العدد. وإنَّ العدد يُشبه بعضه بعضًا. فإنَّ الستَّة تُشبه الأربعة والعشرين لأنَّ الستَّة تزيدهنَّ الاثنين والثلاثة والأربعة والعشرين تزيدهنَّ الأربعة والستَّة؛ فكما يوافق الأربعة للاثنين من الضعف فكذلك توافق الستَّة للثلاثة؛ وإنَّ العدد ليس بأجساد. وكذلك أشكال مقادير الأرض يُشبه بعضها بعضًا إذا كانت زواياها متَّفقة؛ وهم يوافقونا في هذا.

 

وقال أيضًا قلينثس: لا نجد شيئًا ليس بجسد يُصيبه ما يُصيب الجسد ولا جسدًا يُصيبه ما يصيب ما ليس بجسد. فإنّا نجد النفس يصيبها ما يصيب الجسد في الأمراض وفي الجراح ويصيب الجسد أيضًا ما يصيب النفس، فإنَّ النفس إذا فرحت احمرَّ الوجه، هو جسد. وإذا ماتت أو حزِنت اصفرَّ الوجه. فلذلك يقول: إنَّ النفس جسد.

 

وأيضًا نقول فيما قال قلينثس من الذي ذكر أنَّه ليس غير ذي جسد يُصيبه ما يصيب الجسد في الاشتهاء والغضب حين تتغيَّر الأجساد.

 

وأمّا كرُسيبوس فقال: إنَّما الموت فراق ما بين النفس والجسد ولا يُفارق الجسد ما ليس بجسد، فإنَّه لا يُلابس الجسد ما ليس بجسد؛ فإن كانت النفس تلابس الجسد وتُفارقه فهي إذًا جسد.

 

فأمّا قول كرسيبوس: إنَّ الموت فراق بين الجسد والنفس، فقد صدق. وأمّا قوله: إنَّ الذي ليس بجسد لا يلابس الجسد، فقد أخطأ حين جعلها عامَّة، فأمّا في خاصَّة النفس فقد صدق؛ ولأنّا نجد أشياء تلابس الجسد وليست بجسد كالحُمرة والبياض. وقد صدق في أنَّ النفس ليس تلابس جسدًا؛ فإنَّها لو لابست الجسد لصقت به لأنَّه لا يستطيع كلّ الجسد يلتصق في كلِّ الجسد، فلذلك لا يستطيع أن يكون كلُّ الجسد ذا نفس. ولو كانت النفس تلابس الجسد كانت جسدًا فلا تستطيع أن تكون في كلِّ الجسد. ولكنّا نرى أنَّ النفس تكون في الجسد الذي تكون فيه كلّه، فقد تبيَّن لنا أنَّ النفس لا تلابس الجسد وأنَّها ليست بجسد(31).

 

وأمّا من قال: إنَّ النفس ليست بصميم، (= كيان واقعيّ) فسنجيبُهم إلى ذلك. فإنَّ دينركوس كان يقول: إنَّما النفس كتوفيق الألحان والأوتار؛ وقال سيمياس(32) وهو يُنازع سقراط مثل ذلك أيضًا سواء. وقال دينركوس وسيمياس: النفس شبه توفيق الألحان وشبه الجسد بالمعزَف فيستعين بعضها ببعض. فنحن ننقض قول هؤلاء كما نقضه أفلاطون في مُصحَف فيدون(33)، وأوَّل ما نقول في ذلك: إنَّ العلم إنَّما هو التذكير. فمن أجل أنَّ العِلم تذكير، كانت الأنفس قبل أن تُخلَق الأجساد. فإن كانت النفس كما يقولون مثل توفيق الألحان، فلم تُخلَق إذًا قبل الجسد ولكن كانت بعد ما خُلق؛ فإنَّ توفيق الألحان تكون الأوتار قبلها، ثمَّ تكوّن التركيب بعد ذلك فإنَّما يكون كلُّ تركيب بعدما يكون الذي في تُركَّب.

 

ونقول أيضًا: إنَّ النفس تخالف الجسدَ وتملكه وإنَّ التوفيق لا يملُك الأوتارَ ولا يخالفها؛ فلذلك ليست النفس كتوفيق الأوتار.

 

ونقول أيضًا: يكون التوفيق بالزيادة والنقصان في رفع الوصت وخفضه؛ فأمّا النفس فلا تزيد ولا تنقُص من صميم أجزاء النفس ليست النفس كتوفيق الأوتار.

 

ونقول أيضًا: إنَّ النفس تقبل الفضيلة وخلافَها، وأمّا التوفيق فلا يستطيع أن يكون توفيقًا وخلافًا للتوفيق؛ فلذلك ليست النفس كتوفيق الأوتار(34).

 

ونقول أيضًا: إنَّ النفس تقبل الفضيلة كلّ واحد ممّا يُخالف على حدته ؛ وأمّا توفيق الأوتار فإنَّما هو شيء يُرى في الصميم؛ وذلك الشيء فهو شيء على حدته، وأمّا الصميم فهو شيء آخر، فلذلك الصميم ليس كتوفيق الأوتار.

 

وأمّا أن نقول: إنَّ النفس تقبل التوفيق، فليس ذلك بالذي يجعلها توفيقًا، لأنّا نذكر فضيلة النفس إذا عملت الفضائل ولا تُسمّى النفسُ فضيلة.

 

وأمّا جالينوس فلم يقُل في شأن النفس شيئًا، وتبرَّأ ممّا كان تُرجِم من كتاب البيان(35) ولكنَّه قال: إنَّ النفس تمزيج يتَّبع في ذلك قول بقراط(36). فإن كانت النفس تمزيجًا (= مركّبات الجسد) كما يقول، فقد تبيَّن أنَّ النفس ميِّتة ولكن لم يكن يقول: إنَّ كلَّ نفس تمزيج غير أنَّه كان يقول: ما كان من أجزائها غير متفكِّر فإنَّه تمزيج. وأمّا في المتفكِّر، فكان يقول (…): لا يستطيع التمزيج أن يكون نفسًا. فبيان ذلك أنَّ كلَّ جسد ذي نفس أو غير وإن كانت النفس تمزيج الأجساد كما يقولون، فإنه لا يكون من الأجساد ذي نفس إنَّما هو من امتزاج الأربع الطبائع، فإنَّ من تمزيجهنَّ تكون الأجساد شيء ليست له نفس لا الحجارة ولا الخشب ولا الحديد، إن كانت النفس تمزيجًا.

 

فإن قالوا: ما نقول: كلُّ تمزيج الأجساد نفس، ولكنَّ بعضها، فلتخبرونا أيُّ التمزيج هو الذي يجعل للحيوان أنفسًا، فإنَّه لا يذكر من التمزيج شيئًا إلاَّ نجده في الأجساد التي لا أنفس لها. فإنَّه قد قال فيما ذكر من التمزيج: إنَّ التمزيج تسعة أنحاء، فأمّا أحدهنَّ فهو التمزيج الموفّق، وأمّا الثمانية فهو التمزيج الذي لا يكون موفَّقًا في زيادة الطبائع ونقصانها، ومن ذلك يكون السقم. وكان يقول لاطس(37): إنَّ تمزيج الإنسان إنَّما هو من الموافقة؛ فأمّا سائر الحيوان فإنَّ امتزاجها على غير الاتِّفاق في الزيادة والنقصان في استرخائها وشدَّتها وكان يقول جالينوس: إنَّا نجد فيما لا أنفُس لها التمزيج التسعة. وكان يقول أرجانس(38): إن كانت النفس تمزيجًا فإنّا نجد التمزيج يتغيَّر في كلِّ صنف من السنة وفيما يأكل، فتتغيَّر النفس إذًا وليست النفس إذًا واحدةً، وإن كانت تتغيَّر في كلِّ حين تكون أحيانًا نفسَ أسد وأحيانًا نفس شاةٍ وأحيانًا نفس شيء آخر.

 

وكان يقول موطوس(39): إن كانت النفس تمزيجًا والتمزيج إنَّما هو ائتلاف على صورة، فإنَّ الصورة تكون في الشيء فتُفارقه ولا يبلى الصميم إذا فارقته الصورة. فكان حقُّ الجسد إن كانت النفس صورةً ألاَّ يبلى إذا فارقته النفس، فلذلك يُعلَم أنَّ النفس ليست بتمزيج ولا صورة. فإنَّهم لا يستطيعون أن يقولوا: إنَّه لا بدَّ من أن يكون في الحيّ بعضُ ما يخالف كما نرى في النار أنَّه لا بُدَّ من أن تكون في الدفاءة. فأمّا التمزيج فيغيِّره دواءُ الأطبّاء.

 

وقال أيضًا: كلُّ الجسد يُحسّ، فأمّا النفس فلا تُحَسّ؛ فلذلك النفس ليست بجسد.

 

وأقول: إنَّ تركيبَ الجسد من لحمٍ وعصب وعظمٍ بامتزاج الطبائع الأربع، الحرارة والبرودة واليبس والرطوبة، إنَّما هي الصحَّة وهي توفيق الطبائع، وحُسن الجسد مع حسن اللون. فإن كان تمزيج الصحَّة والقوَّة والحسن هي الأنفس، فقد كان حقّ الإنسان ألاَّ يمرض ولا يضعُف ولا يكون غير حسن ما دام حيٌّا. ولكنَّ الإنسان لا يكون حسنًا ولا صحيحًا ولا قويٌّا وهو حيّ؛ فلذلك ليست النفس تمزيجًا.

 

وقد سأل قوم في زمن قسطنطين: كيف تكون في الإنسان الفضائل والشرّ؟ من نحو تمزيج الجسد، كما يكونون ناسٌ من تمزيجهم صحاحًا ومراضًا؛ فكذلك يكون من الناس خبثاء من كثرة المرّة السوداء، ويكون أناس آخرون لهم فخر وجُرأة من نحو كثرة الدم، ويكون ناس آخرون حلماء من نحو كثرة البلغم. وإن كان ناس يحجزون أنفسهم من هذه الشرور بحسن التأديب، فإنَّهم يملكون بتأديبهم التمزيج، وقد تبيَّن لنا أنَّ المالك والمملوك شيء فكذلك النفس والتمزيج شتّى، ولكنَّ الجسد إناءُ النفس لأنَّ الجسد، إذا اعتدل باعتدال التمزيج، أعان النفسَ على الخير إلاَّ أن يُفسِد النفسَ بأدب السوء. وإن لم يكن تمزيج الجسد باتِّفاق فإنَّه يمنع فضائل النفس وحينئذٍ يغالب النفس بالتضاد لِما لم يتَّفق. فينبغي أن يتعاهد المحتجز التمزيج بالاتِّفاق لئلاّ تغلب عليه الأضداد. ومثل ذلك المعزَف والذي يُضرَب به، فإنَّ الذي يضرب بالمعزف إذا لم يتعاهد توفيق أوتار المعزف وتقويمها فينبغي للنفس أن تتعاهد الجسدَ في التفكُّر وحسن التأديب، لأنَّه كما لا تُقوَّم المعزفة فلا يستقيم لصاحبها الذي يُريد منها إذا اختلف أوتارُها، كذلك النفس وتمزيج الجسد إذا لم تتعاهد النفس الجسد.

 

وأمّا أرسطوطاليس فكان يقول: إنَّما النفس في الجسد كهيئة البصر للحيّ أو لتمام الحيّ. وكان يقول: إنَّ النفس لا تستطيع أن تكون بغير جسد وليست بجسد؛ ولكنَّها للجسد وفي الجسد وينبغي لها ولا تستطيع أن تكون وحدها.

