آبائيات

شفاء المولود أعمى – ق. يوحنا ذهبى الفم – د. جورج عوض إبراهيم

شفاء المولود أعمى - ق. يوحنا ذهبى الفم - د. جورج عوض إبراهيم

شفاء المولود أعمى – ق. يوحنا ذهبى الفم – د. جورج عوض إبراهيم

 

شفاء المولود أعمى - ق. يوحنا ذهبى الفم - د. جورج عوض إبراهيم
شفاء المولود أعمى – ق. يوحنا ذهبى الفم – د. جورج عوض إبراهيم

 

شفاء المولود أعمى

(الأحد السادس من الصوم)

للقديس يوحنا ذهبى الفم

 

ترجمها عن اليونانية

دكتور جورج عوض إبراهيم

 

 

(عظة 56)

”وفيما هو مجتازٌ رأى إنساناً أعمى منذ ولادته. فسأله تلاميذه:

يا مُعلم مَن أخطأ هذا أم أبواه حتى وُلِدَ أعمى؟”

(يو9: 1ـ 2)

 

المسيح يأخذ زمام المبادرة[1]

”وفيما هو مجتاز رأى إنساناً أعمى منذ ولادته”.

         لأنه محبٌ جدًا للبشر، ويعتني دائمًا بخلاصنا، وقد أراد أن يغلق أفواه الرعاع، لا يفوته أن يصنع ما يليق به أن يصنعه حتى ولو لم ينتبه المرء إلى وجوده. وهذا ما كان يعرفه جيدًا النبي حين قال:     ” لكي تتبرر في أقوالك، وتزكو في قضائك” (مز51: 4). لأجل ذلك، ولأنهم لم يقبلوا المعانى السامية لأقواله، بل قالوا إن به شيطان، وشرعوا في قتله حين خرج من الهيكل (راجع يو8: 58)، فإنه عندما شفىَ الأعمى انصرف، فسكن غضبهم بغيابه؛ وبصنعه للمعجزة ليَّن قساوتهم وجحودهم.

         والمعجزة التي صنعها لم تكن وليدة الصدفة، وإن كانت وقتذاك قد حدثت لأول مرة. فكما هو مكتوب “منذ الدهر لم يُسمع أنَّ أحدًا فتَّح عيني مولودٍ أعمى” (يو9: 32). فهل فتَّح شخصٌ ـ قبل ذلك ـ عينى مولود أعمى؟ أما الرب فبعد أن خرج من الهيكل أتي عن قصدٍ، ليصنع معجزةً صارت ظاهرةً كالآتي: لقد رأى المسيحُ الأعمى، في الوقت الذي لم يكن الأعمى قد تحرَّك نحوه. لكن المسيحَ رمقه بنظرةٍ أثارت انتباه التلاميذ، الأمر الذي دعاهم إلى أن يسألوا المسيح، إذ لاحظوا أنه ينظر إليه باهتمام، قائلين: ” يا معلِّم مَن أخطأ. هذا أم أبواه حتى وُلِدَ أعمى؟”.

 

سؤال محير:

         لا شك أن هذا السؤال، سؤالٌ خاطئ؛ لأنه كيف يمكن له أن يخطئ قبل أن يُولد؟ ولماذا يعاقَب هو إذا كان والداه قد أخطئا؟

         إذن، لماذا سأله التلاميذ هذا السؤال؟

         قبل أن يصنع المسيح هذه المعجزة، كان قد شفى المشلول (مريض بركة بيت حسدا)، وكان قد قال له: ” ها أنت قد برئت فلا تخطئ أيضًا” (يو5: 14). إذن فقد أدرك التلاميذ أن المشلول كان قد صار مريضاً هكذا بسبب خطاياه، فكأن لسان حالهم يقول له: إذا كان هذا المشلول قد صار مريضًا هكذا بسبب خطاياه، ماذا عن هذا المولود أعمى، هل أخطأ أيضًا؟

         إن كان هذا يصح بالنسبة للمشلول، لكنك في هذه الحالة لا تستطيع أن تقول نفس الأمر؛ لأنه مولودٌ أعمى منذ ولادته. إذن، هل أخطأ والداه؟ ولا هذا أيضًا؛ لأن الطفل لا يُعاقَب لأجل خطايا أبيه. فإن رأى أحدكم طفلاً ما في حالة مزرية، فماذا يمكنه أن يقول عن هذا الطفل؟ هل يسأل عما فعله هذا الطفل؟ أبداً، وإنما دون أن ندخل في تفاصيل، نحن نعبِّر بكل ما نقوله عن حيرتنا. هكذا التلاميذ لم يقولوا هذا الكلام في صيغة سؤال يحتاج إلى إجابة، لكن تعبيرًا عن حيرتهم.

         ماذا أجاب المسيح؟ ” لا هذا أخطأ ولا أبواه” (يو9: 3). ولأنهم لم يقولوا فقط “هل هذا أخطأ أم أبواه؟“، وإنما أضافوا “حتى وُلِدَ أعمى“، فإن الرب لم يقل أنا أخلصهم من خطاياهم لكي يتمجد ابن الله؛ فقد أخطأ هذا ـ بالتأكيد ـ بل وأبواه أيضًا، لكن العمى لم ينتج عن هذا السبب. وهو لم يقل هذه الأقوال لكي يُظهر أن هذا لم يُصَب بالعمى من جراء هذا السبب، بينما آخرون أصابهم العمى نتيجة خطايا والديهم، طالما عرفنا إلى أنه لا يمكن أن يخطئ الواحد ويعاقب الآخر؛ لأننا لو قبلنا هذا، سنكون ملزمين بالضرورة أن نقبل الفرضية الأخرى، أي أنه أخطأ قبل أن يُولَد.

         إذن، عندما قال: ” لا هذا أخطأ“، لم يكن يقصد إمكانية أن يخطئ قبل ولادته، وهو لذلك يُعاقَب. ويسرى هذا أيضاً على قوله: “ولا أبواه“، فهو أيضًا لا يقصد أنه يمكن أن يعاقَب بسبب أبويه، خصوصًا وقد أُلغيَ هذا الأمر بواسطة حزقيال النبي “ما لكم أنتم تضربون هذا المثل على أرض إسرائيل قائلين الآباء أكلوا الحصرم وأسنان الأبناء ضرست. حيّ أنا يقول السيد الرب لا يكون لكم من بعد أن تضربوا هذا المثل في إسرائيل” (حز18: 2ـ3). وموسى يقول: “ لا يُقتل الآباء عن الأولاد ولا يُقتل الأولاد عن الآباء” (تث24: 16). وعن ملكٍ (أمصيا بن يوآش ملك يهوذا) قيل: ” إنه لم يقتل أبناء القاتلين حسب ما هو مكتوب في سفر شريعة موسى” (2مل14: 6). فإذا قال أحدكم كيف إذن قيل: “ أفتقد ذنوب الآباء في الأبناء في الجيل الثالث والرابع من مبغضي” (تث5: 9)، يمكننا أنْ نقول إنَّ هذا القرار لم يقصد به الكل، بل أولئك الذين خرجوا من مصر. وكان يقصد الآتي: لأن هؤلاء الذين خرجوا من مصر قد صاروا ـ بعد أن رأوا آيات ومعجزات ـ أسوأ من أجدادهم الذين لم يروا أيًا من هذه الآيات أو المعجزات، فإنهم يعانون نفس الآلام التي عاناها أولئك لأنهم صنعوا نفس الأخطاء. أمَّا كون أن هذه الأقوال قد قيلت لأولئك، فيمكن للمرء أن يتحقق منه إذا راجع كلمات الكتاب بدقة.

