آبائيات

الله ثالوث – الطريق الأرثوذكسي – د. نصحى عبد الشهيد

الله ثالوث - الطريق الأرثوذكسي - د. نصحى عبد الشهيد

الله ثالوث – الطريق الأرثوذكسي – د. نصحى عبد الشهيد

 

الله ثالوث - الطريق الأرثوذكسي - د. نصحى عبد الشهيد
الله ثالوث – الطريق الأرثوذكسي – د. نصحى عبد الشهيد

 

الطريق الأرثوذكسي للأسقف كاليستوس وير

الفصل الثانى

الله ثالوث

          أيها الآب رجائى:

          أيها الابن، ملجأى:

          أيها الروح القدس حمايتى:

          أيها الثالوث القدوس. المجد لك.

صلاة القديس يؤنيكيوس

          أيها الثالوث، غير المخلوق الذي بلا نهاية،

          أيها الواحد غير المنقسم، الثلاثة في واحد،

          الآب والابن والروح، إله واحد..

          أقبل ترنيمتنا هذه من ألسنة الطين

          وكأنها من أفواه ملتهبة

عن كتاب التريوديون

 

الله كمحبة متبادلة:

          نحن نؤكد في بداية قانون الإيمان أننا ” نؤمن بإله واحد “، لكننا نقول على الفور ما هو أكثر من ذلك. فنحن نستمر قائلين، نحن نؤمن بإله واحد الذي هو في نفس الوقت ثلاثة: الآب والابن والروح القدس. يوجد في الله تمايز أصيل وأيضًا وحدانية حقيقية. إله المسيحيين ليس مجرد وحدة unit من الوحدات بل هو اتحاد، ليس مجرد وحدة بل شركة. هناك في الله شئ ما مماثل للـ” المجتمع “. هو ليس شخصًا فرديًا يحب ذاته وحده، وليس جوهرًا فرديًا monad أو “الواحد”. بل هو ثالوث أو وحدة ثالوثية triunity: ثلاثة أشخاص متساوون، كل شخص يوجد في الاثنين الآخرين بفضل حركة محبة متبادلة لا تتوقف. ” أنا أحب، لهذا أنا كائن Amo ergo sum” ذلك عنوان قصيدة “كاتلين راين” والتي يمكن أن تكون شعارًا لله الثالوث القدوس. وما يقوله شكسبير بشأن الحب الإنسانى بين شخصين يمكن تطبيقه أيضًا على المحبة الإلهية بين الأقانيم الثلاثة الأزليين:

          هكذا أحبا، حبًا بين اثنين

          ولهما جوهر واحد

          والاثنان متميزان، بلا انقسام

          فالعدد في الحب شئ منعدم

 

          إن الغاية الأخيرة من الطريق الروحى أننا نحن البشر يجب أن نكون أيضًا جزءً من الوجود الحى المتبادل في الثالوث [Trinitarian Coinherence أو ما يسمى بالـPerichoresis ]، إذ تجذبنا بالكامل دائرة الحب القائمة في داخل الله. هكذا صلى المسيح لأبيه ليلة صلبه       ” ليكون الجميع واحدًا، كما أنك أنت أيها الآب فيّ وأنا فيك، ليكون هم أيضًا واحدًا فينا ” (يو21:17).

 

          لماذا نؤمن أن الله ثلاثة ؟ أليس من الأسهل أن نؤمن ببساطة بالوحدانية الإلهية، مثلما يفعل اليهود والمسلمون؟ بالتأكيد هذا أسهل. إن عقيدة الثالوث تقف أمامنا بمثابة تحدٍ، كاللغز (crux) بالمعنى الحرفى: إنها بعبارة فلاديمير لوسكى “صليب لطريق التفكير البشرية”، وهي تتطلب يتطلب منا التوبة (metanoia) بصورة جذرية ـ وليس مجرد لفتة تصديق رسمى، بل تغير حقيقى في الذهن وفى القلب.

          لماذا الإيمان إذن بالله كثالوث ؟ وجدنا في الفصل السابق أن أكثر طريقين يساعدانا على الدخول إلى السر الإلهي أن نؤكد أن الله شخص  وأن الله محبة. ويتضمن هذان المفهومان المشاركة والتبادل. أولاً، ليس “الشخص” هو نفس الشيء “كالفرد” على الإطلاق. فأى واحد منعزل ومستقل بذاته لا يكون شخصًا أصيلاً حقيقيًا بل مجرد فرد، أى وحدة مجردة كما يتم تسجيلها في التعداد. إن التمركز حول الأنا هو موت الشخصية الحقيقية. ويصبح كل فرد شخصًا حقيقيًا فقط من خلال الدخول في علاقة مع أشخاص آخرين، أى من خلال الحياة لأجلهم وفيهم. لقد قيل وهذا حق، إنه ما من إنسان يمكن أن يوجد، ما لم يكن اثنان على الأقل في علاقة معًا. ونفس الشيء يُصدق، على المحبة. لا يمكن للمحبة أن تقوم في عزلة، بل هي تفترض وجود الآخر. إن محبة الذات هي إلغاء المحبة. ومثلما أوضح ” تشارلز ويليامز” هذا التأثير المُخرِّب فى روايته ” الهبوط إلى الجحيم “، فإن حب الذات هو الجحيم، لأن حب الذات إذا ما بلغ منتهاه، إنما يدل على نهاية كل فرح وكل معنى. ليس الجحيم هو الآخرون، إنما الجحيم هو ذاتى، إذا ما انفصلت عن الآخرين وتمركزت حول نفسها.