 

فقيل له: إنَّما سمِّيتَ النفسَ وميَّزتَ منها التفكُّر وكنتَ حقيقًا أن تسمّي النفسَ كلَّها جميعًا ولا تأخذ أضعفَ أجزائها، فإنَّك سمِّيتَ النفسَ كلها من أضعف أجزائها.

 

وكان يقول أيضًا: إنَّ النفس قوَّة الحياة، وإن لم يكن في الجسد النفس. فإن كان كما يقول، فقد كان حقُّ الذي يقول فيه قوَّة الحياة أن يكونَ جسدًا قبل أن يكون فيه الحياة. فلا يستطيع أن يكون جسدًا قبل أن يكون فيه قوَّة الصورة؛ فإنَّ العنصر ليس بجسد مصوَّر، وإنَّه لا يستطيع ما لم يكن مصنوعًا أن يكون له قوَّة يصنع بها شيئًا. فإن كان إنَّما قوَّة الجسد مبتدعة، فكيف تكون قوَّة الجسد حياة وهي في أشياء أخرى؟ فإنَّ الشيء يكون في الشيء، يكون قوَّة ولا يعمل به كهيئة البصر؛ فإنَّ البصير إذا نام لم يعمل ببصره وفيه البصر. وأمّا النفس فلا يستطيع من كانت فيه إلاَّ أن يعمل؛ فإنَّ النائم لا يُعدَم عملَ النفس، لأنَّه يُطعَم وهو نائم من قبل القوَّة الطاعمة ويتغذّى ويتنفَّس ويحلُم؛ وذلك بيان الحياة. فمن هنالك نعلم أنَّه لا يستطيع أن يكون في شيء قوَّةُ الحياة وليس بحيّ. فإنَّ عمل الحياة هو الذي يُبيِّن النفس، وليس يُبيِّن النفسَ شيءٌ سوى ذلك لأنَّ الحياة في النفس، والجسد ميِّتٌ لا حياة فيه وإنَّما حياته من النفس؛ فلذلك قول من قال: إنَّ الصحَّة في الجسد كهيئة الحياة في النفس. فهو كذب، لأنَّ الذي يقول ذلك ليس يعني حياة النفس ولكن يعني حياة الجسد، ولكنَّه لا يدري ما يقول لأنَّ صميم الجسد يقبل ما تخالف من الصحَّة والمرض؛ فأمّا صميم النفس ولا يقبل ذلك لأنَّ صميم النفس لا يقبل الحياةَ والموت، كما يقبل الجسد الصحَّة والمرض، ولكن إنَّما يقبل الموتَ والحياة صميمُ الجسد. فلذلك لا تستطيع النفس أن تكونَ صنعًا ولكنَّها روحًا غير جسد ولكنَّها تقبل الفضيلة والشرّ.

 

وكان يقول أرسطوطاليس: إنَّما النفس صنعٌ لا تتحرَّك من نحو طبيعتها ولكن إنَّما الحركة تحدث فيها من قبَل الجسد. فكيف أمكنه القولُ أن يقول: إنَّ النفس لا تتحرَّك وتُحرِّك الجسد لأنَّ الحسن يحرِّك ولا يتحرَّك؟ وإنّا نقول في ذلك: إنَّ الحسن لا يتحرَّك وهو يُحرِّكنا؛ فإنَّه لا يحرِّك شيئًا لا حركة له، ولكنَّه يحرِّك ما كان من طبيعته الحركةُ. فإن كان الجسد يتحرَّك على حدته من دون النفس لم يقل: إن شيئًا يحرِّكه ما لا يتحرَّك، ولكن لا يستطيع الذي لا يتحرَّك من طبيعته أن يُحرِّكه ما لا يتحرَّك، فمن أين يكون للجسد الحركة إلاَّ من قبل النفس، لأنَّ الجسد لا يتحرَّك من نحوه، ولكنَّ النفس هي حركة وإنّما الحركة بدءٌ وثني (= يُعاد مرتين)؛ فأمّا بدء الحركة فهو حركة لما يتحرَّك. وأمّا الثني فحركة ما كانت له طبيعة الحركة. فإن كانت النفس كما يقول أرسطوطاليس لا تتحرَّك وتُحرِّك الجسد كهيئة فإنَّه شبيهها، وقال: إنَّ الحسن لا يتحرَّك وهو يُحرِّك، فكذلك النفس(40).

 

فإن كان كما يقول، فهي إذًا حركةٌ بالطبيعة، فمن أين للأجساد بدء الحركة؟ فإن قالوا: إنَّما حركة الأجساد من الطبائع لأنَّ بعضَها خفيف وبعضها ثقيل، فقد أخطئوا لأنَّ الخفَّة والثقل لو كانا حركة لم يزالا عاملَين أبدًا لا يبطُلان لأنَّه ليس شيء من الخفاف ولا الثقال إلاَّ يَسكن إذا صار إلى آخِر طبيعته فلا يتحرَّك. فلذلك لا تكون الخفَّة ولا الثقَل سبب بدء حركة، ولكنَّها الخِفَّة والثقَل يلي الطبائع. فإن كانت الطبائع كما يقولون، فإنَّ الخفَّة والثقَل لا يتفكَّران ولا يحسّان. وإن كانت الخِفَّة والثقل لا يحسّ ولا يُفكِّر، فإنَّ الأجساد كذلك. وإن كانت النفس كما يقولون، إنَّما تحدُث فيها حركة من أجل الأجساد، وإنَّما تحرُّك الأجساد من نحو طبائعها، فقد كان ينبغي للجسد أن يتحرَّك وإن فارقته النفس؛ وإنَّه لو كان كذلك كان الجسد حيٌّا بغير نفس، وهذا هو الكذِب والباطل.

 

ونقول لمن لم يُصِب منهم، أنَّ كلَّ شيء يتحرَّك من طبيعته يتحرَّك مجشَّمًا، وما تحرَّك مجشَّمًا فإنَّ له طبيعة حركة. وقد أبطل من قال ذلك، (= احتمالاً) لأنّا نرى السماء تتحرَّك من طبيعتها ولا تُجشِّمها الحركة. وقالوا: إنَّ كلَّ شيء يتحرَّك من طبيعته يعود إلى أن يسكنَ من طبيعته كهيئة النار والتراب. وقد أبطلوا، لأنَّ السماء والشمس والقمر وسائر الكواكب بتحرُّك من طبائعها وليس تعود إلى أن تسكنَ من طبيعتها، لأنَّها لو سكنت كان ذلك بلاها (= بلاءها) وكلُّ شيء دائم الحركة لو عاد إلى أن يسكن بلي. فكفانا ما قد تبيَّن لنا من شأ النفس وما ذكرنا أنَّها لست بصنع ولا شيء ممّا لا يتحرَّك وإنَّ سببَ قوَّاتها ليس بجسد.

 

وأمّا فيثغوراس فإنَّه كان يُشبِّه كلَّ شيء بالعدد؛ فكان يجعل حدَّ النفس عددًا يتحرَّك من نحوه، واتَّبع في ذلك قول إكسينوقراط؛ ولم يكونا يقولان: إنَّ النفس عدد، لكنَّهما كانا يقولان: هي مّمّا يُعدّ، ويقولان: إنَّ النفس هي التي تُعدِّل الأشياء بعضها ببعض ويكون كلُّ شيء بعدد؛ فلذلك النفس من العدد(41). وقد قالوا مع ذلك: إنَّ النفس تتحرَّك من نحو طبعها.

 

فأمّا الذين قالوا: إنَّ النفس تتحرَّك من نحوها، فقد صدَّقوا. وأمّا الذين قالوا: إنَّها من العدد، فلم يُصيبوا لأنَّ العدد كم والنفس صميمٌ؛ فلذلك لا تكون النفس عددًا.

 

ونقول أيضًا: إنَّ النفس صلة؛ وأمّا العدد فليس بمتواصل، فليست النفس عددًا. ونقول أيضًا: إنَّ العدد شفعٌ أو وتر(42)؛ وأمّا النفس، فليست بشفع ولا وتر. ونقول: إنَّ العدد(43) يزيد وينقُص في الزيادة والنقصان؛ وأمّا صميم(44) النفس فليس يزيد ولا ينقص. ونقول أيضًا: إنَّ النفس تتحرَّك من نحوها؛ وإنَّ العدد لا يتحرَّك من نحوه.

 

وأقول: إنَّ العدد ما دام واحدًا لا يستطيع أن يتغيَّر؛ فأمّا النفس، فإنَّها واحدة وإنَّ لها قوَّة متغيِّرة، تكون عالِمة بعد الجهالة، وتكون صالحة بعد أن كانت طالحة؛ فليست إذًا النفسُ عددًا.

 

وأمّا أنوميوس(45) فحدَّ النفس صميمًا (كائنًا) غير جسدٍ وجعل سبب عملها كهيئة سبب الجسد؛ فجمع في قوله حقٌّا وباطلاً. فأمّا قوله: إنَّ النفس صميم غير جسد، فقد صدق؛ وأمّا قوله: إنَّ سبب خلق النفس كهيئة سبب الجسد، فإنَّما أخذ ذلك من قول أرسطوطاليس؛ فقد اختلف قوله أنوميوس (…) وأنا أقول: إنَّ كلَّ شيء يُشبه الجسد يبلى ويموت؛ وإنَّما هو أحد أمرين، إمّا أن يقول كما قال أصحاب الأُسطوان: إنَّ قوَّةَ النفس كهيئة الجسد، وإمّا أن يقول: هي صميم غير جسد. فإن قلنا: هي صميم غير جسد، فلا نقول: إنَّ قوَّة النفس كهيئة قوَّة الجسد؛ فإنَّا نجعلها جسدًا كهيئة أنفس البهائم، ثمَّ ليس لها معقول.

 

3- اجتماع النفس والجسد

 

قد أخبرنا بعلل النفس وما تكلَّمتْ فيها الحكماء، والآن أقول كيف يجتمع النفس والجسد الذي لا نفس له. فإنَّ في الْتماس ذلك مؤونة وشدَّة على العلماء. فكيف بالجهّال! قد قال رجال من الحكماء أنَّ العقلَ شيء سوى النفس: فذلك من أغلق أمر لأنَّ كلَّ شيء يجتمع في تقويم صميم واحد يختلط، وكلُّ شيء يختلط يتغيَّر ولا يبقى على ما كان قبل ذلك. وسيستبين لنا في أمر الطبائع الأربع أنَّ الأشياء إذا اجتمعت تكوَّن منها شيء سواهنَّ. فكيف تجتمع النفس التي لا جسد لها، وهي صميم على حدتها، في جسد، وتكون جزءًا من الحيّ وتحفظ صميمَها غير مغيَّرة ولا بُدَّ من أحد أمرين: إمّا أن تجتمع النفس والجسد ويُعين بعضها بعضًا كهيئة الطبائع؛ فإن كان كذلك فإنَّ الأجساد التي هي فيها من الأربع المبتدعات لا تكون أجسادًا حتّى يتغيَّر الجسد بالمبتدعات، وإمّا اللواتي تَلصَق كما يلصق الشيءُ بعضه في بعض أو يمتزجنَ كالطلاء والماء.

 

فإن قلنا: إنَّ النفس تلصق بالجسد، فقد أخطأنا لأنَّه قد تبيَّن فيما قد ذكرنا قبل ذلك من قولنا، إنَّ النفس لو التصقت بالجسد كما يلصق الشيء بعضه في بعض، لم يكن الجسدُ كلُّه ذا نفس إلاَّ الذي تلصق به مع أنّا لا نستطيع أن نقول: إنَّ الذي يلصق بعضه ببعض شيء واحد.