 

ليظهر مجد الله:

         إذن، ما هو سبب ولادته أعمى؟ ” لتظهر أعمال الله فيه“. تواجهنا هنا أيضاً حيرة أخرى! ألا يمكن أن تظهر أعمال الله دون عقاب كهذا؟ هو بالتأكيد لم يقل إن هذا ممكن، لكن لكي ” يظهر في هذا“. ماذا! هل ظُلِم إذن لأجل مجد الله؟ عن أي ظُلمٍ تتكلم؟ أخبرني؛ فلو كان قد أراد أن يظلمه، ما كان قد جاء به للحياة. لكني أقول: لقد شفاه من العمى بما أن الأعمى رآه بالعين الداخلية[2].

         وهذا ما يجعل هذا الأعمى مختلفًا عن اليهود، لأنه ما الفائدة التي عادت على اليهود وقد كانت لهم عيون جسدية؟ لقد عوقبوا بالأسوأ لأن عيونهم الداخلية كانت عمياء. أيٌ ضررٍ إذن، أصاب المولود أعمى، وقد أبصر بعد أن كان أعمى؟ إن شرور الحياة الطبيعية لا تُعتبر شرورًا، هكذا أيضًا الصالحات ليست صالحات، فالشر هو الخطية فقط، بينما العمى ليس شرًا. فالله الذي جاء به إلى الحياة، كان يمكن أن يتركه هكذا.

         ويقول البعض إنهم لا يرون في تعبير ” لتظهر أعمال الله فيه”  أي تبرير يفسِّر حالة المولود أعمى، بقدر ما يُعبِّر عن النتيجة، وذلك قياسًا على ما قاله المسيح: ” لدينونة أتيت أنا إلى هذا العالم حتى يبصر الذين لا يبصرون، ويعمى الذين يبصرون” (يو9: 39). فالمسيح لم يأتِ بالتأكيد لهذا السبب، أي لكي يبصر العميان أو يعمى المبصرون. وأيضًا مثلما يقول القديس بولس الرسول: ” إذ معرفة الله ظاهرة فيهم؛ لأن الله أظهرها لهم. لأن أموره غير المنظورة تُرى منذ خلق العالم… حتى أنهم بلا عذر” (رو 1: 19ـ20)، فبالرغم من أنه لم يكشف عن ذاته لهؤلاء، لأجل هذا السبب، أي لكي لا يجدوا ما يدافعون به عن أنفسهم، بل العكس. وفي موضع آخر أيضًا يقول: “وأمَّا الناموس فدخل لكي تكثر الخطية” (رو5: 20)، فالناموس لم يدخل في حياة البشر لهذا السبب، بل لكي يعيق الخطية.

 

المسيح خالق الخليقة:

         هل رأيت أن التحديد في كل الحالات السابقة، إنما يُؤكد على النتيجة؟ فهو هنا مثل بنَّاءٍ ماهر، بنى جزءًا من البيت، أمَّا الجزء الآخر فقد تركه ناقصًا، حتى عندما أكمل البناء أمام أعينهم، يتأكدون من إتقانه لفن البناء، ويعرفون أنه هو الذى بنى البيت، وبذلك يقدم دليلاً ضد هؤلاء الذين لا يؤمنون بكل عمله. فهكذا ـ مثل مسكنٍ على وشك السقوط ـ يُرمم الله جسدنا ويكمِّله: يشفي اليد اليابسة، يعطي حياةً للأعضاء المشلولة، يشفي العُرج، يطهِّر البُرَّص، يشفي المرضى، يجعل المشلولين أصحاء، يعيد الحياة للأموات، يفتح عيون العميان، يمنح عيونًا لمن هم بلا عيون، لقد قوَّم كل هذه العيوب، وشفى الأمراض التي أصابت الطبيعة البشرية، وبذلك أظهر قوته.

         قال: ” لتظهر أعمال الله فيه“، وهو هنا يقصد ذاته لا الآب؛ لأن مجد ذاك كان ظاهرًا. إذن، بما أنهم سمعوا أن الله خلق الإنسان عندما أخذ من طين الأرض، لذلك خلق المسيح ـ بنفس الطريقة ـ عينى الأعمى، وكأنه يقول: أنا هو الذي أخذ من تراب الأرض، وخلق الإنسان…

         إذن، فقد أخذ المسيح من تراب الأرض ومزجه بالتُفل، وأظهر بفعله هذا مجده المستتر؛ لأنه لم يكن شيئًا هيِّنًا أن يُرى على أنه خالق الخليقة. ولم يقتصر الأمر على هذا العمل، بل حدثت أمور أخرى صار بها كثيرين مؤمنين؛ لأن الإيمان بعمله الأعظم، يؤكِّد قدرته على فعل الأصغر. وبما أن الإنسان هو أثمن من كل كائنات الخليقة، والعيون هي أثمن أعضاء الجسد، لذلك أعطى النور للعين ليس هكذا ببساطة، لكن بذات طريقة الخلق؛ لأن العين، بالرغم من أنها عضوٌ صغير في الحجم، إلاَّ أنها العضو الأكثر أهمية من كل أعضاء الجسد، وهذا ما أعلنه بولس حين قال: ” وإن قالت الأذن لأني لست عينًا لست من الجسد. أفلم تكن لذلك من الجسد” (1كو12: 16)؛ فإن كانت كل أعضاء جسدنا برهانًا لحكمة الله، فبالأكثر جدًا تكون العين، طالما أنها تحكم كل الجسد، فهي تمنح الجمال لكل الجسد، وتزين الوجه. إنها سراج لكل الأعضاء؛ لأن العين للجسد، مثل الشمس للمسكونة. فإذا أطفأت الشمس، فالكل يهلك ويتغير مسار الكل. هكذا لو أطفأت العينين، فلا الأرجل تُستخدم، ولا الأيدي، بل ولا أعضاء النفس أيضًا؛ لأننا إن كنا نعرف الله عن طريق أعضاء النفس، فإننا ـ إن لم نستخدم هذه الأعضاء ـ لا تكون لنا هذه المعرفة ” لأن أموره غير المنظورة تُرى منذ خلق العالم مُدركة بالمصنوعات قدرته السرمدية ولاهوته حتى أنهم بلا عذر” (رو1: 20). وبالتالي ليست العين هي فقط، سراج للجسد، لكن هي أكثر أعضاء الجسد تعتبر سراجًا للنفس أيضًا، لذلك وُضِعَت في مكانٍ ملوكي في أعلى جزء من الجسد، وتُشرف على كل الحواس. إذن، هذه العينُ قد خلقها الرب.

         ولكي لا تظن أنه كان في احتياج إلى المادة عندما خلق، ولكي تعلم أنه حتى لم يكن يحتاج إلى الطين منذ البداية؛ فإنه أوجد ما هو أعظم من الجسد، أي الجوهر الأكثر أهمية (أي النفس)، والذي لم يكن موجودًا، هذا الجوهر خلقه دون احتياج للمادة. إذن، عليك أن تعلم أنه لم يفعل هذا الأمر عن احتياج، لكن لكي يُعلِّم الناس أنه الخالق الأول (الذى خلق فى البداية)، فقد طلى الطين على العينين. وقال “أذهب وأغتسل”: لكي تعرف أنه ليس فى احتياج للطين لكي يفتِّح الأعين، بل لكي يظهر مجده بفعله هذا.