 

          إن الله أفضل بكثير من أحسن ما نعرفه في نفوسنا. فإن كان اثمن عنصر في حياتنا كبشر هو العلاقة بين ” الأنا والأنت “، فإننا لا يمكننا إلاّ أن ننسب نفس العلاقة، بمعنى ما، إلى كيان الله الأزلى ذاته. وهذا بالضبط ما تعنيه عقيدة الثالوث القدوس. ففى قلب الحياة الإلهية ذاتها، ومنذ الأزل يعرف الله ذاته بصفته ” أنا وأنت ” I and Thou “، بأسلوب ثالوثى، وهو يفرح على الدوام بهذه المعرفة. إذن، كل ما يتضمنه فهمنا المحدود للشخص الإنسانى وللحب الإنسانى، هذا نؤكده أيضًا عن الله الثالوث، ونضيف أن هذه الأمور في حالة الثالوث تعنى أكثر بغير حدود مما يمكن أن نتخيله على الإطلاق.

 

          إن الشخص والمحبة يعنيان الحياة، والحركة، والاكتشاف. هكذا فإن عقيدة الثالوث تعنى أننا يجب أن نفكر في الله بمعانٍ متحركة أكثر منها ساكنة. فليس الله مجرد سكون وراحة وكمال غير قابل للتغيير. ولكى نكوّن صورًا عن الله الثالوث علينا أن نتأمل الريح، والمياه الجارية ولهب النيران المتأججة. هناك تشبيه مفضل عن الثالوث كان دائمًا يصوره بثلاثة مشاعل تشتعل بلهب واحد. وتخبرنا ” أقوال آباء البرية ” كيف أن أخًا جاء مرة ليتحدث إلى الأنبا يوسف فى بانيفو وقال الزائر ” يا أبانا، إنى أتبع حسب مقدرتى قاعدة متواضعة للصلاة والصوم، والقراءة والصمت، وبقدر استطاعتى أحفظ نفسى طاهرًا في أفكارى. فماذا لى أن أفعل أكثر؟ فأجابه الأنبا يوسف وقد وقف على قدميه ورفع ذراعيه نحو السماء، وأصبحت أصابعه مثل عشرة مشاعل مضيئة، وقال الشيخ العجوز للزائر: “إن أردت، يمكنك أن تصير كلك نارًا بالكامل”. فإن كانت هذه الصورة عن اللهب الحى تساعدنا على فهم طبيعة الإنسان في أعلى حالاتها، ألاّ يمكن أن تنطبق أيضًا على الله ؟ إن أقانيم الثالوث هم ” بالكامل نار “.

 

          لكن في النهاية، فإن أقل صورة تضلل فهمنا يمكن أن نجدها، لا في العالم الطبيعى خارجنا، بل في القلب البشرى، إن التشبيه الأفضل هو ذلك الذي بدأناه ألاّ وهو خبرتنا بالاهتمام الشديد بشخص آخر ومعرفتنا أن محبتنا تُرد لنا بمحبة مثلها.

 

ثلاثة أشخاص (أقانيم) في جوهر واحد:

          قال المسيح ” أنا والآب واحد ” (يو30:10) فماذا كان يعنى ؟ للإجابة علينا أولاً أن نرجع أول مجمعين من المجامع المسكونية: مجمع نيقية      (325)، ومجمع القسطنطينية (381)، وإلى قانون الإيمان الذي صاغه هذان المجمعان. إن التأكيد الأساسى والحاسم في قانون الإيمان هو أن يسوع المسيح هو “الإله الحق من الإله الحق”، “واحد في الجوهر” (أو “هوموأوسيوس”) مع الله الآب. بعبارة أخرى، فإن يسوع المسيح مساوٍ للآب: هو الله بنفس معنى أن الآب هو الله، ومع ذلك فهما ليسا إلهين بل إله واحد. ومن ثم إن الآباء الشرقيين في أواخر القرن الرابع الميلادى قالوا نفس الشيء عن الروح القدس: هو بالمثل إله حق، “واحد في الجوهر” مع الآب والابن. ورغم أن الآب والابن والروح القدس إله واحد، فإن كلاً منهم هو منذ الأزل شخص (أقنوم)، هو مركز متميز لوعى ذاته. الله الثالوث إذن يوصف بأنه ثلاثة أقانيم في جوهر واحد. توجد في الله منذ الأزل وحدة حقيقية، مرتبطة بتمايز شخصى أصيل: لفظة “جوهر”، “كيان” (ousia)، إنما تدل على الوحدة، ولفظة “شخص” أو “أقنوم” (هيبوستاسيس) (hypostasis) أو (بروسوبون) تدل على التمايز. فلنحاول أن نفهم ما الذي تدل عليه هذه اللغة المحيرة، لأن عقيدة الثالوث القدوس عقيدة حيوية بالنسبة لخلاصنا.

 

          الآب والابن والروح واحد في الجوهر، لا بمعنى فقط أن الثلاثة هم أمثله لنفس المجموعة أو الجنس العام، بل بمفهوم أنهم يشكلون معًا حقيقة واحدة فريدة وخاصة. وفي هذا الصدد هناك فارق هام بين معنى أن أشخاص الله الثلاثة هم واحد، ومعنى أن يدعى ثلاثة أشخاص من البشر واحدًا. فالأشخاص الثلاثة من البشر بطرس ويعقوب ويوحنا، ينتمون إلى نفس الجنس العام، جنس “الإنسان”. وبرغم أنهم متقاربون معًا متعاونون معًا، فإن لكل واحد منهم إرادته الخاصة وقدرته الخاصة، يعمل كل واحد بمقتضى قوته الخاصة المنفصلة في اتخاذ القرار أو المبادرة. باختصار، هم ثلاثة رجال وليس رجلاً واحدًا. لكن في حالة أشخاص الثالوث الثلاثة ليس الأمر هكذا. هناك تمايز، لكن ليس هناك انفصال على الإطلاق. فالآب والابن والروح كما يؤكد القديسون ـ تابعين شهادة الكتاب المقدس ـ لهم إرادة واحدة فقط وليست ثلاث إرادات. لهم طاقة واحدة وليست ثلاثًا. لا أحد من الثلاثة يعمل منفردًا، بمعزل عن الاثنين الآخرين. هم ليسوا ثلاثة آلهة، بل إله واحد.