 

وإن قلنا: إنَّ النفس تمتزج بالجسد كما يمتزج الطلاء بالماء، لم نُصِبْ أيضًا؛ فإنَّ امتزاج الطلاء بالماء بعد أن يختلطا لا يكون ماءً خالصًا ولا طِلاءً مع أنَّه يكاد يكون شيئان امتزاجهما كهيئة الالتصاق، وإذ كنّا لا نستطيع أن نبلغَ عِلم ذلك من أجل دِقَّة اختلاطهما، فإنَّك إن صبغتَ الإسفنجة في الزيت، ثمَّ جعلتَها في الطلاء والماء الممزوجين، نشفت الماء وحده وبقي الطلاء. فأمّا الشيء الذي يتَّحد كهيئة النفس والجسد فلا يُستطاع أن يُفرَّق كلُّ واحد منهما على حدته ما داما متوحِّدَين. وإن كانت النفس والجسد لا يتوحَّدان ولا يمتزجان ولا يلتصقان، فأيُّ شيء هذا الذي يجعل النفسَ والجسدَ حيٌّا واحدًا؟

 

وأمّا أفلاطون فمن أجل هذا السبب الذي ذكرنا، لم يكن يُسمّي الجسد والنفس حيٌّا ولكنَّه كان يقول: إنَّما النفس تعلو الجسدَ كهيئة اللباس واللابس؛ وفي هذا القول قلتُ: إنَّه لا يستطيع أن يكونَ كاللباس ولا يُشبِه شيئًا واحدًا؛ وأمّا النفس والجسد فيُقال لهما حيٌّا واحدًا.

 

قد فسَّر هذا القول وبيَّنه أمّونيوس معلِّم أفلوطين فقال: إنَّ المعقولة طبيعة تستطيع أن تتوحَّد معها يقبَلها من الأجساد كهيئة امتزاج الأجساد التي يغيِّر بعضهنَّ بعضًا وتبقى بعدما تتوحَّد طبيعتها لا تتغيَّر كهيئة الذي يلتصق بعضه ببعض.

 

فأمّا اتِّحاد الأجساد التي تكون من طبائع شتّى، فلا بُدَّ أن تتغيَّر الطبائع من أجل أنَّها تغيَّرت إلى جسد سوى الذي كانت قبل ذلك. ويكون من الطبائع الأطعمة ومن الأطعمة يكون الدم ومن الدم يكون اللحم وسائر أجزاء الجسد.

 

ويكون في المعقولة اتِّحادٌ ولا يتَّبعه تغيُّر؛ فإنَّ طبيعة صميم المعقولة لا تتغيَّر ولا تهلك من أجل أنَّها خالدة والنفس هي حياة؛ فلو أنَّها تتغيَّر حين تكون في الجسد لم تكن ولما كانت النفس، إذًا انتفع الجسد إن لم يكن جسدًا ينال منها الحياة. فلذلك وصفتُ في كتابي هذا ما وصفتُ من أمر النفس وقلتُ: إنَّ النفس لا تتغيَّر وإن اتَّحدت مع الجسد، لأنَّ صميم المعقولة لا يتغيَّر ولا يُصيبها بلى مع الجسد الذي تتَّحد فيه.

 

فمن هنالك تبيّن لنا أنَّ النفس تتَّحد مع الجسد ولا يُغيِّرها الجسد، وبيان ذلك أنَّ النفس توجَد في الجسد لأنَّها يُهيِّجها ما يُهيِّج الجسد من الأوجاع. فبيان ذلك أنَّ النفس لا تتغيَّر في الجسد عند النوم، لأنَّ النفس كأنَّها تفارق الجسد في النوم وتتركه كالميِّت إلاَّ ما يبقى في الجسد من الحياة، وهي كمِّيَّةُ البخار لئلاّ يهلك الجسد. فأمّا النفس فإنَّها تبقى وتعمل عملها في النوم وهو الرؤيا؛ فإنَّها تكاد تعلَم ما هو كائن.

 

وإنَّ النفس تتفكَّر وحدها فتعلم عِلم طبائع الأجساد من غير أن يشاركها الجسد. ولو أنَّها كانت جسدًا لم تدخُل في الأجساد وتعلم طبائعهنَّ. ومن أجل أنَّ طبيعة النفس لا تتغيَّر بالجسد الذي اتَّحدت فيه من نحو كيانها، وإنَّما النفس كشبه الشمس والجسد كشبه الهواء، فكُلَّما دنت الشمس من الهواء ازداد الهواء استنارة وتغيَّر ويُوجَد في الهواء نورها، ولا تتغيَّر الشمس. فمن أجل هذا الذي قلتُ اتَّحدت الأنفس في الأجساد ولا تتغيَّر.

 

أقول: إنَّ شكل النفس يُخالف شكلَ الشمس، لأنَّ الشمس جسد وهي محدودة تحتاج إلى مكان ويمُنح ضوء الشمس أن يكون في مكان أجساد أُخَر. وكما أنَّ نورَ الشمس يُحَدّ، كذلك نور النار يكون في الحطب أو فيما كانت فيه يمتنع نورُها أن يكون في مكان آخر.

 

وليس كذلك النفس لأنَّها ليست بجسد ولا تُحدّ في مكان، ولكنَّها تدخل في كلِّ شيء من الجسد فتُنوِّر الجسد كلَّه وأجزاءه لأنَّ الجسد لا يملك النفس، ولكنَّ الجسد فيها من أجل أنَّها معقولة. ولا تمنع الأجساد النفسَ أن تدخل في كلِّها وتكونَ فيها، ولا يستطيع مكانٌ أن يحدَّها أو يمنعها أن تدخل فيه أو تخرج منه.

 

فإنَّها في كلِّ مكان معقولة، فبيان ذلك حين تُفكِّر النفس وتعقل لأنَّها ليست لها جثَّة ولا أجزاء متجسِّدة، فلذلك لم تحتج إلى مكان يحصُرها ويحبِسها، وكيف تستطيع أن تُحاطَ بالذي لا أجزاء له. وهو ألطف اللطيف، أو تحبَسَ في مكان، لأنَّ المكان هو للأجساد ذوات الجثَّة، فإنَّ حدَّ المكان هو المنتهى الذي يُحيط بما يحاط به.

 

فلو أنَّ رجلاً قال: إنَّ النفس إذا تفكَّرت الإسكندريَّة كانت بها، أو أرمينية أو الصين كان لا يحدُّها في مكان، ولكن كان يُقال ذلك، ولا يكون. فإنَّ ذلك لو كان حقٌّا لم تستطع أن تكون النفس حين يتفكَّر ذلك المتفكَّر في المشرِق أو في المغرِب في حفظه. ولكنّا نقول: إنَّما تذكر المكان الذي تفكَّرت فيه ولا تكون فيه.

(1) الاختلاف يعني تبدُّل الصفة qualité. والهرق (يهراق) flux يبدّل الوسع volume، والقطع يحوّل الشكل .

 

(2) الطبائع (أو: العناصر) الأربع حاضرة في الجسد، بنسة خاصّة وبصفةٍ تتوازن فيها الأمزجة وتحدّد الحياة والصحّة. والعناصر الأربعة عينها حاضرة في نسب خاصّة، في مختلف أنواع الأطعمة. وهكذا يُسند الطعامُ الحياة والصحّة حين يضع في الجسد ما ضاع من عناصر.

 

(3) هنا أدخل نميسيوس موضوعًا جديدًا: الطبيعيّ physique أو العناية. فنظريَّة الصحَّة هي التي أخذها نميسيوس عن جالينوس (131-201) Galien الطبيب اليونانيّ الذي اكتشف اكتشافات هامَّة في علم تشريح الأجساد وتركيبها ومن التقليد الطبّي لدى اليونان، جعل الصحَّة تقوم في المحافظة على توازن مثاليّ بين الصفات، وهذا ما يشكّل المزاج tempérament عند الإنسان.

 

(4) افترض الأقدمون أنَّ الطيور تتغذّى من الأرض، بينما هي تأكل النمل وسائر الحشرات المخفيَّة في الأرض.

 

(5) مجد الإنسان أن تغطّيه الثياب الحلوة، لا الطبيعة (جلد الحيوان). اعتُبر الإنسان »لا عريانًا« في الجنَّة. وجاءه العري بعد الخطيئة (تك 3:10).

 

(6) أخذت هذه الملاحظات من عالم الكيمياء والطبّ والزوؤلوجيا (أو: علم الحيوان) في خطّ Posidonius (135-51 ق.م.) الفيلسوف اليونانيّ الذي علَّم في رودس وكان من تلاميذه شيشرون خطيب رومه، وبومبيّوس القائد الرومانيّ.

 

(7) Epicure (341-270). فيلسوف يونانيّ. أسَّس في أثينة مدرسة، البستان، كما أطلق الإبيقوريَّة (بحث عن اللذَّة الطبيعيَّة والضروريَّة).

 

(8) Démocrite (460-370 ق.م.). تأثّر به إبيقور. هو فيلسوف يونانيّ سابق لسقراط. قسَّم الطبيعة إلى ذرات تتفاعل في فراغ لا حدود له.

 

(9) Stoa أو الرواق. هم الرواقيون Stoïciens الذين أسَّسهم زينون الفينيقيّ. هذا التيَّار هو عقلانيّة تربط رباطًا لا ينقطع بين المنطق والطبيعة والخلقيَّة، ويعتبر الكون »مدينة« يحكمها العقل.

 

(10) Critias (450-404 ق.م.). رجل سياسة أثينيّ. تلميذ سقراط وقريب أفلاطون. هو افتراض، ويمكن أن يكون شخص آخر.

 

(11) Hippone. من المدرسة الأيَّونيَّة ionienne في الفلسفة الماديَّة. ازدهرت في القرن السادس ق.م. ترك كتاب الطبيعيّ أو كتاب الطبيعة. اعتبر الحرارة والماء الوجودين الأساسيّين.

 

(12) Héraclite الأفسسيّ (540-475 ق.م.). انتقد النظريّات الماديَّة، وشدَّد على لاواقعيّة الحواسّ. فالمعرفة الحقَّة تنطلق من العقل ومن الذهن.

 

(13) Thalès de Milet (القرن السابع ق.م.) هو أبو الفلسفة اليونانيَّة.

 

(14) Pythagore (القرن السادس ق.م.) صاحب معتقد متصوّف.

 

(15) Platon (427-348/347)، فيلسوف يونانيّ من أصل أرستوقراطيّ تلميذ سقراط. ترك العديد من المؤلَّفات.

 

(16) Aristote (322-427). فيلسوف يونانيّ. تلميذ أفلاطون في الأكادميَّة، ومعلِّم الإسكندر المقدونيّ. له كتب عديدة، وهنا في البيولوجيا.

 

(17) Dinarque (361 ق- ؟). ابن كورنتوس العائش في أثينة. تلميذ أرسطو.

 

(18) لا نجد هذا الاسم في اللاتينيَّة بل »المانويّين« الذين حسِبَ نميسيوس تعليمهم موازيًا لتعليم اليونان.

 

(19) Ammonius Saccas جاء من الهند وأقام في الإكسندريَّة، فدرس النيوأفلاطونيَّة. من تلاميذه أفلوطين (205-270).

 

(20) Plotin هو صورة مميَّزة في النيوأفلاطونيّة.

 

(21) Numénius عُرف في آفامية (قلعة المضيق) كفيلسوف نيوفيثاغوريّ، في نهاية القرن الثاني المسيحيّ.

