أبحاث

الإيمان بالثالوث – توماس ف. تورانس

الإيمان بالثالوث - توماس ف. تورانس

الإيمان بالثالوث – توماس ف. تورانس

الإيمان بالثالوث - توماس ف. تورانس
الإيمان بالثالوث – توماس ف. تورانس

 

الإيمان بالثالوث

الفكر اللاهوتي الكتابي

للكنيسة الجامعة في القرون الأولى

توماس ف. تورانس

 ترجمة 

دكتور عماد موريس اسكندر

 

تمهيد

عندما دعاني دكتور جيمس ماكورد مدير معهد برينسِتون اللاهوتي (Princeton Theological Seminary) لإلقاء بعض المحاضرات عام 1981م، وجدت أنه من المناسب أن أخصص هذه المحاضرات لتقديم الفكر اللاهوتي الآبائي لقانون الإيمان النيقي القسطنطيني. وكان هذا القانون قد تمت صياغته على مرحلتين، الأولى في مجمع نيقية عام 325م حيث تم وضع الهيكل الأساسي له، ثم أُدخلت إليه فقرات إضافية في مجمع القسطنطينية عام 381م من أجل الوصول إلى فهم كامل للقضايا اللاهوتية التي ظهرت خلال الخمسين سنة التي تلت نيقية.

ومن الموضوعات الرئيسية التي اخترتها لهذه المحاضرات:

-معرفة الله الآب خالق السماء والأرض ما يرى وما لا يرى

-الرب يسوع المسيح الابن المتجسد

-الروح القدس، الرّب المحيى المنبثق من الآب

-الكنيسة الواحدة المقدسة الجامعة الرسولية.

وكان قصدي هو تقديم شرح لهذه الموضوعات في ضوء أقوال آباء الكنيسة الذين انخرطوا في استجلاء وتوضيح “الإيمان الإنجيلي الرسولي” خلال القرن الرابع، وذلك من أجل تقديم كتيّب مفيد للدارسين. ولكن أثناء إعداد هذا الكتيب للطباعة، أعدت قراءة ما كتبه هؤلاء الآباء العظام في كل فصل، ووجدت أن هذا العمل يجب أن يكون أكبر مما خططت له في البداية، أولاً حتى أقدم فكرهم اللاهوتي بصورة أفضل، وثانياً لكي أحقق الهدف الذي من أجله بدأت هذا العمل. وقد يجد القارئ بعض التكرار والتداخل في المادة العلمية لبعض فصول هذا الكتاب، وكذلك إعادة لبعض النصوص والاقتباسات، ولكنني وجدت أنه لا مفر من ذلك لتقديم عرض متكامل لكل موضوع من موضوعات الكتاب، حيث إن هذه هي إحدى سمات الفكر اللاهوتي النيقي المتماسك: فكل عقيدة لاهوتية مرتبطة بشدة بالعقائد الأخرى ومؤثرة فيها.

وقد تمت إضافة الفصلين الأول والأخير من الكتاب بعد ذلك: الأول لتقديم المفهوم العام للإيمان والعبادة، والذي يجب علينا أن ننظر من خلاله للفكر اللاهوتي النيقي القسطنطيني. والفصل الأخير كان من أجل تقديم شرح واضح ومحدد عن عقيدة الكنيسة في الثالوث القدوس، وهو ما كان مُتضمَّنًا منذ البداية في إيمانها ولكن تم التعبير عنه بصورة أكثر وضوحًا حينما ازداد فهم عقيدة الروح القدس في سياق الجدل اللاهوتي قبل انعقاد مجمع القسطنطينية وأثنائه.

وفي كل الكتاب، حاولت أن أجعل الآباء اللاهوتيين الأوائل، وكلهم تقريبًا من الآباء الشرقيين الذين كتبوا باليونانية،أن يتحدثوا بأنفسهم دون أن أقحم أي مادة من مصادر متأخرة. وكان هدفي الرئيس في كل فصل من فصول هذا الكتاب، هو إلقاء الضوء على الروابط الداخلية التي أعطت تماسكًا لبنيان الفكر اللاهوتي في الكنيسة الأولى الجامعة، وخاصة في معرض صياغته خلال القرن الرابع. وفي الواقع كانت هناك بعض المشاكل التي ظهرت أثناء بناء هذا الفكر، وذلك بسبب الاختلاف في المدخل والتوجه بين مفهوم ق. أثناسيوس ومفهوم الآباء الكبادوكيين، ولكن الاتفاق العام الذي أمكن التوصل إليه في مجمع القسطنطينية عام 381م قد أعطى الكنيسة في الشرق والغرب اعترافًا رسميًّا واحدًا معتمدًا للإيمان المسكوني.

