أبحاث

موضوع الأمومة – المرأة في الكتاب المقدس ج17

موضوع الأمومة - المرأة في الكتاب المقدس ج17

موضوع الأمومة – المرأة في الكتاب المقدس ج17

 

موضوع الأمومة - المرأة في الكتاب المقدس ج17
موضوع الأمومة – المرأة في الكتاب المقدس ج17

 

 

بين حواء أم الخليقـة القديمة والعذراء أم الخليقة الجديدة

مقـدمـة:

————-عندما نبدأ بدراسة موضوع الأمومة ضمن موضوع المرأة في الكتاب المقدس يجدر بنا أن نبدأ من البداية فنمعن التأمل في حواء أم الخليقة الموصوفة بالقديمة والتي تحولت إلى خليقة جديدة بنعمـة الميلاد الثاني – ولما كان الميلاد الثاني هو علامة العهد الجديد الذي عاهده المخلص مع الناس كانت أم الخلقـة الجديدة هي أم المخلص – أو والدة الإله. فما وجه الشبه بين حواء وبين السيدة العذراء ؟ إن الإجــــابة الصحيحة تتطلب دراسة ما جاء عنهما في الكتاب المقدس وفي تعاليم الآباء –فهلم نبحث معا ما قيل عنهما.

أولا:  حـواء أو أم الخليـقة القديمــة

——————- إن اسمها معناه  “الحياة ” ذلك لأنها المخلوق الذي شاء الخالق المبدع أن يجعله الوسيلة  لمجيء خليقته إلى العالم , فهي إذن الباب الذي يدخل منه كل إنسان إلى هذه الحياة:

واول ما نقابل حواء نقابلها في الإصحاح الأول إذ نجد هذه الكلمات ” فخلق الله الإنسان علي صورته , علي صورة الله خلقه , ذكرا وأنثى خلقهم ” ( تك  1: 27 ). ثم يرى كاتب سفر التكوين أن يعطينا المعلومـات عن الخليقة بالتفصيل فيصف لنا أن الله ألقى سباتا علي آدم وأخذها من ضلعه. ويقول آباء الكنيسة في هـذا الصدد أن الخالق لم يأخذها من رأس آدم كي لا تكون أعلي منه , ولم يأخذها من ساقه كي لا يكون أعلى منها

وانما أخذها من ضلعه ليتساوى الاثنان ولتكون ” معينا نظيره “.

 وحالما خلق الله حواء أسس مبدأ الوحدة الزوجية , الله يعلن لنا في الآية التالية مباشرة هذه الكلمات:

“لذلك يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته ويكونان جسدا واحدا ” (تك: 2: 20 –24 ).

كما أننا نقرأ في الإصحاح الأول تلك الكلمات التي قدمها المسيح له المجد إلى من سألوه عن الوحدة الزوجيـة وهي أن الله خلقهما ” ذكرا وأنثى ” علي أنه يجدر بنا هنا أن نفكر كيف صدر هذا الأمر الإلهي لرجل لم يكـن له أب ولا أم ؟ أليس لكي يوضح لآدم (ولبنيه من بعده ) مبدأ المساواة التامة بينه وبين تلك التي أصبحت معينا نظيره ؟ ومبدأ المحبة والاحترام المتبادل الذي يكون أساسا للزواج الواحد الذي تتضح لنا قدسيته من هــذا الإصحاح الأول في تاريخ الإنسانية كلها.

وبعد هذا يبدأ إغراء الحية , ويحلو للجميع أن لا يروا في انخداع حواء غير السقوط والخروج علي أوامـر الله , ولكن هناك أمر إن يحسن التفكير فيهما أمام تطلع حواء نحو شجرة معرفة الخير والشر: الأول هــو حب الاستطلاع  أو الرغبة في المعرفة صحيح إن هذه الرغبة كانت تتضمن عدم الطاعة لأوامر الله , ولكن ما دام الخالق قد منح آدم وحواء الحرية فقــد منحها ضمنا إمكانية العصيان , هذا من جهة ومن الجهة الأخرى كانت هذه الرغبة في المعرفة الوسيلة التي عاد بها الناس إلى الله فكيف كان ذلك ؟

 

اسمعوا بولس يتحدث عن الأمميين فيقول:

“… إذ ليس لهم الناموس هم ناموس لأنفسهم الذين يظهرون عمل الناموس مكتوبا في قلوبهم شاهدا أيضا ضميرهم وأفكارهم فيما بينها مشتكية أو محتجة ” ( رو 2: 14 , 15 ).