 

(22) إنَّ مفهوم الجسد الحيّ يكون له مبدأ يقود إلى العبث إذا افترض هذا المبدأ جسديٌّا في ذاته. هنا نستطيع القول إنَّ نميسيوس كان أمامه شرح نيوأفلاطونيّ لأرسطو حول النفس.

 

(23) قياس الجسد وصفته اعتبرا مزعجين للناظر. هذا ما ينسبه الرواقيّون إلى رفع خارجيّ للجسد باتّجاه الناظر. فالجسم لا يتفكَّك بل يبقى هو هو لأنَّ انشدادًا داخليٌّا يحلُّ فيه.

 

(24) نذكر اللون. فجسد أبيض متين هو أبيض في ثلاثة أبعاد (= مساوف) أمّا البياض فلا أبعادَ له في ذاته.

 

(25) هو مثل مأخوذ من أفلاطون في Phèdre.

 

(26) Xénocrate الخلقيدونيّ. وُلد سنة 396 ق.م. كان الكاتب عند أفلاطون. قال زينون (مؤسِّس الرواقيّين) وإبيقور إنَّهما سمعاه في أثينة. أمّا النظرة فهي تعليم عن النفس كأنَّها عدد، في الخطِّ الفيثاغوريّ.

 

(27) توجَّه هجوم نميسيوس على بعض الأنبياء الشرقيّين أو السحرة الذين وصلت آراؤهم إلى حمص.

 

(28) النتيجة التي وصل إليها نميسيوس هو أنَّ النفس ليست النسمة.

 

(29) Cléanthe (301-255). خلف زينون كرئيس للمدرسة الرواقيَّة في أثينة.

 

(30) Chrysippe (280-206 ق.م.). كان تلميذ Cléanthe وخلفه. اشتهر بمهارته في الجدل.

 

(31) ردَّ نميسيوس هنا على الرواقيّين الذين اعتبروا النفس »جسديَّة«. فالجسد له شكل هندسيّ فلا يدخل فيه شيء خارجٌ عنه. ولكنَّ »البياض« صفة فهو لاجسديّ لهذا يستطيع أن يمتزج بالجسد. فلا يستطيع الجسد أن يكون مع النفس، كما يكون مع اللون الأبيض. فالنفس لا ترتبط بالجسد على المستوى المكانيّ دأبًا وعادة (ديدنًا).

 

(32) Simias de Thèbes صاحب حوارات. في Criton الذي ألَّفه أفلاطون قيل عنه إنَّه أتى بالمال ليشتري تحرير سقراط من السجن.

 

(33) Phédon أحد كتب أفلاطون فيه نقاش بين الرأي الحقيقيّ والمعرفة.

 

(34) قالوا: النفس تشبه تناسق الأوتار في آلة موسيقيَّة، ممّا يعني أنَّها تأتي بعد الجسد. رفض نميسيوس هذا الموقف: فالنفس جوهر سابقٌ للجسد.

 

(35) كتب جالينوس في البيان مؤلَّفًا في خمسة كتب. بقيَتْ أجزاء منه في اللغة العربيَّة. سوف يذكر نميسيوس الكتاب الثالث من هذا المؤلَّف.

 

(36) Hippocrate هو أبو الطبّ. وُلد حوالي سنة 460 ق.م. أقام قرب Asclépios إله الطبّ. قال: الطبيعة هي مبدأ الصحَّة.

 

(37) .Latès وربَّما Thalès (625-547 ق.م.) عالِمٌ وفيلسوف يونانيّ من إيّونية، وأحد حكماء اليونان السبعة.

 

(38) Origène (185-251 ق.م.). ابن الإسكندريَّة والمعلِّم فيها قبل أن ينتقل إلى قيصريَّة فلسطين ويموت في صور (لبنان).

 

(39) Mothosلم نجد عنه شيئًا. يقول: الطبع أهمّ من اللون. فلا جسد بدون طبع، كما لا نار بلا حرارة. إذًا الطبع صفة ولا يمكن أن يكون النفس.

 

(40) عاد نميسيوس إلى تعليم أرسطو حول النفس وتركه لكي يعود إلى النيوأفلاطونيَّة وإلى النظرة المسيحيَّة.

 

(41) شدَّد فيثاغور على أهميَّة العدد. فالتجانس يعطي الصحَّة والنموّ للجسد. ولكن لا يمكن أن نجعل النفس تحت العدد.

 

(42) شفع أم وتر: عبارة تعني: زوج أم فرد.

 

(43) تشديد على quantité. تزداد وتنقص.

 

(44) النفس كائنٌ يتحرّك من ذاته فلا يضاف إليه شيء.

 

(45) .Eunomius ابن القرن الرابع. وُلد على الحدود بين الكبادوك وغلاطية سنة 356. تتلمذ على يد Aetius ونظَّم نسخة جديدة عن الأريوسيَّة، مع احتقار للتقليد الكنسيّ.

الفصل الثامن

 

غريغوار ابن أبو الفرج ابن العبريّ (1226-1286)

 

في الذكرى المئويَّة السابعة لوفاته(*)

 

مضت سبعماية سنة على وفاة أحد كبار فلاسفة الشرق ولاهوتيّيه، العلاّمة أبو الفرج الملقَّب بابن العبريّ، فاحتفلت الكنائس السريانيَّة بهذه الذكرى في دمشق وحلب وحمص والقامشلي وبيروت؛ وأفردت العراق يومين، يومًا في دير مار متّاي حيث دُفن ويومًا في الموصل؛ ونظَّمت الجامعة اللبنانيَّة سلسلة من المحاضرات دامت ثلاثة أيّام، تطرَّق فيها الباحثون إلى المجالات التي غاص فيها ابن العبريّ: اللاهوت والأخلاقيّات والكتاب المقدَّس والشعر والتاريخ؛ ونشرت دار المشرق تاريخ الزمان ببيروت. فمن هو هذا العظيم الذي احتفلنا بذكراه؟

 

أوَّلاً: حياة ابن العبريّ

 

  1. مولده

 

وُلد ابن العبريّ في ملطية، عاصمة أرمينيا الصغرى، سنة 1226. ونال في العماد اسم يوحنّا. واتَّخذ اسم غريغوار يوم رُسم أسقفًا سنة 1246. أمّا اسمه الكامل فهو أبو الفرج جمال الدين مار غريغوار ابن تاج الدين هارون بن توما المَلطيّ. انتمى إلى أسرة عريقة في المسيحيَّة والشرف، وكان أبوه هارون طبيبًا عالمًا، وجيهًا في قومه، نافذ الكلمة في أهل بلده(1).

 

كان لهارون أولاد نجباء هم ميخائيل وموفَّق ودمنيا ويوحنّا (غريغوار) وبرصوم. والظاهر أنَّهم توفُّوا جميعًا قبل غريغوار، ما عدا برصوم الصفيّ الذي كان شمّاسًا لأخيه، ثمَّ خلفه على كرسيّ المشرق سنة 1288، وظلَّ يشغل هذا المنصب حتّى وفاته في 1 من كانون الأوَّل سنة 1307. ونشير هنا إلى أنَّ برصوم أنجز ترجمة أخيه وأكمل التاريخ الكنسيّ الذي بدأه غريغوار وتوقَّف عنه سنة 1285، فأكمله أخوه حتّى سنة 1288.

 

أمّا عن لقب ابن العبريّ، فيقول المستشرقون(2) إنَّ أباه كان يهوديّ الأصل اهتدى إلى النصرانيَّة فلقِّب بابن العبريّ وانتقل هذا اللقب إلى أولاده. إلاَّ أنَّ البطريرك اغناطيوس أفرام الأوَّل برصوم(3) دحض مقال المستشرقين موردًا بيت شعر قاله ابن العبريّ عن نفسه: »إذا كان سيِّدنا المسيح سمّى نفسه سامريٌّا فلا غضاضة عليك إن دعوك ابن العبريّ، لأنَّ مصدر هذه التسمية نهر الفرات لا دينًا معيبًا ولا لغة عبريَّة«(4). فالأرثوذكس عامَّة ينكرون هذا التعليل ويقولون إنَّ هذا اللقب أطلق على العائلة لولادة أحد آبائها أو لولادة هارون نفسه في أثناء عبور نهر الفرات. أمّا بولس بهنام مطران بغداد السابق فيربط بين قرية كبيرة تسمّى »عبري« من أعمال جوباس، وملطية موطن غريغوار أبي الفرج فيقول: جلا جدُّ أبي الفرج عن هذا القرية إلى ملطية، إلاَّ أنَّ اسم القرية لاحقه فبقيَتْ النسبة في أحفاده(5).

 

  1. حداثته

 

عكف ابن العبريّ منذ حداثته على الدراسة والحفظ والتحصيل، فأتقن السريانيَّة والعربيَّة بعلومهما، وقرأ الطبّ على أبيه فتعلَّم منه شيئًا كثيرًا، وكذلك على غيره من أطبّاء العصر المشهورين. واشتغل أيضًا بالفلسفة واللاهوت فدرس مبادئهما على يد والده وحصَّل الكثير وهو لم يبلغ الثامنة عشرة من عمره.

 

ولكنَّ الكوارث التي حلَّت ببلده اضطرَّته موقَّتًا إلى الانقطاع عن التحصيل. فقد هجم المغول في صيف 1243 على ملطية واستولوا عليها، فهاجر معظم سكّانها إلى سورية ونزح هارون مع أسرته إلى أنطاكية وكانت آنذاك في يد الصليبيّين، فلمّا وصلوا إليها اعتزل ابنُ العبريّ العالمَ وتنسَّك في إحدى المغاور المجاورة. غير أنَّ البطريرك اغناطيوس سابا صرفه عن حياة العزلة هذه بعد أن وصل إليه خبر علمه وفضيلته فطلب إليه متابعة تثقُّفه علميٌّا وروحيٌّا ليستعدَّ لخدمة الكنيسة والمجتمع. وهكذا ذهب أبو الفرج إلى طرابلس (لبنان) مع رفيق له يدعى صليبا فتابع دراسة الطبِّ والبيان والمنطق على عالِم من علماء النساطرة اسمه يعقوب(6).

 

  1. الأسقف غريغوار

 

في سنة 1264، دعا البطريرك اغناطيوس (1222-1252) غريغوار ورفيقه، فرسم صليبا أسقفًا على كنيسة عكّا، وغريغوار أسقفًا على أبرشيَّة جوباس الصغيرة في منطقة ملطية وهو ابن عشرين سنة. ولم تمضِ سنة حتّى نقله البطريركُ إلى لاقبين في المقاطعة نفسها.

 

توفِّي البطريرك اغناطيوس سابا وخلفه ديونيسيوس عنجور (1252-1261) الذي تحزَّب له ابن العبريّ على خصمه ابن المعدنيّ. فنقل ديونيسيوس ابن العبريّ إلى كرسيّ حلب، إلاَّ أنَّ هذه المدينة كانت موالية لابن المعدنيّ فرفضت قبول الأسقف الجديد. حينئذٍ اضطرَّ غريغوار إلى الذهاب إلى دير مار برصوم وأقام عند بطريركه سنتين، ثمَّ قصد دمشق فنال حظوة عند الملك الناصر فرفع مكانته وأعاده إلى كرسيِّه مكرَّمًا. واستفاد ابن العبريّ من هذه الفترة من حياته فأكبَّ على المطالعة وأتمَّ دروسه الفلسفيَّة واللاهوتيَّة وأحكم اللغة العربيَّة، وبدأ يستعدُّ لحقبة جديدة في حياته.

