أبحاث

السبيل إلى الآب ف2 – الإيمان بالثالوث – توماس ف. تورانس

السبيل إلى الآب ف2 - الإيمان بالثالوث - توماس ف. تورانس

السبيل إلى الآب ف2 – الإيمان بالثالوث – توماس ف. تورانس

 

السبيل إلى الآب ف2 - الإيمان بالثالوث - توماس ف. تورانس
السبيل إلى الآب ف2 – الإيمان بالثالوث – توماس ف. تورانس

 

الإيمان بالثالوث

الفكر اللاهوتي الكتابي

للكنيسة الجامعة في القرون الأولى

توماس ف. تورانس

 ترجمة 

دكتور عماد موريس اسكندر

 

 

الفصل الثاني

السبيل إلى الآب
“نؤمن بإله واحد، آب ضابط الكل، خالق السموات والأرض، ما يرى وما لا يرى”

 

النظرة ’الثنائية‘ السائدة وقت ظهور المسيحية

عندما امتدت الكنيسة المسيحية من مركزها في اليهودية (بفلسطين) إلى عالم البحر الأبيض المتوسط، واجهت كرازتها وتعليمها بالإنجيل معارضة شديدة من المذهب المتطرف الخاص ’بالثنائية‘ بين الجسد والعقل، والذي كان سائدًا ومنتشرًا في كل جانب من جوانب الحضارة اليونانية ـ الرومانية. وقد أدى هذا المذهب إلى تقسيم الاختبار الإنساني إلى قسمين مما أثر على أنماط الفكر الأساسية في كل من الدين والفلسفة والعلوم على حد سواء. وقد كان الفصل (χωρισμός) الذي نادى به أفلاطون بين عالم الحسيّات (الأشياء المحسوسة) (κόσμος α„σθητός) وعالم المدرَكات العقلية (الأشياء التي تُدرك بالعقل) (κόσμος νοητός) ـ والذي شدَّد عليه أرسطو أيضًا ـ هو الذي تحكم في عملية الانفصال بين كل من: العمل والتفكير، الحدث الواقع والفكرة، ما يمكن أن يحدث وما هو موجود فعلاً، المادي والروحي، المنظور وغير المنظور، الزمني والأبدي. وكان هذا هو الأساس الذي بنى عليه بطليموس ـ بطريقة علمية ـ العلم الخاص بالكونيات (الذي يبحث في الكون)، والذي ساد على الفكر الأوروبي لأكثر من ألف عام. وقد نتج عن مذهب ’الثنائية‘ هذا ـ والذي سيطر على كل شيء ـ استبعاد الله من عالم الواقع الحاصل في الزمان والمكان.

وعندما نُوديَ بالبشارة المسيحية في هذا المناخ، سرعان ما نشأ نزاع حاد بين أنماط الفكر الهلليني والفكر العبري، وأيضًا بين أسلوب التفكير الأسطوري (μυθολογε‹ν) الذي يرتكز على عقل الإنسان، وأسلوب التفكير اللاهوتي (θεολογε‹ν) الذي مركزه الله نفسه. وقد تعيَّن بصفة خاصة، على التعليم الكتابي عن عناية الله وعمله الخلاصي في التاريخ، والتعليم المسيحي عن التجسد والفداء ـ حتى يمكن لهذا التعليم أن يجد من يستمع إليه وحتى يمكن أن يتأصل بشكل صحيح تمامًا ـ أن يدخل في صراع مع الافتراضات التي ترتكز عليها النظرة ’الثنائية‘ تجاه الله والعالم. وازدادت صعوبة هذه المشكلة بسبب الترابط غير العادي بين مفاهيم التعالي والسمو الخاصة بالله في اليهودية والهللينية. فقد آمن كل المسيحيين مع اليهود بالله الواحد خالق السموات والأرض، ولكن الفارق الهائل بين الخالق والمخلوق (الذي يظهر في اليهودية) كان يميل، في بعض النواحي، إلى تأكيد التركيبة ’الثنائية‘ التي اتسم بها الفكر اليوناني، سواء الأفلاطوني أو الأرسطوطالي أو الرواقي. وبدا هذا واضحًا في تعاليم فيلو الفيلسوف الإسكندري، الذي علَّم بأن الله والعالم بعيدان كل البعد أحدهما عن الآخر إلى درجة أنه سعى لإيجاد علاقة بينهما من خلال عالم متوسط من الأفكار المبهمة. واتضح هذا الأمر بدرجة كبيرة في الأنظمة الأسطورية الخاصة بالغنوسيين، والتي فيها اتسعت ’الثنائية‘ بين الله والعالم لتصبح هوة ضخمة. كما اتضح أيضًا وبنفس المقدار في ’الثنائية‘ الماكرة للأريوسيين الذين أنكروا ألوهية يسوع المسيح الحقيقية، واعتقدوا أن ابن الله ليس ’أزليًّا‘ بالطبيعة وأنه ينتمي إلى المخلوقات، التي تقع في الجانب الآخر من الخط الفاصل بين الله وبين العالم المخلوق[1].

 

الدور الذي اضطلعت به الكنيسة في مواجهة النظرة ’الثنائية‘

وفي صراع الكنيسة مع الافتراضات السائدة ’للثنائية‘، والتي كان من الممكن أن تعوق فهم رسالتها، وجدت الكنيسة أنه يتعيَّن عليها تغيير أسس الفكر اليوناني -الروماني ذاتها. وبعملها هذا، وضعت الكنيسة الأساس لمدخل مختلف تمامًا عن الكون المخلوق، من أجل الوصول في النهاية إلى تفسير علمي ـ مقبول عقليًّا ـ للنظام الأساسي لهذا العالم.

وقد اقتضى عمل خطير من هذا النوع ـ لتغيير وإعادة بناء المفاهيم ـ قيام الكنيسة بنشاط ذهني دؤوب وشاق، على مدى القرون الستة الأولى، مما ترك بصمته الدائمة على الحضارة الغربية، وكان هذا العمل لحساب مهمة الكنيسة التبشيرية الأساسية في الكرازة بالإنجيل للعالم، ونشر معرفة الله الخلاصية بابنه يسوع المسيح بين الأمم، وإعطاء شعب الله عبر التاريخ فهمًا واضحًا لجوهر الإيمان. ووفقًا للتقليد الرسولي، ركَّزت الكنيسة على أولية ومركزية ’العلاقة بين الآب والابن‘ التي عرفتها في الإنجيل والتي أبرزتها في قانون الإيمان، لأنه على أساس هذه العلاقة بالتحديد بُني كل شيء آخر في الإنجيل.

ولذلك عندما بدأت تشتد طرق التفكير ’الثنائية‘ بين أنصار الهرطقة الأريوسية، وهدَّدت بتقويض الإيمان بألوهية المسيح ـ وذلك بقطع العلاقة الجوهرية بينه وبين الله الآب ـ اهتمت الكنيسة في مجمع نيقية بوضع بيان دقيق ومحدد عن الوحدانية في ذات الجوهر بين الابن المتجسِّد والآب، لأن هذا الأمر كان هو المحور الرئيس الذي اعتمد عليه في النهاية اعتراف الإيمان بأكمله، بنفس الدرجة التي اعتمد بها على الإيمان بالله الآب ضابط الكل[2]. وسوف نولي اهتمامًا كاملاً بهذا الموضوع في حينه، ولكننا إذ ننتقل إلى موضوع هذا الفصل وهو “السبيل إلى الآب” علينا أن نفترض مسبقًا صلة هذا الموضوع بالعلاقة الداخلية بين الابن والآب.

 

المدخل إلى الله الآب

لنبدأ حديثنا بما قاله ق. أثناسيوس: “إنه يكون أكثر تقوى وحق أن نتعرف على الله من خلال الابن وندعوه ’الآب‘ عن أن نسميه من خلال  أعماله فقط وندعوه ’غير المخلوق‘”[3]. ويكشف ق. أثناسيوس في هذه العبارة تأكيد مجمع نيقية على مركزية ’علاقة الآب بالابن‘ في الإيمان كله، وأسبقيتها على ’علاقة الخالق بالمخلوق‘ والتي يجب أن تُفهم في ضوء ’علاقة الآب بالابن‘ وليس العكس. كما أوضح ق. أثناسيوس أن المدخل إلى الله بكونه آبًا* من خلال الابن، هو سبيل أكثر ورعاً ودقة، من المدخل إليه من خلال أعماله بتتبعها وإرجاعها إليه باعتباره مصدرها غير المخلوق. لذلك فإن الــورع والحق (εÙσέβεια  κα…  ¢λήθεια)، أي التقوى والدقـة (θεοσέβεια κα… ¢κρίβεια) يتلازمان معًا في المعرفة الأصيلة لله من خلال يسوع المسيح ابنه (المتجسِّد)[4]. لذا ينبغي أن ننتبه ونذكر باستمرار أن الجمع بين ’الدقة‘ اللاهوتية واعتبار المسيح ’مركزًا‘ للإيمان كان هو السمة المميزة جدًّا للفكر اللاهوتي النيقي.

 

الفرق بين المدخل إلى معرفة الله من ’خلال ابنه‘ والمدخل إلى معرفته ’من خلال أعماله‘

وقد أبرز اللاهوتيون بنيقية أن الفرق بين هذين المدخلين إلى معرفة الله، أي من خلال ابنه ومن خلال أعماله، هو الفرق بين من ’وَلَده‘ الله من طبيعته الذاتية وما قد ’صنعه‘ من العدم ويختلف اختلافًا كاملاً عن طبيعته. فنحن عندما نفكر ونتحدث عن الله من منظور ’علاقة الخالق بالمخلوق‘ أو علاقة غير المبتدئ بالمبتدئ‘، فإننا نستطيع فقط أن نفكر ونتحدث عن الله بعبارات نفي عامة وغامضة، لأنه بسبب المسافة غير المحدودة التي بين المخلوق والخالق، فإننا لا نستطيع أن نعرف الله وفقًا لما هو في ذاته* أو حسب طبيعته الإلهية، بل نعرفه فقط في انفصاله التام عنا، بوصفه الأبدي والمطلق وغير الموصوف[5]. ومن هذا المدخل لا يمكننا أن نفعل شيئًا أكثر من محاولة التحدث عن الله من خلال أعماله التي أوجدها بمشيئته وبواسطة ’كلمته‘، أي من خلال ما يتعلق بالله ’من خارج‘، الأمر الذي لا يستطيع في الواقع أن يعرِّفنا أي شيء عن مَن هو الله أو ماذا يشبه في طبيعته الذاتية[6].

 

خطورة المدخل إلى معرفة الله من ’خلال أعماله‘

إن هذا الخط الفكري (أي خط الدخول إلى الله من خلال أعماله) ـ كما أصَّر كل من القديسين أثناسيوس وهيلاري ـ يفتقر تمامًا إلى الدقة والضبط (¢κρίβεια)، وقد أبعد الاثنان نفسيهما بصورة حاسمة ـ من جهة هذا الأمر ـ عن نظرية باسيليدس الغنوسي الإسكندري، الذي علَّم مستندًا على تعبير أفلاطون، بأن الله أعلى من كل الوجود حتى إننا لا نقدر أن نقول شيئًا عن ما ’هو‘ الله ولكننا نقدر فقط أن نقول شيئًا عن ما ’ليس هو‘ الله[7]. وقد أوضح ق. غريغوريوس النزينزي أننا إذا لم نستطع أن نقول شيئًا إيجابيًّا عن ما ’هو‘ الله، فبالتالي نحن في الحقيقة لا نقدر أن نقول بدقة أي شيء عن ما ’ليس هو‘ الله[8]. وطبقًا لآباء نيقية، فإنه لا يصح أبدًا التحدث عن الله بمفاهيم سلبية جوفاء.