فالعصيان أبعد حواء وآدم وذريتهما عن الله ولكن الرغبة في المعرفة أدت إلى العصيان ودفعت بالناس الي محاولة إرضاء ضمائرهم وبالتالي الله لأن الضمير هو صوت الله داخل الإنسان , وهو صوت لا يسكت مهما خفت , وهكذا كانت للرغبة في المعرفة نتيجتان:

  • الأولــى: السقوط
  • والثانيــة: التطلع نحو الله والسعي الي العودة إلـيه.

والأمـر الثانــي هـو تجلــي حــب الله للنــاس:

فلو لم تكن حواء قد انخدعت بغواية الحية لما تجسد الابن الكلمة , ولو لم يتجسد لما عرفنا مدى محبـــة الله لنـــا ورحمته إيانا , فالسقوط مع ما فيه من شر وعصيان كان الوسيلة التي بينت محبة الله الشاملة اللانهائية , والكتاب المقدس نفسه يعلن لنا هذه الحقيقة إذ حالما اصدر الله حكمه علي حواء شفعه بالوعد بالفداء عـلي الفور إذ قال الله ” واضع عداوة بينك وبين المرأة وبين نسلك ونسلها , هو يسحق رأسك وأنت تسحقين عقبه”(تك3:15 )

ولئن كان الحكم الإلهي قد تضمن الوجع في الولادة إلا إننا لو تأملنا أيضا لوجدنا فيه مبدأ عجيبا من المبادئ الإلهية الأزلية , وهذا المبدأ هو انه لا شئ له قيمة يمكن الحصول عليه بدون جهد , فالبذرة الصغيرة لا تصبح شجرة كبيرة من غير أن يتعهدها الزارع بالري والعناية , فلا بد من العطاء للأخذ ولا بد من الجهد للجني.

وقد أكد لنا رب المجد هذا المبدأ حين قال ” اسألوا تعطوا ” ثم في النهاية وصل إلى الصليب , فان كانـت المخلوقات الدنيا لا تنمو من غير جهد فكم بالأحرى الإنسان الذي هو اسمي مخلوق ؟لقد خرجت جميــع المخلوقات إلى الوجود بمجرد قول الخالق ” ليكن نور ” فكان النور وهكذا بقية المخلوقات , أما الإنسان فقد صنعه الله وكونه ثم نفخ فيه من نسمته , فالوجع الذي يلازم خروج مولود بشري إلى الوجود هو الثــمن الـذي تدفعه المرأة في إبراز هذا الكائن الحي. هذا الوجع هو منحة إلهية ,ألا يقول يولس الرسـول انه قد ” أعطى لنا لا أن نؤمن بالمسيح فقط بل أن نتألم معه أيضا ” (في 1: 29 ).

ونحن نعلم أن الله قادر علي كل شئ – أفلم يكن قادرا إذن علي جعل الجنس البشري يتكاثر من غير تـزاوج ومن غير أن يخلق جنسين , طبعا كان ذلك ميسورا لديه خلق مخلوقات أخرى تتوالد وتتكاثر من غير جنـس. ولكنه لم يشأ أن يجعل الإنسان شبيها بهذه المخلوقات الدنيا لانه أراد أن يجعل منه مخلوقا مهيأ لمجد ملكـوته , فجعل طريق الألم طريقه لكي يطعم لذة الانتصار بعد اجتيازه المحن والمتاعب , اسمعوا السيد له المجد يقــول ” المرأة وهي تلد تحزن لان ساعتها قد جاءت ولكنها لا تعود تذكر الشدة لأنها ولدت إنسانا إلى العـالم ” ( يو 16: 21 ) , فالله مترفق في عقابه , محب حتى في غضبه.

ثم تعالوا نتأمل أمنا الأولى – لقد انخدعت وخالفت الوصية , وبعد أن نفذ فيها الحكم العدل وولدت بالوجع ابنها البكر قايين – ماذا يقول الكتاب عنها حالما ولدت هذا الابن الذي جاءها عن طريق الألم  ؟ لقد هتفت: ” قد اقتنيت رجلا من عند الله ” ( تك 4: 1 ).

فالعاصفة الروحية العميقة الدفينة في نفس حواء لم تتغير بالألم فظهرت بجلاء فور ولادتها ابنها الأول , وهنا دليل علي استمرار تطلع حواء نحو الله رغم عصيانها.