 

ومن ثمَّ عاد إلى حلب بعد أن تحسَّنت علاقاته بابن المعدنيّ سنة 1258، ولكن حدثت في تلك السنة الغزوة المغوليَّة التي ضربت بغداد وقوَّضت الدولة العبّاسيَّة وزرعت الدمار في بلاد العراق وبعض أطراف الشام. وذهب ابن العبريّ لملاقاة هولاكو ليستعطفه على شعبه، ولكنَّ المغول أسروه وأعملوا السيف في رقاب سكّان حلب المدينة المنكوبة من مسيحيّين ومسلمين على حدِّ سواء(7). ولكنَّه في الأخير نال حظوة لدى هولاكو نفسه، نظرًا إلى مهنة الطبِّ التي كان يُتقنها.

 

  1. مفريان المشرق

 

قُتل البطريرك ديونيسيوس في كرسيِّه سنة 1261، ولم يعش البطريرك ابن المعدنيّ بعده طويلاً، فلحقه سنة 1263، وكان، قبل وفاته، قد اختار ابن العبريّ ليحلَّ محلَّه في مفريانيَّة الشرق. ولمّا خلفه اغناطيوس الثالث يشوع في كرسيّ البطريركيَّة سنة 1264، أقرَّ اختيار ابن العبريّ. وجرت حفلة التنصيب بأبَّهة فائقة في مدينة سيس بحضور الملك هايتوم الأرمنيّ وعظماء بلاطه، مع أساقفة اليعاقبة وأساقفة الأرمن في 19 من كانون الثاني سنة 1264. لا يخفى على القارئ أنَّ رتبة المفريان هي الرتبة الثانية في الكنيسة السريانيَّة، وصاحبها يأتي مباشرة بعد البطريرك، وله السلطة على الأساقفة في مفريانيَّته(8). أمّا مفريانيَّة المشرق فكانت تشمل الناحية الشرقيَّة من بلاد الرافدين والعراق العجميّ ومنطقة أشور، أي كلّ ما كان يدخل سابقًا في المملكة الساسانيَّة، فهي رعيَّة واسعة جدٌّا ومنتشرة في مناطق شاسعة.

 

أخذ المفريان الجديد يجوب أنحاء رعيَّته وظلَّ على هذا المنوال 22 سنة يعمل بغيرة ونشاط وإخلاص. تنقَّلَ بين نينوى ودير مار متّاي وبغداد والموصل ومراغة وتبريز، وكان يتفقَّد المؤمنين ويشجِّعهم. ومرَّ في بغداد مرَّتين، ولاقى إكرامًا لدى جثالقة المشرق، وزار تكريت سنة 1277 بعد أن مرَّ فيها التتر فأحدثت زيارتُه فرحًا عظيمًا لمدينة لم تحظَ بزيارة مفريان منذ ستّين سنة(9).

 

وزار هولاكو، الملك التتريّ، فحظيَ بعطفه ونال منه ثلاث براءات: واحدة له، وواحدة للبطريرك، وثالثة لأسقف قيساريّة قبادوقية (في تركيّا) اليعقوبيّ. وسهر على استتباب الأمن والراحة بين أبناء الرعيَّة، وأنشأ الكنائس والأديرة، واهتمَّ بكنيسة برطلة وهو في أواخر حياته سنة 1285. ويروي في تاريخه الكنسيّ أنَّه أقام خلال حياته اثني عشر أسقفًا ممَّن تميَّزوا بالفضيلة والعلم. ولم يقتصر نشاطه على أبناء رعيَّته، بل اتَّصل بالمسيحيّين من مختلف المذاهب من روم وأرمن ونساطرة. واتَّصل كذلك برجال الدولة المسلمين وبأرباب العلم والثقافة، فكثر أصدقاؤه في الأوساط المختلفة.

 

ومع كلِّ هذا النشاط، لم يألُ ابن العبريّ جهدًا في الاطِّلاع على خزائن الكتب والمحفوظات في الأديرة والمعابد. واستفاد خصوصًا ممّا وجده في مدينة مراغة، من أعمال أذربيجان، من وثائق ستساعده على تدوين كتبه التاريخيَّة.

 

وظلَّ ابن العبريّ على هذا المنوال في نشاطه إلى أن وافته المنيَّة في 30 من تمُّوز سنة 1286 في مدينة مراغة، وكان فيها مار يبلاها الثالث، جاثليق النساطرة التتريّ الأصل، فرأى أن يقام لابن العبريّ جنازة فخمة، فشارك فيها الروم والأرمن فضلاً عن اليعاقبة(10). ولقد وضع جثمانه في مذبح كنيسة السريان في مراغة ثمَّ نقل فدفن في دير مار متّاي، وهو لا يزال هناك إلى يومنا هذا موضع إكرام وتقدير.

 

ثانيًا: آثار ابن العبريّ

 

يقول السمعانيّ: »لم يكفَّ ابن العبريّ عن القراءة والكتابة منذ العشرين من عمره وحتّى نهاية حياته«. وكتاباته خير شاهد على علمه الشامل الذي تطرَّق إلى كلِّ فروع المعارف البشريَّة، وقد أحصى منها أخوه برصوما 31 كتابًا وصل إلينا أكثرها وأهمُّها.

 

  1. الآثار الفلسفيَّة

 

كانت الفلسفة الجامعة على الطريقة الأرسطاطاليَّة سهلة المنال مستقرَّة المقام بين المسيحيّين أبناء اللغة السريانيَّة، كما كان مفكِّرو المسلمين يأخذون بها أمثال الفارابي وابن سينا وابن رشد. وجاء ابن العبريّ فكان وريث ثقافة مزدوجة، فألَّف في العربيَّة والسريانيَّة، وهذه مؤلَّفاته الفلسفيَّة التي وصلت إلينا.

 

أ) بعض المؤلَّفات الفلسفيَّة

 

رسالتان في النفس دبَّجهما في العربيَّة: الأولى مقالة مختصرة في النفس البشريَّة، نشرها الأب لويس شيخو(11) سنة 1898، ويبدو أنَّ ابن العبريّ اقتدى فيها برسالة سريانيَّة بالعنوان نفسه للكاتب السريانيّ موسى بركيفا الذي نقل بدوره عن كتاب يونانيّ عنوانه في النفس البشريَّة لططيانس، نُسب خطأ إلى القدّيس غريغوار العجائبيّ(12). والرسالة الثانية مختصر في علم النفس الإنسانيَّة. نشرها القسّ بولس سباط في مصر سنة 1928 فجاءت في 74 صفحة(13)، وقد ألَّفها ابن العبريّ بناء على طلب ديونيسيوس عنجور أسقف ملطية قبيل سنة 1252، ووصلت منها نسخة نفيسة، أنجزت في أواخر القرن الثالث عشر أو أوائل القرن التالي، إلى يد البطريرك اغناطيوس برصوم فنشرها في »المجلَّة البطريركيَّة«(14) ثمَّ على حدة في حمص سنة 1938.

 

ب) الأحداق (كتوبو دبوبوتو):

 

كتيِّب في المنطق والفلسفة لا تتجاوز صفحاته الأربعين، ألَّفه بعد سنة 1275 فجاء في سبعة أبواب مبنيَّة على أورغانون (المنطق) أرسطو. نعرف منه ثلاث نسخ، واحدة في جامعة روكفلر بشيكاغو كُتبت سنة 1290، وثانية في لندن (رقم 1017)، وثالثة في كمبريدج (رقم 2005) والأخيرتان تعودان إلى سنة 1579، وهناك أيضًا نسخة في البطريركيَّة السريانيَّة الأرثوذكسيَّة وثانية في دير الشرفة(15).

 

ج) حديث الحكمة (سود سوفيا):

 

كتاب صغير يتضمَّن أربعة أبواب: المنطق، الفيزياء، الربوبيَّة، الأخلاق. نُشرت منه مقاطع في مجلَّة المعهد الطبّيّ العربيّ في دمشق، ونشره سنة 1940 البطريرك برصوم عن ترجمة عربيَّة عُملت بعد زمن المؤلِّف بمدَّة يسيرة وجاءت نسختها من سنة 1608(16).

 

وقبل أن نتطرق مطوَّلاً إلى كتاب زبدة الحكمة في الفلسفة، نشير هنا إلى كتاب تجارة الفوائد في المنطق والفلسفة، وهو مجلَّد يختصر كتاب زبدة الحكمة، وضعه المؤلِّف قبل سنة 1276 وبقيَتْ منه ستّ نسخ أقدمها خُطَّت في 20 من أيّار سنة 1276(17). قيل إنَّ هذا الكتاب نُقل من العربيَّة إلى السريانيَّة، والأمر يحتاج إلى دليل(18). ونشير هنا إلى أنَّ ابن العبريّ نقل من العربيَّة إلى السريانيَّة كتاب الإشارات والتنبيهات في المنطق والفلسفة وما وراء الطبيعة لابن سينا إجابة إلى رغبة القسّ شمعون آل توما الشرقيّ، رئيس أطبّاء الملك هولاكو(19)، كما نقل كتاب زبدة الأسرار في الفلسفة لأثير الدين الأبهريّ المتوفّى سنة 1264، ولكنَّ هذا الكتاب مفقود.

 

د) زبدة الحكمة (حاوت حكمي)

 

أهمُّ كتاب فلسفيّ تركه لنا ابن العبريّ هو زبدة الحكمة، يقع في مجلَّدين من 951 صفحة ولا يزال مخطوطًا. للمجلَّد الأوَّل نسختان قديمتان، الأولى في فلورنسا (عدد 186)، تعود إلى سنة 1340 وقد خطَّها القسّ الراهب نجم، والثانية في أوكسفورد (هونت 1)، خطَّها الراهب القسّ يوسف الكرجيّ سنة 1498، وأربع نسخ حديثة في كندناط (بلاط الملابار) وحلب ودير السيِّدة (خطَّت سنة 1818) وبرمنغام. وللمجلَّد الثاني نسختان قديمتان الأولى خُطَّت على عهد المؤلِّف وقد نُقلت في أواخر سنة 1285 وأوائل سنة 1286 وهي موجودة في الخزانة البطريركيَّة للسريان الأرثوذكس، والثانية موجودة في خزانة آمد الكلدانيَّة، ونسختان حديثتان، الواحدة في الخزانة البطريركيَّة وأخرى في برمنغام.

 

يتطرَّق المجلَّد الأوَّل إلى العلم المنطقيّ الفلسفيّ وفيه تسعة كتب: الأوَّل إيساغوجي أو المدخل؛ الثاني كتاب المقولات العشر كالجوهر والعرض؛ الثالث كتاب بريرمنياس أي العبارة؛ الرابع الأنالوطيقي الأوَّل وهو تحليل القياس؛ الخامس الأنالوطيقيّ الآخر أي البرهان؛ السادس كتاب طوبيقي أو ديالقطيقي وهو الجدل؛ السابع السوفسطيقي أي المغالطة أو الحكمة المموَّهة؛ الثامن ريطوريقي أي الخطابة؛ التاسع فوايطيقي أي الشعر.

 

في هذا المجلَّد الذي يقع في 365 صفحة اتَّبع ابن العبريّ طريقة أرسطو في طرح المواضيع، وقال في خاتمته: »هذا كلُّ ما وقفنا عليه من تعليم أستاذنا الفيلسوف الكبير أرسطاطوليس في كتاب الشعر، ويُخال لي أنَّ جزءًا غير يسير فضل منه، إمّا لم يُنقَل من اليونانيَّة أو السريانيَّة أو العربيَّة، أو نُقل ولم يصل إلينا. وإذا شاء الله وكان في الأجل نسخة فإنَّنا ننوي وضع كتاب كافٍ في هذا الفنّ، نستقصي فيه من الأقيسة ما وافق هذه اللغة وحسُنَ فيها وقعه وتتَّفق ألفاظه وتحمل معانيه التي تصادف قابليَّة طبيعيَّة للتخيُّل، كاجتماع الأضداد والمجانسة والاستعارة والمضادَّة والتتابع والمقايسة والمساواة والدلالة والتحقُّق وغير ذلك«(20).