 

المدخل إلى الله من ’خلال أعماله‘ يفتقر إلى الطريقة العلمية السليمة والدقيقة

وإذا لم نفكر في الآب من مدخل علاقته بالابن، بل فقط من مدخل إظهار الفرق بينه كخالق وبين المخلوقات، فإننا حتمًا سوف ننتهي إلى التفكير في الابن نفسه على أنه أحد أعمال الله المخلوقة، مما يقودنا بالتالي إلى التحدث عن الله والتفكير فيه بأسلوب غير مؤسس شخصيًّا في الله ذاته، وإنما بأسلوب غير شخصي بعيد كل البعد عن ’ما هو‘ الله في ذاته[9]. وفضلاً على ذلك، فإننا إذا حاولنا التوصل إلى معرفة الله من نقطة ما ’خارج عن الله‘، فإننا لن نستطيع التعامل مع أي نقطة ’في الله‘ ـ والتي بواسطتها فقط يمكننا أن نمتحن ونضبط مفاهيمنا عن الله ـ بل سنرتد حتمًا إلى أنفسنا (لنأخذ منها معرفتنا عن الله). وحتى إن حاولنا أن نربط بطريقة سلبية بين الله وبين ما نحن عليه في ذواتنا (بقولنا أنه غير المحدود، غير المتغير،..)، فلن نستطيع أبدًا تجنب وضع أنفسنا بنوع ما كمقياس لما نفكر أو نقوله عن الله. وهكذا في نهاية المطاف سيكون الاستناد إلى رأينا الشخصي  (κατά τÒν ‡διον νοàν)، بالإضافة إلى ما نفكر فيه أو نبتكره من عندياتنا بشكل اعتباطي (™πινοε‹ν)، هو الذي يكوِّن حكمنا عن كل من الابن والآب، وهذا بالتحديد هو ما اتُهم الأريوسيون بعمله[10].

إن أية محاولة للتوصل إلى معرفة الله بهذه الطريقة، هي اتباع للمشيئة الذاتية (وهو نوع من العناد الشخصي) البعيد تمامًا عن التقوى (εÙσεβÁς)، كما أنها تتصف أيضًا بأنها طريقة غير علمية (™πιστημονική) وغير دقيقة (¢κριβής). وفي الإسكندرية على الأخص أُعطي قدر كبير من الاهتمام للبحث العلمي والأسلوب العلمي، وهو ما كان له تأثيره على مفكرين مسيحيين أمثال كليمندس وأناتوليوس وأثناسيوس[11]. وأساس هذا الأسلوب هو أن المعرفة العلمية الدقيقة تكون ناتجة عن ’بحث‘ يُجرى بطريقة متوافقة تمامًا مع طبيعة (κατ£ φύσιν) ’الحقيقة‘ التي يُجرى بحثها، أي أن ما يُعرف عن هذه ’الحقيقة‘ يتم الوصول إليه بالالتزام بما هو فعليًّا وجوهريًّا داخل هذه ’الحقيقة‘، وليس طبقًا لأي عرف اعتباطي (κατ£ θέσιν). إن معرفة الأمور بهذه الطريقة ـ أي طبقًا لطبيعتها ـ هي المعرفة التي تتوافق مع حقيقة هذه الأمور وواقعها (κατ£ ¢λήθειαν)، وبالتالي يمكن التفكير فيها والحديث عنها بحق (¢ληθîς)[12]. وهذا هو الطريق الوحيد للتوصل إلى معرفة حقيقية ودقيقة أو معرفة علمية في أي مجال من مجالات البحث، وذلك من خلال قبول العقل بأمانة لمتطلبات ’الحقيقة‘ التي تلح عليه.

هذا المدخل العلمي والذي به نعرف الأشياء فقط طبقًا لطبيعتها المميِّزة لها، ينطبق بشكل أقوى على معرفة الله، وحيث إنه لا يوجد تشابه بين جوهر الله الأزلي وبين جوهر الواقع المخلوق، فإن الله يمكن معرفته فقط من خلال ذاته[13]. لذلك إذا أردنا أي معرفة علمية ودقيقة وحقيقية عن الله، فلا بد أن نعطي لطبيعته الذاتية ـ كما أظهر ذاته لنا ـ أن تحدد كيف ينبغي أن نعرفه، وكيف ينبغي أن نفكـر فيـه وماذا ينبغي أن نقوله عنه. وهذا بالضبط هو ما يحدث عندمـا نقتــرب إلى الله كآب من خلال يسوع المسيـح ابنــه المتجسِّـد، لأن الابـن هو من نفس الطبيعة الواحــدة والجوهر الواحـد (Ðμοφυής κα… Ðμοούσιος) مع الآب “إن كل ملء لاهوت الآب هو كيان الابن والابن هو الله بأكمله”[14] لأنه هو إله من إله وهو الطريق الوحيد للوصول إلى الله الآب.

 

المدخل إلى الله من ’خلال أعماله‘ لن يجعلنا نعرفه كآب

إننا عندما نسعى لمعرفة الله من خلال مخلوقاته، فإننا لن نعرفه ’كآب‘ بل سنعرفه فقط ’كخالق‘، وفي هذا لن نكون أفضل من اليونانيين (الوثنيين)[15]. ولكن من يعرف الله ’كآب‘ في ابنه ’كلمة الله‘ ومن خلاله، فإنه سيعرفه أيضًا ’كخالق‘ لأنه ’بالكلمة‘ قد خلق كل شيء[16].

 

أمران يجب ملاحظتهما في دخولنا إلى معرفة الله

الأمر الأول: أنه إذا أردنا حقًّا أن نعرف الله فلا بد أن تكون قد أُعطيت لنا نقطة للدخول إليه، بحيث تكون هذه النقطة في كل من الله ذاته وفي كياننا نحن كمخلوقات. وهذا بالتحديد هو ما حصلنا عليه في التجسد، حيث إعلان الله عن ذاته ’كآب‘ يتم من خلال إعطائه ذاته لنا في يسوع المسيح ابنه، وعندما يعطينا الله أن نصل إلى معرفته بهذه الصورة فهو يفعل هذا في إطار ظروف المكان والزمان، أي داخل حدود ما يمكن أن نفهمه نحن البشر. وفي نفس الوقت، فإن المعرفة التي يعطيها لنا الله عن ذاته في ابنه المتجسِّد يكون مركزها في الله ذاته، وبالتالي يكون كل فهمنا البشري لله وكل تصوراتنا عنه يمكن فحصها وضبطها وفقًا لطبيعته الإلهية[17]. لذلك عندما نقترب إلى الله ’كآب‘ من خلال الابن، فإن معرفتنا للآب في الابن يكون أساسها قائمًا في صميم كيان الله، كما أن هذه المعرفة تتحدد بما هو الله بالحقيقة في طبيعته الذاتية. و بما أننا في يسوع المسيح نستطيع بالحقيقة أن نعرف الله وفقًا لطبيعته الذاتية كآب وابن، فإننا من الممكن أن نعرفه بطريقة تقوية ودقيقة معًا.

الأمر الثاني: أنه عندما نعرف الآب بهذه الطريقة، أي في يسوع المسيح الابن المتجسِّد ومن خلاله، فإننا ندرك أنه يفوق بطريقة لانهائية كل ما نقدر أن نفكر فيه أو نقوله عنه. إننا نعرف أن الله الآب ذاته ـ الذي أُعطينا السبيل إليه من خلال الابن ـ هو غير محدود ويفوق الإدراك في حقيقته الإلهية، وكما يقول ق. هيلاري: “إن الله اللانهائي والذي لا يُحد لا نقدر أن نفهمه ببعض كلمات من الحديث البشري”[18]، ولذلك فإننا في الإيمان نعترف بحقيقة أن الإيمان نفسه غير كفء لإدراك الله، الذي هو الموضوع الإلهي للإيمان على حد تعبير ق. هيلاري[19]. ونحن في إدراكنا الفعلي لله، نتحقق من أننا لا نستطيع أن نستوعبه، فنحن نعرف أكثر بكثير مما نستطيع أن نستوعب أو نعبِّر، كما أننا نشعر أو نختبر أكثر بكثير مما يمكننا أن نصوغه في أفكار أو كلمات[20]. ونحن لا نستطيع أن نحتوي ونستوعب كل ما هو الله داخل معرفتنا له، لأنه يتخطى كل مفاهيمنا وتعريفاتنا المحدودة، ولكن كما يقول ق. هيلاري: بينما الله في كليته يفلت من إدراك عقولنا، فهو مع ذلك يترك لنا شيئًا من ذاته ضمن حدود إدراكنا. غير أن ما نعرفه عن الله، هو بالطبع ليس جزءًا من الله، لأن الله لا يمكن أن يتجزأ إلى أجزاء، ولكننا بالأحرى نعرف بصورة جزئية ’الله كله‘، الذي يفوق ما يمكن أن ندركه داخل إطار فكرنا وحديثنا البشري. ويعود ق. هيلاري ليقول: “إن معرفة الله الكاملة، هي أن نعرفه متيقنين أننا ينبغي ألا نجهله، إلا إننا لا نستطيع أن نصفه. إننا ينبغي أن نؤمن به، وينبغي أن ندركه، وينبغي أن نعبده بوقار، لأن هذه العبادة هي التي يجب أن تحل محل تعريفنا له”[21].

وهكذا نكون أمناء تجاه حقيقة الله غير الموصوفة التي لا تحد، كما نكون أمناء أيضًا تجاه معرفتنا لله معرفة إيجابية ودقيقة في يسوع المسيح وبواسطته. وهذه المعرفة تعني أن نعرف الله بطريقة تليق حقًّا بالله، أي بطريقة جديرة به وتتسم بالتقوى. وهي تعني أيضًا أن نعرف الله بطريقة حقيقية ودقيقة تحددها طبيعته كما أُظهرت لنا في الابن المتجسِّد. وفقط كلما تفتحت عقولنا وتوافقت مع الله طبقًا لطبيعته المعلَنة، وكلما استجبنا له في إيمان وطاعة وعبادة، استطعنا أن نفكر فيه ونتحدث عنه بنوع من الدقة التي تلائم طبيعته الإلهية. فالخشوع والدقة، التقوى والإتقان ينتمي بعضها للبعض الآخر، ويحكم كل منها الآخر، لأن معرفة الله تنشأ وتتشكَّل في عقولنا حسب ما تحدِّده طبيعته المعلَنة، وتظل هذه المعرفة مُصانة وقائمة داخل اختبار العبادة، والصلاة، والقداسة، والتقوى. وهكذا تمتزج العناصر العملية والنظرية، التقوية واللاهوتية، هذه كلها معًا بغير انفصال، في الفهم اللاهوتي والصياغة اللاهوتية[22].

 

الله هو الذي يُعرِّفنا ’ذاته‘ بذاته

وإذا تحدثنا بصورة أكثر تدقيقًا ـ كما أشار ق. إيرينيئوس ـ نستطيع أن نقول إن الله فقط هو الذي يَعرف ذاته، وبالتالي فلا يمكن معرفة الله إلاّ من خلال الله فقط. وبما أن الله وحده كائن داخل سرمديته ولانهائيته الذاتية، فإنه هو وحده الذي يستطيع أن يَعرف ذاته بطريقة تتفق تمامًا مع ماهيته، وبما يتناسب مع كينونته وبما يلائم طبيعته بكونه الله، لذلك فإذا أردنا حقًّا أن نعرف الله فهذا يتأتى فقط من خلال المشاركة ـ بشكل لا يصدقه عقل ـ في المعرفة التي يملكها الله عن ذاته[23]. أي إننا نستطيع معرفة الله، فقط إذا أدخلنا هو في شركة معه في العلاقات الداخلية له كآب وابن وروح قدس. وهذه المشاركة في المعرفة التي لله عن نفسه، صارت ممكنة من خلال تجسد ابن الله وبواسطة روح الآب والابن.

 

الله يُعرِّفنا ’ذاته‘ من خلال الابن المتجسِّد وفي الروح القدس

إن الله في التجسُّد، أعطانا ذاته في يسوع المسيح ابنه الحبيب، وهو لم يوصل إلينا شيئًا عن ذاته بل أعطانا ذاته عينها، وبذلك جعل نفسه معروفًا لنا طبقًا لطبيعته الإلهية ’كآب‘. وفي يوم العنصرة سكب الله علينا روحه القدوس، الذي بكونه روح الآب وروح الابن فهو حضور الله المباشر. أي إنه في يسوع المسيح الابن المتجسِّد، أدخل الله في وجودنا البشري، المعرفة المتبادلة التي يعرفها الآب والابن كل منهما للآخر، وفي الروح القدس يعطينا شركة في العلاقة المتبادلة التي للآب والابن، وبذلك يجعلنا نشترك في المعرفة التي للآب والابن عن بعضهما البعض. وبتعبير آخر، فإنه من خلال يسوع المسيح الابن المتجسِّد أُعطينا سبيلاً إلى الآب في روح واحد[24].