         وكونه يتحدثُ عن ذاته، فهذا يتضّح من أنه بعد أن قال:” لكي تظهر أعمال الله فيه“، أضاف ” ينبغي أن أعمل أعمال الذي أرسلني ما دام نهار” (يو9: 4). بمعنى أنه ينبغي عليَّ أن أُظهر ذاتي، وأن أعمل تلك الأعمال التي يمكن أن تبرهن على أنني أعمل نفس الأعمال مع الآب، ليست الأعمال الشبيهة، بل الأعمال نفسها، الأمر الذي يُظهر بدرجة عظيمة إن أعماله هي ذات أعمال الآب، ولا تختلف عنها إطلاقًا. مَن إذن، يمكنه أن يشك أنه يستطيع أن يعمل نفس الأعمال مع الآب؟ لأنه لم يخلق الأعين فقط، ولا فتَّحها فقط، بل منحها البصر، الأمر الذي يعني أنه نفخ نفسًا في العين التي لم تكن تبصر، فبالرغم من أنها كانت موجودة شكليًا إلاَّ أنها لم تكن تبصر إطلاقًا، وهكذا منحها قوة الحياة، وزوَّد العضو بكل شيء، شرايين وأعصاب وأوردة ودم وكل الأشياء الأخرى التي تتكون منها أجسادنا.

 

حياة الإنسان على الأرض فرصة ثمينة للإيمان بالمسيح:

         ” ينبغي أن أعمل ما دام نهارٌ“. ما الذي يمكن أن نفهمه من هذه الأقوال؟ وما هي أهميتها؟ أهميتها شديدة من جميع النواحى. وتتبدى هذه الأهمية كالآتي: “مادام نهارٌ” فيه يستطيع الناس أن يؤمنوا بى، وتكون فيه الحياة مستمرة، إذن ينبغي أن أعمل.

         ” يأتي ليلٌ“، أي الدهر الآتي “حين لا يستطيع أحدٌ أن يعمل“. لم يقل حيث أنا لا أستطيع أن أعمل، بل “حين لا يستطيع أحدٌ أن يعمل“، أي في الوقت الذي لا يكون فيه الإيمان متاحًا، ولا الأتعاب ولا التوبة. أمَّا كون أن الإيمان يُدعىَ عملاً، فهذا ما نفهمه من السؤال الآتي: “ ماذا نفعل حتى نعمل أعمال الله” (يو6: 28)، أجاب: “هذا هو عمل الله أن تؤمنوا بالذي هو أرسله” (يو6: 29). إذن، كيف لا يمكن لأحد أن يعمل هذا العمل حين ذاك؟ لأنه ـ حينذاك ـ لا يكون الإيمان متاحًا كعملٍ يمكن أن يعمله أحد، بل ـ فقط ـ على الكل أن يسمعوا (حكم الدينونة).

         ولكي لا يقول أحدٌ: إنه يعمل هذا من أجل محبة المجد، يُظهر هو (أي المسيح) أنه يعمل كل الأعمال بسبب عنايته بهؤلاء الذين يمكنهم هنا على الأرض فقط أن يؤمنوا، ولا يستطيعون هناك أن يجنوا أية فائدة. لذلك لا يجب علينا أن نرفض الإيمان هنا على الأرض، بل نتمثل بالأعمى.

         فقد كان مستحقًا للشفاء، لأنه لو كان مبصرًا، لكان قد آمن، وكان قد أتى إلى المسيح بنفسه وأخذ المبادرة، وما كان قد بدا وكأنه غير مبالٍ، حتى لو كان قد سمع من مجرد شخصٍ كان هناك، ويظهر هذا واضحًا ـ فيما بعد ـ من رجولته وإيمانه، لأنه كان يمكن أن يفكر في نفسه ويقول: ما أهمية هذا في آخر الأمر؟ لقد صنع طينًا ومسح به عينيَّ، ثم قال لي: “ اذهب واغتسل“، فإن كان لا يستطيع أن يشفينى، فلماذا يرسلني إلى بركة سلوام بعد هذا؟

         لقد سبق له أن اغتسل مرات كثيرة مع آخرين كثيرين، ولم يأخذ أية فائدة. فعندما يكون لأحد قوة، فإنه يمكنه أن يشفي فى الحال. وذلك مثلما قال أليشع لنعمان، الذي إذ كان قد أخذ أمرًا بالاغتسال في الأردن، تردد، رغم أن أليشع كان يتمتع في ذلك الوقت بسمعة طيبة (راجع 2مل5: 10ـ11). لكن الأعمى لم يتردد، ولا تشكك، ولا فكَّر في داخله: ما أهمية هذا في آخر الأمر؟ أكان يجب أن يمسح عينيَّ بالطين؟ إن هذا الطين يعمي بالأكثر. مَن أبصر بواسطة هذه الطريقة من قبل؟ لم يفكر كل هذه الأفكار. هل رأيت إيمانًا ثابتًا واستعدادا راسخًا مثل هذا؟

         “ يأتي ليلٌ“. يعني بهذا إن عنايته بالفُجَّار سوف تستمر بعد صلبه، وسوف يرجع كثيرون إلى الإيمان لأنه ما زال نهار. أما الذين يرفضون الإيمان به وهم فى الحياة الحاضرة، فإنه يبعدهم تمامًا فى الدهر الآتى.

         وأريد أن ألفت نظركم لهذا: إذا كان قد قال: “ما دمت في العالم، فأنا نور العالم“، وقال لآخرين: “مادام لكم النور آمنوا بالنور لتصيروا أبناء النور” (يو12: 36)، فلماذا يسمي بولس الحياة الحاضرة ليلاً، أو اليوم الآتي؟ أقول إن هذا لا يتعارض مع ما قاله المسيح، فهو هنا يقول نفس القول، وإن لم يكن بذات الألفاظ، فبنفس المعنى. فعندما يقول: ” قد تناهى الليل وتقارب النهار” (رو13: 12)، فهو يعني أن الحياة الحاضرة تُدعى ليلاً بالنسبة لأولئك الجالسين في الظلمة، فهو هنا يقارن الليل بالنهار. وبينما يدعو المسيحُ الحياةَ الآتية ليلاً لأنها تخلو من مغفرة الخطايا، يدعوها بولس ليلاً من أجل هؤلاء العائشون في الظلمة، والذين يحيون في الظلمة وعدم الإيمان. ولكنه حين يتوجه بكلامه إلى المؤمنين يقول: ” قد تناهى الليل وتقارب النهار“، وذلك لأنهم سيستمتعون بذلك النور. وهو يدعو الحياة القديمة ليلاً؛ لأنه يقول: ” فلنخلع أعمال الظلمة ونلبس أسلحة النور” (رو13: 12).

 

النور الإلهى أعظم من نور الشمس:

هل رأيت بأي معنى يقول لأولئك أنه ليلٌ؟ لذلك وبنفس الطريقة يقول لنا: ” لنسلك بلياقة كما في نهار” (رو13:13)، لكي نستمتع نحن بذلك النور. ويمكننا أن نعرف مدى جمال هذا النور إذا تأملنا عظمة نور الشمس قياسًا بنور مصباح، فكم بالأكثر جدًا يكون النور الإلهي أعظم من نور الشمس؟ ولكي يعلن هذا قال: ” تظلَّم الشمس” (مت 24: 29)، بمعنى أنه بسبب ذلك البهاء الوفير لا يمكن للشمس أن تظهر[3].