 

أمّا المجلَّد الثاني فهو يتطرَّق إلى الطبيعيّات وفيه جزءان. في الجزء الأوَّل ثمانية كتب: الأوَّل كتاب السماع الطبيعيّ ويُعرف بسمع الكيان، يتضمَّن خمسة أبواب وفيه تعريف بالأمور العامَّة لجميع الطبيعيّات (أو الفيزياء) مثل المادَّة والصورة والحركة الطبيعيَّة والأسباب والنهاية وغير النهاية وتعلُّق الحركات والنهاية إلى محرِّك أوَّل واحد غير متحرِّك وغير متناهي القوَّة لا جسم له ولا هو في جسم؛ الثاني كتاب السماء والعالم، يتضمَّن خمسة أبواب وفيه تعريف بأحوال الأجسام، بالعناصر الأربعة وحركاتها ومواضعها، وبالحكمة في صيغتها وتفصيلها؛ الثالث كتاب الكون والفساد، فيه أربعة أبواب يشرح فيها حال الكون والفساد والتوالد والنشوء والاستحالات، ويبيِّن عدد الأجساد القابلة لهذه الأحوال؛ الرابع كتاب المعادن، فيه يذكر حال الكائنات الجماديَّة وما في المعادن والجبال والينابيع وحركة الأرض ووضع المسكونة؛ الخامس كتاب الآثار العلويَّة ويُسمَّى مترولوجيا، يتضمَّن أربعة أبواب وفيها يتكلَّم على الأحوال التي تعرض في العناصر الأربعة وتأثير السماوات والشهب والغيوم والصواعق والرياح والزلازل والبحار والجبال؛ السادس كتاب النبات، في أربعة أبواب، يبحث عن الكائنات النامية؛ السابع كتاب الحيوان، بأبوابه الستَّة، وفيه يعرف طبائع الحيوان وحال الكائنات الحيوانيَّة؛ الثامن كتاب النفس، في أربعة أبواب وهو يشتمل على معرفة النفس والقوى الداركة والمحرّكة التي في الحيوان وخصوصًا في الإنسان.

 

ويبقى الجزء الثاني من المجلَّد الأوَّل الذي يتضمَّن خمسة كتب: الفلسفة، العلم الإلهيّ ويسمّى أيضًا ما بعد الطبيعة وهو القسم النظريّ، والإيثيقيون، أي كتاب الأخلاق أو الحكمة الخلقيَّة وهو القسم العلميّ، تدبير الذات والمنزل، سياسة المدن(21).

 

  1. الآثار اللاهوتيَّة

 

كان ابن العبريّ أسقفًا ورئيس أساقفة، وكان أوَّل همومه تثقيف كهنته ورهبانه ليعلِّموا بدورهم الشعب المؤمن. لهذا صرف معظم وقته في تدبيج الكتب اللاهوتيَّة، فتطرَّق إلى الكتاب المقدَّس، وإلى ما نسمِّيه اللاهوت النظريّ أو التعليم في العقيدة، وإلى ما نسمِّيه اللاهوت الأدبيّ أي التعليم في الأخلاق والمسلك المسيحيّ والنسكيّات.

 

أ) مخزن الأسرار (أوصر روزي)

 

مخزن الأسرار مجلَّد ضخم فسَّر فيه ابن العبريّ أسفار العهدين القديم والجديد وفرغ من تدوينه سنة 1278(22). هذا المصنَّف لم يزل مخطوطًا، نَشر منه المستشرقان سبرنكلن وغراهام المجلَّد الأوَّل الذي يبدأ بسفر التكوين وينتهي بسفر صموئيل الثاني فجاء في 363 صفحة بحجم كبير(23). ولقد طبع كذلك كيتش وبرنستين المقدِّمة وبعض الشروح لمقاطع من سفر أيّوب في مختارات سريانيَّة(24)، وكان قد سبقهما العلاّمة يوسف شمعون السمعانيّ فنشر مقتطفات ونقلها إلى اللاتينيَّة(25). ثمَّ إنَّ الطلاّب الجامعيّين الألمان درسوا مخزن الأسرار، ونقلوا بعض أجزائه إلى اللاتينيَّة أو إلى الألمانيَّة بشكل أطروحة دكتورا. ونذكر على سبيل المثال أنَّ لارساو عُني في ليبزيغ بشرح الفصلين الأوَّلين من سفر التكوين، وأنَّ كلامروث اهتمَّ بأعمال الرسل والرسائل الكاثوليكيَّة، وأنَّ شوارتز درس إنجيل يوحنّا، وسبانوث إنجيل متّى(26).

 

هذا الكتاب الذي سخَّر له علمه بأسره تناول أسفار العهد القديم كلِّه، القانونيَّة الأولى والقانونيَّة الثانية(27)، وأسفار العهد الجديد، ولم يستثنِ منها إلاَّ سفر الرؤيا لأنَّ التقليد السريانيّ لم يجعله في رتبة سائر الكتاب القانونيَّة.

 

في هذا الكتاب الذي تعدَّدت نسخاته المخطوطة فأنافت على العشرين(28)، عاد ابن العبريّ إلى السبعينيَّة والبسيطة وأفاد من الحرقليَّة والهكسبلة(29) واستشهد بالأرمنيَّة والقبطيَّة ليضبط النصَّ الذي يفسِّر، فشرح الآيات مستندًا إلى تفاسير الأقدمين أمثال أوريجان المصريّ وأوسيب القيصريّ، وأثناز الإسكندرانيّ وأفرام السريانيّ وغريغوار النازينزيّ وفيلوكسين المنبجيّ وسويريوس الأنطاكيّ وغيرهم. غير أنَّه لم يقرأ مباشرة هذه النصوص بل وجدها في شُرّاح السريان السابقين. وهنا نشير إلى أنَّ ابن العبريّ يقف على مفترق طريقين: الطريق النسطوريَّة من تيودور بركوني وإسكوليّاته(30) التي جمعها في نهاية القرن الثامن، إلى المسائل المختارة لإيشوع برنون (+828) إلى إيشوعداد المروزيّ وحنانيشوع برسروشويه، إلى الشرح المجهول الاسم، إلى جنَّة الأطياب (أو: جنّة النعيم)، والطريق السريانيَّة ابتداءً من تيودور المبسوسطيّ وفيلوكسين المنبجيّ (+523) إلى يعقوب الرهاويّ (+708) وموسى بركيفا وديونيسيوس الصليبيّ.

 

شرح ابن العبريّ الكتاب المقدَّس شرحًا لفظيٌّا ولغويٌّا، وهذا ما نسمِّيه المعنى الحرفيّ، وشرحه شرحًا روحيٌّا ورمزيٌّا فاكتشف في نصوصه المعنى النهائيّ للكتاب وهو يسوع المسيح وكنيسته.

 

ب) منارة الأقداس

 

منارة الأقداس موسوعة كبيرة تحتوي عرضًا شاملاً للتعاليم الأرثوذكسيَّة، وسيوجزها ابن العبريّ في كتاب الأشعَّة(31). أمّا نحن فنتحدَّث عن منارة الأقداس.

 

هذا الكتاب الذي ذكره السمعانيّ في حديثه عن المكتبة الشرقيَّة الفاتيكانيَّة وصل إلينا في مخطوطات عدَّة توزَّعت بين الشرق والغرب. الأوَّل مخطوط الفاتيكان (عدد 168) يعود إلى القرن الرابع عشر وهو أفضل المخطوطات التي نَقلت إلينا منارة الأقداس لكتابته الواضحة ونصِّه الصحيح الذي لا تشويه فيه. الثاني مخطوط برلين (رقم 190) الذي دوَّنته يدان مختلفتان واحدة سنة 1430، وأخرى سنة 1693، فجاء قريبًا من مخطوط الفاتيكان. ودُوِّن مخطوط فلورنسا في عمودين (سنة 1387) بخطٍّ جميل مع بعض الكلمات المشطوبة والتصحيحات. ويعود مخطوط كمبريدج بإنكلترا إلى القرن الخامس عشر وهو يرتبط بمخطوط فلورنسا، والأخطاء مشتركة ما بينهما. والخامس مخطوط باريس (رقم 210) يعود إلى سنة 1404، كُتب بخطٍّ كبير واضح. تشوَّهت بعضُ كلماته فحاول أحد النسّاخ تصحيحها في ما بعد (سنة 1587). يرتبط مخطوط باريس في بعض عناصره بالفئة الأولى الممثَّلة بمخطوط الفاتيكان ومخطوط برلين، وفي بعضها الآخر بالفئة الثانية الممثَّلة بمخطوط فلورنسا وكمبريدج. ويجدر القول إنَّه منه انطلقت الترجمات العربيَّة لمنارة الأقداس في القرنين السابع عشر والثامن عشر.

 

هذا في الغرب، أمّا في الشرق فهناك مخطوط دير القدّيس مرقس بأورشليم القدس الذي دُوِّن سنة 1590 فجاء ببعض موادِّه قريبًا من مخطوطي الفئة الأولى، ومخطوط مطرانيَّة السريان الأرثوذكس في بيروت الذي يعود إلى القرن الرابع عشر ومخطوط الحسَكة في الجزيرة الذي يعود إلى سنة 1405.

 

نقل كتابَ منارة الأقداس إلى العربيَّة الشمّاس سرجين ابن الأسقف يوحنّا بن غرير الدمشقيّ وتوزَّعت نسخاته على المكتبة الوطنيَّة بباريس (سنة 1656) والمكتبة البودليّة في أوكسفورد (سنة 1656) ومكتبات لندن وكمبريدج، والشرفة والشرقيَّة في لبنان.

 

تتألَّف منارة الأقداس من اثني عشر ركنًا أو بابًا، وكلُّ باب يتضمَّن فصولاً وأقسامًا.

 

الباب الأوَّل: العلم بوجه العموم وفيه فصلان، يتطرَّق الفصل الأوَّل إلى إمكانيَّة اقتناء العلم، والفصل الثاني إلى المنطق. بعد مقدِّمة دوَّنها ابن العبريّ فأبان فيها أنَّ عصره يستخفُّ بالإيمان الحقِّ والعلم الحقّ، يعلن هو أنَّ هذا ما دفعه إلى جمع تعاليم الفلسفة والعلوم والطبيعة في موسوعة ونقدها وتمحيصها بطريقة فلسفيَّة. أمّا هدف الباب الأوَّل فهو القول بأنَّ قمَّة الكمال هي عند الإنسان، الكائن العاقل الباحث عن العلم الذي نقتنيه عن طريق الحواسّ والعقل. ويورد ابن العبريّ الشواهد المأخوذة من الكتاب المقدَّس والآباء المعلِّمين من يونان وسريان. وبعد أن يرسم صورة عن الإنسان المثاليّ يرُدُّ على أعداء الحكمة وعلى الرافضين حقيقة العلم بواسطة الحواسّ والعقل(32).