ولا نبالغ إذا قلنا إن علاقة الابن بالآب هذه، والتي أُعلنت في يسوع المسيح الابن المتجسِّد، قد صارت القاعدة والنقطة المركزية للفكر اللاهوتي النيقي كله، لأن تجسد الابن قد فتح الطريق إلى معرفة الله وفقاً لما هو في ذاته، وهو ما لم يكن من الممكن أن يفعله أي شيء آخر. ففي التجسد، أخذ ابن الله طبيعتنا البشرية لنفسه وجعلها خاصة به تمامًا حتى إنه جاء بيننا ’كإنسان‘، وبواسطة وجوده بيننا ’كإنسان‘ كشف لنا عن ما هو ’كإله‘. وبمعنى آخر، فإنه ـ دون أن يتخلى عن طبيعته الإلهية ـ اتحد بنا في طبيعتنا البشرية بشكل تام كامل، لدرجة أنه بحياته الإلهية التي كان يحياها في داخل حياتنا البشرية ـ بكامل حقيقة هذه الحياة البشرية ـ قد أعلن شيئًا من السر الأعمق لحياته الإلهية ’كابن‘ للآب. ولكنه وبالتحديد في إعلانه لنا عن طبيعته الذاتية ’بكونه الابن‘، قد أظهر لنا طبيعة ’الآب‘، ليس فقط بالكلام، مُعْلِمًا إيانا عن الآب، بل بكونه ـ كما هو منذ الأزل ـ ابن الآب الذاتي، المتجسِّد في حياتنا البشرية. ولذا كان يقين ’كنيسة نيقية‘ الكاسح أنه فقط بتجسُّد الابن، قد أُدخلت معرفة الله الحقيقية في نطاق فهمنا البشري بشكل إيجابي، لأنه فقط بمشاركتنا في معرفة الابن للآب يكون فكرنا وحديثنا عن الله بالحقيقة هدفه ومحوره هو الله، وبالتالي يكون له محتوى إيجابي. وفي عمل من تواضع الذات أو إخلاء الذات لأجلنا، تنازل الله الابن ليشاركنا طبيعتنا المخلوقة وليشاركنا ضآلتنا وجهلنا، لكي يرفعنا في ذاته إلى الشركة مع الله، وإلى معرفة الله وفقًا لما هو في ذاته بالحقيقة. فالله “هو معروف للابن فقط، لأن ليس أحد يعرف الآب إلاّ الابن ومَن يريد الابن أن يعلن له، ولا أحد يعرف الابن إلاّ الآب. كل منهما له معرفة تامة وكاملة بالآخر. ولذلك بما أنه لا أحد يعرف الآب إلاّ الابن فلنجعل أفكارنا عن الآب متوافقة مع أفكار الابن ـ الشاهد الأمين الوحيد الذي يعلن الآب[25]“.

وهذا التركيز على المعرفة المتبادلة بين الآب والابن بكونها الأساس لمعرفتنا نحن لله، لم يكن أبدًا لينتقص أو يقلل بأي شكل من حقيقة الروح القدس وعمله، لأنه فقط من خلال شركة الروح القدس المُرسل لنا من الآب بواسطة الابن نستطيع بالفعل أن نشترك في علاقة الابن بالآب والذي به (أي بالابن) نُعطى دخولاً إلى الآب نفسه. وهكذا يصبح مفهومًا أنه بالرجوع الدائم لعلاقة الابن الداخلية بالآب ـ كمحور مركزي للإيمان ـ صاغت الكنيسة فهمها لكل الأمور الأخرى مثل الخلق، والخلاص، والكنيسة، وقيامة الأموات، وحياة الدهر الآتي.

وإذ نحن كائنات عرضية (أي اعتمادية ومتوقفة في وجودها على غيرها)، فإننا محصورون داخل النطاق المحدود لوعينا وإدراكنا المخلوق، ولكن تحت تأثير إعلان الله عن ذاته في المسيح يسوع وعمل روحه القدوس الخلاَّق، تنفتح عقولنا وقدراتنا وتتسع وتمتد أفكارنا إلى ما هو أبعد بكثير من نطاقها المحدود، إلى أن تصير متناسبة ـ على الأقل إلى حد ما ـ مع هدفها الإلهي[26]. إنه الروح القدس الذي يحقق إعطاء الله ذاته لنا في يسوع المسيح، وبالتالي يُمكِّننا من قبول وإدراك ما هو أبعد من ذواتنا تمامًا، ألا وهو المعرفة الحقيقية لله نفسه متجسِّدًا بيننا في المسيح. وهذا ما يتحقق في إيمان الكنيسة وتوقيرها وعبادتها وتكريسها الخاشع المطيع لإعلان الله عن ذاته بالابن وفي الروح القدس. وهنا نورد قول ق. هيلاري مرة أخرى “إن الله لا يمكن أن يُعرف إلاّ عن طريق العبادة والتقوى[27]“. أي إنه بعلاقة الشركة الحميمة مع الله في المسيح وبالروح القدس ومن خلالها ـ والتي ندخل فيها بواسطة الإيمان والعبادة والتأمل والسجود ـ فإنه يمكن لعقلنا البشري أن يتكيف ويتلاءم ـ على قدر الإمكان ـ مع معرفة الله وفقًا لطبيعته كآب وابن وروح قدس، وبهذا ندخل في معرفةٍ دقيقةٍ ومحددة له وفقًا لما هو الله بالحقيقة في ذاته، وحسبما يكشف هو لنا ذاته.

 

هل ينبغي أن نعرف الله من خلال النصوص الكتابية فقط؟

قبل أن نبحث بتدقيق أكثر فيما يعني السبيل إلى الله الآب من خلال الابن وفي روح واحد، دعونا نبدي ملاحظة هامة وهي أن الدقة في المعرفة لا تعني أبدًا اتباع اسلوب ضيق الأفق في التفكير والحديث عن الله من الكتاب المقدس فقط. لأن المعرفة الصحيحة والدقيقة عن الله لا تُكتسب بترتيب آيات الكتاب المقدس في صف واحد معًا، ولكن بالسماح لفكرنا بأن يتشكَّل وبأن يتحدَّد ’بالحق‘ الإلهي الذي توجهنا إليه هذه الآيات. لأن اعتبار تعبيرات الكتاب المقدس بأنها تأكيدات إلهية، لا يعني أنه يسهل إدراكها وفهمها على الفور، ولكن يعني أنه يجب أن تُفسَّر في ضوء ’الحق‘ الذي تُشير إليه كما يجب أيضاً لتفسيراتنا تلك من أن تُمتحن وفقًا لهذا ’الحق‘. لذلك يتعين علينا التفكير بتروٍ فيما تعنيه آيات الكتاب المقدس في ضوء تلك المرجعية[28].

وهذا لا يعني بالطبع أن نطرح جانبًا إرشاد الكتاب المقدس لنا والذي من خلاله أتى إلينا إعلان الله، وإنما يعني أننا نرفض الاكتفاء بذكر نص التعبيرات الكتابية، لمجرد رغبتنا في أن يستند تفكيرنا وحديثنا على ’الحق‘ الإلهي ذاته، والذي يحدثنا بواسطة هذه التعبيرات الكتابية. ومن هنا فإنه يتعين علينا أن نقرر ما الذي نقوله عن ’الحق‘ تحت إرشاد أقوال الكتاب المقدس، وأن نحدد أيضًا الكيفية التي بها نصيغ تعبيراتنا بحيث تكون صحيحة ومتناسبة مع ’الحق‘ ذاته. وقد عبَّر ق. أثناسيوس عن هذا المعنى بما أسماه “حرية الحديث الديني” على أساس الأسفار المقدسة، وذلك حين نَعبُر إلى ما وراء ما ذكرته هذه الأسفار حرفيًّا، إلى ’حقيقة الله‘ ذاتها ـ التي تنقلها تلك الأسفار ـ ونسعى للتعبير عنها بكل ما أوتينا من صحة ودقة[29]. ونحن لا نتجاسر أو نتجرأ على فعل هذا إلاّ بأسلوب يتسم بأقصى درجات الحذر والخشوع وبصلوات كثيرة[30].

 

اضطرار الآباء لصياغة مصطلحات لم ترد في الأسفار المقدسة، كان لحماية ’الحق‘ الذي في هذه الأسفار، وبإرشاد هذا ’الحق‘ ذاته

       وكما ذكرنا سابقًا، فإن لاهوتيي نيقية مثل ق. أثناسيوس و ق. هيلاري، كانوا على دراية كاملة بصعوبة وخطورة الموقف الذي وُضعوا فيه حين اضطروا لتقديم تأكيدات محددة ’أبعد‘ من النصوص الواردة في الأسفار المقدسة، وكما ذكروا فإن هذا لم يكن ممكنًا إلاّ فقط في رعدة وصلاة. وقد شعروا أن ’الحق‘ ذاته ـ الذي تقابلوا معه في الكتاب المقدس ـ هو الذي يضطرهم أن يقدِّموا في مصطلحات دقيقة ما وجدوا أنه يتعين عليهم قوله من أجل إخلاصهم للحق، وبالتالي حماية الكتب المقدسة من التشويه والتفسير الاعتباطي[31]. وقد عبَّر القديسان أثناسيوس وهيلاري عن ما حدث في مجمع نيقية، حينما سعى الآباء لأن يعطوا تعبيرًا صحيحًا ودقيقًا عن صميم ومضمون الرسالة الإنجيلية ـ كما نُقلت عبر الكتب المقدسة ـ وهكذا كشفوا وأظهروا الجوهر الداخلي ’للحق‘ الإنجيلي الذي في ضوئه يصير الكتاب المقدس نفسه مفهومًا أكثر بالنسبة لنا[32].

 

تعليم آباء نيقية كان يعتمد على الفهم العميق للنصوص الكتابية

وقد تأسس الفكر اللاهوتي النيقي في الكنيسة العابدة، وبُني من خلال شرح الكتاب المقدس والتأمل فيه: حيث بحث اللاهوتيون والأساقفة في الكتاب المقدس كله بعهديه القديم والجديد، وركزوا بشدة على نصوص معينة فيه، واعتبروها مفاتيح لفهم الإنجيل، واستخلصوا منها الروابط والعلاقات الأساسية في الإنجيل التي تعطي لإيمانهم المسيحي أن يكون بناءً متماسكًا، ثم شكَّلوا منها أداة تفسيرية ولاهوتية يوضحون بها فكر الكنيسة ويدافعون بها عن وديعة الإيمان التي ائتمنوا عليها من قبل الرسل[33]. وسيكون كافيًا في حديثنا الآن أن نتناول فقط بعضًا من هذه المفاتيح (المقاطع).

 

“ليس أحد يعرف مَن هو الابن إلاّ الآب، ولا مَن هو الآب إلاّ الابن ومن أراد الابن أن يعلن له”

كانت لكلمات ربنا التي سجلها ق. لوقا وق. متى أهمية أساسية جدًّا في الفكر اللاهوتي النيقي حين قال: “كل شيء قد دفع إليَّ من أبي. وليس أحد يعرف مَن هو الابن إلاّ الآب ولا مَن هو الآب إلاّ الابن ومن أراد الابن أن يعلن له[34]“. وقد كشف الفحص اللاهوتي الدقيق أن علاقة المعرفة المتبادلة بين الآب والابن ـ والتي سبق أن تعرضنا لها ـ تتضمن أيضًا علاقة التواجد (الاحتواء) المتبادل بينهما، وليس فقط بين الابن الأزلي والآب بل أيضًا بين الابن ’المتجسِّد‘ والآب*. وهذا يعني ضمنيًّا أننا أُعطينا السبيل إلى الدائرة الخاصة للمعرفة الإلهية بين الآب والابن، فقط من خلال اتحادنا بالمسيح ومعرفتنا له، أي فقط من خلال علاقة متبادلة من المعرفة والوجود بيننا وبين الابن المتجسِّد، وهذا على الرغم من أنه في حالتنا يكون هذا الاتحاد بالمشاركة بالنعمة وليس اتحادًا بالطبيعة.