اعمل من أجل المسكن النورانى:

وإن كنا نستدين أمولاً كثيرة من أجل أن نبني بيوتًا منيرةً وجيدة التهوية ونبذل مجهودًا كبيرًا من أجل هذا الأمر، فعلينا إذن أن نفكر فيما يمكن أن نقدمه من أتعاب كي نبني بيتًا بهيًا في ملكوت السموات، حيث يوجد النور الذي لا يوصف. وبينما تنشأ هنا المعارك والمشاحنات من أجل الحدود والحوائط، لا يوجد هناك شيء من مثل هذا، فلا حسد، ولا التفوه بكلام سيئ، ولا يتعارك معنا أحد لأجل حدود الممتلكات. وإذا كنا سوف نترك هذا البيت مجبرين على أية حال، لكننا هناك نكون دائمًا في مسكننا السماوي. هنا هذا البيت ـ بمرور الزمن ـ ينهار ويعاني من آلاف الأضرار، بينما ذلك البيت السماوي يبقى في غير فساد إلى الأبد، وهذا البيت (هنا) لا يستطيع الفقير أن يبنيه، بينما ذاك (السماوى) يمكن أن يبنيه بفلسين مثل الأرملة. لذلك نحزن حزنًا فائقًا؛ لأنه، بالرغم من أنه توجد خيرات كثيرة أمامنا إلاَّ أننا نتكاسل ولا نبالي، وبينما نبذل أقصى جهد لكي يكون لدينا بيتًا بهيًا هنا، لا نبالي ولا نهتم ولا ننشغل بالحصول على مسكن في السموات حتى لو كان مجرد خيمة صغيرة.

اخبرني إذن، أين تريد أن تأخذ مسكنًا هنا؟ أفي الصحراء أم في مدينة من المدن الصغيرة؟ أنا لا أعتقد في هذا، لكن أظن أنك ـ على الأقل ـ تريد أن تأخذ في المدن الملكية والعظيمة حيث يوجد غنىً عظيم وتجارةً. لكن أنا أقودك إلى مدينة مثل المدينة التي صانعها وبارئها هو الله. هناك سوف تبني مبنىً بأموال قليلة وبأقل تعب؛ لأن ذلك المسكن تبنيه أيدي الفقراء، قبل كل شيء. أمَّا ما يحدث الآن، فهو أمثلة للجنون الفظيع. شخصٌ يقتادك إلى أرض فارس، ويشير عليك أن تبني مسكنًا هناك، ألست تظهر حماقة شديدة بالبناء في أرض غريبة، فضلاً عن أن ذلك يجعلك تقترض بلا هدف؟ كيف إذن تفعل هذا الأمر في الأرض التي سوف تهجرها بعد قليل؟

قد تقول سوف أتركه لأولادي من بعدي. لكن حتى أولئك الأولاد بعد قليل من بعدك سوف يهجرونه، وقد يحدث ذلك قبلك، وبعدها أنت بقليل، لأنك سوف تُصاب بالإحباط عندما لا ترى ورثتك يسكنونه. لكن هناك في السماء لا يحدث مثل هذا الأمر على الإطلاق، فلا تخف، فإن ما تناله سوف يبقى ثابتًا لك ولأولادك ولأحفادك إذا عاشوا نفس الفضيلة. هذا المسكن يبنيه المسيح. هذا المسكن لا يحتاج أن تعيِّن مشرفين عليه، ولا تحمل همه ولا تعتني به؛ لأنه عندما يأخذ الله على عاتقه هذا الأمر فما هو لزوم الاهتمام؟ ذاك الذي يجمع الكل ويبني المسكن. وليس هذا فقط ما يثير إعجابك، بل إن الله هكذا يبنيه، كما تريد وكما يعجبك؛ فهو فنان عظيم يعتنى ويحرص جدًا على مصلحتك. وإذا كنت فقيرًا وتريد أن تبني هذا المسكن فلا أحد يحسدك، ولا يتفوه بكلام سيئ عليك لأن لا أحد يراه من أولئك الذين يحسدون، لكن يراه الملائكة الذين يفرحون معك لحصولك على هذه الخيرات. لا أحد يستطيع أن يتسلط عليه؛ لأن لا أحد يسكن بالقرب منه مِن هؤلاء الذين يعانون من مثل تلك الأمراض. جيرانك هناك هم القديسون، بولس وبطرس وكل الأنبياء والشهداء، جمهور الملائكة ورؤساء الملائكة.

حسنًا، إذن، تعالوا نقدم كل ما لدينا من مقتنيات في هذه الحياة للفقراء لكي نفوز بتلك الخيام التي نتمنى أن نفوز بها جميعًا بنعمة محب البشر ربنا يسوع المسيح الذى له المجد مع الآب والروح القدس إلى أبد الآبدين آمين.

 

(عظة 57)

”قال هذا وتفل على الأرض وصنع من التفل طينًا وطلى عيني الأعمى. وقال له اذهب واغتسل في بركة سلوام”

(يو9: 6 ـ 7)

 

المسيح هو الطبيب الشافى

     هؤلاء الذين يحصلون على فائدة ما من القراءات يجب ألاَّ يبتعدوا ولو قليلاً جدًا عن ما قيل؛ لأنه لأجل هذا أخذنا على عاتقنا وصية تفسير الكتب المقدسة؛ لأن أغلبية الكتب، بالرغم من أنها مفهومة مباشرةً، إلاَّ أنها تحتوي على مفاهيم كثيرة مستترة في الأعماق.

انتبه إذن، ما هو معنى هذا المقطع من الإنجيل؟ فهو يقول: ” قال هذا وتفل” ما هذا الذي قاله؟ لقد قال: ” لكي تظهر أعمال الله” (يو9: 3)، و” يجب أنْ أعمل أعمال الذي أرسلني” (يو9: 4). لكن الإنجيلي لم يذكر لنا ذلك ببساطة أو كيفما اتفق، بل أضاف “وتفل”، لكي يعلن لنا أن المسيح يؤكَّد أقواله بأعماله. ولماذا لم يستخدم ماءً على التراب، بل تَفَلَ؟  لأنه، بما أنه سوف يرسله إلى بركة سلوام ليغتسل، فقد يعتقد البعض أن قوة الشفاء تكمن في النبع. لكن لكي تعلم أن القوة التي خرجت من فمه هي القوة خلقت الأعين وفتَّحتها، تَفَل إلى أسفل. وهذا ما قصد الإنجيلي أن يعلنه، ولذلك قال: “وصنع من التُفل طينًا“. ولكي لا يبدو أن الأرض (الطين) هي مصدر هذا الإنجاز، أعطى أمرًا أن يغتسل.

     فلماذا لم يرسله إلى بركة سلوام من البداية؟ لأنه أراد أن يكشف مدى إيمان الأعمى، وبالتالي يغلق الطريق على جحود اليهود؛ لأنه كان من الطبيعي أن يراه الكل آتيًا وعينيه مطليةً بالطين؛ وبهذا التناقض يجذب ناحيته كل الأنظار، الذين يعرفونه والذين لا يعرفونه. هؤلاء سوف يضعونه تحت أعينهم، وفي بؤرة اهتمامهم؛ لأنه، وبسبب أنه ليس من السهل أن يؤمن أحدٌ أنه فتَّح عيني مولود أعمى، جعلهم ـ بواسطة انجذاب الكثيرين لغرابة الموقف ـ شهودًا كثيرين، وشهود عيان للموقف الغريب، حتى يصيروا منتبهين بالأكثر لكي لا يشكّوا فيه ويقولوا متسائلين فى حيرة: “هذا هو، ليس هو”. ولأنه لم يرد أن يظهر ذلك الأعمى وكأنه غريب عن الناموس والعهد القديم، لذلك أرسله إلى بركة سلوام.