 

وحواء مع كونها المذنبة الأولى إلا أنها الضحية الأولى أيضا , إلا يجد الناس لأنفسهم عذرا حتى هذه الساعة حين يقعون في الخطية بقولهم أن حواء هي السبب ؟ وهذا العذر يقدمونه علي الرغم من أن المخلص قد اشــتراها بدمه كما اشترانا وعلي الرغم من أن يعقوب الرسول يعلن بان من يسقط يكون نتيجة لكونه ” انجذب وانخدع من شهوته ” ( يع 1: 14 ).

وهناك أمر هام يجب التأمل فيه مادمنا بصدد الحديث عن حواء وسقوطها , ذلك الأمر هو أن الله قد منــح الإنسان حرية الاختيار. لقد خلقه علي صورته ومثاله فقد منحه عقلا يفكر ويميز ويختار , ومادام خلقه بهـذه القوى فقد تركه يستعملها حسب مقدرته وحسب حريته , ولما أساء أبوانا ( كلاهما ) استعمال القوى فتح الله أمامها وأمام ذريتهما باب الخلاص إذ وعدهما لساعته بالمخلص , ولهذا السبب نقرأ في المزمور: ” من هــو الإنسان حتى تذكره وابن آدم حتى تفتقده وتنقصه قليلا عن الملائكة وبمجد وبهاء تكلله ” ( مز 8: 4 –5).

وهكذا نرى منذ البداية أن الله منح الإنسان الحرية واحترام هذه الحرية فلم يرغمه علي السير حتى في طـريق الخير ليكون الخير عن اختيار ورغبة , وبالتالي ليتضمن الخير فرحة الانتصار ونشوة الغلبة.

ثانيا: السيـدة العــذراء أو أم الخليــقة الجــديــدة:

1 مقــدمــــة:

إن الحديث عن السيدة العذراء لذيذ ممتع لأنها فخر جنسنا وليست فخر جنس السيدات فحسب بل فخر الجنس البشري بأكمله أيضا , فلنتأمل هذه الشخصية الفريدة في النوع الإنساني لعلنا بهذا التأمل نسير في أثرها ونقتدي بها ونجاهد لكي نكون خليقين بالفداء الذي حققه لنا أبنها الذي هو أبن الله..

ونقرأ عن حنة ويواقيم والدي السيدة العذراء أنهما كانا خائفي الله وبلغا سن الشيخوخة من غير أن يرزقهما الله طفلا , ثم بشرهما ملاك الله بطفل استجابة لصلواتهما الطويلة كما بشر زكريا. علي أنهما آمنا بالبـشرى الملائكية وقبلاها في رضى وتواضع ونذرا أن يقدما هذه الثمرة المرتقبة للهيكل ,ووفاء لهذا النذر قدماها وهي في الثالثة من عمرها فعاشت في بيت الله من هذه السن المبكرة إلى أن تسلمها يوسف الصديق كخطيبته , لذلك تتغنى كنيستنا بقولها: ” أفرحي يا من كان مسكنها الأرضي هيكل الله , الرب معك. افرحي يا من كــان غذاؤها من يد الملائكة المقدسين , الرب معك “.

ولقد كان سن الرشد في ذلك العهد الثانية عشرة , والمثل علي ذلك أمامنا حين ذهب السيد المسيح له المجد مع أبويه إلى الهيكل في أورشليم في ذلك السن.

لذلك رأى رؤساء الكهنة أن يزوجوا هذه الفتاة النذيرة للرب إذ لم يكونوا يعلمون مقاصد الله الخفية الخاصة بها , علي أنه نذيرة وقد قضت سني طفولتها في الهيكل قرروا أن يستعرضوا الرجال الذين حددتهم الشريعـــة الموسوية ليكون أحدهم زوجا لها ولقد لجأوا إلى الطريقة التي لجأ إليها موسى حينما أرشده الرب إلى اختيــار هرون رئيسا للكهنة إذ أن موسى وضع العصي الخاصة بالمرشحين لرياسة الكهنوت داخل الهيكل وفي الصباح وجد الكل أن عصا هرون مزدهرة ( عدد 17: 8 ) , وهكذا فعل رؤساء الكهنة مع الرجال الذين يحــق للواحد منهم أن يتزوج من الفتاة مريم , فأخذوا عصيهم ووضعوها داخل الهيكل ولما وجدوا عصــا يوسف الصديق مزدهرة سلموا له تلك التي شاء الله أن يأتمنه عليها وعلي الابن الكلمة عند تجسده منها , ولهـــذا السبب خرجت السيدة العذراء من الهيكل وذهبت لتعيش في كنف يوسف الصديق إلى أن يحين وقت زواجها.