 

          ومع ذلك ورغم أن الأقانيم أو الأشخاص الثلاثة لا يعملون أبدًا بمعزل الواحد عن الآخر، فإن في الله تمايزًا أصيلاً كما أن فيه وحدة خاصة. فى اختبارنا لله وهو يعمل في عمق حياتنا الخاصة، وبينما نجد أن الثلاثة يعملون دائمًا معًا، مع ذلك فإننا نعلم أن كلاً منهم يعمل فينا بطريقة مختلفة. نحن نختبر الله كثلاثة فى واحد، ونؤمن أن هذا التمايز الثلاثى فى عمل الله الخارجى يعكس تمايزًا ثلاثيًا فى حياته الداخلية. والتمايز بين الأشخاص الثلاثة يعتبر تمايزًا أزليًا قائمًا فى داخل طبيعة الله نفسه؛ فالتمايز لا ينطبق فقط على فعله الخارجى فى العالم. الآب والابن والروح القدس ليسوا مجرد “أشكال” أو “أساليب” للاهوت (الألوهية)، ليسوا مجرد أقنعة يرتديها الله لفترة فى تعاملاته مع الخليقة ثم يخلعها جانبًا. هم على النقيض ثلاثة أشخاص متساوون معًا وأزليون معًا (Coequal, Coeternal Persons). الأب البشرى أكبر سنًا من ابنه. لكن حين نتحدث عن الله “كأب” و”كابن” لا نفسر هذه الألفاظ بهذا المعنى الحرفى. نحن نؤكد أن ” الابن ” لم يكن هناك وقت لم يكن فيه موجودًا. ونفس الشيء يُقال عن الروح.

 

          كل واحد من الثلاثة هو بالكامل وبالكلية الله. ليس أحد منهم أكثر أو أقل من إله بالنسبة للآخرين. كل واحد يملك، لا ثلث لاهوت، بل الألوهية الكاملة فى مجملها، ومع هذا فكل واحد يحيا ويكون هذا اللاهوت الواحد بطريقته المتميزة الخاصة ‎والشخصية. وإذ يؤكد القديس غريغوريوس النيسى على هذه الوحدة الثالوثية فى تنوع، يكتب:

          [ كل ما يكونه الآب، نراه ظاهرًا (مستعلنًا) فى الابن، وكل ما هو للابن فهو للآب أيضًا، لأن الابن بكامله يسكن فى الآب، وله الآب بكامله ساكنًا فى ذاته، الابن الكائن دائمًا فى الآب لا يمكن أن ينفصل عنه، ولا يمكن أن ينفصل الروح عن الابن الذي يعمل بالروح كل شئ. والذي يقبل الآب يقبل أيضًا وفى آنٍ واحد الابن والروح. من المستحيل أن نتخيل أى نوع من الانفصال أو القطع بينهم: فلا يمكن للمرء أن يفكر فى الابن بمعزل عن الآب، ولا أن يفصل الروح عن الابن. هناك بين الثلاثة مشاركة وتمايز يفوق التعبير بالكلام ويفوق الفهم. والتمايز بين الأشخاص لا يضعف وحدانية الطبيعة ولا تقود وحدانية الجوهر المشتركة إلى اختلاط بين الخصائص المتميزة للأشخاص (الثلاثة). لا تندهشوا أننا يجب أن نتكلم عن اللاهوت بأنه موحد ومتمايز في آنٍ واحد. وإذا استخدمنا الألغاز، إن جاز التعبير، فإننا نتصور تنوعًا ـ فى ـ وحدة، ووحدة ـ فى تنوع، غريبة ومتناقضة].

 

وباستخدامه عبارة ” إذا استخدمنا الألغاز.. ” فإن القديس غريغوريوس مضطر أن يؤكد أن تعليم الثالوث ” فيه تناقض ظاهرى ” Paraoxical وأنه ” يفوق التعبير بالكلام والفهم “. إنه شئ أعلنه الله لنا ولم توضحه لنا عقولنا. يمكننا أن نلمح له بلغة بشرية، لكننا لا نقدر أن نشرحه بالكامل. وقدراتنا العقلية هي هبة من الله ويجب أن نستخدمها حتى الكمال، لكن علينا أن ندرك محدوديتها. ليس الثالوث نظرية فلسفية، لكنه الله الحى الذي نعبده، لهذا تأتى نقطة فى اقترابنا من الثالوث حين يجب لمناقشتنا وتحليلنا أن يترك المكان للصلاة التي بغير كلام:

          ” فليصمت كل جسد مائت

وليقف فى خوف ورعدة.”                                        (ليتورجية القديس يعقوب)

 

الخصائص الشخصية فى الثالوث:

          الشخص الأول فى الثالوث، الله الآب، هو “نبع اللاهوت”، المصدر، العلة، أو مبدأ أصل الشخصين الآخرين. هو رابطة الوحدة بين الثلاثة: هناك إله واحد لأن هناك آبًا واحدًا. ” الوحدة هي الآب، الذي منه وإليه يسير مجرى نظام الأشخاص” (القديس غريغوريوس اللاهوتى). كل شخص من الشخصين الآخرين يُعّرف بألفاظ تعبر عن علاقته بالآب: فالابن “مولود” من الآب، والروح “ينبثق” من الآب. وفى الغرب اللاتينى، هناك اعتقاد ثابت بأن الروح ينبثق ” من الآب ومن الابن “. وقد أُضيفت لفظة فيليوك filioque (أى من الابن) إلى النص اللاتينى لقانون الإيمان. وتعتبر الأرثوذكسية لفظة فيليوك إضافة غير شرعية ـ لأنها أُضيفت إلى قانون الإيمان دون موافقة الشرق المسيحى ـ ليس هذا فحسب، بل إنها تعتبر أيضًا أن تعليم ” الانبثاق المزدوج “، كما يُشرح عادة، هو تعليم غير دقيق لاهوتيًا وضار روحيًا. وبحسب آباء القرن الرابع الشرقيين، الذين تتبعهم الكنيسة الأرثوذكسية حتى يومنا هذا، فإن الآب هو المصدر الوحيد وأساس وحدة اللاهوت. ولكى نجعل الابن مصدرًا مثل الآب، أو بالاشتراك معه، معناه أن نتسبب فى ارتباك الخصائص المميزة للأشخاص.

 

          والشخص الثانى فى الثالوث هو ابن الله، ” كلمته ” أو اللوغوس. ولكى نتحدث بهذا الأسلوب عن الله كابن وآب معناه على الفور أن يتضمن (هذا الحديث) حركة من المحبة المتبادلة، كما أشرنا قبلاً. ومعناه أن يتضمن (كلامنا) أنه منذ الأزل فإن الله نفسه، كابن ـ فى طاعة بنوة ومحبة ـ يرد إلى الله الآب الكيان الذي يولّده الآب فيه منذ الأزل بالبذل الذاتى الأبوى. وفى الابن ومن خلاله يُستعلن أو ينكشف الآب لنا: ” أنا هو الطريق والحق والحياة. ليس أحد يأتى إلى الآب إلاّ بى” (يو6:14). هو الذي وُلِدَ على الأرض كإنسان من العذراء مريم فى مدينة بيت لحم. لكنه كالكلمة أو لوغوس الله فهو أيضًا يعمل قبل التجسد الإلهي. هو مبدأ النظام وهو الغاية الذي يتغلغل فى كل الأشياء ويجذبها إلى الوحدة فى الله، وهكذا يجعل العالم universe “كونًا Cosmos”، أى كلاً متكاملاً ومتناسقًا. وقد أسبغ اللوغوس الخالق على كل شئ مخلوق اللوغوس الخاص به الساكن فيه أى المبدأ الداخلى، الذي يجعل هذا الشيء هو ذاته بشكل متميز، والذي يجذب فى آنٍ واحد ويوجه كل شئ نحو الله. ومهمتنا البشرية كصناع أو حرفيين هي أن ندرك هذا اللوغوس الساكن فى كل شئ وأن نجعله ظاهرًا (معلنًا)، نحن لا نسعى أن نهيمن ونسيطر بل أن نتعاون.

 

          أما الشخص الثالث فهو الروح القدس، “الريح” أو” نفس” (نسمة) الله. وبينما نحن ندرك عدم دقة التقسيمات المرتبة، فإننا يمكن أن نقول إن الروح هو الله فينا، والابن هو الله معنا، والآب هو الله فوقنا أو فيما وراءنا أو أبعد منا. ومثلما يكشف الابن الآب لنا، هكذا فإن الروح هو الذي يكشف الابن لنا، ويجعله حاضرًا معنا. ومع ذلك فالعلاقة متبادلة. فالروح يجعل الابن حاضرًا معنا، لكن الابن هو الذي يرسل الروح إلينا. (نحن نلاحظ أن هناك تمايزًا بين “الانبثاق الأزلى” للروح و”إرساليته الزمنية”. فالروح مرسل إلى العالم فى الزمن، بواسطة الابن، لكن بالنسبة لأصله فى داخل الحياة الأزلية للثالوث، فإن الروح ينبثق من الآب وحده).

 

          ويكتب سينيسيوس القيروانى مميزًا كل شخص من الأشخاص الثلاثة:

نهتف، يا أيها الآب، نبع الابن،

أيها الابن، صورة الآب،

أيها الآب، القاعدة حيث يقوم الابن،

أيها الابن، ختم الآب؛

أيها الآب، قوة الابن،

أيها الابن، جمال الآب،

أيها الروح الكلى الطهر، الرابطة بين الآب والابن،

أرسل أيها المسيح، الروح،

أرسل الآب إلى نفسى،

أغمر قلبى الجاف فى هذا الندى، أحسن كل عطاياك.

              

لماذا نتحدث عن آب وليس أم:

          لكن لماذا نتحدث عن الله كآب وابن، وليس كأم وابنة، إن اللاهوت فى ذاته ليس فيه ذكورة ولا أنوثة. وعلى الرغم من أن خصائصنا البشرية كذكر وأنثى تعكس، فى أعلى وأصدق صورها ملمحًا أو مظهرًا من الحياة الإلهية، إلاّ أنه لا يوجد فى الله مثل هذا التمايز الجنسى. لهذا فحينما نتحدث عن الله كآب فإننا لا نتكلم كلامًا حرفيًا بل روحيًا. ومع ذلك فلماذا تكون الرموز ذكرية وليست أنثوية؟ لماذا ندعو الله ” هو ” وليس ” هي” ؟ فى الحقيقة فإن المسيحيين قد طبقوا أحيانًا لغة ” الأم ” على الله. فيتحدث أفراهات، أحد قدامى الآباء السريان الأوائل، عن محبة المؤمن “لله أبيه والروح القدس أمه”، بينما نجد فى العصور الوسطى للغرب أن الليدى يوليان من نورويخ تؤكد أن: “الله يتهلل بأنه أبونا، والله يتهلل بأنه أمنا “. لكن تلك استثناءات. فالرمزية المستخدمة عن الله بواسطة الكتاب المقدس وفى عبادة الكنيسة هي تقريبًا على الدوام رمزية ذكرية.