     وكان من الممكن للأعمى أن يتساءل عن طبيعة المجد الذي نالته بركة سلوام، طالما أن كثيرين في مرات كثيرة، بالرغم من أنهم غسلوا هناك عيونهم، إلاَّ أنه لم يحدث لهم شيئًا مثل هذا؟ لكن بالتأكيد أن قوة المسيح هي التي فعلت كل شيء. لأجل هذا يضيف الإنجيلي التفسير المناسب؛ لأنه عندما قال “سلوام”، أضاف قائلاً: ” الذي تفسيره مرسل“، لكي تعلم أن المسيح هو الذى شفاه هناك، مثلما يقول بولس بالضبط ” لأنهم كانوا يشربون من صخرة روحية تابعتهم والصخرة كانت المسيح” (1كو10: 4). فمثلما كانت الصخرة الروحية هى المسيح، هكذا سلوام كانت أيضًا روحيًا هى المسيح.

 

طاعة الأعمى للمسيح

     أنا أعتقد أن الظهور المباغت للمياه هنا يذكِّرنا بسرٍ خفي. ما هو إذن هذا السر؟ إنه الظهور غير المتوقع، إنه الأمر الذى صار ويتخطى أى توقع.

     انتبه أيضًا لرأي الأعمى الذي أطاع في كل شيء، فهو لم يقل: إذا كان التراب أو التُفل هو ما يمنح قوة البصر كاملة لعينيَّ، فما حاجتي إذن لبركة سلوام؟ أو إن كنت أحتاج لبركة سلوام، ما هي حاجتي للطين؟ لأي سبب مسح عينيَّ؟ لماذا أمرني أن أذهب لأغتسل؟ إن شيئًا من هذا لم يفكر فيه، ولكن كان متأهبًا لأمرٍ واحدٍ: أن يطيع كل ما أمره به المسيح، لأن أمرًا واحدًا مما أمره به المسيح، لم يُعثِره.

 

كيف أبصر الأعمى:

وقد يتبادر إلى ذهن أحدكم أن يقول: كيف أبصر الأعمى عندما وضع طينًا فوق عينيه؟ لن تسمع منا شيئًا آخر، إلاَّ فقط إننا لا نعرف. وليس هناك عجبًا إن كنا لم نعرف؟ فلا الإنجيلي عَرِف، ولا الأعمى الذي شُفيَ، لكن إن كان قد عَرِف ما حدث، إلاَّ أنه لم يدرك الطريقة. وهذا هو ما قاله عندما سُئل: ” صنع طينًا وطلى عينيَّ وقال لي اذهب إلى بركة سلوام واغتسل. فمضيت واغتسلت فأبصرت” (يو9: 10). أمَّا كيف صار هذا، فهو ما لا يمكن أن يجيب عنه حتى لو سألوه مرات لا حصر لها. “فالجيران والذين كانوا يرونه قبلاً أنه كان أعمى قالوا أليس هذا هو الذي كان يجلس ويستعطي. آخرون قالوا هذا هو”؛ لأن اختلاف المظهر الذي نتج عن المعجزة أدى بهم إلى عدم التصديق، بالرغم من أنه كان قد حدث ما هو أكثر من هذا لكي يؤمنوا. آخرون قالوا: ” أليس هو هذا الذي كان يجلس ويستعطي“، يا لعظمة محب البشر!! لقد نزل ليشفِ ـ برحمته العظيمة ـ المتسوِّلين ويغلق بفعله أفواه اليهود؛ لأنه أظهر نفس العناية ليس فقط بنخبة المجتمع والمشهورين فيه، والرؤساء، لكن للمهمَّشين؛ لأنه جاء لأجل خلاص الكل.

وما صار في حالة المشلول، صار أيضًا في حالة الأعمى. فالمشلول لم يكن يعرف من هو الذي شفاه، ولا الأعمى أيضًا كان قد رآه رؤى العين؛ لأنه كان قد ذهب إلى بركة سلوام وهو بعد ما يزال أعمىً. ولأن المسيح أيضًا كان قد رحل.

يرتحل المسيح عادةً، ويظل مختفيًا حتى تتخلص المعجزة من أية شبهة تثار حولها؛ لأن هؤلاء الذين لم يعرفوا من هو، كيف يمكنهم أن يفرحوا ويصفوا ما حدث لهم؟

     وبالرغم من أنَّ مَن شُفي لم يكن غريبًا، بل كان من هؤلاء الذين يجلسون بالقرب من أبواب الهيكل، فقد أظهر الكل شكوكًا فيه. فماذا يقول هو عن نفسه؟ “أنا هو”، فهو لم يشعر بخجلٍ لعماه السابق، ولا خاف غضب الشعب، ولا تجنب أن يظهر ذاته ليكرز بمَن أقامه      “ فقالوا له كيف انفتحت عيناك. أجاب ذاك وقال إنسانٌ يقال له يسوع“. ماذا تقول؟! أيمكن لإنسانٍ أن يفعل مثل هذا؟ واضحٌ إذن أنه لم يكن يعرف شيئًا عنه منذ البداية ” إنسانٌ يقال له يسوع صنع طينًا وطلى عينيَّ“. انتبه إلى أنه يقول الحق. فهو لم يروِ كيف صنع المعجزة (لأن ما لا يعرفه لا يمكن أن يقوله)، لأنه لم يرَ أنه تفل على الأرض، وإنه طلى بالطين عينيه، لقد أدرك ذلك بالإحساس واللمس   ” قال لي اذهب إلى بركة سلوام واغتسل“، والسمع يؤكد هذا. ومن أين عرف صوته؟ من مناقشته مع تلاميذه. وبينما يقول كل هذا أخذ تأكيدًا بواسطة الأعمال، لكن لم يستطع أن يصف الطريقة التي حدث بها ذلك. لأن الإيمان لا يحتاج إلى المحسوسات والأمور الملموسة، ولكنه يعتمد بالأكثر على الأمور غير المنظورة. ” فقالوا له أين ذاك. قال لا أعلم“. لقد قالوا له “أين ذاك؟” في غيظٍ وحِدَّةٍ.

 

يسوع يغيب عن المشهد:

ولعلك تلاحظ تصرف يسوع اللائق، فهو لم يبقَ بالقرب ممن شُفي؛ لأنه لم يُرِد أن ينال مجدًا، ولا هو يقوم بالدعاية ليكسب تعاطف الشعب معه. ولاحظ أيضًا إن ما قاله الأعمى قد قاله حبًا في الحق. لقد أرادوا أن يروا يسوع حتى يقتادونه إلى الكهنة؛ ولأنهم فشلوا في هذا اقتادوا الأعمى إلى الفريسيين، الذين سألوه بطريقة فظة، وقد ذكر الإنجيلي أنه كان يوم سبت، وذلك حتى يُظهر توجههم الشرير، والسبب الذي لأجله كانوا يطلبونه، وقد وجدوا في الأمر دافعًا ليتهموه (ليتهموا المسيح) وهكذا يمكنهم أن يزيِّفوا المعجزة لتكون مخالفة للناموس. وهو ما اتضح من أنهم بمجرد أن رأوه، لم يقولوا شيئًا آخر إلاَّ “كيف فتَّح عينيك؟”.

     لاحظ أيضًا طريقة السؤال، لأنهم لم يقولوا له كيف أبصرت؟ بل ” كيف فتَّح عينيك؟”، لكي يعطوا الأعمى دافعًا لاتهامه بأنه عمل يوم السبت. لكن هذا الذي كان أعمى يتحدث إليهم في إيجاز معتبرًا أنهم قد سمعوا عما حدث؛ لأنه بدون أن يذكر اسمًا ما، أو أنه قال لي اذهب واغتسل، يقول مباشرةً ” طلى عينيَّ وقال لي اذهب إلى بركة سلوام واغتسل“. ويلاحظ أن نية التزييف قد ظهرت جليًا فيما قاله أولئك الذين سألوه عن أي عمل عمله المسيح في يوم السبت؟ طلى بالطين! عليك أيضًا أن تنتبه لحقيقة أن الذي شُفيَ لم يضطرب. فعندما تحدثوا معه ـ فى المقابلة الأولى ـ من الأمور التي حدثت، ولم يلمح خطر ما، لم يكن هامًا جدًا أن يقول الحق، لكن المدهش أنه ـ الآن ـ بالرغم من أنه لمح خطرًا عظيمًا، فإنه لم يرفض ولم يقل كلامًا مناقضًا لما سبق وأن قاله. وماذا فعل الفريسيون والآخرون؟ اقتادوه لكي ينكر، ولكن على النقيض، فذلك الذي لم يريدوا أن يعرفوه[4]، عرفوه بدقة كبيرة، وما كانوا يعانون منه في كل المعجزات التي أتمها المسيح، سنبينه بوضوح أكثر فيما بعد.