وفي تلك الفترة ظهر لها ملاك الرب وحياها بتلك الكلمات الروحية التي تغنى بها المؤمنون بذلك وسيتغنون بها إلى آخر الدهور ” افرحي أيتها الممتلئة نعمة الرب معك , ثم نسمع هـذه الشابة  – نذيـرة العلي – تقـول في تسليم كامل للإرادة الإلهية:”هوذا أنا أمـة الـرب ليكـن لـي كقـولك ” ( لو 1: 26 – 28 ).

وهنا يعلمنا الآباء بأن السيدة العذراء هي بدء عجائب المسيح لأنها خضعت للإرادة الإلهية لفورها من غير تردد ولا تشكك , وحينذاك فاض عليها الروح القدس وطهرها وجعلها مسكنا لائقا بالقدوس الذي تجسد منها.

2- السيدة العــذراء فــي العهــد القديــم:

لقد زخر العهد القديم بالحديث عن المسيا المنتظر وعن ولادته الخارقة , وبالتالي عن المختارة من الله لتكون أمه.

وبعض هذا الحديث واضح وساطع وبعضه جاء في صورة رموز وحوادث , وأول النبوات تأتي لنا فيما يقوله يعقوب لابنه يهوذا حينما يبارك أولاده قبل انتقاله من هذا العالم , فيعلن بأنه ” لا يزول قضيب من يهــوذا ومشترع من بين  رجليه حتى يأتي شيلون وله يكون خضوع شعوب ( تك 49: 8 – 10 ) , ويتــرنم بها المزمور علي أنها صهيون فقد جاء في الطبقات القديمة هذا التعبير: ” الأم صهيون قد حملت إنسانا. وإنسان كان فيها وهو العلي الذي أسسها إلى الأبد ” ( مز 85: 5 ).

أما حزقيال فقد رآها بابا مختوما في الشرقية ( حز 44: 1 , 2 ) ويستكمل اللحن الكنسي هذا المزمور فيقول: دخله وخرج منه مولاها والختم في صيانة إلهية. كذلك كان سلم يعقوب الذي رآه مثبتا من الأرض حـتى السماء , والعليقة التي رآها موسى مشتعلة بالنار وهو في جبل حوريب ( خر 3: 2 ) رموز لها أيضا. ولكن أشعياء لم يلجأ إلى الإشارات والرموز بل أعلن لنا صراحة وتوكيد هذه الكلمات: ” ولكن يعطيكم السيــد نفسه آية , ها العذراء تحبل وتلد أبنا وتدعو اسمه عمانوئيل ” ( أش 7: 14 ). 

وليس من شك في أن كل هؤلاء الذين لم يجدوا غير الصور والرموز قد استعانوا بهذه الإشارات لتقريب الحقيقة الإلهية إلى الأذهان , فالعقل البشري ( وان كان قوة عظيمة ) محدود يحتاج إلى مجهود لسبر أغوار الحكمة الإلهية , وحتى بعد المجهود يقف حائرا أمامها , فالأنبياء ورجال الله الذين استضاءوا بالنعمة الإلهية حاولوا أن يوضحوا للناس حقيقة بعيدة المنال وهي أن الابن الأزلي الكائن في حضن أبيه سينزل من علوه لكي يرفعنا إليه.

ومن أروع هذه المحاولات ما كتبه الملك سليمان بن داود الذي أعطاه الله الحكمة , فان سفر نشيد الإنشاد كله تشبيهات واستعارات حاول بها ذلك الملك الحكيم أن يبين لنا بهاء تلك المختارة فهي ” نرجس شارون ” وهي ”  كالسوسنة بين الشوك ” وهي ” جميلة وعيناها حمامتان من تحت نقابها ” وهي جنة مغلقة وعين مقفلة وينبوع مختوم “.