 

          ولا يمكننا أن نثبت بالمجادلات لماذا يجب أن يكون الأمر هكذا، ومع ذلك تبقى حقيقة اختبارنا المسيحى أن الله وضع ختمه على بعض الرموز دون رموز أخرى. ولم نختر نحن الرموز بل هي قد أُعطيت وأُعلنت لنا من الله. يمكن للرمز أن يتحقق ويُعاش ويُصلى به ـ لكن لا يمكن أن “نبرهن” عليه منطقيًا. وهذه الرموز ” المعطاة ” رغم ذلك، وإن كان من غير الممكن أن يكون لها برهان، إلاّ أنها بعيدة رغم ذلك عن أن تكون اعتباطية Arbitrary. ومثل رموز الأساطير، والأدب والفن، فإن رموزنا الدينية تتغلغل بعمق إلى جذور كياننا الخفية، ولا يمكن أن تتبدل أو تتغير دون أن تنتج عنها عواقب فورية. فإن بدأنا مثلاً بالقول ” أمنا التي فى السموات ” بدلاً من ” أبانا”، فإننا لا نكون فقط قد غيرنا فى نص بتصور آخر عارض بل نكون قد بدلنا المسيحية بدين جديد. فإن الإلهة الأم ليست هي الرب الذي تؤمن به الكنيسة المسيحية.

 

          ولماذا يكون الله شركة أشخاص ثلاثة إلهيين لا أكثر ولا أقل ؟ هنا أيضًا لا يوجد دليل منطقى. فإن ثالوثية الله شئ معطى وموحى به لنا فى الكتاب المقدس، واستلمناه فى التقليد الرسولى، وفى خبرة القديسين عبر القرون. كل ما يمكننا عمله أن نثبت صحة هذه الحقيقة المعطاة من خلال حياتنا الخاصة فى الصلاة.

 

الولادة والانبثاق:

          ما الفرق بالضبط بين “ولادة” الابن و”انبثاق” الروح ؟ “إن طريقة الولادة وطريقة الانبثاق من الأمور التي لا يمكن إدراكها بالعقل”، هكذا يقول القديس يوحنا الدمشقى. ” لقد عرفنا أن هناك فرقًا بين الولادة والانبثاق لكن ما هي طبيعة هذا الفارق، فهذا ما لا نفهمه على الإطلاق”. فإن كان القديس يوحنا الدمشقى نفسه يعترف أنه متحير أفلا نكون نحن كذلك. إن ألفاظ “ولادة” و” انبثاق” هي رموز اصطلاحية لواقع يفوق مدارك دماغنا المفكر. يقول القديس باسيليوس الكبير ” إن عقلنا المفكر ضعيف ولساننا أضعف، من الأسهل قياس البحر كله بقدح صغير عن أن ندرك عظمة الله غير المدركة بالعقل البشرى “. ولكن إن كانت تلك الرموز لا يمكن شرحها بالكامل  إلاّ أننا يمكن (كما قلنا) أن نتأكد منها خلال لقائنا بالله فى الصلاة، فنعرف أن الروح ليس هو نفسه الابن، حتى إن كنا لا نستطيع تعريف الفارق بالضبط بواسطة الكلمات.

 

يدا الله:

          فلنحاول أن نشرح تعليم الثالوث بالتأمل فى النماذج الثالوثية فى تاريخ الخلاص وفى حياة الصلاة التي نعيشها.

          إن الأشخاص الثلاثة، كما رأينا، يعملون دائمًا معًا، ولهم إرادة وقوة واحدة. ويتحدث القديس إيريناؤس عن الابن والروح القدس “كيديّ” الله الآب؛ وفى كل فعل خلاّق وتقديسى يستخدم الآب هاتين ” اليدين” معًا فى وقت واحد. ويوفر لنا الكتاب المقدس والعبادة أمثلة متكررة لذلك:

 

1 ـ الخلق: “ بكلمة الرب صُنعت الأرض السموات وبنسمة فيه كل جنودها” (مز6:33). يخلق الله الآب بواسطة “كلمته” أى اللوغوس (الأقنوم الثانى)، وبواسطة “نسمته” أى روحه (الأقنوم الثالث). وتعمل “يدا” الآب معًا فى تشكيل الكون. وقيل عن اللوغوس ” كل شئ به كان” (يو3:1). قارن قانون الإيمان.. ” الذي به كان كل شئ ” ـ وقيل عن الروح فى الخلق إنه ” كان يرف على وجه المياه ” (تك2:1). فكل المخلوقات تحمل ختم الثالوث.

 

2ـ التجسد: عند البشارة، يرسل الآب الروح القدس على العذراء المباركة مريم فتحمل بابن الله الأزلى (لو35:1). هكذا فإن إتخاذ الله لبشريتنا هو عمل ثالوثى. يُرسل الروح من الآب، ليحقق حضور الابن فى داخل رحم العذراء. ويجب أن نضيف أن التجسد ليس فقط عمل الثالوث بل أيضًا عمل إرادة مريم الحرة. لقد انتظر الله قبولها الإرادى، الذي تعبر عنه الكلمات “ هوذا أنا أمة الرب، ليكن لى كقولك ” (لو38:1)، وهو القبول الذي لو كانت قد امتنعت عن تقديمه، لِما أصبحت مريم أم الله. فالنعمة الإلهية لا تحطم الحرية البشرية بل تؤكدها.