 

ويصف الكاتبُ في الباب الثاني العالمَ كما خُلق في ستَّة أيّام. عاد ابن العبريّ إلى الأدب السريانيّ من خلال تعليم موسى بركيفا عن الستَّة أيّام فاستقى المادَّة اللاهوتيَّة. واستند إلى الفكر اليونانيّ فقرأ أرسطو عند السريان والعرب، ولم ينسَ كتبًا مثل تاريخ الهند للبيرونيّ، ومروج الذهب ومعادن الجوهر للمسعوديّ، وتقويم البلدان لأبي الفداء. في الفصل الأوَّل يعالج قضيَّة العالم الأزليّ ويعتبر أنَّه مرتبط بالزمن، وفي الفصل الثاني يتطرَّق إلى زوال العالم، وفي الفصل الثالث يعدِّد الخلائق التي كوَّنها الله(33).

 

الباب الثالث يتحدَّث عن اللاهوت: تأكيد وجود الخالق، واجب الوجود والمعبود في كيانه، الله الأزليّ الدائم، الله الخالق الذي لا جسم له مع أنَّنا نقول عنه إنَّه يَسمع ويَرى. الخالق يعرف ذاته وكلَّ الخلائق، هو لا يُرَى بعين الجسد، وهو الخفيّ الذي لا يُدرك. ويُعلن ابن العبريّ أنَّ الله واحد وأنَّه مثلَّث الأقانيم في طبيعة واحدة. وهذا يعني أنَّ الابن والروح القدس ليسا مخلوقين كما يقول أتباع آريوس ومقدونيوس، بل مساويان للآب في الجوهر(34).

 

ويتطرَّق ابن العبريّ في الباب الرابع إلى سرِّ التجسُّد وإمكانيَّة حدوثه فيعود إلى المحصول في الفقه لفخر الدين الرازيّ ليدافع عن عقيدته من الوجهة العقليَّة. ويورد النبوءات والمعجزات التي تسند عقيدة التجسُّد(35). وفي الباب الخامس يبرهن عن وجود الملائكة وعن عددهم وخلقهم وطبيعتهم ودورهم في مخطَّط الله، فيستند إلى ديونيسيوس المنتحَل الذي يُعتبر حجَّةً عند اليعاقبة ويوحنّا الدمشقيّ في كتابه الإيمان الأرثوذكسيّ وموسى بركيفا في كتابيه خلق الملائكة والرتب الملائكيَّة اللذين ضاعا في السريانيَّة ووُجدا في العربيَّة في مكتبة كمبريدج. ويستفيد ابن العبريّ أيضًا من الفلاسفة العرب ولاسيَّما الفارابي وابن سينا(36).

 

بعد الباب السادس الذي يتحدَّث عن الكهنوت(37) يعود ابن العبريّ في الباب السابع إلى كائنات روحيَّة أخرى هم الأرواح الشرّيرة: وجودهم وطبيعتهم. يورد الكاتب آراء المانويّين الذين يعتبرون الشرَّ كائنًا يواجه إله الخير، وأولئك القائلين بعدم وجود الشياطين فيردَّ عليهم راجعًا إلى البراهين العقليَّة وتلك المأخوذة من الكتب المقدَّسة(38). موضوع الباب الثامن، النفس العاقلة(39) والباب التاسع، الحرِّيَّة والإرادة. هنا يتحدَّث الكاتب عن الخير والشرّ، عن العناية الإلهيَّة والإرادة الإلهيَّة، عن حرِّيَّة الإنسان ونهاية حياته(40). موضوع الباب العاشر، إحياء الموتى أو قيامة الأجساد(41). في هذا الباب ثلاثة فصول، الفصل الأوَّل: عودة الفاني إلى الوجود والأمر ممكن رغم معارضة المعارضين؛ الفصل الثاني: القيامة أو تجديد الأجساد البشريَّة التي تقوم حقٌّا يوم القيامة. قال الكتاب: »أنا المميت وأنا المحيي«(42)، وقال أيضًا: »ها أنت تصنع للأموات عجائب فيقوم الجبابرة ويمدحونك والذين في القبور يحدِّثون بنعمتك«(43)، وقال أيضًا: »أمواتك يحيون وجثثهم تقوم«(44). ويورد مقال الصادوقيّين الذين يُنكرون قيامة الموتى ويردُّ عليهم. وفي الفصل الثالث يتطرَّق الكتاب إلى المسألة التالية: كيف تكون الأجساد عندما تقوم؟

 

في الباب الحادي عشر وعنوانه النهاية والدينونة ومجازاة الأخيار والأشرار(45)، يتوقَّف ابن العبريّ عند علامات نهاية الأزمنة، عند سعادة الأخيار وشقاء الأشرار، عند ارتباط الإيمان بالأعمال والمجازاة في العالم الآخر. والباب الثاني عشر عنوانه: فردوس عدن والنظريّات المتعلِّقة بحالة السعادة(46). الفردوس أين يوجد وكيف تكون الحياة فيه؟ ماذا نعني بشجرة الحياة، وشجرة معرفة الخير والشرّ والحيَّة التي أغوت بيت آدم؟

 

  1. في اللاهوت الأدبيّ

 

نتوقَّف في هذا المجال عند ثلاثة كتب تجمع بين القوانين والأخلاق والنسكيّات. وهذه الكتب هي: النوموكانون أو كتاب التوجيهات (كتوبو درمزي)، الإيثيقون أو علم الأخلاق، الحمامة (كتوبو ديونو) وهو مختصر في ترويض النسّاك.

 

أ) النوموكانون

 

النوموكانون أو مجموعة القوانين اسمه في السريانيَّة كتوبو دهودويي أو كتاب الهدايات في الشرع الدينيّ والمدنيّ. نشره في السريانيَّة(47) الأب بول بيجان اللعازريّ سنة 1898 ونقله إلى العربيَّة دانيال بن الخطّاب (+ 1382) تحت عنوان القوانين البيعيَّة كما نقله يوحنّا بن غرير (نهاية القرن السادس عشر) وأسماه الهدايات، وفيلوكسين يوحنّا الدولبانيّ سنة 1929 وأسماه الهدى أو الهدايات، ولكن هذه الترجمات لا تزال مخطوطة. يقع كتاب الهدايات هذا في أربعين فصلاً نورد بعضًا منها: العماد، الميرون، القربان، الأصوام والأعياد، الجنائز، الدرجات والرتب الكهنوتيَّة، الأملاك والزواج، الوصايا، الوراثة، البيع والشراء…

 

يَرجع ابن العبريّ في كتابته إلى تعليم أداي ومجامع أنقره ونيوقيساريَّة ونيقية وأنطاكية واللاذقيَّة وقسطنطينيَّة وسليق وخلقيدونيا، ويستفيد ممّا كتبه الآباء الأقدمون: إقليميس، ديونيسيوس الأثينيّ، وفيلوكسين ويوحنّا التلّي وسويريوس الأنطاكيّ ويعقوب الرهاويّ. كما نقل قوانينَ وجدَها عند البطاركة السريان أمثال جرجس الأوَّل (758-790) وقرياقس (793-817) وديونيسيوس الأوَّل التلمحريّ (818-845) وميخائيل الأوَّل الكبير (1166-1199) وغيرهم.

 

ب) الإيثيقون

 

الإيثيوقون أو علم الأخلاق لحسن السلوك في الدين والدنيا. أتمَّ ابن العبريّ تأليفه بمراغة في 15 تمّوز 1279 ونشره بول بيجان(48) ونقله إلى العربيَّة داود الحمصيّ ويوحنّا بن غرير. وهاتان الترجمتان لا تزالان مخطوطتين، ونقله أيضًا المطران بولس بهنام ونشره في مجلَّة المشرق الموصليَة قبل أن ينشره على حدة في القامشلي سنة 1967.

 

يُقسَم الكتابُ إلى أربعة أبواب، الباب الأوَّل: تنظيم الحركات التي تساهم في تهذيب الجسد وقمعه (الصلاة، السهر، الطقوس، الألحان، الأصوام، العزلة، الحجّ إلى أورشليم)؛ الباب الثاني: أعمال الجسد من أكل وشرب وزواج شرعيّ وطهارة جسديَّة وواجبات الحال والأشغال اليدويَّة والصدقة؛ الباب الثالث: الأهواء المنحرفة وكيفيَّة التخلُّص منها: تهذيب النفس، الشراهة، العهارة، خطايا اللسان…؛ الباب الرابع: تزيين النفس بأنواع الفضائل: كيف نكتسب فضائل العلم والإيمان والصبر…

 

الباب الأوَّل والثاني يتوجَّهان إلى جميع المسيحيّين، أمّا الثالث والرابع فإلى طلاّب معرفة الله عن طريق النسك والتوحُّد.

 

تأثَّر ابن العبريّ في كتاب الإيثيقون هذا بإسحق النينويّ ويوحنّا الدلياتيّ ويوحنّا رئيس الدير أو يوحنّا السلَّميّ وبالأخصّ بالأنبا أواغريس الذي يمثِّل الحركة الأوريجانيَّة المتطرِّفة، كما تأثَّر بالمواضيع التي طرقها الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين.

 

ج) كتاب الحمامة

 

آخر ما ألَّفه ابن العبريّ كتاب الحمامة (كتوبو ديونو) وهو مختصر في ترويض النسك. أنشأه باقتراح بعض عشّاق النسك وأسماه الحمامة رمزًا إلى الروح القدس الذي يعمل في قلوب الكاملين. نشره الأب بول بيجان في باريس وليبزيغ بعد كتاب الإيثيقون(49)، والأب قرداحي في رومه سنة 1898، ويوحنّا دولبانيّ في دير الزعفران سنة 1916، والمطران شيشق في هولنده سنة 1983. نُقل إلى العربيَّة سنة 1299 وسُمِّي كتاب الورقاء في علم الارتقاء، ونقله أيضًا الخوري يوحنّا بن غرير الزربابيّ الشاميّ في منتصف القرن السابع عشر. ثمَّ نقله الأب يوسف حبيقه ونشره في مجلَّة المشرق البيروتيَّة(50)، ونشر البطريرك زكّا عيواص النصَّ السريانيّ مع ترجمته العربيَّة في بغداد(51).

 

يُقسَم كتابُ الحمامة إلى أربعة أبواب، الباب الأوَّل: التمارين الجسديَّة الواجب القيام بها في الدير؛ الباب الثاني: العمل الروحيّ في القلاّية؛ الباب الثالث: في الراحة الروحيَّة التي تغمر النفس وكأنَّها تغطِّيها بالسحاب حيث يسكن الربّ؛ الباب الرابع: قسم شخصيّ يتحدَّث فيه المؤلِّف عن كيفيَّة عودته إلى الخير والصلاح بقراءة كتابات أواغريس والنسّاك الآخرين. وفيه يشبه ابنُ العبريّ الغزاليّ في كتابه المنتقذ من الضلال. ويضيف الكاتب إلى القسم الرابع مئة حكمة عبَّر فيها بطريقة مكثَّفة عن اختباراته الروحيَّة السامية.

 

  1. المصنَّفات التاريخيَّة

 

يضيق بنا المقام إن نحن توقَّفنا عند مصنَّفات ابن العبريّ النحويَّة – وقد وضع في هذا المجال كتاب الأضواء وكتاب الغراماطيق – أو عند مصنَّفاته الشعريَّة التي تدور حول الوصف والحكَم والإخوانيّات. ولذا ننتقل حالاً إلى المصنَّفات التاريخيَّة التي هي أهمُّ آثار ابن العبريّ وأدعاها لتقدير علماء العصر. نتحدَّث عن تاريخ الزمان، والتاريخ الكنسيّ، وتاريخ مختصر الدول.