 

حفظ السبت:

     ماذا فعل الفريسيون؟ ” فقال قوم من الفريسيين ـ ليس كلهم، ولكن الوقحين منهم ـ هذا الإنسان ليس من الله لأنه لا يحفظ السبت“. آخرون قالوا ” كيف يقدر إنسان خاطئ أن يعمل مثل هذه الآيات؟” هل رأيت كيف تجذبهم المعجزات؟ لأن هؤلاء هم أنفسهم الذين أرسلوا أناسًا مسبقًا لكي يقتادوه أمامهم، اسمع ماذا يقولون الآن، فبالرغم من أنهم ليسوا كلهم، ولكن لأنهم كانوا من الرؤساء انقادوا جميعًا للعصيان بسبب محبتهم للمجد. لكن الأغلبية من الرؤساء آمنوا به، وإن كانوا لم يعترفوا به جهارًا. أمَّا الشعب الكثير، فكان مُهمّشًا لأنهم لم يشتركوا معهم قي مجمعهم، أمَّا الرؤساء فلأنهم كانوا معروفين وظاهرين، فكان من الصعب ان تكون لديهم شجاعة الاعتراف بالمسيح؛ لأنهم كانوا يحبون الرئاسة، فكثيرون منهم كان يستولي عليهم الخوف. لذلك قال (لهم الرب مرة): ” كيف تقدرون أن تؤمنوا وأنتم تقبلون مجدًا بعضكم من بعض” (يو5: 44). فمنهم من طلبوا أن يقتلوه ظلمًا، ولكن آخرين قالوا إنه إنسان الله، ولكن الذي شفى العميان لا يمكن أن يكون إنسان الله لأنه لم يحفظ السبت، هكذا كان فكرهم متباينًا، فالخاطئ لا يمكن أن يصنع مثل هذه المعجزات.

إذن، أولئك صمتوا؛ لأنهم صنفوا هذا الحدث باعتباره شرًا من الشرور، واتجهوا ناحية المخالفة الظاهرة للناموس؛ لأنهم لم يقولوا أنه شفى في السبت، بل “لم يحفظ السبت”. بينما اعترف الآخرون أيضًا بالحدث، وإن كان ذلك على استحياء؛ لأنهم بينما كان يجب عليهم أن يُظهروا كيف أنه لم يحفظ السبت، اعترفوا أن هذا الأمر من المعجزات، وكان هذا طبيعيًا طالما اعتبروه إنسانًا. لأنه إن لم يحدث هذا، لكانوا قد دعموا رأيهم بطريقة أخرى بأنه كان سبت وقت أن فعل هذا. لكن ليس هذا هو رأيهم.

 

انشقاق اليهود حول شخص المسيح:

     إذن لا أحد من هؤلاء تجرَّأ أن يقول بوضوح هذا الذي أرادوا أن يقولوه، ولا استطاع واحد منهم من التعبير عن رأيه الحقيقي بوضوح لكن في صياغة تعبِّر عن الشك. البعض بسبب أنهم لا يملكون الجرأة، والبعض الآخر بسبب محبتهم للرئاسة.

     وحدث انشقاقٌ فيما بينهم. هذا الشقاق، وإن بدأ أولاً يصير في الشعب، إلاَّ أنه انتقل بعد ذلك إلى الرؤساء ” بعضهم يقولون أنه صالح وآخرون يقولون لا بل يضل الشعب” (يو7: 12). هل رأيت كيف غاب الإدراك بالأكثر عن الرؤساء مما أدى إلى انقسامهم على بعضهم فيما بعد؟ وهم بعد هذا الانشقاق لم يقطع أي فريق منهم برأي حسن، مقتدين بالفريسيين. لأنهم لو كانوا قد انقسموا تمامًا، لكان يمكنهم أن يعرفوا الحق؛ لأن انشقاقًا تامًا كان من الممكن أن يحدث، ولأجل هذا قال الرب: ” لا تظنوا إني جئت لألقي سلامًا على الأرض. ما جئت لألقي سلامًا بل سيفًا” (مت10: 34). ويمكننا أن نؤكد إنه يوجد اتفاق شرير، كما يوجد اختلاف صالح. فالذين بنوا البرج كانوا على اتفاقٍ فيما بينهم على الشر، وأيضًا فإن هؤلاء انشقوا دون أن يكون انشقاقهم لمصلحتهم.

لقد اجتمعوا حول قورح[5] على الشر، لذلك كان حسنًا أنهم انشقوا على أنفسهم. ويهوذا كان على اتفاق مع اليهود على الشر. إذن، يوجد انشقاقٌ حسن، ويوجد اتفاق شرير. لذلك قال الرب: ” إن أعثرتك عينك اليمنى فاقلعها والقها عنك” (مت5: 29)، فإن كان ضروريًا أن نفصل عضوًا من أعضائنا إذا ما سبب لنا الشر، ألا يكون ضروريًا بالأولى أن ننفصل عن أصدقاء السوء الذين لا يليق الاتفاق معهم؟ هكذا لا يكون الاتفاق دائمًا حسنًا، مثلما لا يكون الشقاق دائمًا شرًا.

 

ينبغى أن نتجنب الشرور ونطلب الصالحات:

     إن ما أقوله لكم اليوم، إنما أقوله لكي نتجنب الشرور ونطلب الصالحات؛ لأننا عندما نقطع عضوًا فاسدًا من أعضائنا وغير قابل للشفاء، فإننا إنما نفعل ذلك خوفًا على بقية الجسد حتى لا يصاب بذات الضرر. وإذا فعلنا ذلك، فليس عن احتقار لهذا العضو الفاسد، ولكن لكي نحافظ على بقية الجسد. إذا كان الأمر هكذا، فكم هو حري بنا أن نطبق هذا المبدأ على أولئك الذين يعاشروننا إذا كانت مقاصدهم شريرة؟ بالطبع لسنا في حاجة إلى التأكيد على محاولة تقويم هؤلاء إذا كان ذلك في استطاعتنا، حتى لا يتسببوا في أي ضرر لنا، لذا ينبغي علينا أن نقوم بكل ما من شأنه بلوغ هذا الهدف. لكن إذا بقى هؤلاء على حالهم دون إصلاح، وأصبحوا مصدر ضرر لنا، عندئذٍ يجب أن نقطعهم ونلقيهم عنا؛ لأن ذلك يكون ربحًا عظيمًا لنا في كل الأحوال. لذلك ينصحنا الرسول بولس فيقول: ” اعزلوا الخبيث من بينكم” (1كو5: 13)، وأيضًا: ” لم تنوحوا حتى يُرفع من وسطكم الذي فعل هذا الفعل” (1كو5: 2). لأن معاشرة الناس الأشرار شرٌ عظيم. فالطاعون ليس أسرع في العدوى، ولا الجرب أكثر تدميرًا للملوثين والمرضى بقدر الشر الناتج عن معاشرة الناس الأشرار، ” لا تضلوا. فإن المعاشرات الرديئة تفسد الأخلاق الجيدة” (1كو15: 33). ويقول النبى أيضًا: “ ابتعدوا عنهم واعتزلوا” (إر28: 45).