3 السيــدة العـذراء فـي العهــد الجـديــد:

إن أول مقابلة مع هذه المختارة من الله هو موقفها من الملاك الذي جاء يبشرها بأنها ستكون أما للفادي الذي ترقبته الأجيال المتعاقبة منذ أن خرج آدم وحواء من الفردوس. وبعد تسليمها الكامل تخرج لزيارة نسيبتها أليصابات.  والكتاب المقدس يعطينا الصورة المجردة من غير تنميق ولا استفاضة فيكتفي بالقول: ” فقامت مريم في تلك الايام وذهبت بسرعة الي الجبال الي مدينة يهوذا ودخلت بيت زكريا وسلمت علي أليصابات. ثم يصف لنا البشير أثر السلام علي أليصابات وعلي الجنين الذي ارتكض بابتهاج في بطنها ( لو 1: 39 – 45 )

ولكنه لا يشير عن بعد ولا عن قرب إلى ما جاشت به نفس السيدة العذراء.

فإذا ما حاولنا أن نتصور تلك الانفعالات والعواطف نقف حيارى , لماذا ؟ لأننا لا نستطيع إلا أن نقيسها بمشاعرنا وانفعالاتنا الإنسانية , وبهذا المقياس البشري نقرأ أن يوحنا وهو جنين لم يكتمل نموه قد ارتكض بابتهاج في بطن أمه فان كان الجنين الذي لم يزل في الشهر السادس قد اهتز هذا الاهتزاز فماذا كان شعور العذراء المختارة حينما أحست بالجنين الإلهي في أحشائها ؟

وحينما انحنت فوق الطفل الذي جاء المجوس يقدمون له الهدايا وتقاطر عليه الرعاة يترنمون بنشيد الملائكة ؟ لهذا نقف خاشعين أمامها وأمام صمتها. إن البشير ينبئنا بأنها كانت تحفظ كل هذه الأمور متفكرة بها في قلبها , فأي خيال يستطيع أن يتصور ما جال في قلبها ؟ ولم تكن كل أحاسيسها ومشاعرها ابتهاجا كما كانت أحاسيس الجنين الناقص ( يوحنا ) بل امتزجت بها وجدانات الألم منذ البداية. إنها أم ” رجل الآلام ومحتمل الأوجاع ” فلا بد أن تكون هي أيضا امرأة الآلام ومحتملة الأوجاع مثله. أفلم يقل سمعان الشيخ أنه لابد أن يجوز السيف داخلها  (لو 2: 35 ) ؟  نعم لقد جاز السيف بل السيوف في قلبها المرهف فشاركت وليدها الإلهي النشوة والألم , فمن من الناس نال ما نالت ومن من الناس تألم قدر ما تألمت , إن الآلام التي حكم الله علي حــواء بتحملها لتتضاءل أمام آلام هذه العذراء المختارة.

لقد حدثنا يوحنا الحبيب عن العذراء القديسة وعن تفاني السيد المسيح في محبته لها ( يو19: 25- 27 ) , فيوحنا قد أدرك أن إكرام المسيح لأمه يفوق رحمته باللص الذي أعلن توبته , وليس من شك في أن قبــول التائب منحة عظيمة ولكن التعاطف مع الأم ساعة الآلام المريرة علامة علي المحبة العميقة نحو هـــذه الأم , فالمخلص وهو علي الصليب قال للسيدة العذراء ” هوذا أبنك ” وليوحنا تلميذه الحبيب ” هوذا أمك ” وهذه الكلمات هي وصية المخلص ومؤداها أن تقتسم أمه مع تلميذه واجبات المحبة والرعاية: إنها وصية غالية تتعلق بالحياة الأبدية , فيالها من محبة دافقة أثبتت السيدة العذراء استحقاقها لها , إذ انه بينما هرب التلاميذ واختبئوا ظلت هي واقفة عند الصليب تتأمل بعيني الأم جسد ابنها الإلهي مجروحا تسيل الدماء من كل جزء فيه وهي في وقفتها هذه لم تتأمل موت ابنها الحبيب بل وجهت تأملاتها نحو خلاص العالم.

ولنقف هنا لحظة نتأمل كلمة المخلص ” هوذا ابنك ” فهو لم يقل هوذا ابن آخر لك بل هوذا ابنك , ومعنى هذا أنه وضع يوحنا موضعه هو شخصيا. وبهذه الوصية لم يجعل المخلص نفسه بكرا بين الخلائق كما قال بولــس الرسول ( كو 1: 15 ) بل وضع نفسه موضع خلائقه بالذات , وتعبر كنيستنا عن هذه الحقيقة العظمـــى باللحن القائل:

ابنك أوصاك         بنا في الصليـب

أعطانا إياك في      شخص الحبيـب

فهي – والحالة هذه – أمنا جميعا إذ هي ذاك الذي وضع نفسه موضعنا. ولقد أخذها يوحنا الحبيب إلى بيته بعد ذلك حيث عاشت إلى يوم انتقالها من هذا العالم لتجلس عن يمين عرش العظمة أما علي هذه الأرض فلا نقـرأ عنها في العهد الجديد إلا في الإصحاح الأول من سفر الأعمال حيث نقرأ أن المؤمنين كانوا يجتمعون بنفــس واحدة ليصلوا مع النساء ومريم أم يسوع.