ومن الجدير بالذكر أن قانون الإيمان النيقي القسطنطيني كان ثمرة الفكر اللاهوتي الجامع للكنيسة الشرقية، حيث قدّم الآباء ـ الذين كتبوا باليونانية ـ شرحًا وتعبيرًا دقيقًا للنقاط الحاسمة في الإنجيل، والتي كانت قد تعرضت للتحريف والفهم الخاطئ تحت تأثير ثنائية الفكر الهللِّيني واليهودية المتهلِّنة. وفي هذا الصدد، كان الوضع المركزي ليسوع المسيح ’الابن المتجسد‘ في إيمان الكنيسة يتطلب الإجابة بوضوح عن السؤال عما إذا كان هو إلهًا وربًّا أو أنه مجرد مخلوق متوسط بين الله والإنسان، وأين هو الخط الفاصل بين الله والخليقة،  وبين الله الآب ويسوع المسيح، أو بين يسوع المسيح ابن الله المتجسد وبين العالم؟ كان هذا هو السؤال الرئيسي الذي واجهه آباء نيقية، وقد أجابوا عنه باعتراف قاطع بألوهية المسيح كربّ ومخلّص. ولكن السؤال نفسه ظهر مرة أخرى بعد نيقية بالنسبة للروح القدس: هل هو مسجود له مع الآب والابن بكونه الله وهل هو مِثله مِثل الابن واحد مع الآب (في ذات الجوهر) أم أنه قوة عقلانية مخلوقة؟ وهنا نجد أن ما تم إعلانه في نيقية، تم التأكيد عليه (في القسطنطينية) ليصير واضحًا أن الروح القدس هو الرب المحيي، وأنه لا ينتمي إلى المخلوقات بأي شكل من الأشكال.

إن القرار الحاسم الذي اُتُّخِذ في مجمع نيقية، قد أوضح أن الكنيسة قد اعتبرت العلاقة الأزلية بين الآب والابن هي الحقيقة العظمى التي يعتمد عليها كل شيء في الإنجيل، لأن يسوع المسيح هو نفسه محتوى إعلان الله الفريد عن ذاته للبشرية. وفقط على أساس ما أعلنه الله ـ عن طبيعته ـ في المسيح بكونه ابنه الوحيد، ينبغي أن تُفهم كل معرفة عن الله وعن علاقته بالعالم وبالبشر. ونحن نستطيع أن نعرف الله الآب معرفة حقيقية ودقيقة، فقط من خلال ابنه الذي له ذات الجوهر الواحد معه، لأننا حينئذ نكون قد عرفناه بالضبط وفقا لطبيعته الإلهية، أي أنه ينبغي علينا أن ندخل في علاقة حميمة معه (أي مع الآب) في يسوع المسيح ابنه المتجسد. إن الرب يسوع المسيح ابن الله المصلوب والقائم من الأموات هو الطريق والحق والحياة، وبغيره لا يستطيع أحد أن يصل إلى الآب. فحقيقة تجسد ابن الله صارت هي البداية (الرأس) لكل طرق الله وأعماله سواء في الخلق أو الفداء، كما أنها أيضًا الأساس الذي يحكم كل فهمنا للخلق والخلاص. ولذا، فإن جوهر الإنجيل وكل إيماننا المسيحي يعتمد على مركزية وأولية علاقة الوحدانية في ذات الجوهر والعمل بين يسوع المسيح والله الآب.

وبعد مجمع نيقية ظهرت ضرورة التأكيد على حقيقة كمال بشريّة المسيح، كما هو الحال بالنسبة لحقيقة لاهوته. لأنه لو لم يَصِر الله واحدًا معنا نحن البشر ـ في يسوع المسيح ـ بأخذه طبيعتنا البشرية (الكاملة) لنفسه، لما كان لعمل المسيح أي أثر بالنسبة لخلاصنا. ولو لم يكن لابن الله المتجسِّد نفسًا إنسانية وعقلاً إنسانيًّا كامًلا، لما كان لنا فداء أو خلاص كامل. كما أن التجسد لا يعني أن ابن الله جاء ’في الإنسان‘ بشكل ثنائي*، بل يعني أنه صار إنسانًا، وعلى هذا فهو بطبيعته الواحدة ’الإلهية البشريّة‘ يكون هو الشفيع الوحيد بين الله والإنسان. ومن هنا يتضح أن بشريّة المسيح الكاملة هي أمر محوري لخلاصنا، لأنه بوجوده الكامل بيننا، فإنه لا يقدِّم الله للإنسان فحسب، بل يقدِّم أيضًا الإنسان لله.