 

3 ـ معمودية المسيح: فى التقليد الأرثوذكسى، تُرىَ هذه المعمودية كاستعلان للثالوث. فصوت الآب من السماء يحمل الشهادة للابن قائلاً: “هذا هو ابنى الحبيب الذي به سررت ” وفى نفس اللحظة، فإن الروح القدس، فى شكل حمامة، ينزل من الآب ويستقر على الابن (مت16:3ـ17). ولهذا تُرّنم الكنيسة الأرثوذكسية فى عيد الظهور الإلهي عيد معمودية المسيح [1]:

          حين تعمدت أيها الرب فى نهر الأردن

          استعلنت عبادة الثالوث.

          لأن صوت الآب حمل الشهادة لك

          فناداك بالابن الحبيب.

          والروح فى شكل حمامة

          ختم على كلمته بأنها أكيدة وثابتة.

 

4 ـ تجلى المسيح: وهو حدثٌ ثالوثى أيضًا. فنفس العلاقة تتجلى بين الأقانيم الثلاثة كما فى المعمودية. فالآب يشهد من السماء ” هذا هو ابنى الحبيب الذي به سررت له اسمعوا ” (مت5:17)، بينما ينزل الروح كما حدث قبلاً على الابن، وفى هذه المرة فى شكل سحابة نور(لو34:9). كما نؤكد فى واحدة من ترانيم هذا العيد:

          اليوم على جبل طابور فى استعلان نورك أيها الرب

          أنرت أيها النور غير المتغير من نور الآب غير المولود،

          ورأينا الآب كنور

          والروح كنور

          الذي بنوره يرشد الخليقة كلها.

 

5 ـ استدعاء الروح فى الإفخارستيا: نفس النموذج الثالوثى الذي يتجلى فى البشارة وفى المعمودية، وفى التجلى، يظهر أيضًا فى لحظة الذروة فى الإفخارستيا، لحظة استدعاء الروح القدس (Epiclesis)، فالكاهن خديم السر حينما يخاطب الآب يقول فى قداس القديس يوحنا ذهبى الفم:

نقدم لك هذه العبادة الروحية بدون سفك دم.

ونصلى ونتضرع ونبتهل إليك

أن ترسل إلينا روحك القدوس، علينا وعلى هذه القرابين الموضوعة أمامك

وأن تجعل هذا الخبز الجسد الثمين لمسيحك

وأن تجعل ما بداخل هذه الكأس دم مسيحك

محوّلاً إياهما بروحك القدوس.

 

          ومثلما هو الحال فى البشارة هكذا فى الإفخارستيا التي هي امتداد لتجسد المسيح. فالآب يرسل الروح القدس ليحقق حضور الابن فى القرابين المقدسة. وهنا ـ مثلما هو فى كل حال ـ فإن الأقانيم الثلاثة للثالوث يعملون معًا.

 

نصلى للثالوث ونحيا الثالوث

نحن نصلى للثالوث:

          ومثلما يكون فى استدعاء الروح القدس فى الإفخارستيا بنيان  ثالوثى، هكذا الأمر تقريبًا فى كل صلوات الكنيسة. فالابتهالات الافتتاحية، التي يستخدمها الأرثوذكس فى صلواتهم اليومية كل صباح ومساء، هي ذات روح ثالوثية واضحة. وهي صلوات مألوفة جدًا، وتكرارها دائم، حتى أنه من السهل أن يفوتنا الانتباه إلى سمتها الحقيقية باعتبارها تمجيد للثالوث القدوس. ونحن نبدأ بالاعتراف بالله بأنه ثلاثة فى واحد، حينما نرشم علامة الصليب ونتلو الكلمات التالية:

باسم الآب والابن والروح القدس

          هكذا أيضًا فى مستهل كل يوم جديد، فنحن نضع اليوم تحت حماية الثالوث. ثم نقول ” المجد لك، يا إلهنا، المجد لك” ـ ويبدأ اليوم الجديد بالاحتفال والبهجة والشكر. ويلى هذا صلاة للروح القدس، ” أيها الملك السمائى… ” ثم نكرر ثلاث مرات:

قدوس الله، قدوس القوى، قدوس الحى الذي لا يموت، ارحمنا

          وهذه التقديسات الثلاث، هي تمثل بتسبحة ” قدوس قدوس قدوس ” التي يسبح بها الشاروبيم فى رؤيا إشعياء (إش3:6)، والأربعة الكائنات الحية فى سفر الرؤيا (رؤ8:4).وفى هذه الـ ” قدوس” التي تتكرر ثلاث مرات هناك ابتهال للثلاثة اقانيم الأزليين. ونتبع ذلك، فى صلواتنا اليومية، بأكثر عباراتنا الليتورجية تكرارًا: ” المجد للآب وللابن وللروح القدس..” وعلينا هنا قبل كل شئ ألاّ نسمح للألفة أن تولد الاحتقار. ففى كل مرة نستخدم هذه العبارة، من الضرورى أن نتذكر معناها الحقيقى باعتبارها تقديم المجد للثالوث. وهذا التمجيد Gloria تليه صلاة أخرى للأقانيم الثلاثة:

أيها الثالوث الأقدس ارحمنا            يارب اغفر لنا خطايانا

يا سيد اصفح عن آثامنا                     أيها القدوس افتقدنا واشفِ أمراضنا

لأجل اسمك القدوس.                       