4- السيـدة العـذراء فـي التقليــد الكنســي:

لو حاولنا كتابة كل ما قاله الآباء عن هذه العذراء المختارة من الله لتكون أما له لاحتجنا إلى المجلدات الضخمة لأنهم جميعا عرفوا قدرها وكرموها وأوصونا في اللحن قائلين:

كرموها , عظموها , ملكوها في القلوب.ويتلخص تعليم الآباء عنها أنها دائمة البتولية: جمعت بين البكارة والأمومة كما أعلن أشعياء منذ القديم , وأن أعظم لقب لها هو: ” والدة الإله ” , ولأنهم أدركوا هذه الحقيقة العميقة لم يجدوا كلمات كافية للتعبير عنها فهي: أم النور , أم الفرح , الشمس المشرقة , الإناء المختار , ملكة السمائيين والأرضيين , الستر المنيع والحجاب الرفيع , وما شابه من هذه الكلمات التي تعبر جميعا عن مكانتها بوصفها حاملة عنقود الحياة , واستكمالا لهذه الألقاب لنتأمل هذه المديحة التي وجهها إليها كيرلس الكبــير عامود الدين:

 ” — لتفرح جميع العذارى في السيدة العذراء لأن واحدة من بينهن قد ولدت مخلص البشر جميعا , ذلك الذي عتق كل الجنس البشري من العبودية التي كان يئن تحت قيودها.

” ليفرح في السيدة العذراء آدم القديم الذي جرحته الحية لأنه نال بواسطتها سموا مكنه من أن يسحق الحيــة اللعينة فيشفي من جرحه “.

” ليفرح في العذراء المباركة جميع الكهنة لأنها ولدت للعالم رئيس الكهنة الأعظم الذي هو كاهن وذبيحة في آن واحد إذ قد أبطل الذبائح القديمة بتقديمه نفسه فدية مقبولة لدى الآب “.

” ليفرح في العذراء المباركة جميع الأنبياء لأن فيها تحققت جميع نبواتهم كما تحققت رؤياهم”

“وليفرح في مريم جميع البطاركة لأنه ابنها قد جعلهم كاملين , وفيه تطهر جميع الرائين والأبرار والكهنة “.

” إن شجرة الحياة المغروسة وسط الفردوس قد نمت في مريم فخرج منها ذاك الذي مد ظله علي العالم بأسره و قدم ثماره الشهية الذين في أقاصي الأرض كما قدمها للقريبين منه “.

” إن الكرمة العزراوية قد أعطت عنبا , عصيره الحلو يهب العزاء للمكلوبين و تذوقه آدم وحواء في توجعهما فوجدوا فيه كل عزاء “.

5- أوجه الشبه وأوجه التناقض بين حواء والسيدة العذراء:

 

?            أم الخليقة كلها

?              عذراء وقت التجربة مع كونها زوجة آدم في نفس الوقت

?            احتملت الآلام لإنجاب الأولاد

?            تهللت بالرب عند ولادة بكرها

?            انخدعت بغواية الحية رغم بكارتها

?            جرت ذريتها الي الخطية بسقوطها

?            للآن تلقي اللوم من الناس

 

?  أم الخليقة الجديدة

?  عذراء وأم في آن واحد

?  احتملت الآلام في سبيل ابنها

?    تهللت بالرب حين تقابلت مع اليصابات

?  سلمت نفسها تسليما كاملا لارادة الله

?  رفعت البشر بولادتها الابن المتجسد.

?  مطوبة من جميع الأجيال.

 

وكما نقول أن في آدم الأول دخلت الخطية وفي آدم الثاني جاء الخلاص , كذلك نقول أن في حواء الأولى تغلبت الحية علي المرأة وفي حواء الثانية انتصرت المرأة علي الحية , فالذي تغطي الملائكة وجوهها من بهاء مجده هو بعينه الذي ولدته العذراء فحقا أنها:

قـد تعالت وتلالت             ما لحسنها غـروب

وهي قالت حين نالت           فلتطـو بني الشعوب

الآن نروي قصة حياة حواء بالتفصيل.. وقد سبق إعداد موضوع كامل عن العذراء القديسة مريم تحت اسم ” جولة مقدسة مع العذراء القديسة مريم “.