 

ترك لنا ابن العبريّ في السريانيَّة مؤلَّفًا واحدًا فسيحًا هو التاريخ (مكتبنوت زبني). يُقسم إلى قسمين الواحد دينيّ والآخر مدنيّ. إلاَّ أنَّه فُصل بينهما في الطبعات الحديثة فكان منهما كتابان مستقلاّن: التاريخ السريانيّ أو تاريخ الزمان والتاريخ الكنسيّ. وأخذ الكاتب بالأسلوب المتَّبع في عصره، والذي كان يقضي بأن تُجمع في عهد الملك الزمنيّ أو الرئيس الدينيّ، أشهر الأحداث والمعلومات المتنوِّعة، حتّى الأخبار والنوادر. وإليك على سبيل المثال ما حدث في أيّام الخليفة العبّاسي الناصر بن المستضيء الذي بدأت خلافته سنة 1180 وانتهت سنة 1225. لما بُويع بالخلافة قبض على الوزير ابن العطّار وزجَّه في السجن… وفي سنة 1181 زحف صلاح الدين ليناوش السلطان قلبح… الذي كان يسيء معاملة زوجته… وفي تلك الغضون سرَّح البرنس صاحب أنطاكية امرأته اليونانيَّة الشرعيَّة واتَّخذ امرأة زانية… وفي تلك السنة مات سيف الدين… صاحب الموصل… وفي السنة 1181 مرض الملك الصالح إسماعيل صاحب حلب…(52).

 

أ-تاريخ مختصر الدول

 

امتدَّت كتابة التاريخ العام حتّى سنة 1285، ولكنَّه كان في السريانيَّة فرغب إليه بعض أصدقائه من وجهاء العرب في مراغة أن ينقل إلى العربيَّة تاريخه السريانيّ فلبّى الطلب وأقبل على العمل فأتمَّه إلاَّ بعض صفحات منه في نحو شهر، بإنشاء على جانب من التهذيب والوضوح متوخِّيًا فيه الاختصار. إلاَّ أنَّه ضمَّنه أمورًا كثيرة لا تُوجَد في المطوَّل السريانيّ ولاسيَّما في ما يتعلَّق بدولتَي الإسلام والمغول، وتراجم العلماء والأطبّاء خاصَّة. وهكذا كان لنا من يد ابن العبريّ بالذات تاريخ مختصر الدول(53).

 

يذكر ناشر الكتاب الأب صالحانيّ في مقدِّمة الطبعة الأولى أنَّ هذا التاريخ طُبع لأوَّل مرَّة سنة 1663 في مدينة أوكسفورد بالعربيَّة واللاتينيَّة بمراجعة العلاّمة بولوك(54)، ونُقل إلى الألمانيَّة سنة 1783 على يد العلاّمة باور. »ولمّا عزَّ الآن وجود الطبعة الأولى، يقول الأب صالحانيّ، استفزَّتنا محبَّة هذه البلاد إلى إعادة طبع هذا التاريخ«. قابل المخطوطات بعضها ببعض فتسنّى له أن يكمِّل ما كان من النقص في النسخة المطبوعة في أكسفورد.

 

وندخل في بداية كتاب تاريخ مختصر الدول منطلقين ممّا قاله ابن العبريّ: »وبعد فهذا مختصرٌ في الدول قصدت في اختصاره الاقتصار على بعض ما أُوتي في ذكره اقتصاص إحدى فائدتي الترغيب والترهيب من أمور الحكّام والحكماء خيرها وشرّها على سبيل الالتقاط من الكتب الموضوعة في هذا الفنّ بلغات مختلفة سريانيَّة وعربيَّة وغيرها مبتدئًا من أوَّل الخليقة ومنتهيًا إلى زماننا. وهو مرتَّب على عشر دول داولها الله تعالى بين الأمم فتداولها تداولاً بعد تداولب55. ويبدأ الكاتب من دولة الأولياء، من آدم إلى قضاة بني إسرائيل وملوكهم إلى الكلدانيّين واليونان والعرب المسلمين حتّى يصل إلى ملوك المغول.

 

ب- التاريخ الكنسيّ

 

وقبل أن نرجع إلى تاريخ الزمان، نقول كلمة في التاريخ الكنسيّ الذي نشره أبيلوس ولامي في لوفان(56)، ونقلاه إلى اللغة اللاتينيَّة. كما نقل القسّ إسحق أجزاء منه إلى اللغة العربيَّة في المشرق البيروتيَّة(57).

 

يتطرَّق التاريخ الكنسيّ إلى التاريخ الدينيّ والكنسيّ في الشرق وهو يُقسم إلى قسمين: يبدأ القسم الأوَّل بذكر أحبار العهد القديم منذ هارون ويواصل سلسلة بطاركة أنطاكية المونوفيسيّين (أي السريان أصحاب الطبيعة الواحدة) منذ سويريوس الأنطاكيّ أي منذ سنة 512. في هذا القسم يرتبط ابن العبريّ بميخائيل السريانيّ الكبير ويكاد ينقل تاريخه نقلاً حرفيٌّا. أمّا القسم الثاني من التاريخ الكنسيّ فيتطرَّق إلى الكنيسة السريانيَّة الشرقيَّة منذ بداية النسطوريَّة في القرن الرابع الميلاديّ فيورد سلسلة الجثالقة والبطاركة النساطرة المقيمين في ساليق وقطيسفون وسلسلة المفارنة المونوفيسيّين المقيمين في تكريت. هذا القسم الثاني هو مصدر مهمّ جدٌّا لمعرفة تاريخ الكنيسة السريانيَّة في الشرق. وكما عاد ابن العبريّ في القسم الأوَّل إلى البطريرك ميخائيل السريانيّ، عاد في القسم الثاني إلى ماري بن سليمان (القرن الثاني عشر) في كتابه المجدل الذي وضعه بالعربيَّة.

 

نشير هنا إلى أنَّ ابن العبريّ واصل هذا التاريخ إلى سنة 1285، ثمَّ جاء أخوه المفريان برصوم فأكمله إلى سنة 1288، وبعد ذلك واصل الكتابة فيه أدي السبيرينيّ حتّى سنة 1496.

 

ج- تاريخ الزمان

 

هذا الكتاب لقي اهتمام المؤرِّخين منذ القرن الثامن عشر فنشروا منه مقاطع عديدة ونقلوها إلى اللغات اللاتينيَّة والفرنسيَّة والإنكليزيَّة والألمانيَّة(58). ثمَّ نُشر كاملاً على يد الأب بول بيجان(59) ونقله إلى الإنكليزيَّة العلاّمة واليس(60) وإلى العربيَّة القس إسحق أرملة(61).

 

يبدأ تاريخ الزمان أو التاريخ المدنيّ بعهد آدم ملك الأرض كلِّها. وينقلنا ابن العبريّ إلى عهد الآباء، نوح وإبراهيم وإسحق ويعقوب، ثمَّ إلى القضاة مثل جدعون ويفتاح وشمشون فيصل بنا إلى عهد داود الملك وخلفائه. بعد هذا ننتقل إلى مملكة الكلدان فمملكة الفرس الأولى أي الأخيمينيّين فإلى عهد الإسكندر فالبطالسة حتّى كليوبترا، فإلى عهد أوغسطس. ومنذ عهد الهجرة يحتلُّ الخلفاء المسلمون محلَّ الأباطرة البيزنطيّين بانتظار أن يُفسحوا المجالَ لملوك المغول والتتر الذين عاش ابن العبريّ في أيّامهم.

 

ونستفيد من المقدِّمة التي دوَّنها الأب فيّيه في بداية تاريخ الزمان فنقول كلمة في ابن العبريّ المؤرِّخ. فهو على غرار ما نجده عند المؤرِّخين العرب كابن العميد في المجموع المبارك والتاريخ لابن الأثير وتاريخ الأمم والملوك لأبي جعفر الطبريّ، يورد ما حفظه من أعمال سابقيه ثمَّ يضيف معلومات تتناول الحقبة المعاصرة له. لم يكن ابن العبريّ أوَّل من كتب في التاريخ بين السريان. فقد سبقه بطريرك أنطاكية ميخائيل الأوَّل الملقَّب بالسريانيّ الكبير الذي وصل بتاريخه إلى سنة 1196، والرهاويّ المجهول الذي كتب حتّى سنة 1234؛ هذا فضلاً عن الذين يذكرهم البطريرك ميخائيل وهم يوحنّا الأفسسيّ ويعقوب الرهاويّ وديونيسيوس التلمحريّ وديونيسيوس الصليبيّ وغيرهم. يبدو أنَّ ابن العبريّ لم يستفد كثيرًا من الرهاويّ المجهول، ولكنَّه أكمل تاريخ ميخائيل السريانيّ حتّى سنة 1285(62).

 

لم يعش ابن العبريّ في عزلة بعيدًا عن الملوك والأمراء. فأبوه كان طبيبًا لأحد قادة المغول، ولمّا صار صاحب المقام الأعلى لكنيسته في المملكة المغوليَّة اعترف المغول بسلطته وأعطوه وثيقة بذلك، وبفضل هذه الوثيقة شارك في احتفالات البلاط الرسميَّة وبالأخصّ في تنصيب الخان أحمد تكودار. ثمَّ إنَّه خلال إقامته في مراغة، إحدى عواصم المغول، استفاد من مكتبتها ووثائقها فدوَّن تاريخ حقبة هامَّة. ولم يكمِّل أحد تاريخ المغول بعده حتّى قام بتلك المهمَّة المؤرِّخ رشيد الدين الطبيب والسياسيّ الإيرانيّ المتوفّى سنة 1318.

 

الخاتمة

 

تحدَّثنا وأطلنا الحديث عن غريغوار أبي الفرج ابن العبريّ، والموضوع واسع. فهو المفكِّر الذي اكتنه الفلسفة اليونانيَّة فروى أخوه عن بعض المسلمين قولَهم: »كلَّما سمعوا المفريان غريغوار يشرح لهم قضيَّة يتصوَّرون أنَّهم يتلقَّون العلم مباشرة عن أرسطو نفسه«. وهو اللاهوتيّ الذي شبَّهه المستشرقون بالقدّيس ألبرتُس الكبير أو القدّيس توما الأكوينيّ ففاقهما بسعة معارفه وتشعُّبها. وهو المؤرِّخ الذي نقل تاريخ ميخائيل السريانيّ مضيفًا إليه تسعين سنة فأعطانا عن المغول خاصَّة فكرة صحيحة لم نكن لنصل إليها لو أنَّنا اكتفينا بالمؤرِّخين العرب.

 

قالوا فيه إنَّه كتب في كلِّ مطلَب وفنٍّ فنقصه الاختصاص الذي هو شرط أساسيّ في تقدُّم العلم الإنسانيّ. ولكنَّهم نسوا أنَّه المعلِّم لشعبه والراعي الذي يهمُّه تثقيف القطيع ثقافة تساعده على عيش إيمانه والردِّ على المعارضين لهذا الإيمان. من أجل ذلك عرض ابن العبريّ للمعارف التي تمثَّلها بسرعة ودقَّة، فأمكنه إخراجها بترتيب ووضوح في مختلف الميادين التي جال فيها نشاطه العجيب. هو الذي عاش في حقبة من القلاقل والاضطرابات تضاءلت فيها المعرفة وانحطَّت الدراسات العلميَّة. كان عليه واجب استخلاص كنز السريان الثمين وتنسيقه ونشره للأجيال المقبلة، فوُفِّق إلى ذلك واستحقَّ تكريم اللاحقين فسمُّوه: علم الهدى وكهف التقى وتاج الأمَّة وإمام الأئمَّة وأعجوبة من أجلِّ أعاجيب الدهر

 

في الإنسان ف7 – فيوض في الفكر المشرقي – الخوري بولس الفغالي