          وهكذا تستمر صلواتنا اليومية. وفى كل خطوة، سواء ضمنًا أم صراحة، هناك بنية ثالوثية، واعتراف بالله كواحد فى ثلاثة. فنحن نفكر بالثالوث، نتحدث بالثالوث، ونتنفس الثالوث.

هناك أيضًا بعد ثالوثى فى الصلاة المحبوبة جدًا، وهي صلاة أرثوذكسية من جملة واحدة، ألاّ وهي “صلاة يسوع”، وهي “صلاة سهمية” تستخدم فى العمل وفى أثناء فترات الهدوء. وأكثر أشكالها شيوعًا هو:

يا ربى يسوع المسيح، ابن الله، ارحمنى أنا الخاطئ

          وهي فى شكلها الخارجى، صلاة للأقنوم الثانى من الثالوث، الرب يسوع المسيح. لكن الأقنومين الآخرين موجودان أيضًا فيها، رغم أنهما لا يذكران بالاسم. لأننا بذكرنا ليسوع أنه ” ابن الله ” نشير بذلك إلى أبيه، وتتضمن صلاتنا الروح أيضًا لأنه “لا يقدر أحد أن يقول إن يسوع رب إلاّ بالروح القدس” (1كو3:12). إذن فصلاة يسوع ليست صلاة متمركزة فقط حول المسيح، بل هي صلاة ثالوثية.

 

نحن نحيا الثالوث:

          يقول تيتو كولياندر: ” الصلاة فعل “.

” ما هي الصلاة النقية ؟ هي الصلاة  الموجزة فى كلماتها لكنها غزيرة فى فعلها. لأنه إن كانت أعمالك لا تفوق توسلاتك، فإن صلواتك ليست إلاّ مجرد كلمات، وليس فيها بذار اليدين ”                                 (من أقوال آباء البرية)

 

          فإن تحولت الصلاة إلى فعل، فإن هذا الإيمان الثالوثى الذي يغذى كل صلاتنا يجب أن يظهر أيضًا فى حياتنا اليومية. وقبيل تلاوة قانون الإيمان مباشرة فى القداس الإلهي[2]، نردد هذه الكلمات:

          ” فلنحب بعضنا بعضًا، حتى إننا بذهن واحد نعترف بالآب والابن والروح القدس، الثالوث الواحد فى الجوهر والغير منقسم”. لاحظوا هذه الكلمات، “حتى إننا”. إن الاعتراف الأصيل بالإيمان بالإله الثالوث فى واحد لا يمكن أن يقوم به إلاّ أولئك الذين، بحسب مثال الثالوث، يظهرون محبة الواحد نحو الآخر. هناك صلة وثيقة بين محبتنا الواحد للآخر وإيماننا بالثالوث: فالمحبة شرط أساسى للإيمان بالثالوث، والإيمان بالثالوث بدوره يعطى كامل القوة والمعنى للمحبة.

 

          إن عقيدة الثالوث أبعد من أن ندفع بها فى ركن بعيد ونعاملها كقطعة عويصة من التنظير اللاهوتى الذي لا يعنى به إلاّ المتخصصون، بل يجب أن يكون لعقيدة بالثالوث أثرها على حياتنا اليومية، ذلك الأثر الذي ينبغى أن لا يقل عن أن يكون أثرًا ثوريًا. فالبشر إذ هم مخلوقون على صورة الله الثالوث، مدعون أن يُظهروا على الأرض سر المحبة المتبادلة التي يحياها أقانيم الثالوث فى السماء.

 

          وفى العصور الوسطى بروسيا، كرس القديس سرجيوس الرادونيزى ديره الجديد للثالوث القدوس، وكان قصده الفعلى فى ذلك أن يظهر رهبانه المحبة الواحد نحو الآخر كل يوم، وهي نفس المحبة التي تسرى بين أقانيم الثالوث الثلاثة. وهذه ليست دعوة الرهبان وحدهم بل هي دعوة كل واحد فينا.

          فينبغى على كل وحدة اجتماعية: الأسرة، المدرسة، الورشة، والإيبارشية والكنيسة الجامعة ـ أن تصبح أيقونة للثالوث.

 

          ولأننا نعرف أن الله ثلاثة فى واحد، فإن كل واحد منا ملتزم أن يحيا حياة البذل مع الآخر ولأجل الآخر، كل منا ملتزم بشكل نهائى أن يحيا حياة الخدمة العملية، أن يحيا حياة الحنان النشيط. إن إيماننا بالثالوث يضعنا تحت التزام الجهاد على كل مستوى، من الشخصى جدًا وحتى العام المنظم تنظيمًا عاليًا، أى أن نناضل ضد كل أشكال القهر، والظلم، واستغلال الإنسان لأخيه الإنسان. وفى صراعنا لأجل البر الاجتماعى و”حقوق الإنسان”، فإننا نتصرف بوجه خاص ” باسم الثالوث القدوس “.

 

          ” إن أكمل قاعدة للمسيحية، وتعريفها الدقيق، وذروتها العليا، هي هذه: أن نبحث عما هو لنفع الجميع “، هكذا يقول القديس يوحنا ذهبى الفم. “.. لا أقدر أن أؤمن أنه من الممكن لأى إنسان أن يخلص إن لم يعمل لأجل خلاص جاره ” تلك هي المضامين العملية لعقيدة الثالوث. وهذا هو معنى أن ” نحيا الثالوث “.

 

CDCDCDCDCD

 

          لا نمجد ثلاثة آلهة بل إلهًا واحدًا.

          نحن نكرم الأقانيم الثلاثة الذين هم بالحقيقة ثلاثة:

          الآب غير المولود                                                     والابن المولود من الآب

          والروح القدس المنبثق من الآب                  إله واحد فى ثلاثة:

          وبإيمان ومجد حقيقيين ننسب إلى كل منهم لقب الله.