وينبغي هنا التأكيد على تعليم العهد الجديد بأنه في روح واحد وبواسطة الابن الوحيد قد أُعطينا وصولاً لله الآب؛ لأنه فقط من خلال شركة الروح القدس، روح الآب وروح الابن، يمكننا أن نشترك فيما أتمَّه المسيح ـ بحياته وموته وقيامته ـ لأجل خلاص الإنسان وتجديده وتقديسه. ولو كان الروح القدس الذي يوحدنا بالمسيح هو كائن مخلوق، لكانت شركتنا في المسيح وفي كل ما عمله لأجلنا لا تؤدي إلى خلاصنا (لأنه حينئذ لن يمكنه أن يدخلنا في شركة حقيقية مع المسيح، ولن يمكنه أن ينقل لنا منه أي شيء). وإذا كان روح الآب ـ الذي هو أيضًا روح الابن ـ ليس إلهًا، فإن ألوهية الآب وألوهية الابن تكون كذلك موضع شك. أضف إلى هذا أيضًا صحة المعمودية بإسم الآب والابن والروح القدس، وكذلك عضويتنا في الكنيسة الواحدة المقدسة الجامعة الرسولية التي هي جسد المسيح. ولذا فعندما أُثيرت البدع التي تشكك في ألوهية الروح القدس، اجتمعت الكنيسة مرة أخرى في مجمع مسكوني بالقسطنطينية، ليس فقط لتأكيد قانون إيمان نيقية، بل أيضًا لإضافة عبارات تؤكد الإيمان بالروح القدس على غرار تلك التي أكدت الإيمان بألوهية المسيح ابن الله المتجسد.

وصار واضحًا للكنيسة في القرن الرابع، أنه فقط عن طريق فهم الإنجيل على أساس عقيدة الثالوث القدوس، نستطيع أن ندرك تعليم إنجيل العهد الجديد عن المسيح والروح القدس، وأن ندرك جوهر الخلاص والصلاة والعبادة. ولذا فإن قانون الإيمان النيقي القسطنطيني كان في جوهره ثالوثيًّا، حيث كان مركز الاعتراف بالإيمان يدور حول إعلان الوحدانية في ذات الجوهر بين المسيح والله الآب، لأن الله في الإنجيل أعلن عن ذاته لنا كآب وابن وروح قدس، حيث إن ’ما هو‘ الله نحونا في أعماله الخلاصية هو نفس ’ما هو‘ الله في ذاته منذ الأزل كآب وابن وروح قدس، و ’ما هو‘ الله في ذاته منذ الأزل كآب وابن وروح قدس هو نفس ’ما هو‘ الله نحونا (في إعلانه وخلاصه) بالابن في الروح القدس. ولذلك صارت الصيغة العامة التي استخدمها آباء نيقية وما بعد نيقية في الحديث عن الثالوث وعمله الواحد: “من الآب، بالابن، في الروح القدس” وذلك بالنسبة لعلاقة الله بالإنسان، أما بالنسبة لعلاقة الإنسان بالله فتكون “في الروح القدس، بالابن، إلى الآب”. وبما أن هذا كله يمكن أن ينهار لو أن ألوهية الابن والروح القدس كانت موضع شك، فمن هنا نستطيع أن نفهم سبب إصرار آباء الكنيسة في مجمعي نيقية والقسطنطينية على الحفاظ على أساس الإيمان المسيحي بالآب والابن والروح القدس الثالوث الواحد غير المنقسم.

وقد يكون من المفيد للقارئ أن نقدم له الآن فكرة موجزة عن مضمون فصول هذا الكتاب* الذي بين يديه.