حـــــواء

  الشاهد الكتابي: ( تك 3: 20 )

” ودعا آدم اسم امرأته حواء لأنها أم كل حي “

 حواء أنها أول امرأة خُلقت , ومع ذلك فهي أمنا جميعا , لقد أصبح لآدم كائن بشري آخر , لتكون له شركة معه , شخص مساو له في صورة الله. كانت حواء شخصا له من الشبه به ما يكفي للرفقة , وفي نفس الوقت مختلفة عنه بما يكفي للعلاقة , وكانا معا أعظم ما يمكن لأي منهما أن يكون هو وحده

  • هي أول زوجة وأول أم
  • حواء أول زوجة: ” معينا نظيره ” ( تك 2: 18-20 )

كانت حواء ضلعا من جنب آدم بالقرب من قلبه المحب , لم تكن من رأسه فتتكبر عليه أو من قدمه فيحتقرها،  غير أن الرجل ليس من دون المرأة ولا المرأة من دون الرجل في الرب ( 1كو 11:11 ).

إحساس آدم من جهتها: ” هذه الآن عظم من عظامي ولحم من لحمي ” ( تك 3: 1-7 ).

” كذلك يجب علي الرجال أن يحبوا نساءهم كأجسادهم”( أف 5: 8) , ” أيتها النساء اخضعن لرجالكن كما للرب ” ( أف 5: 22 ).

لم تكن كلمة الرب ساكنة بغنى في قلب حواء فاستمعت لصوت الحية القديمة ومكتوب ” لتسكن فيكم كلمة المسيح بغنى “.. ( كو 3: 16 ).

هي أعطت إبليس مكانا فخدعها بمكره ولم تمتحن كل روح وتتمسك بالحسن الذي هو الوصية الإلهية.

عن طريق الحواس دخلت الخطية قلبها , فسمعت للحية وهنا حاسة السمع , ورأت الشجرة جيدة للآكل وهنا حاسة البصر , وشمتها ولمستها وأكلت منها وهنا حواس الشم واللمس والتذوق , ما أحلى تقديس كل الحواس والغرائز والعواطف وكل ما في الإنسان لمجد الرب فتكون النجاة من مخاطر إبليس.

قال سليمان الحكيم عن المرأة الفاضلة ” تتأمل حقلا فتأخذه وبثمر يديها تغرس كرما ” ( أم 31: 16 ) , وحواء بإطاعتها للحية فقدت الفردوس الذي غرسه الرب وهي كزوجة أعثرت رجلها بدلا من أن تكون تاجا لرأسه.

كــان خطــأ حــــواء:

  • أنها رأت الشجرة جيدة للأكل ولم تر الوصية مصباحا والشريعة نورا ومن يتركها فليــس بحكيم.
  • هي رأت الشجرة بهجة للعيون ولكنها لم تتطلع للمسيح نور العالم.
  • هي رأت الشجرة فقط ولم تشبع بالرب الذي قال عن نفسه ” أنا الحكمة … لأنه من يجدني يجد الحياة … ومن يخطئ عبي يضر نفسه “(أم 8 ).
  • كان خطأ حواء أنه أصاغت الأذن , فنظرت , فاشتهت , فمدت يدها , وأثمت , وكان يجمل بها أن تفزع وتهرب … ألا ليتها في تلك الساعة قد ذكرت كلمة الله الأبدية المحذرة بالموت.

أيا ليتها وهي تقترب من الشجرة شعرت بالذنب وألم الضمير , ألا ليتها مدت بصرها ورأت الأجيال الغارقة في الدم والدموع والعار والتعاسة والشقاء.

بل ألا ليتها رأت أرعب المناظر وأخلدها علي جبين الدهر , منظر ابن الله الحزين , بين أشجار الزيتون , وعرقه يتصبب كقطرات دم نازلة على الأرض , ألا ليتها فعلت هذا … إذا لارتدت مصعوقة عن قطف الثمرة … ولكنها لم تفعل فسقطت وعُوقبت , وكان عقابها أشد من عقاب آدم , لا لأنها كانت أسبق في التعدي فحسب , بل لأنها قادته إليه.