وهذا التأكيد على الاتحاد ’المعرفي‘ بابن الله المتجسِّد عززه ودعمه بشدة ما جاء في تعاليم ق. بولس الرسول عن التبني والاتحاد بالمسيح، وأيضًا ما جاء في تعاليم ق. يوحنا الرسول عن السكنى الداخلية المتبادلة بيننا وبين المسيح. ولذا فبالنسبة للفكر اللاهوتي النيقي، فإن العلاقة المتبادلة في المعرفة والوجود بين الآب والرب يسوع المسيح تُشكِّل الأساس الكياني لمعرفتنا نحن لله، لأنه في هذه العلاقة ومن خلالها تصير معرفتنا لله الآب متأصلة ـ بشكل موضوعي ـ في كيان الله الأزلي نفسه. إذن فمن خلال الاتحاد بالمسيح، قد أُعطينا الوصول إلى معرفة الله وفقًا لما هو في ذاته. وبالإضافة إلى ذلك فإننا على نفس الأساس، نعرف أن الروح القدس الذي يأتينا من الآب بواسطة الابن، كروح الآب وروح الابن، هو في ذات جوهر الله الواحد، لأنه توجد علاقة متبادلة في المعرفة والوجود بين الروح القدس والآب وبين الروح القدس والابن كما هي بين الابن والآب[35]. لذلك فإن معرفة الله الآب التي أُعطينا سبيلاً إليها بالابن وفي الروح القدس، هي معرفة لله وفقًا لما هو أزليًّا في ذاته كآب وابن وروح قدس[36]. وهكذا يكون التمركز حول المسيح والتمركز حول الله (الآب) متطابقين ومتزامنين معًا.

ولا بد لنا أن نلاحظ هنا أن الابن يعلن الآب ليس بكونه هو آب بل بكونه ابنًا. وبالتحديد فإن يسوع المسيح بكونه الابن الوحيد، هو الملتقى الذي فيه نتقابل مع الآب ونعرفه، وهو الابن المتجسِّد الذي يعطينا السبيل إلى الآب بأن يجعلنا نشترك (بالتبني) في بنوته (الطبيعية) للآب. وفيه (أي في الابن المتجسِّد) صارت معرفة الله الذاتية متجسِّدة من خلال العلاقة المتبادلة بين الآب في السماء ويسوع المسيح على الأرض، هذه العلاقة التي يمكن أن نُعطى الاشتراك فيها من خلال الاتحاد بالمسيح. وبذلك تكون الدائرة الخاصة (المغلقة) للمعرفة بين الآب والابن قد أُدخلت في عالم الواقع العرضي الذي ننتمي إليه نحن البشر، وتقاطعت بطريقة ما مع دائرة معرفتنا البشرية ـ بعضنا لبعض وللعالم ـ حتى إنه في المسيح يمكننا أن نشارك ـ بقدر ما ـ في ذات المعرفة التي لله عن ذاته.

وهكذا تكون معرفة الله الآب ومعرفة الله الابن متطابقتين معًا، وهذا أمر مهم للغاية لأننا لا نعرف الآب أولاً وبعد ذلك نأتي إلى معرفة الابن، ولا نحن نعرف الابن أولاً ثم نأتي إلى معرفة الآب. فلو أننا بدأنا بالقناعة بأن المسيح هو الله، لكنا حتمًا سنطبق فكرتنا المسبقة عن الله ـ والتي تعتمد على تصوراتنا الشخصية ـ على فهمنا للمسيح، ولكن إذا عرفنا المسيح: فقط بكونه ابن الآب، وفقط باعتبار أن فيه وبه نعرف الله، فحينئذٍ ستتطابق معرفتنا للمسيح الابن المتجسِّد مع معرفتنا لله الآب، وفي هذه الحالة فإن أية معرفة مسبقة عن الله ندَّعي امتلاكها سيُعاد بناؤها من جديد من خلال مشاركتنا في المعرفة المتبادلة بين الآب والابن. وفي ضوء هذا نستطيع أن نفهم لماذا لم يعلن السيد المسيح نفسه لتلاميذه على الفور وبشكل صريح بأنه ابن الله؛ إذ كانوا سيفهمون حينئذ إعلانه لهم، من خلال أفكارهم المُسبقة عن الله، ولكن بدلاً من ذلك اختار المسيح أن يلتقي الناس بطريقة غير واضحة ومتواضعة، متعمدًا عدم الإعلان عن ذاته، حتى يحدث إعلانه عن نفسه بالكلام تدريجيًّا خطوة بخطوة مع إعلانه عن نفسه بالأعمال. ولذلك، ففقط عندما أُدخل التلاميذ في شركة علاقة المسيح مع الآب، أتوا إلى معرفة مَن هو الآب من خلال الابن، وفي نفس الوقت معرفة مَن هو الابن من خلال الآب. ومن هنا وجد التعليم اللاهوتي النيقي أنه يتعين عليه رفض كلٍّ من منهج الدوسيتيين* ومنهج الأبيونيين# في فهم المسيح، أي مدخل ’الكريستولوجيا من أسفل‘ ومدخل ’الكريستولوجيا من أعلى‘، لأن معرفتنا للمسيح بكونه ابن الله المتجسِّد ومعرفتنا لله الآب تتداخلان بعضهما مع البعض الآخر، وتَنشأن معًا وتحكم كل منهما الأخرى، فنجد أن ق. هيلاري يقول: “كل الذين يؤمنون بالله كآب لهم، فإن الله هو آب لهم من خلال نفس الإيمان الذي به يعترفون أن يسوع المسيح هو ابن الله[37]“.

 

“لأن الروح يفحص كل شيء حتى أعماق الله.. هكذا أيضًا أمور الله لا يعرفها أحد إلاّ روح الله”.

وثمة نص آخر كان ذا أهمية قصوى للفكر اللاهوتي النيقي أُخذ من القديس بولس: “ما لم تر عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على بال إنسان: ما أعده الله للذين يحبونه. فأعلنه الله لنا بروحه، لأن الروح يفحص كل شيء حتى أعماق الله. لأن مَن من الناس يعرف أمور الإنسان إلاّ روح الإنسان الذي فيه؟ هكذا أيضًا أمور الله لا يعرفها أحد إلاّ روح الله[38]“. فمن الناحية اللاهوتية، يجب أن يُؤخذ هذا النص مقترنًا بالنصوص الأخرى المقتبسة من الأناجيل والتي تؤكد حقيقة أن الدخول إلى معرفة الابن التي تقتصر على الآب وحده، ومعرفة الآب التي تقتصر على الابن وحده، قد صار ممكنًا ومفتوحًا لنا بواسطة الابن. وهذا يحدث حينما يعطينا المسيح الروح القدس، الذي هو روح الآب وروح الابن، والذي يأتينا من الجوهر الداخلي (الواحد) للثالوث الأقدس.

وكذلك أيضًا، بما أن يسوع المسيح وُلد من العذراء مريم بقوة الروح القدس، وقَبل الروح القدس بفيض في الطبيعة البشرية التي أخذها منا، وقدَّم ذاته للآب بالروح الأزلي كفارة عنا، لذا فهو الآن يعطينا نفس الروح (القدس) الذي يفحص أعماق الله، لكي ما نستطيع ـ بالروح وفي الروح ـ أن نشارك بالحقيقة في معرفة الله لذاته.

وبسبب هذه العلاقة المتبادلة بين الابن المتجسِّد والروح القدس في كون كل منهما ’واسطة‘ لنوال الآخر ـ وذلك من جهة إعطائنا الروح بواسطة المسيح وإعطائنا المسيح بواسطة الروح* ـ وجدت الكنيسة (في فترة ما بعد نيقية) أنه يتعين عليها أن تزيد على ما قاله آباء نيقية عن الابن، وتضيف تعبيرات مماثلة عن الروح القدس. وكان قد صار جليًّا أنه لم يعد ممكنًا فصل عقيدة الابن عن عقيدة الروح القدس، ولا فصل عقيدة الروح القدس عن عقيدة الابن. ومن جهة المعرفة تأتي عقيدة الابن أولاً، لأن الابن هو كلمة الله الذي صار جسدًا (وصار ابن الإنسان)، وبما أننا لا نستطيع أن نعرف الله إلاّ من خلال ’كلمته‘، فإننا فقط من خلال نفس ’الكلمة‘ نستطيع أن نعرف الروح القدس كما نعرف الآب والابن. ولكن من جهة أخرى، نحن لا نستطيع أن نفهم ’الكلمة‘ إلاّ من خلال المشاركة في الروح ذاته الذي بواسطته صار ’الكلمة‘جسدًا.

 

“أنا هو الطريق والحق والحياة، ليس أحد يأتي إلى الآب إلاّ بي”.

وينبغي الانتباه أيضًا إلى كلمات الرب التي سجلها القديس يوحنا “أنا هو الطريق والحق والحياة، ليس أحد يأتي إلى الآب إلاّ بي”[39]، لأن الأريوسيين في رفضهم لطبيعة المسيح الإلهية، قد بحثوا في كل الكتاب المقدس ليجدوا نصوصًا تشير إلى طبيعة الابن المخلوقة أو الأقل رتبة (من الآب) أو تشير إلى وضعه كعبد، فتلاعبوا بنص من سفر الأمثال وفسروه على أنه يشير إلى اللوغوس (كلمة الله): “الرب قناني أول طريقه من أجل أعماله منذ القدم[40]“، وذلك لكي يُظهروا أن ابن الله كان مخلوقًا متوسطًا (بين الله والخليقة). ولكن ق. أثناسيوس وبقية اللاهوتيين بنيقية أمسكوا بهذا النص وفسَّروه بمفهوم ’خلاصي‘ (soteriological sense) ـ وليس هذا النص وحده ولكن مع نصوص كثيرة أخرى من العهد الجديد وخاصةً من الرسالة إلى العبرانيين ـ وذلك لكي يُبينوا أن الطبيعة البشرية التي ليسوع المسيح ابن الله المتجسِّد قد خلقها الله بالفعل كأول (أو بدء) (¢ρχή) طريقه وأعماله لأجل خلاصنا. وهكذا وبعيدًا تمامًا عن رفض المخلوقية ووضع المسيح كعبد، أصر لاهوتيو نيقية على أنه من محض نعمته قد تنازل ابن الله الأزلي عن قصد، ليجعل وضع عبوديتنا خاصًّا به هو، لكي يفدينا[41].

وقد ترتب على هذا التوجه، تركيز هائل من قِبل الفكر اللاهوتي النيقي على أن يسوع المسيح هو الطريق والحق والحياة والذي بدونه لا يقدر أحد أن يأتي إلى الآب[42]، وعلى هذا النحو فإنه ليس فقط مبدأً (¢ρχή) لكل طرق الله، بل هو الرأس (¢ρχή) ’الحاكم‘ الذي به تُختبر كل معرفتنا لله. وبذلك تصبح بشرية المسيح التامة (وبكل ما لهذه الكلمة من معنى) هي المنطلق لمعرفة الله معرفة أصيلة حقيقية ولفهم الرسالة المسيحية فهمًا صادقًا. ولذا يقول ق. أثناسيوس: “إن بشرية الرب (κυριακÒς ¨νθρωπος) قد خُلقت (كأول طرقه) مُظهرًا إياها لنا من أجل خلاصنا، فبها نصل إلى الآب لأنه (أي المسيح) هو الطريق الذي يرجعنا إلى الآب، والطريق هو حقيقة جسدية منظورة التي هي بشرية الرب[43]“.

إذن فالتركيز الرئيس بنيقية كان موجهًا إلى أهمية الطبيعة البشرية التي لابن الله المتجسِّد، التي صُلب ومات بها لأجلنا، والتي قام بها من الأموات وصعد بها إلى السموات ـ أي كل ما كانه وما صنعه المسيح لأجلنا لتوصيل الإعلان الإلهي والخلاصي للجنس البشري. وهذا الفهم الخلاصي لتدبير تجسد الابن الوحيد يضع يسوع المسيح في صميم مركز معرفتنا لله، حيث إنه جُعل لنا السبيل الوحيد الذي به نعرف الله الآب. وفقط كلما كانت معرفتنا لله مطابقة ليسوع المسيح، صارت هذه المعرفة معرفة دقيقة وصحيحة لله، لأن يسوع المسيح الابن المتجسِّد هو الصورة الكاملة، والهيئة (Ε‡δος) الفريدة للاهوته[44]، وهو “الختم الدقيق (الكامل التام)” لله الآب ـ كما عبَّر ق. أثناسيوس[45] ـ الذي فيه ينقل لنا الآب معرفة ذاته كما هو بالحقيقة وكما أعلن عن ذاته بالفعل. وكابن الله المتجسِّد، فإن يسوع المسيح ليس فقط صورة الله، بل صميم حقيقة الله في توصيل ذاته لنا، ولذلك فالالتقاء به والتعرف عليه هو نفسه الالتقاء بالله الآب والتعرف عليه، لأنه هو في الآب والآب فيه[46]. وقد عبَّر ق. باسيليوس (أو أخوه ق. غريغوريوس) عن هذا المعنى بقوله “كل ما للآب يُرى في الابن، وكل ما هو للابن هو للآب، لأن الابن بجملته هو في الآب والابن له الآب بجملته في ذاته. وعلى ذلك فإن أقنوم (Øπόστασις) الابن كما لو كان هو هيئة ووجه معرفة الآب، وكذلك أقنوم (Øπόστασις) الآب يُعرف في هيئة الابن[47]“. وفي تعبير ق. أثناسيوس الدقيق “إن هيئة لاهوت الآب هي كيان الابن[48]“.