يتناول الفصل الأول أهمية الإيمان والتقوى، مع قانون الحق المسلَّم للكنيسة من الرسل (التسليم الرسولي)، لتفسير الكتب المقدسة، ولمساندة الآباء واللاهوتيين في كيفية التفكير والحديث عن الله وفقًا لطبيعة أعماله الخلاصية في المسيح يسوع. ولم يكن الفكر اللاهوتي للكنيسة منذ البداية مجرد مجموعة من الحقائق الإيمانية، وإنما كان ’حقًا‘ مجسَّدًا فيها، بحيث إن معرفة الله وعبادته مع الطاعة اليومية للإيمان، كانت كلها متداخلة بعضها مع البعض الآخر. وقد ركّز الفصل الأول على ق. إيرينيئوس وأوريجانوس بصفة خاصة، لأن كلا منهما ترك بصمته الواضحة على كنيسة ما قبل نيقية. فقد أوضح إيريناوس أنه فقط في إطار الإيمان المسلَّم للكنيسة والمتمثل في التقليد الرسولي ـ كوديعة متجددة ـ نستطيع أن نفسر الكتب المقدسة بأمانة، بما فيها من حقيقة الخلاص المعلن في الإنجيل. ومن جانبه، أكد أوريجانوس على ضرورة أن يكون فكر الإنسان تجاه الله فكرًا وقورًا وتقويًّا لائقًا، وهذا يحتاج إلى تدريب روحي على التقوى، حتى يمكن تفسير أسفار العهدين القديم والجديد في الكتاب المقدس في ضوء الحقائق التي تشير إليها هذه الأسفار. وقد كان هذا هو أساس الإيمان والحس اللاهوتي الذي اعتمد عليه آباء نيقية في صياغة قانون الإيمان، والذي اُعتبر مرحلة جديدة في تاريخ الكنيسة.

ويختص الفصلان الثاني والثالث بالتعليم العقائدي عن الله الآب ومعرفتنا له بكونه آبًا وخالقًا. وقد عبَّر ق. أثناسيوس عن مفهوم آباء نيقية في هذا الموضوع بقوله: ” إنه يكون أكثر تقوى وحقًا أن نتعرف على الله من خلال الابن وندعوه ’الآب‘ عن أن نسميه من خلال  أعماله فقط وندعوه ’غير المخلوق‘”. فإذا أردنا أن نعرف الله (الآب) بطريقة محددة ودقيقة، فإننا يجب أن نعرفه وفقًا لطبيعته كما أعلنها هو في يسوع المسيح ابنه المتجسد، الذي فيه لم يعطنا شيئـًا عن ذاته بل صميم ذاته. والسيد المسيح لم يعلن عن الآب بكونه هو ’آب‘، بل بكونه ابن الآب، ونحن بالمسيح وفي الروح القدس نُعطى سبيلاً إلى الآب وفقًا لما هو بالحقيقة في ذاته. وخلافًا عن اليهودية ونظرتها إلى الله بأنه غير قابل للتسمية، فإن الإيمان المسيحي نظر إلى الله بكونه هو الذي أعطى نفسه اسمًا في يسوع المسيح الكلمة الذاتي، حتى إننا في المسيح نستطيع أن نعرف الله في كيانه الذاتي الداخلي بكونه آبًا وابنًا وروح قدس. والسيد المسيح هو المبدأ (الرأس) (α̉ρχή) لكل معرفتنا عن الله وما صنعه وما زال يصنعه في الكون، ولذا فإن الفهم المسيحي للخلق لا بد أن يكون من منطلق علاقة الابن المتجسد بالآب، لأن أبوة الله المعلنة في الابن هي التي تحدد كيف نفهم الله كخالق وضابط الكل وليس العكس.

ويعرض الفصل الرابع التعليم عن المسيح ابن الله المتجسد. وإذا كانت علاقة الآب بالابن تحتل مكانًا مركزيًّا وأوليًّا في الفهم المسيحي لله والعالم والإنجيل، فإن كل شيء يعتمد بالتحديد على كيفية فهمنا لعلاقة يسوع المسيح ابن الله المتجسد بالآب. هل يسوع المسيح هو ’مِن‘ الله بنفس الطريقة التي نقول بها أن الكون هو ’مِن‘ الله، أي هل هو مخلوق من الله ويعتمد عليه في وجوده واستمراريته؟ هل ابن الله نفسه جاء إلى الوجود نتيجة عمل إرادة الله، أم هو كائن أزليًّا في الله بكونه ابنًا للآب وله ذات الجوهر الواحد والطبيعة الواحدة معه، وبالتالي هو ليس مثل الخليقة التي تختلف في كيانها وطبيعتها عن الله؟.