     إذن، ليتنا لا نصادق الأشرار، ولنبتعد عن أبنائهم أيضًا، ولا نعطي أهمية للقرابة ونواميسها أو التزاماتها، بل بالأكثر جدًا يجب أن نتجنب الأصدقاء، ومعارفهم أيضًا إذا كانوا أشرارًا؛ لأننا وإن كنا لم نُصَب بعد بأذىً، إلاَّ أننا لن نتمكن من تجنب السمعة الشريرة التي تلصق بنا طالما كان الذين هم من خارج عائلتنا لا يعرفون حقيقة حياتنا، بل يحكمون علينا بالنظر إلى مَن نعاشرهم. هذه الأمور أنصح بها النساء والعذارى (خاصة)؛ لأنه يقول: ” معتنين بأمور حسنةٍ قدام جميع الناس” (رو12: 17).

إذن فلنبذل أقصى طاقة حتى لا نكون سبب عثرة للقريب؛ لأن حياتنا حتى ولو كانت مستقيمة تمامًا، يمكنها أن تدمر الآخرين إذا أعثرناهم. وهل يمكن للحياة المستقيمة أن تُعثر أحدًا؟ نعم، لأن معاشرة الذين يحيون في استقامة لغير المستقيمين، تخلق سمعةً شريرةً. ولأن القريب يثق فينا ـ بالنظر إلى حياتنا المستقيمة ـ فإنه لا يرى في معاشرتهم شرًا. وهكذا، نتسبب فى إعثار القريب بمعاشرتنا لغير المستقيمين.

     هذا أقوله للرجال والنساء والعذارى. أترك لضميرهم أن يعرفوا بدقة كم من الشرور تنتج عن هذا الأمر. أنا لا أتهم أحدًا بالشر أبدًا، ولا أنسب تهمةً لأحد الكاملين في الإيمان، لكن اعلم أنه عندما يُضار الأخ البسيط في الإيمان من كمالك، عندئذٍ يجب أن نعتنى بهذا المريض، وحتى لو لم يتضرر هذا الأخ، فقد يُضار الوثني، لذلك أوصى الرسول ألاَّ نعثر أحدًا، حتى اليهود والوثنيين، وبالأولى أعضاء كنيسة الله ” كونوا بلا عثرة لليهود ولليونانيين ولكنيسة الله” (1كو10: 32). أنا لا أتهم العذارى بشيء شرير؛ لأني أحب البتولية والمحبة لا تفكر في الشر. إنني أعشق طريقة الحياة هذه، ولذلك لا أستطيع أن أفكر فيما هو عبث في الحياة. ولكن كيف أقنع هؤلاء الذين هم من خارج؟ لأنه ينبغي علينا أن نعتني ونحترص حتى لا نسبب عثرة لهؤلاء.

     هكذا ليت كل ما يخصنا يكون منظمًا حتى لا نعطى لأحد من غير المؤمنين فرصة لإدانتنا. وإذا كان الذين يحيون في استقامةٍ يمجِّدون الله، هكذا يصير من لا يحيون باستقامة سببًا للتجديف على الله. ليته لا يكون هناك عصاةٌ فيما بيننا، لكن بالأحرى تتألق أعمالنا لكيما يتمجد أبانا السماوي، ونستمتع نحن بمجده الذي أرجو أن نناله كلنا بنعمة ومحبة محب البشر ربنا يسوع المسيح الذي له المجد مع الآب والروح القدس إلى الأبد آمين.

 

(عظة 58)

”قالوا أيضًا للأعمى ماذا تقول أنت عنه من حيث إنه فتَّح عينيك. فقال إنه النبي، فلم يصدق اليهود”

(يو9: 17 ـ 18)

 

الحقيقة الساطعة والبحث عن دليل إدانة:

لا ينبغي أن ندرس الكتب المقدسة بطريقة عشوائية، حتى يمكننا أن نتجنب الصعوبات الناجمة عن ذلك. فالمرء قد يتشكك لأنهم قالوا عنه ” ليس من الله لأنه لا يحفظ السبت” (يو9: 16). فقالوا له: “ماذا تقول أنت عنه من حيث أنه فتَّح عينيك“، ولم يقولوا: ماذا تقول أنت عن الذي خالف راحة السبت؟ لقد وضعوا السؤال في صيغة التبرير لا الإدانة. ماذا يمكن لنا أن نقول في هذا الشأن؟ أليس هؤلاء هم مَن قالوا “هذا الإنسان ليس من الله“؟ لكن مَن اختلفوا معهم وقالوا: ” كيف يقدر إنسان خاطئ أن يعمل مثل هذه الآيات“، كانوا يريدون أن يسدوا أفواه أولئك، ولكن حتى لا يعتقد الفريق الآخر أنهم يدافعون عن المسيح دعوا أمامهم هذا الذي شُفي وسألوه.

انتبه إذن لحكمة هذا الإنسان البسيط؛ لأنه يتحدث بفهم أكثر من الجميع. في البداية يقول إنه “نبي”، ولم يخَف من إدانة هؤلاء اليهود الفاسدين الذين اعترضوا وقالوا ” هذا الإنسان ليس من الله لأنه لا يحفظ السبت“، بل قال “ إنه نبي، فلم يصدِّق اليهود عنه أنه كان أعمى فأبصر حتى دعوا أبوي الذي أبصر“. لعلك تلاحظ كمّ من طريقة يريدون بها أن يغطوا على المعجزة ويحاصرونها، لكن الحقيقة ـ وهذه طبيعتها ـ تصير أكثر قوةً وبهاءً بواسطة ما يحاك ضدها من دسائس. فلو لم تُحَك هذه الدسائس، لَنشأت شبهات كثيرة حول ما إذا كانت المعجزة قد تمّت أم لم تتمّ. فها هم يستعدون لعمل كل ما من شأنه أن يدينوا به المسيح لا أن يبحثوا عن الحقيقة، وبهذه الطريقة شرعوا يسألونه ” كيف فتَّح عينيك“، ربما بطريقةٍ سحرية؟ لأنه في حالة أخرى، عندما لم يكن لديهم ما يدينونه به شرعوا في تشويه طريقة الشفاء قائلين: “هذا لا يُخرج الشياطين إلاَّ ببعلزبول رئيس الشياطين” (مت12: 24). فهنا أيضًا إذ لم يكن لديهم ما يقولونه، لجأوا للتعلل بأن الوقت كان غير مناسب قائلين ” لم يحفظ السبت“، وأيضًا “هو خاطئ”.

وأنتم يا من تحنقون عليه وتريدون أن تدينوا أعماله، دعوني أسألكم: ” من منكم يبكته على خطية” (انظر يو8: 46)؟ لم يتحدث أحد، لم يقل أحد أنه قد جدَّف لأنه يدعو نفسه غير خاطئ بما أنه بلا خطية. فلو كان لديهم عليه شيء، لما صمتوا؛ لأن هؤلاء هم الذين أرادوا أن يرجموه عندما سمعوه يقول إنه كائنٌ قبل إبراهيم، وقالوا عنه عندئذٍ إنه ليس إنسان الله، وبينما كانوا يفتخرون بأنهم أبناء الله كانوا في الواقع قتلة. وعندما شفى المولود أعمى قالوا ليس هو إنسان الله لأنه لم يحفظ السبت. إذن، لو كان لديهم عليه ولو شئ صغير، لكانوا قد اشتكوه وأدانوه، ولما تركوا هذا الأمر يفلت منهم. لأنهم لم يترددوا في أن يدعوه خاطئًا لأنهم اعتبروه لم يحفظ السبت، هذا الاتهام الذي بدا لا أساس له عندما لم يحسم الفريق الآخر النقاش معهم، فلم يقطعوا فيه برأي نتيجة الخوف.