وفضلاً عن ذلك، فإن الروح القدس يأتينا في المسيح ومن خلال بشريته في كل ما صنعه لأجلنا، ولذلك فالروح القدس (بالإضافة إلى تجسُّد الابن) قد أُعطي مكانًا هامًّا ومحوريًّا في بنيان الفكر اللاهوتي المسيحي. فبينما يعطينا تجسد الابن الأساس الرئيس الذي يُشكِّل ويحكم معرفتنا لله، فإن هذه المعرفة تنتقل لنا من خلال الابن ولا تصلنا إلاّ بعمل الروح القدس، لأنه في الروح القدس نحن نشترك في الابن الذي من خلاله نشترك في الله الآب. وهكذا لم يكن التمركز حول المسيح (أي مركزية المسيح) (Christocentricity) الذي ميَّز الفكر اللاهوتي النيقي يقلل بأي حال من الأحوال من التمركز حول الله (أي مركزية الله) (Theocentricity)، بل بالأحرى خدم ما يمكن أن نسميه التمركز حول الآب (أي مركزية الآب) (Patrocentricity)، وبالتالي أعطى مكانًا كاملاً صريحًا لروح الآب الذي يأتينا بواسطة الابن وعلى أساس عمله الخلاصي. ومن ناحية أخرى كما أكد ق. أثناسيوس مرارًا[49]، فإنه لا ينبغي علينا اعتبار عقيدة الروح القدس أنها مجرد متصلة (من الخارج) بعقيدة الله، لأنه لا الابن ولا الروح القدس هما مجرد إضافات لله، ولكنهما ينتميان لنفس جوهر الله الواحد الأزلي بكونه الله المثلث الأقانيم الذي هو في ذاته الآب بكامله والابن بكامله والروح القدس بكامله بغير انقسام في وحدانية الجوهر، فهو كإله واحد كامل غير منقسم يعلن ذاته لنا كآب وابن وروح قدس[50].

 

المدخل المسيحي لمعرفة الله في مواجهة اليهودية والهللينية

هذه العقيدة “الإنجيلية والرسولية” عن الله، الذي أُعلن لنا كآب بواسطة الابن وفي الروح القدس[51]، كان قد كشف مكنونها الثالوثي ودافع عنها آباء نيقية اللاهوتيون على مدار القرن الرابع، وذلك في مواجهة كل من اليهودية والهللينية. وقد رسَّخ هؤلاء اللاهوتيون في الكنيسة، الإيمان الجامع بالثالوث ووحدانية الله، حافظين هذا الإيمان (الثالوثي) من اتجاهات يهودية ترمي إلى تقليص الثلاثة الأقانيم إلى وحدانية غير متمايزة على طريقة سابليوس، وكذلك من اتجاهات هللينية تدعو إلى الفصل بين الأقانيم الثلاثة واختلاف الطبائع على نحو ما فعل الأريوسيون[52].

وسوف نتمكن من تقدير أهمية هذا المدخل المسيحي المتميِّز لمعرفة الله الآب، حين نبرز الاختلاف بينه وبين المداخل اليهودية والهللينية.

 

الاختلاف مع اليهودية

 

الأصل العبري للعقيدة المسيحية

مما لا شك فيه أن عقيدة نيقية عن الله هي عبرية في أصلها ـ الذي انحدرت منه ـ وفي سماتها أيضًا. وهذا يتضح تمامًا في رفض عقيدة نيقية للقول بأن الله في تعاليه وسموه الفائق لا يستطيع التلاؤم مع طبائع أخرى غير طبيعته وأنه لا يتفاعل مع العالم، كما يتضح أيضًا في تأكيدها على وحدانية وقداسة الله الذي يتدخل في التاريخ من أجل خلاص البشر، هذا بالإضافة إلى تركيزها على كلمة الله التي وصلتنا من خلال الإعلان الكتابي في العهد القديم والعهد الجديد.

 

التعليم النيقيّ كان فهمًا خلاصيًّا (عبريًّا ـ مسيحيًّا) للّه

وكانت عقيدة نيقية ـ في شكلها اللاهوتي المكتمل ـ فهمًا خلاصيًّا (عبريًّا ـ مسيحيًّا) لله، وقد صار هذا الفهم سائدًا ومحكومًا بالحقيقة القاطعة: إنه في يسوع المسيح الابن المتجسِّد، يتدخل الله شخصيًّا في العالم ليتمم خلاص البشرية[53]، ويسوع المسيح ليس هو سوى الله الكلمة الأزلي، والابن الذي أعلن ذاته لنا وعمل بصورة مباشرة داخل وجودنا البشرى وحياتنا البشرية. وعلى هذا الأساس استطاع لاهوتيو نيقية أن يقولوا، إنه بالحضور المتجسِّد (™νσ£ρκος παρουσία) لله بيننا فإن أي شيء يقوله ويصنعه  الله، أصبــــح يُقــــال ويُصنـــع فقـط (وحصـــريًّا) من قِبـــل شــخص (™κ προσώπου) المسيح وحده[54]*، وهنا تتضح بقوة مفاهيم العهد القديم عن وجه الله وكلمة الله[55]، وتصير مشخصنة تمامًا، حتى إن رؤية الرب يسوع المسيح وسماعه تكون هي هي رؤية وسماع الله الآب نفسه وجهًا لوجه.

وبتقدمه نحونا واقترابـه إلينا في يسوع المسيح الكلـمة المتجسِّد ـ الذي أخذ طبيعتنا البشرية ووحدها بنفسه ـ فتح الله لنا معرفة أعمق أعماق ذاته ككيان شخصي (أقنومي) كامل (في ذاته)، وأدخلنا في شركة حميمة ’شخصية‘ معه كآب وابن وروح قدس[56]، ولنتذكر مرة أخرى كلمات بولس الرسول في (أف18:2) والتي كانت تعني الكثير لكنيسة نيقية “لأن به لنا كلينا (أي اليهود والأمم) قدومًا في روح واحد إلى الآب”، لأنه من قبل مصالحته نقض المسيح حائط الحاجز المتوسط الذي يفصل الأمم عن اليهود في القدوم والاقتراب إلى الله في العبادة، وبذلك أدمج الأمم في شركة الإعلان الإلهي والخلاص، ولكنه أيضًا فتح طريقًا عَبْر الحجاب بين الله والبشر معطيًا لليهود والأمم على السواء إمكانية الدخول مباشرةً إلى حضرة الله الآب.

 

التعليم عن الله في الفكر اليهودي

أما على الجانب الآخر، فكان الله يُنظر إليه في اليهودية على أنه متعال جدًّا إلى درجة لا يمكن معها وصفه أو تسميته، كما أنه غير قابل للمعرفة في وحدانية كيانه غير المتمايزة، ولذلك فإن أي طلب لمعرفة الله (الداخلية) كان يُرفض بفزع شديد ويُوصف بعدم التقوى. ولم يكن يوجد في التعاليم اليهودية معرفة لله في علاقاته الداخلية، بل فقط في علاقاته الخارجية ـ ومن هنا كان مأزق اليهودية التي أصبحت بذلك تقترن بنوعٍ من أنواع الثنائية الهللينية. ومن الصحيح طبعاً أن نقول إن اليهودية (تاريخيًّا) كانت مؤسسة على إعلان الله الفريد عن ذاته في صورة عهد وحوار مع إسرائيل، الشعب الذي اختاره ليكون أداة أو وسيلة للإعلان الإلهي للجنس البشري بأجمعه. لذلك فعند شعب إسرائيل القديم، الله لم يكن يُعرف بشكل مجرد منعزل أو فقط بإبراز الفرق بينه كغير مخلوق وبين المخلوقات، بل كان يُعرف بشكل خلاصي وإيجابي من خلال كلمته وأعماله العظيمة كخالق ورب وفادٍ. وعلى الرغم من أن وسطاء الإعلان الإلهي مثل موسى قيل إنهم تكلموا مع الله “وجهًا لوجه[57]“، وكذلك الأنبياء وكُتَّاب المزامير كانت لهم اختبارات مؤثرة وعميقة مع الله، إلاّ أنه قبل أن يصير كلمة الله جسدًا في ملء الزمان فإن المؤمنين لم يُدخَلوا في علاقة شخصية حميمة مع الله مثل التي حدثت حينما عرفوه مباشرةً كما هو في ذاته (كآب وابن وروح قدس)، أي كما قد أصبح معروفًا في يسوع المسيح الابن المتجسِّد.

 

الدخول إلى الله في المسيحية

وسرعان ما أدرك لاهوتيو نيقية ’الثورة‘ الأساسية في معرفة الله التي حدثت في يسوع المسيح الابن المتجسِّد، الذي من خلاله كوسيط بين الله والإنسان فإننا نحن الذين كنا (بحسب طبيعتنا) بعيدين عن الله صرنا قريبين منه، وأُعطينا بالفعل سبيلاً إليه. أي إنه بتجسد وظهور (παρουσία) الابن لم يعد الله مغلقًا بالنسبة لنا، بل قد فتح نفسه لنا لكي نعرفه في كيانه الذاتي كآب وابن وروح قدس، لأن ما قد أعلنه لنا عن ذاته بالمسيح وفي الروح القدس هو بالحقيقة ’ما هو الله في ذاته‘. ولذا فنحن الآن يمكننا الدخول في شركة ’شخصية‘ مع الله دون أن تمنعنا إمكانياتنا المحدودة كبشر ودون أن يعوقنا ابتعاد طبيعتنا عن الله، وذلك بفضل ما صنعه الله بمحبته ـ لأجلنا ولأجل خلاصنا ـ في تجسد ابنه الوحيد، وأيضًا بفضل عطية روحه القدوس الذي هو حضور الله ذاته ساكنًا فينا. إذن فسواء كنا يهودًا أو أمميين، فبالمسيح يسوع وفي الروح القدس نستطيع أن ندخل ـ بقدر ما ـ إلى داخل الحجاب، ونعرف الله في العلاقات الداخلية لجوهره الفائق كآب وابن وروح قدس.

وأن نعرف الله بهذه الطريقة لا يعني أننا نستطيع أن نعرف ما هو جوهر الله[58]، بل يعني أننا أُعطينا أن نعرف الله معرفةً تكون مؤسسة ـ مباشرة وبشكل موضوعي ـ في الله الأزلي نفسه. وهذا من جهة علم المعرفة، هو ما تعنيه عقيدة الثالوث القدوس وما يعنيه قانون إيمان نيقية: حيث يمكننا بالحقيقة أن نعرف الله الآب ضابط الكل معرفة حقيقية ويقينية.

وعند هذه النقطة الجوهرية تختلف المسيحية عن اليهودية، لأنها تعني ـ وبصورة مدهشة تمامًا ـ أننا نستطيع بقدر ما أن ندرك الله في علاقاته الذاتية الداخلية. وعلى الرغم من هذا، فإن لاهوتي نيقية ظلوا ’عبرانيين‘ بكل ما تعنيه الكلمة من جهة خوفهم من التجرؤ على الله؛ ففي مهابة واندهاش غامر كانوا على دراية أنهم يمشون على أرض مقدسة حيث ينبغي السير بمنتهى الخشوع والاتضاع وحيث ينبغي أن يفرضوا على أنفسهم قدرًا كبيرًا من التحفظ والانضباط، وإذا كان حتى الشاروبيم والسيرافيم المقدسون يغطون وجوههم في حضرة الله[59]، فكم بالحري ينبغي أن يفعل بنو البشر؛ إذ كيف يمكن أن ينظروا الله وأن يعرفوه كما هو في ذاته ويحيون؟ غير أن هذا هو بالتحديد ما قد صار ممكنًا على نحو ما بتنازل (συγκατάβασις) الله العجيب في التجسد: وهو أن يكون لنا معرفة دقيقة لله وفقًا لطبيعته الإلهية، ولكنها في نفس الوقت معرفة خاشعة.