وقد أدرك آباء نيقية والقسطنطينية أنهم إذا سمحوا لأنماط الفكر الثنائي ـ السائدة في ثقافة ذلك الوقت ـ أن تفصل بين المسيح والله الآب في الجوهر، فإن ذلك سوف يهدم صميم الإيمان المسيحي كله. لأنه إذا كان ما يفعله المسيح ـ في مغفرة الخطايا مثلاً ـ ليس هو ما يفعله الله، إذن فالمغفرة هنا لا قيمة لها وليست حقيقية. وإذا لم يكن الله ذاته هو الذي أتى ليتحد بنا بتجسده، فإن محبته حينئذ تكون قاصرة، بل وليست محبة على الإطلاق. وأيضاً، إذا لم يكن الله ذاته هو الذي مات بالجسد لأجلنا على الصليب، فإن ذبيحة المسيح تكون بلا قيمة. وإذا لم يكن يسوع المسيح واحدًا في ذات الجوهر مع الله الآب، فإننا بالحقيقة لا نعرف الله، بل يكون الله عندئذ إلهًا غامضًا ومخفيًّا وراء المسيح. وهكذا فإن فصل يسوع المسيح عن الله الآب، في الجوهر والعمل، إنما يجعل رسالة الإنجيل فارغة وزائفة. ولكن إن كان المسيح له ذات الجوهر الواحد مع الله، فإن كل ما قاله وفعله لأجلنا يكون له أهميه كبرى بالنسبة لنا وللخليقة كلها. ومن الضروري هنا أن ندرك أن يسوع المسيح ابن الله هو أيضًا وفي آنٍ واحد ابن الإنسان، وهو من جهة إنسانيته واحد في ذات الجوهر والطبيعة معنا، ولو لم يكن الأمر كذلك فإن المَعبَر الكبير الذي أقامه الله ليصل بينه وبيننا يكون بغير أساس من جهتنا نحن البشر. ولكي يكون المسيح شفيعًا بالحقيقة وبمعنى الكلمة، كان لا بد له أن يكون إنسانًا كاملاً في نفس الوقت الذي هو فيه إله كامل. ولذا أكد قانون الإيمان على حقيقة بشرية المسيح وواقعيتها الكاملة: فالله من أجلنا ومن أجل خلاصنا، صار إنسانًا.

ويختص الفصل الخامس بالتعليم العقائدي عن الروح القدس. وحيث إن الكلمة أو ابن الله هو الذي تجسد وليس الآب أو الروح القدس، فإنه بالابن فقط نستطيع أن نعرف الروح القدس مثلما نعرف الآب. إذن فمعرفتنا للروح القدس، مثل معرفتنا للآب، تُستمد من معرفتنا للابن، وبالتالي فإن عقيدة الروح القدس تتمم وتكمل عقيدة الآب والابن وتعمق معرفتنا للثالوث القدوس. وبعد مجمع نيقية، صار مستقرًّا في الأذهان بصفة عامة، أن إنكار ألوهية الابن يعني ضمنيًّا إنكار ألوهية الروح القدس، ولذا كان لا بد من صياغة عبارات إيمانية محددة عن الروح القدس على غرار تلك التي تمت صياغتها بالنسبة للابن، وهذا ما حدث في مجمع القسطنطينية. ولم تتشكل عقيدة الروح القدس من عبارات الكتاب المقدس فقط، أو من الصيغة المستخدمة في تمجيد الكنيسة للثالوث فقط، بل أيضًا من واقع معرفة الله المستقرة في إعلانه عن ذاته لنا بواسطة الابن وفي شركة الروح. وقد جاء الاعتراف بألوهية الروح القدس ليؤكد طبيعته الإلهية وحقيقة أن حضوره فينا هو نفس حضور الله ذاته. ومع أن حضور الله فينا ـ في الروح القدس ـ يملأنا بالمهابة أمام عظمة جلاله الذي لا ينطق به، إلاّ أن هذا الحضور المهيب لا يطغى علينا وإنما يعمل فينا بشكل هادئ ورقيق ليساندنا ويحيينا. والروح القدس لا يوجِّه أنظارنا إلى نفسه، ولكن إلى إستعلان الآب في الابن والابن في الآب، لأنه من خلال التجسد ويوم الخمسين يأتينا الروح القدس من عمق الشركة الداخلية التي بين الآب والابن والروح القدس، ليكوِّن وحدة وشركة بيننا وبين الثالوث القدوس. أي أن الروح القدس لا يكوِّن فقط إتحادًا شخصيًّا مع كل واحد منا، ولكن أيضًا إتحادًا وشركة بيننا (ككل) وبين المسيح، ومن خلال المسيح مع الثالوث القدوس. وعلى هذا، فإن الروح القدس هو الذي يخلق ويساند الكنيسة في حياتها وبقائها، مُوحِّدًا إياها بالمسيح بكونها جسده على الأرض.