(من كتاب التريوديون)

تعالوا، يا جميع الشعوب، لنعبد اللاهوت الواحد فى ثلاثة أقانيم،

الابن فى الآب مع الروح القدس        لأن الآب أعطى الميلاد قبل الزمان للابن،

الأزلى معه والجالس فى العرش معه،

والروح القدس ممجد فى الآب مع الابن:

قوة واحدة، جوهر واحد، لاهوت واحد، الذين نعبدهم كلهم والذين نقول لهم:

قدوس الله، الذي خلق كل الأشياء بالابن، بمشاركة الروح القدس.

قدوس وقوى الذي به نعرف الآب والذي به أتى الروح القدس ليسكن فى العالم

قدوس وغير مائت، الروح البارقليط، المنبثق من الآب والمستقر على الابن.

أيها الثالوث القدوس، المجد لك

(من صلوات عيد الخمسين)

أسبح اللاهوت، الواحد فى ثلاثة أقانيم

لأن الآب نور،            والابن نور،                   والروح نور

لكن يبقى النور بغير انقسام        ساطعًا فى وحدة الطبيعة،

ومع ذلك فهو يسطع فى ثلاثة أشعة من الأقانيم  (من كتاب التريوديون)

          المحبة هي الملكوت الذي وعد به الرب سريًا للتلاميذ، حينما قال إنهم سيأكلون فى ملكوته ” ستأكلون وتشربون على مائدتى فى ملكوتى ” (لو30:22). فما الذي سيأكلونه ويشربونه، المحبة؟

          وحينما نبلغ المحبة، نكون قد أدركنا الله وتكتمل رحلتنا. فقد عبرنا إلى الجزيرة التي تقع فيما وراء العالم، حيث الآب والابن والروح القدس: الذين لهم المجد والسلطان. فليجعلنا الله مستحقين أن نخافه ونحبه. آمين.                                                                                                               (القديس مار اسحق السريانى)

          مهما حاولت جاهدة، أجد من المستحيل أن أشيد شيئًا أعظم من هذه الكلمات الثلاث، ” احبوا بعضكم بعضًا ” فقط حتى النهاية، ومن دون استثناءات: حينئذٍ يتبرر كل شئ وتستنير الحياة، وإلاّ صارت خلاف ذلك بغيضة وعبئًا ثقيلاً.                                                                         (الأم ماريا من باريس)

          لا يمكن أن تكون كنيسة بدون محبة.   (القديس يوحنا كرونستادت)

          صدقونى، توجد حقيقة واحدة تسود وتسمو ابتداءً من أهداب إكليل المجد وحتى أدنى ظل لأتفه المخلوقات الدنيا: هذه الحقيقة هي المحبة. المحبة هي المنبع الذي تفيض منه الينابيع المقدسة للنعمة بدون توقف من مدينة الله، تروى الأرض وتجعلها مثمرة”، “غمر ينادى غمرًا” (مز7:42): كمثل غمر أو هاوية، وفى لانهائيتها تساعدنا المحبة على أن نصور لذواتنا الرؤيا المرهبة للألوهية. إنها المحبة التي تشكل كل الأشياء وتحافظ عليها فى وحدة. المحبة هي التي تهب الحياة والدفء، وتلهم وترشد. المحبة هي الختم الموضوع على الخليقة، هي توقيع الخالق. المحبة هي شرح صنع يديه.

          كيف نجعل المسيح يأتى ويسكن فى قلوبنا؟ كيف إن لم يكن بالمحبة ؟

(الأب ثيوكليتوس من دير ديونيسيوس)

          أرح المتعبين، افتقد المرضى، أعن الفقراء، لأن هذه أيضًا صلاة.

(القديس أفراهات)

          علينا أن نعامل أجساد رفقائنا من البشر بعناية أكثر مما نوليها لأجسادنا. تعلمنا المحبة المسيحية أن لا نعطى اخوتنا عطايا روحية فقط، بل عطايا مادية كذلك. حتى قميصنا الأخير، وآخر قطعة خبز عندنا، علينا أن نعطيها لهم. إن الصدقة الشخصية وأوسع الأعمال الاجتماعية انتشارًا، هما بالتساوى مهمان وضروريان.

          يكمن الطريق إلى الله فى محبة الآخرين، وليس هناك من طريق آخر. فى الدينونة الأخيرة، لن أُسأَل إن كنت ناجحًا فى نسكياتى أو كم عدد السجدات التي أديتها فى صلواتى، بل أُسأل، هل أطعمت الجوعى، وكسوت العرايا، وافتقدت المرضى والمساجين، هذا ما سوف أُسأل عنه.

(الأم ماريا من باريس)

أيها الثالوث، الأعلى فى الكيان                   أيتها الوحدانية التي بلا بداية

أجناد الملائكة يرنمون بتسابيحك، وهم يرتعدون أمامك،

تقف السموات والأرض والأعماق فى رهبة أمامك أيها الثالوث الكلى القداسة: يباركك الناس،        وتخدمك النار،                    ويطيعك كل شئ فى خوف

(من كتاب الميناون يوم 8 سبتمبر)

 

[1]  هذه التسابيح موجودة فى الكتب الطقسية لكنيسة الروم الأرثوذكس، وتوجد صلوات مشابهة فى كتب الكنيسة القبطية الأرثوذكسية.

[2] قداس يوحنا ذهبى الفم المستعمل فى كنائس الروم الأرثوذكس (المعرب).

 

الله ثالوث – الطريق الأرثوذكسي – د. نصحى عبد الشهيد

تقييم المستخدمون: كن أول المصوتون !