 

الاختلاف مع الهللينية

 

العلاقة بين الهللينية والمسيحية

في كتاب “تاريخ المعتقدات”، يقول مؤلفه أدولف هارنك إنه في القرون الأولى من تاريخ الكنيسة المسيحية دخلت الهللينية إلى المسيحية بقوة وبشكل جذري، وإن الفضل يرجع بدرجة كبيرة إلى القديس أثناسيوس في منع ’تَهلُّن‘ المسيحية[60]. لقد دُون الإنجيل منذ البداية باللغة اليونانية، كما عبَّرت الكنيسة الأولى بشكل كبير عن عبادتها وتعاليمها بأنماط الفكر اليوناني، ولكن بالرغم من كل ذلك بدلاً من أن يحدث ’تهلُّن‘ جذري للمسيحية حدث شيء مختلف تمامًا. فمن أجل الاستفادة من أشكال الفكر اليوناني قام الفكر اللاهوتي المسيحي بتغيير هذه الأشكال بصورة جذرية وجعلها أدوات لنقل عقائد وأفكار كانت غريبة تمامًا عن الهللينية. وفي الحقيقة كان لرسالة الكنيسة الأثر القوي في تغيير الأفكار الأساسية للهللينية التقليدية، وذلك طوال فترة صياغة الكنيسة لعقيدتها المتميزة: عن الله بكونه واحدًا، وبكونه ثالوثًا في جوهره الأزلي، وبكونه خالق الكون من العدم، وكذلك عن عقيدة التجسد كتدخل شخصي من الله لأجل خلاص البشر، وعن عقائد العناية الإلهية والدينونة والقيامة. ولذا كان من أهم ملامح الفكر اللاهوتي النيقي هو عدم ’تَهلُّن‘ المسيحية بل ’تمسحُن‘ الهللينية، وفي هذا الأمر كانت الكنيسة مدينة بشكل خاص للقديس أثناسيوس.

وفي الفصل القادم سوف نتناول الأثر البعيد المدى لعقيدة نيقية في فهمنا لله كضابط الكل خالق كل شيء ما يُرى وما لا يُرى، ولكننا سنركز هنا على ثلاثة اختلافات هامة بين الفكر النيقي والفكر الهلليني وذلك بالنسبة لمفهوم المصطلحات الآتية: ’الأيقونة أو الصورة‘ (ε„κών) و’الكلمة‘ (λόγος) و’الفعل أو الطاقة‘ (™νέργεια).

 

الفرق بين الفهم الهلليني والفهم المسيحي لمصطلح ’الأيقونة أو الصورة‘ (ε„κών)

إن من الأمور التي تميزت بها الهللينية أنها أعطت حاسة البصر أهمية أولى على بقية الحواس مما أدى إلى نمو نمط من أنماط الفكر يتصل في جوهره بهذه الحاسة (أي نمط ’بصري‘)[61]، ويظهر ذلك جليًّا من حقيقة أنه في اللغة اليونانية، الكلمات ’فكرة‘(„δέα) ، ’هيئة أو شكل‘ (ε‡δος)، و’نظرية‘ (θεωρία) تشير كلها إلى أساليب للرؤية أو تشير إلى ما يمكن أن يُرى. كما أن الكلمات أو الأسماء كانت تعتبر كأنها تصوير ـ بشكل حقيقي أو اعتباري ـ لما تعنيه أو تدل عليه أو لما تمثله هذه الكلمات والأسماء. أضف إلى ذلك التفسير اليوناني لعملية البصر على أنها تحدث بواسطـة شعــاع من النـور يتجـه مباشرة مـن العـين إلى الشيء المـراد رؤيته. ومـن المعـروف أن طـريقة التفكـير الذي في شكـل ’صور‘ (ε‡δωλα ε„κόνες) التي في الهللينية ـ والتي قد امتد بها الناس إلى ما هو أبعد من أنفسهم إلى مستوى الأساطير ـ قد لعبت دورًا بارزًا في كل من الفلسفة والدين على حد سواء.

وكان التباين بين المسيحية والهللينية كبيرًا للغاية عند هذا المستوى الجوهري (من جهة أساليب الفكر)، حيث إن أنماط الفكر الإنجيلي التي تحكمها كلمة الله وطاعة الإيمان           (Øπακοή τÁς πίστεως) تتعارض بشدة مع الأنماط الخاصة بالديانة والفلسفة اليونانية. وقد وصل هذا التباين إلى أوجه في النزاع الأريوسي حول علاقة الآب بالابن والتي تعتبر لب البشارة المسيحية. هل علينا أن نفهم مصطلحات مثل ’الآب‘ و ’الابن‘ على أنها صور حسيِّة ومرئية أُخذت من علاقاتنا البشرية ثم طبقناها بشكل أسطوري على الله؟ في هذه الحالة، كيف نستطيع تجنب تطبيق موضوع ’نوعية الجنس‘ الذي في المخلوقات على الله*، أو كيف يمكننا تجنب التفكير في الآب على أنه ’جد‘ أيضًا علاوة على كونه أب، لأن النوع الوحيد من الآباء الذي نعرفه هو من يكون ابنًا لأب آخر؟ وبالتالي فإن التفكير في الله بهذه الطريقة (أي باستخدام المحتوى المخلوق لصور خارجة من عندياتنا) سوف يؤدي حتمًا إلى تصورات عن الألوهة نخلع فيها الصفات البشرية على الله، ونصفه فيها بتعدد الأشكال، وسيؤدي في الواقع إلى تعدد الآلهة والوثنية[62]. لكن إذا كان تفكيرنا مركزه في الله ـ كما يعلن هو لنا ذاته من خلال كلمته المتجسِّد ـ فحينئذٍ سنعرفه وفقًا لما هو في ذاته كآب بشكل فريد تماماً وبصورة لا تقارن، وسيصبح هو نفسه المعيار الضابط الذي نرجع إليه لنفهم كل ما يخص الأبوة والبنوة البشرية. وكما يقول ق. أثناسيوس: “الله لم يجعل الإنسان نموذجًا له، بل بالأحرى بما أن الله وحده هو الآب الحقيقي والكامل (فبالتالي) نحن الرجال نُسمىَ آباء لأبنائنا، لأن منه تُسمى كل أبوة في السماء وعلى الأرض[63]“. فالأبوة الفريدة والبنوة الفريدة في الله تعرِّف كل منهما الأخرى (define one another) بشكل مطلق وفريد. وقد عبَّر ق. أثناسيوس عن هذا المعنى ببلاغة في رفضه لدعاوى الأريوسية التي نادت بأن الإنسان هو مركز وأساس فهم كل شيء: “بالضبط كما أننا لا نستطيع أن نقول إن هناك أب ’للآب‘، كذلك نحن لا نستطيع أن نقول إن هناك أخ ’للابن‘[64]“.

وحقيقة أن الله قد عرَّف ذاته لنا باسم ’الآب‘ ـ  وذلك في ابنه المتجسِّد يسوع المسيح وبواسطته ـ إنما تعني أننا لا نستطيع ولا يجوز لنا أن نسعى لمعرفة الله أو التعبير عن هذه المعرفة بطريقة تتجاهل تسميته لذاته. لذلك فإن المصطلحين ’أب‘ و’ابن‘ لم يقرهما الإعلان الإلهي فقط، بل قد أعطاهما وظيفة ضرورية في معرفتنا لله واختبارنا معه، ولهذا السبب نحن نعمِّد باسم الآب والابن والروح القدس. وقد كان الأمر الذي تعين على آباء نيقية استجلاؤه هو كيف يمكن للصور ’المخلوقة‘ والكامنة في فكرنا عن مصطلحي الأبوة والبنوة ـ وبالتأكيد كما هو الحال في كل المصطلحات والمفاهيم البشرية المستخدمة في الكتاب المقدس ـ أن تنطبق على الله[65]. وهنا أكثر من أي موضع آخر، يظهر الأصل العبري الذي انحدر منه الفكر اللاهوتي النيقي وأثر إعلان الله في العهد القديم بما يحتويه من رفض قاطع ـ وخاصة في الوصية الثانية من الوصايا العشر ـ لأي رسم وتصوير حسي لله، مثل ما في العبادة الوثنية للبعليم والعشتاروث آلهة الطبيعة والجنس في العالم السامي القديم. وكان المبدأ الرئيس الذي أخذته الكنيسة من هذا التقليد الكتابي القديم ـ والذي كان ثابتًا باستمرار داخل الكنيسة في اقترابها الخاشع إلى الله ـ هو أن الله يفوق تمامًا كل تصور بشري. لذلك رفضت الكنيسة ـ في إطار معرفة الله ـ الفكرة الهللينية التي تقول بأن ’الصور‘ تعتبر ’محاكاة‘ للأشياء التي تعنيها أو تمثلها (وبالتالي رفضت أن صورة الأب البشري هي محاكاة للآب)، ووضعت محلها الفكرة العبرية التي تقول أن جميع ’الصور‘ التي تُستخدم بطريقة لائقة في التفكير والحديث عن الله هي تشير إليه دون أن تصوره: (refer to him without imaging him)[66].

وكما سنرى فيما بعد عند الحديث عن عقيدة الروح القدس ومفهوم ق. أثناسيوس عن الروح القدس بأنه “صورة الابن”، أنه حتى الصور المستخدمة في الإعلان الإلهي تنطبق على الله بطريقة ليس فيها أي تصوير له (imageless) لأن الله يفوق بشكل مطلق ولا نهائي، المضمون أو المحتوى البشري* (المخلوق) لهذه الصور. ويستخدم الفكر اللاهوتي المسيحي مصطلحي ’آب‘ و ’ابن‘ استخدامًا مناسبًا ـ في الحديث عن الله كما هو في ذاته ـ عندما يسمح لهذين المصطلحين أن يشيرا وبطريقة لا تصوير فيها إلى العلاقات الأزلية في جوهر الله، هذه العلاقات التي بوضعها المتعالي غير المخلوق تشكِّل الأساس الذي يرشدنا ـ على قدر ما يسمح به مستوانا كبشر ـ لفهم علاقات كل من الأبوة والبنوة في البشر.

وقد ساهمت تعاليم نيقية عن الابن المتجسِّد وعن الروح القدس في تدعيم هذا المدخل العبري، لأن كون يسوع المسيح الابن المتجسِّد هو صورة الله وحقيقته معًا، كان له الأثر البالغ في استبعاد كافة الصور أو التصورات الأخرى عن الله. وبدلاً من أن يكون المسيح تجسيدًا لما نفتكره نحن كبشر عن الله، كان هو التجسيد الفريد لله ذاته بيننا في هيئة البشر. أي إن التجسد لا يمثل انعكاس (أو تطبيق) ’ما هو بشري‘ على ’ما هو إلهي‘ بل هو انعكاس ’ما هو إلهي‘ على ’ما هو بشري‘. وبهذا يكون التجسد هو الصخرة التي تحطمت عليها كل الأساطير[67]. هذا من ناحية، أما من الناحية الأخرى، وكما سنرى فيما بعد، فإن التماثل (التطابق) الذي أقره لاهوتيو نيقية بين وحدانية الابن في ذات الجوهر (Ðμοούσιον) وبين وحـدانية الـروح القــدس أيضًا في ذات الجوهـر (Ðμοούσιον) ـ وذلك في إطار إظهارهم أن ’ما هو‘ الله الآب نحونا بالابن وفي الروح القدس، هو نفس ’ما هو‘ الله أزليًّا في ذاته ـ قد أدت هذه المطابقة إلى منع المؤمنين من العودة إلى التفكير في الله حسب ما تحتويه تصوراتهم عن الأبوة والبنوة البشرية، وبالتالي منعهم من التفكير في الأبوة والبنوة الخاصة بالله بأي شكل مادي أو حسي. وعلاوة على ذلك، لم يكن تركيز ق. أثناسيوس على حقيقة أن الابن هو ’الهيئة‘ (Ε‡δος) الوحيدة (الفريدة) للاهوت الآب فقط، بل أيضًا على أن الروح القدس هو ’صورة‘ (Ε„κών) الابن، مما أوضح أنه ينبغي علينا أن نفكر في الله بطريقة لا تصوير فيها وأيضًا على أساس علاقات غير معتمدة على الصور[68]. ولهذا فقد أعطى الفكر اللاهوتي النيقي موضعًا مركزيًّا لعقيدة الروح القدس بالضبط كما أعطى لعقيدة الابن، مما ساعد على تنقية عقول المؤمنين من العادة الهللينية الخاصة بالتفكير في الله في شكل صور تتسم ’بالمحاكاة‘ وتعتمد على مركزية الصور البشرية[69]*.