وفي الفصل الأخير كانت المحاولة لتجميع ما اتفقت عليه الكنيسة حول عقيدة الثالوث القدوس بكونه “جوهر واحد، ثلاثة أقانيم”. وقد سلطنا الضوء أولاً على مفهوم ق. أثناسيوس عن الثالوث القدوس بكونه ثالوثًا في وحدة ووحدة في ثالوث. وكان ق. أثناسيوس مميّزًا في أنه كــان يعادل بين ’الثيؤلوجــيا‘ (θεολογία) ـ والتي في عمق معناها هي معرفة الله وعبادته ـ وبين عقيدة الثالوث القدوس، وكان مدخله إلى ذلك هو مفهوم ’الوحدانية في ذات الجوهر‘ (Ðμοούσιος) لأقانيم الثالوث. وكان ق. أثناسيوس هو الذي قدّم عقيدة التداخل التام المتبادل أو السكنى الداخلية المتبادلة بين الآب والابن والروح القدس، والتي سميت فيما بعد بعقيدة التواجد (الاحتواء) المتبادل بين الأقانيم. كما فهم ق. أثناسيوس مصطلح الـ ’أوسيا‘ (οÙσία) بكونه الجوهر المتضمِّن في داخله العلاقات الأقنومية، أما الـ ’هيبوستاسيس‘ (Øπόστασις) فإنه يشير إلى العلاقـات المتبــادلة في الله، وعلى هذا الأســاس قَبل ق. أثناسيوس صيغة (μία οÙσία, τρε‹ς Øποστάσεις) أي “جـــــــوهر واحد، ثلاثة أقانيم”، وقد نظر إلى وحدة المبدأ (الرأس) (Μοναρχία) في الله على أنها وحدة في ثالوث وأنها هي نفسها عقيدة الجوهر الواحد غير المنقسم الذي للثالوث القدوس. وقد تناول هذا الفصل أيضًا مساهمة الآباء الكبادوكيين في شرح عقيدة الثالوث، وبصفة خاصة ما أكدّه ق. باسيليوس بالنسبة للخواص المميزة للثلاثة أقانيم الإلهية، ومحاولته الحفاظ على وحدة الثالوث بإرجاعه كيان الابن والروح القدس إلى أقنوم الآب. وكان ق. غريغوريوس النزينزي له تحفظات على ما ينطوي عليه هذا المفهوم من فكرة التسلسل والتبعية بين الأقانيم، مما دفعه إلى العودة والاقتراب من ق. أثناسيوس ولكن بمفهوم أعمق عن العلاقات الأزلية الجوهرية داخل الثالوث القدوس. وبينما اقترب ديديموس من ق. باسيليوس مبتعداً عن صيغة نيقية (من جوهر الآب)، قدم ق. إبيفانوس شرحًا قويًّا لمفهوم ق. أثناسيوس عن الله الثالوث، والوحدانية في ذات الجوهر التي بين الثلاثة أقانيم الكاملة المتساوية في داخل جوهر الله الواحد غير المنقسم.

وهذا التعليم الذي قدّمه كل من ق. أثناسيوس وق. إبيفانيوس عن الله، صار الأساس الذي بُني عليه الفهم النيقي القسطنطيني للروح القدس ووحدانية الله الثالوث، والذي تمت صياغته في تعبيرات لاهوتية راسخة.

 

 

إدنبرة 1987م.

* أي بمعنى أن أقنوم الكلمة حلَّ في إنسان بشري. (المترجم)

*  اقتصرت الطبعة العربية لهذا الكتاب على ترجمة الفصول 1، 2، 3، 4، 6، 8 من الكتاب الأصلي، وكلها تدور حول عقيدة الثالوث القدوس، وقد استبعدنا ترجمة الفصلين 5 و 7 من الكتاب الأصلي واللذان يعالجان موضوعين آخرين هما الخلاص والكنيسة. (المترجم)

 

الإيمان بالثالوث – توماس ف. تورانس