حـــواء الأم:

  • كانت رسالة حواء الثانية بعد رسالتها كزوجة: رسالة الأمومة
  • لقد خلقها الله لتكون معينا لزوجها ولتملأ بأبنائها وبناتها الأرض

فولدت قايين وهابيل وشيثا , وأبناء وبنات كثيرين , ولكنها خلقت فيهم ومعهم غريزة أسمى وأقوى غرائز المرأة علي الإطلاق: غريزة الأمومة

دعت حواء ابنها الأول قايين أي ” اقتناء ” وهذا الاسم إن دل علي شئ فإنما يدل علي أول ما تحس به الأمومة إزاء الأبناء: الولع والشوق والفرح والبهجة بمجيئهم. الولع الذي جعل سارة تدعو ولدها اسحق أو ” الضحك ” , والذي حدا براحيل أن تقول ليعقوب: ” هب لي بنين … وإلا فأنا أموت لله , والذي دفع اليصابات أن تخفي نفسها خمسة أشهر قائلة لله هكذا قد فعل بي الرب في الأيام التي فيها نظر الي لينزع عاري بين الناس “.

وأما ابنها الثاني فكان هابيل أي ” نفخة ” أو ” بطل ” وهو يشير إلى الناحية الحزينة من الأمومة , والأمومة التي تبكي أبنائها الحزانى أو المتألمين أو الصرعى كما بكت حواء ابنها هابيل , الأمومة التي تدفع أقسى الضرائب من الدم والدموع والألم في سبيل أولادها كما هبت راحيل منتفضة من قبرها تصيح في وحي النبي , مذعورة علي أبنائها القتلى: ” صوت سمع في الرامة , نوح, بكاء مر, راحيل تبكي علي أولادها , وتأبى أن تتعزى عن أولادها لأنهم ليسوا بموجودين.

أما الثالث فهو شيث أي ” عوض ” وهو الناحية الرجائية في الأمومة وماذا تنتظر لابنها ؟ وماذا تنتظر ومنه ؟

 لم يكن العقاب هو المرحلة النهائية الأخيرة في قصة أمنا حواء , وهيهات أن يكون وراءها تلك المحـــبة السرمدية العليا التي سبقت فأعدت خلاصها وخلاص بنيها قبل تأسيس العالم , في نسلها العظيم الذي يسحق رأس الحية تلك المحبة التي طوقتها بالحنان والعطف والجود غداة السقوط , فصنعت لها ولزوجها أقمصة من جلـــد وألبستها لتغطي عريها.

  ولقد أدركت حواء بعد سقوطها أنه خُدعت ” الحية أغرتني ” ومن ثم كانت شديدة اللهفة والشوق إلى مجيء المخلص الذي أخطأته فظنته قايين يوم قالت: ” اقتنيت رجلا من عند الرب لله , ولما أنجبت هابيل دعته ” البطل ” ولعلك تدرك أن تلك التسمية لا تمليها إلا نفس شديدة الحساسية بالندم والحزن والتوبة والإدراك بأن: ” كل ما في العالم شهوة الجسد وشهوة العيون وتعظم المعيشة , ليس من الآب بل من العالم , والعالم يمضي وشهوته , وأما الذي يصنع مشيئة الله فيثبت إلى الأبد.

دعونا إذا نغني لحواء ومعها ومع بنيها جميعا هذه المقطوعة القديمة الجديدة لمرنم إسرائيل الحلو: ( مز 103:8 )

” الرب رحيم ورؤوف , وطويل الروح وكثير الرحمة لا يحاكم إلى الأبد ولا يحقد إلى الدهر , لم يصنع معنا حسب خطايانا , ولم يجازنا حسب آثامنا , لأنه مثل ارتفاع السموات فوق الأرض قربت رحمته علي خائفيه , كبعد المشرق عن المغرب أبعد عنا معاصينا , كما يترأف الاب علي البنين يترأف الرب علي خائفيه , لأنه يعرف جبلتنا يذكر أننا تراب نحن: الإنسان مثل العشب أيامه , كزهر الحقل كذلك يزهر لأن ريحا تعبر عليه فلا يكون , ولا يعرفه موضعه بعد , أما رحمة الرب فالي الدهر والأبد علي خائفيه وعدله علي بني البنين , لحافظي عهده وذاكري وصاياه ليعملوها “.

 

موضوع الأمومة – المرأة في الكتاب المقدس ج17