وبدلاً من أن ’يتهلَّن‘ الفكر اللاهوتي المسيحي بنمط التفكير ’التصويري – البصري‘ المستوطِن في ديانة وفلسفة عالم البحر المتوسط، ظلّ هذا الفكر اللاهوتي أمينًا لجذوره العبرية والكتابية.

 

الفرق بين الفهم الهلليني والفهم المسيحي لمصطلحي ’الكلمة‘ (λόγος) و’الفعل أو الطاقة‘ (™νέργεια)

ولكن ماذا عن أثر الفكر الهلليني على المسيحية فيما يختص بمدلول مصطلحيّ ’الكلمة‘ (λόγος) و’الفعل أو الطاقة‘ (™νέργεια)؟ وللإجابة على هذا السؤال نعود مرة أخرى إلى ق.أثناسيوس وخاصًة إلى مفهومه عن (™νούσιος Λόγος) و(™νούσιος ™νέργεια) أي ’الكلمة‘ و’الفعل أو الطاقة‘ اللذان في صميم جوهر (οÙσία) الله[70]. وهنا نجد أنه بفضل نشأة الفكر اللاهوتي المسيحي وظهوره في محيط الفكر والحديث اليوناني، قد حدث تعديل هائل في الأفكار الهللينية الأساسية.

فمن ناحية، تحول المفهوم اليوناني لـ ’اللوغوس‘ (λόγος) إلى مفهوم مسيحي، وذلك باندماجه داخل مفهوم العهد القديم عن ’كلمة الرب‘ ومفهوم العهد الجديد عن ’الكلمة‘ الذي كان عند الله وكان الله وصار جسدًا في يسوع المسيح. وعلى خلاف الفكر اليوناني الخاص باللوغوس كمبدأ مجرد (معنوي) يختص بالكون، فإن الفكر اللاهوتي المسيحي عبَّر عن اللوغوس بأنه كائن في جوهر الله ذاته (™νούσιος λόγος) وأنه هو نفسه أقنوم الابن. فالله لا يكون بدون ’كلمته‘ (¨λογος) على الإطلاق، لأن ’كلمة‘ الله ليس شيئًا و’جوهره‘ شيئًا آخر بل إن كلاً منهما كائن في الآخر بغير انفصال. إذن فالله ليس صامتًا في جوهره الداخلي ولكنه على العكس من ذلك، هو في داخله متكلم وبليغ[71]. وصار هذا المفهوم ’الكياني‘ عن اللوغوس (أي كينونته في جوهر الله) هو ما ميّز الفهم المسيحي للإعلان الإلهي بكونه تجسيدًا لاتصال الله بنفسه بالبشر في ’كلمته‘*. وعلى هذا الأساس، اختلفت ’الثيؤلوجيا‘ (theologia) أي معرفة الله التي مركزها في ’كلمته‘، اختلافًا شديدًا عن ’الميثولوجيا‘ (mythologia) أي معرفة الله التي مركزها في الذات البشرية وتخيلاتها[72]. وفي نفس الوقت قد تَعدَّل جذريًّا المفهوم العام لعلاقة اللوغوس بالكائنات المخلوقة وذلك كما سنرى من خلال عقيدة خلق الكون من العدم، والتي أنشأت قناعة بأن الله في خلقه كل الأشياء بكلمته قد منحها نصيبًا في اللوغوس* أو إدراكًا خاصًا بها.

ومن الناحية الأخرى، تغير أيضاً المدلول اليوناني لتعبير ’الفعل أو الطاقة‘ (™νέργεια) إلى مدلول مسيحي، تحت تأثير مفهوم الكتاب المقدس عن قدرة الله الحي في الخلق والعناية. فبخلاف الفكر الأرسطوطالي الذي كان ينظر إلى الله على أنه يتسم “بالفعل الثابت غير المتحرك” (™νέργεια ¢κινησίας) وأنه يحرك العالم فقط “حسب رغبة العالم” (κινε‹ îς ™ρώμενον)[73]، جاءت نظرة ق. أثناسيوس لله بأن فيه الفعل (الطاقة) والحركة داخليان في صميم جوهر الله ذاته (™νούσιος ™νέργεια) #. فالله لا يكون بدون ’فعله أو طاقته‘ (™νέργεια) على الإطلاق، لأن ’فعل‘ الله ليس شيئًا و’جوهره‘ شيئًا آخر فهما متلازمان وكل منهما كائن في الآخر بغير انفصال.* إذن فالله ليس خاملاً في جوهره الداخلي بل على عكس ذلك فإن الحركة والنشاط والعمل ينتمون إلى الطبيعة الأزلية لجوهر الله.

وكان هذا المفهوم الديناميكي عن الله هو ما ميّز الفهم المسيحي للتجسد على أنه تفاعل الله ـ في عنايته وفدائه للجنس البشري ـ متجسِّدًا بصورة شخصية في الزمان والمكان. لذلك نظر اللاهوت النيقي إلى يسوع المسيح بكونه واحدًا مع الله الآب في ’الفعل‘ كما في ’الجوهر‘ أيضًا، لأنه جسَّد الحضور الفعَّال (غير الخامل) لله ذاته في التاريخ البشري، كما أنه أظهر في كل ما كانه وكل ما فعله، تحرك الله الحر ـ في تنازل ومحبة ـ نحو البشر.

إن هذه المحبة الإلهية المخلِّصة للبشر (φιλανθρωπία) ـ وهي الكلمة المفضلة عند ق. أثناسيوس للتعبير عن حب الله العامل (الفعَّال) نحونا ـ كانت على النقيض تمامًا لكلمة أرسطو ’إيروس‘ (eros, œρως) والتي تعني الرغبة التي بها يؤثر الله (بصورته الخاملة في فكر أرسطو) في العالم. ففي ظل مفهوم أرسطو عن هذه العلاقة الخاملة لله بالكون، لم يكن هناك مجال لفكرة الخلق من عدم أو لأي بداية للزمان، أما المفهوم المسيحي عن الله الحيّ العامل فقد أرسى عقيدة خلق كل الأشياء من العدم ووضع الأساس لمفهوم مختلف تمامًا للحركة بالنسبة للواقع المخلوق أيضًا.

 

المنهج المسيحي في الاستفادة من المصطلحات الهللينية

وقد أصبح الآن واضحًا، حتى من المفهومين المتشابهين: ’اللوغوس الكائن في الجوهر‘(™νούσιος Λόγος) و’الفعل (أو الطاقة) الكائن في الجوهر‘ (™νούσιος ™νέργεια)، أنه في حين استخدم الفكر اللاهوتي النيقي المصطلحات والأفكار اليونانية بكثرة في ربط مضمون ومفاهيم الإيمان المسيحي، إلاّ أنه أعاد صياغة وتشكيل هذه المصطلحات والأفكار من أساسها تمامًا، وفقًا للتأثير الخلاَّق للكتاب المقدس. فصارت لتعبيرات مثل ’الجوهر‘ (οÙσία)، ’الكلمة‘ (λόγος) و’الفعل أو الطاقة‘ (™νέργεια) في الفكر اللاهوتي الآبائي معانٍ مختلفة تمامًا عما كانت تعنيه هذه التعبيرات في فكر أفلاطون وأرسطو والرواقيين، أي إنه في الحقيقة قد تم ’إلغاء يونانيتها‘ بصورة جذرية. إذن فالفكر اللاهوتي النيقي لم ينشأ من تحول مسيحية الكتاب المقدس إلى الهللينية، بل على العكس فهو يمثل إعادة صياغة وتشكيل أنماط الفكر الهلليني الشائعة لتصير أداة جديرة بالإنجيل وتمكِّن الكنيسة من توضيح ـ وإعطاء تعبيرات راسخة عن ـ عقيدة الثالوث المتضمَّنة في معرفة الله الآب الذي ندخل إليه بالابن وفي روح واحد. وفوق كل شيء، فإن أنماط الفكر التي تم تخصيصها ونقلها من الثقافة اليونانية قد أخذت الطابع المسيحي الدامغ في إطار دورها في فهم الثالوث القدوس وعبادته، وهكذا اتحدت التقوى مع الدقة، والعبادة مع التعليم الصحيح، بغير انفصال في العمل اللاهوتي لآباء الكنيسة ولاهوتييها الذين قدموا للعالم المسيحي قانون الإيمان النيقي القسطنطيني.

1  See Athanasius, De syn., 46; Ad episc. Aeg., 4ff.

2  Athanasius, Ad Afr., 4-11; Ad Jov., 1 etc.

3  Athanasius, Con. Ar., 1.34: (Ου̉κου̃ν ευ̉σεβέστερον καί α̉ληθές α̉́ν ει̉́η μα̃λλον τόν Θεόν ε̉κ του̃ Υι̉ου̃ σημαίνειν καί Πατέρα λέγειν η̉́ ε̉κ μόνων τω̃ν ε̉́ργων ο̉νομάζειν καί λέγειν αυ̉τόν α̉γένητον). Cf. 1.16, 33; De decr., 31; Hilary, De Trin., 1.17; 3.22; cf. 2.6-8.

*  إن معرفتنا لله بكونه ’آبًا‘ إنما تعني ضمنيًّا: أنه آب مولود منه الابن ومنبثق منه الروح القدس، لأنه الله في جوهره ثالوثي ومعرفتنا له تعني معرفتنا له بكونه ثالوثًا (كما سيأتي ذكره في الفصل الأخير). وهذا هو المنهج الذي نراه في قانون الإيمان؛ إذ يبدأ بالاعتراف بالله بكونه آبًا ثم بعد ذلك يعلن الإيمان بالابن المولود من هذا الآب والروح القدس المنبثق من هذا الاب أيضًا. (المترجم)

[4]    عند ق. أثناسيوس كلمة ’التقوى‘ (ευ̉σέβεια) كانت تعني ’الأرثوذوكسية‘ كما يتضح من:

De syn,3; De decr., 1; Con. Ar.,1.7, etc.; Ep. Enc., 2; Ad Afr., 2; Ad Ant, 8  بينما كانت كلمة ’عدم التقوى‘ (α̉σέβεια, δυσσέβεια) تشير إلى ’الهرطقة‘ كما في: Con. Ar., 1.1ff, 37, 52f; 2.18; 3.10.55,etc.

*  إن معرفة الله في ذاته أو وفقًا لما هو في ذاته إنما تعني معرفة الله فقط كما أعلن هو لنا ذاته أي معرفته في علاقاته الداخلية الأقنومية كآب وابن وروح قدس. (المترجم)

5  Hilary, De Trin., 2.6f.

6  See Athanasius, De decr., 13; Con. Ar., 1.29; 2.22, etc.

7  Athanasius, De decr., 22; De syn., 34.

8  Cf. Gregory Naz., Or., 28.9; Athanasius, Ad mon., 2; Basil, Con. Eun., 1.10, and contrast John of Damascus, De fide orth., 1.4.

 9  Athanasius, Con. Ar. 1, 29-34; De Syn., 35, 46-47.

10  Athanasius, Con. Ar. 1.1f, 14f, 37, 52f; 2.18, 38; 3.10, 55; De Syn., 15.

وقد اتهم ق. أثناسيوس الأريوسيين بأنهم يفكرون في الله (κατ’ ε̉πίνοιαν) بأن يتخيلوا عنه تصورات معينة لا تمت للحقيقة بصلة:

De sent. Dion., 2, 23f; Ad episc., 12ff; Con. Ar., 1.12; 2.37; 4.2f, 8f, 13; cf. Con. Apol., 2.7.

11  T. F. Torrance, Oikonomia. Heilsgeschichte als Thema der Theologie, edit. by F. Christ, 1967, pp.223-238; Theol. in Reconcil., 1975, pp. 215ff, 239ff, 255ff.

12  Athanasius, Con. Apol. 1.10, 13, 16f; 2.9.

أن تفكر ’بحسب الطبيعة أو بما يتمشى مع الطبيعة‘ (in accordance with nature) هو على النقيض مع وهم محاولة التفكير فيما وراء الطبيعة (beyond nature):

1.9; cf. 1.13, 17; 2.18f. See also Ad Epict., 2.7; De syn., 54.

13  Athanasius, Con. Ar., 1.20; Ad Ser., 1.9, 24; 2.5;cf. also Con. gent., 9; Con. Ar., 2.21, 41; De decr., 11.

14  Athanasius, Con. Ar., 1.9; cf. 3.11.

15  Cf. Plato, Timaeus, 28c, cited by Origen, Con. Cel., 42.

16  Athanasius, Con. Ar., 1.33.

[17]  يقول ق. هيلاري: “إن صميم الإيمان الخلاصي، ليس هو مجرد الإيمان بالله ولكنه الإيمان به بكونه آبًا، وليس هو مجرد الإيمان بالمسيح ولكنه الإيمان بالمسيح بكونه ابن الله وبأنه ليس ضمن الخليقة بل بأنه هو الله الخالق المولود من الله (الآب)”. (في الثالوث 17:1؛ 22:3؛ 20:5؛ 30:6) 

18  Hilary, De syn., 62 & 69; cf. De Trin., 2.5ff; 3.1ff; 4.2.

19  Hilary, De Trin., 2.6-11.

20  Hilary, De Trin., 2.6-7; cf. Athanasius, Ad mon., 1ff; Gregory Nyss., Or. Cat., 3.

21  Hilary, De Trin., 2.7; cf. 2.6, 11; 3.1-5; 4.1ff; 11.44-49; De syn., 69.

22  See especially Athanasius, Expositio fidei, 1-4; and In illud “Omnia mihi tradita”, 1-6.

23  Irenaeus, Adv. haer., 4.11. 1-5, vol. 2, pp. 158-62. See ‘The Deposit of Faith’, SJT, vol. 36, 1983, No. 1, pp. 8ff.

[24]  أف 18:2.

25  Hilary, De Trin., 2.6; cf. 2.10, and especially 5.20f.

26  Hilary, De Trin., 1.18 or 7.41.

27  Hilary, De Trin., 22.44.

28  Thus Hilary, De Trin., 3.1ff.

29  Athanasius, Con. Ar., 1.9.

30  Athanasius, Con. Ar., 1.25; Ad Ser., 1.1; Ad Epict., 13, etc.

31  Athanasius, De decr., 19ff; Hilary, De Trin., 2.1-11.

32  Athanasius, De syn., 5ff; Hilary, De syn., 62f, 88f.

33  Athanasius, De decr., 32; Ad episc., 4; Ad Jov., 1; Ad Epict., 1.Cf. Cyril of Jer., Cat., 5.12-13.

[34]  لو 22:10؛ مت 27:11. انظر أيضاً ق. أثناسيوس في (In ill. Om.). وكانت فقرات من إنجيل يوحنا 15:10، 30، 38؛ 9:14 قد وردت في كتابات ق. أثناسيوس:

Con. Ar., 3.3, 5f, 10, 16f; De decr., 21, 31; De syn., 45; Ad episc., 9, 13 etc.

*  “أ لست تؤمن أني أنا في الآب والآب فيَّ؟.. الآب الحال فيَّ” (يو 14: 10)، “كما أنك أنت أيها الآب فيّ وأنا فيك… أنا فيهم وأنت فيّ (يو 17: 21- 23) .(المترجم)

35  See Gregory Naz., Or. 31.8-10; Basil, De Sp. St., 18.47; Gregory Nyss., De Sp. St. adv. Maced., edit. By W. Jaeger, p.98.

36 Athanasius, Ad Ser., 1.17; Ad Jov., 4, etc. ; Basil, De Sp. St. 18.47; Gregory Naz., Or., 6.13; 25.17.

*  الدوسيتية (أي الخيالية) هي بدعة تنادي بأن جسد المسيح، ابن الله المتجسد، لم يكن جسدًا حقيقيًّا بل قد بدا كذلك، أي كان جسدًا وهميًّا أو خياليًّا. (المترجم)

#  الأبيونية هي بدعة تقول بأن يسوع الإنسان قد اختاره الله لبنوة إلهية خاصة عندما حل عليه الروح القدس في معموديته، ولم يؤمنوا به كمولود من الآب بل كمخلوق، ولم يعتبروه أنه هو الله الذي أخذ شكل إنسان بل رأوه بالأحرى كنبي قد حل الله فيه. (المترجم)

37  Hilary, De Trin., 6.30. See also 1.17; 3.17 & 22; 5.20.

[38]  1كو 10:2.

*  لأننا في المسيح نأخذ الروح القدس الذي حينما يحل فينا يعطينا ما للمسيح “يأخذ مما لي ويعطيكم”. (المترجم)

[39]  يو 6:14.

[40]  أم 22:8.

[41]  انظر الشرح المطوّل لآية سفر الأمثال 22:8 في:

Athanasius, Con. Ar., 2.18-82, but cf. also Ad episc., 10.

42  Cf. Basil, De Sp. St., 8.17ff; 18.47

43  Athanasius, Exp. Fidei, 4.

44  Athanasius, Con. Ar., 3.3, 6, 10, 15, 17; De syn., 2; Ad episc., 10. Cf. Gregory Naz., Or., 38.13f; Gregory Nyss., Con. Eun., 3.2.8

45  Athanasius, In ill. Om., 5; cf. 3-4.

46  Athanasius, Con. Ar., 3.1.

47  Gregory/ Basil, Ep., 38.8.

48  Athanasius, Con. Ar., 3.3 &6.

49  Athanasius, Ad Ser., passim; and Basil, De Sp. St., 13.30..

50  Gregory Naz., Or., 31.14.  

51  Hilary, De syn., 61. See also De Trin., 1.37; 2.22; 4.1, 7; 5.35; 7.7; 8.4.  

52  Gregory Naz., Or., 1.37; 18.16; 21.13, 34; 34.8; 38.15; 39.11; Basil, Hom., 24.1-7; De Sp.St., 30.77; Hex., 9.6; Ep., 189.2f; 210.3f; 265.2; Gregory Nyss., Con. Eun., 1.18f; 3.8.2, 4; Or. Cat., Prol., 1, 3; Ep., 2.

53  Gregory Nyss., Or. Cat., 24. Cf. R.V. Sellers, Two Ancient Christologies, 1940, p.66.

[54]  كان هذا هو التعبير المحبب عند ق. أثناسيوس كما نرى في:

De inc. 3. See Theol. in Reconcil., 245f, and R.V.Sellers, op. cit., p.46f.

*  يجب أن نلاحظ أنه قبل التجسد كان كل ما يفعله أو يقوله الله يتم من الآب بالابن في الروح القدس، ولكن بعد التجسد صار كل ما يفعله أو يقوله الله يتم من الآب بالابن المتجسد في الروح القدس. (المترجم)

[55]  تك 30:32، عد 25:6، أخ 14:7، مز 16:31.

[56]  في الحقيقة ـ وكما سنرى ـ فإنه مع بلورة هذه المعرفة المسيحية المميزة عن الله الثالوث، بدأ المفهوم الحقيقي ’للشخص‘ والذي لم يكن موجودًا من قبل ـ ولا حتى في العهد القديم ـ ينمو ليصبح الأكثر أهمية في كل الفكر الإنساني.

[57]  خر 11:33.

58  Athanasius, Ad mon.; cf. De decr., 22; De syn., 35.

59  Athanasius, Ad Ser., .17; cf. In ill. Om., 6.

60  A.von Harnack, History of Dogma, Eng. tr. 1897, vol. III, p. 194.

61  Cf. Martin Buber, Eclipse of God, 1957, p. 40.

*  إن محاولة الأريوسيين لتطبيق العلاقات البشرية على معرفتهم لله، كان من أثرها إدخال بعض الأفكار التي تتعلق بالجنس على هذه المعرفة. (المترجم)

62  Cf. the arguments of Athenagoras of Athens in the second century A.D. against the anthropocentric character of images, Leg., 7-10, 15-18. See also Origen, Con. Cel., 8.17-18; Eusebius of Caesarea, Opera, MPG 20, 1545-49; and cf. V. Weidlé, The Baptism of Art, Oxford, 1950.

63  Athanasius, Con. Ar., 1.23, with reference to Eph. 3:15. See the preceding discussion, 1.21-22.

64  Athanasius, Ad Ser., 1.16. Thus also Gregory Naz., Or., 31.7.

[65]  انظر الدور الذي قامت به الأمثلة (التشبيهات القياسية) والصور الإنجيلية، وتحليلها من جهة علم المعرفة عند هيلاري:     Hilary, De Trin., 2.1.18f; 2.6ff.

66  Gregory Naz., Or., 28.12ff; 29.2; 31.7, 33, etc.

*  الذي هو نتاج التفكير البشري (المترجم)

67  Cf. F. W. Camfield, Reformation Old and New, 1947, p. 85.

68  Athanasius, Con. Ar., 1.15; De syn., 42 & 51; Ad Ser., 1.24; Hilary, De Trin., 7.37; 8.52; 10.6; Gregory Naz., Or., 31.33; and cf. Cyril of Alexandria, De Trin., 6, MPG 75.1089.

[69]  ارجع إلى مفهوم الأيقونة في الفكر المسيحي والتي لا تعني أيضًا المحاكاة بل تشير بطريقة روحية وغير مادية إلى من تدل عليهم، انظر في ذلك:

Cf. G. Florovsky, Collected Works, II, Belmont, 1974, pp. 101-119.

*    إن الفكر اللاهوتي النيقي عن الروح القدس كان له دور مركزي في منع التفكير في الله بالطريقة التصويرية (التي هي من نتاج التفكير البشري المخلوق) وذلك من ناحيتين:

أولاً: لقد أظهر أنه إذا كانت الأبوة والبنوة في الله هي مثل (صورتهما) التي في الإنسان، فإذا استطعنا أن نقول إن الابن هو واحد في ذات الجوهر مع الآب (بسبب بنوته له)، فكيف نفسِّر حينئذ أن الروح القدس أيضاً هو واحد في ذات الجوهر معهما.

ثانيًا: لو كان الابن هو صورة الآب (بحسب مفهومنا البشري عن الصورة التي تعني المحاكاة) فكيف نقول عن الروح القدس أيضاً إنه هو صورة الابن. ، وهذا يعني أن الصور (أي صور الأبوة والبنوة) التي تُستخدم في الحديث عن الله هي بعيدة تمامًا عما يعرفه الانسان في واقعه البشري المخلوق عن معنى الصورة. (المترجم)   

70  For references to these Athanasian concepts see Theol. in Reconcil., pp. 222f, 226ff, 235ff.

[71]  يقول ق. هيلاري: “الكلمة هو حقيقة وليس صوتًا، كيان وليس حديثًا، وهو الله وليس عديم الهوية” (عن الثالوث، 15:2).

*  لأنه لو لم يكن الكلمة (اللوغوس) كائن في جوهر الله لما كان تجسد الكلمة هو إعلان الله الحقيقي عن نفسه للبشر واتصال الله الحقيقي بنفسه بالبشر. (المترجم)

72  CF. Plato’s discussion, phaedo, 85 c.

*  القديس أثناسيوس: ضد الوثنيين 44؛ تجسد الكلمة 3:3، 42 (المترجم)

73  CF. Aristotle, Eth. Nic., 7, 1154b; Met., 1072b.

#  هناك فرق بين ’اللوغوس الكائن في الجوهر‘ و ’الفعل (أو الطاقة) الكائن في الجوهر‘:

+  فاللوغوس هو نفسه أقنوم الابن، وبالتالي ’اللوغوس الذي في الجوهر‘ معناه أن الابن هو مع الآب والروح القدس في ذات الجوهر الواحد. وبالتالي فإن الله يتحدث (يتواصل) معنا بالابن (اللوغوس) في الروح القدس.

+  أما ’الفعل (أو الطاقة) الذي في الجوهر‘ فله معني آخر، حيث إن الفعل ليس أقنومًا (شخصًا)، ولكن قدرة الله ـ وفعله ونشاطه وحركته ـ الكائنة في صميم جوهره، لأن جوهر الله وفعله متلازمان وكائن كل منهما في الآخر بغير انفصال. (المترجم)

 

*  انظر الحاشية صفحة 195 في الفصل الرابع

 

السبيل إلى الآب ف2 – الإيمان بالثالوث – توماس ف. تورانس

تقييم المستخدمون: كن أول المصوتون !