حاصر اليهود الذي شُفي إذن من كل جهة، وأتوا معه عملاً أكثر وقاحة. ما هذا العمل؟ “ لم يصدِّق اليهود عنه أنه كان أعمى فأبصر“. كيف إذن يتهمونه بأنه لم يحفظ السبت في الوقت الذي لا يصدقون فيه ما حدث؟! كيف أهملوا الشعب الكثير، والجيران الذين كانوا يعرفونه؟ لكن كما قلت سابقًا، فإن الكذب يسقط دائمًا من ذاته، وذلك بنفس الوسائل التي يظن المرء أنه يحارب بها الحقيقة، تلك الحقيقة الظاهرة اللامعة، مثلما يحدث أمامنا الآن.

 

شهادة أبويه:

وحتى لا يتذرع أحدٌ بأن ما يقوله الجيران ومن يعرفونه غير دقيق، أحضروا أبويه أمامهم باعتبارهما أكثر الناس معرفةً بابنهما، وبذلك برهنوا ـ دون أن يدروا ـ على صدق الحدث الذي صار. إذن فهم لم يستطيعوا أن يبثوا الرعب في قلبه، بل رأوه أنه يكرز بمَن شفاه في جرأة كاملة ، ولذلك اعتقدوا أنهم ـ باستجوابهم أبويه ـ سيطعنون المعجزة في مقتل. ولعلك لاحظت خبث سؤالهم، وقد اقتادوهما أمامهم حتى يضعوا الكل في صراع، وسألوا أبويه بصرامة وغضب: “أهذا ابنكما؟” لم يقولوا: الأعمى، لكن ” الذي تقولان أنه وُلِد أعمى“؟ لقد كانوا أشرارًا يتصرفون ضد المسيح. أناسٌ دنسين ونجسين. ومن هو الأب الذي يقبل أن يقول شيئًا كاذبًا عن ابنه؟ لأنه كأنهم يقولون لهما: هذا جعلتماه أعمىً، وليس ذلك فقط، بل وقلتما ذلك في كل مكان، فكيف يبصر الآن. يا لها من غباوة. يا لها من مكيدة وافتراء. أنظر كيف يستخدمون تعبير ” الذي تقولان“، و” كيف يبصر الآن“، حتى يجبرونهما على التنكر لابنهما.

لقد سألوهما ثلاثة أسئلة: أهذا ابنكما؟ هل كان أعمى؟ كيف أبصر؟ وقد أجابا فقط على سؤالين، أمَّا الثالث فلم يجيبا عنه.

لقد أدى هذا الاستجواب لإظهار الحق وليس العكس. إذ اعترفا به أنه ابنهما، وأنه شُفي، وإنهما يصدقانه. لأنه كيف يمكن للوالدين أن يُقرَّا بأمور كانا قد صمتا عنها بسبب خوفهم من اليهود؟ ماذا قالوا إذن؟ ” نعلم أن هذا ابننا، وإنه وُلِد أعمى. وأمَّا كيف يبصر الآن فلا نعلم. أو مَن فتَّح عينيه فلا نعلم. هو كامل السن. اسألوه فهو يتكلم عن نفسه” (يو9: 20ـ21). فبما أنهما قدماه على أنه جديرٌ بالتصديق، تركوه يعترف بنفسه. فهو ليس طفلاً، ولا هو متخلف ذهنيًا، لكنه يستطيع أن يؤكد الأمور التي تخصه، ” قال أبواه هذا لأنهما كانا يخافان من اليهود“.

لا حظ كيف يعرض الإنجيلي الأزمة، دون أن يعلِّق. أقول هذا لكي ألفت النظر إلى أنه عندما قال البعض منهم سابقًا أنه “يعادل نفسه بالله” (يو5: 18)، سكت الإنجيلي أيضًا، فلو كان هذا الرأي يهوديًا، وليس رأي المسيح أيضًا، لأمكن للإنجيلي أن يوضِّح أن هذا الرأي هو رأيٌ يهوديٌ.

إذن، فبما أن الوالدين قد وجها نظر اليهود إلى الذي شُفي، فقد نادوا عليه للمرة الثانية، ولم يطلبوا منه أنْ ينكِر أنَّ المسيح شفاه، ولكنهم ـ متسترين بالتقوى ـ يقولون له: ” اعط مجدًا لله“. إن ما قالوه لوالديه كان يعني أنْ ينكرا أن هذا ابنهما، وأنهما ولداه أعمىً، فبدا أن هذا أمر مضحكٌ، وحتى لا تكون وقاحة منهم أن يقولوا له كلامًا مباشرًا وواضحًا، لذلك غيَّروا طريقتهم قائلين ” اعطِ مجدًا لله“، بمعنى أنْ تعترف أنَّ هذا (أى المسيح) لم يفعل لك شيئًا ” نحن نعلم أن هذا الإنسان خاطئ“. كيف لم تمتحنوه عندما قال لكم “من منكم يبكتني على خطية” (يو8: 46)؟ من أين تعرفون أنه خاطئ؟

عندما قالوا للمولود أعمى “ اعطِ مجدًا لله“، لم يقل شيئًا. ولكن عندما قابله المسيح مدحه، ولم يُدِنه، ولا قال له لماذا لم تمجِّد الله؟ لكن ماذا قال له: ” أتؤمن بابن الله” (يو9: 35)، لكي تعلم أن الإيمان بابن الله هو إعطاء المجد لله. فلو لم يكن المسيح مساويًا للآب لما كان من الممكن إن يكون الإيمان به مجدًا، لكن، ولأن مَن يكرم الابن، يكون على صواب، إذ هو يكرم الآب أيضًا، لذلك لم يؤنب المسيحُ من كان أعمىَ.

 

كنت أعمى والآن أٌبصر

إذن، عندما انتظر اليهود من الوالدين أن ينكرا، لم يقولا شيئًا. وعندما رأى اليهود أنهم لم يحصلوا منه على شيء، جاؤوا به مرةً ثانيةً قائلين: ” هذا الإنسان خاطئ. فأجاب ذاك وقال أخاطئٌ هو لست أعلم. إنما أعلم شيئًا واحدًا إني كنت أعمى والآن أبُصر“. هل خاف الأعمى؟ لا، وكيف يمكن أن هذا الذي قال “ إنه نبي“، يقول بعد ذلك ” أخاطئ هو لست أعلم“، لم يقل هذه العبارة بنية الإنكار، بل أراد أن يبَّرِأ يسوع من الاتهامات، وذلك بالتأكيد على حقيقية الأمر، وليس بمجرد كلامه، ولكي يقدم دفاعًا جديرًا بالتصديق، مواجهًا اليهود بشهادة الشفاء؛ لأنه، وبعد جدال كثير، عندما قال: “ لو لم يكن هذا من الله لم يقدر أن يفعل شيئًا“، غضبوا جدًا لدرجة أنهم قالوا له: ” في الخطايا وُلدت أنت بجملتك وأنت تعلمنا“، فلو كان قد قال لهم هذا الأمر من البداية، فماذا كان بإمكانهم أن يفعلوا أو يقولوا؟

أخاطئ هو لست أعلم“. كأنه يقول: الآن لا أقول شيئًا عنه، ولا أُعبِّر عن رأيي من البداية، لكن ما أعرفه جيدًا، ويمكنني أن أُدعِّمه بقوة، هو أنه لو كان هو خاطئًا، لَما استطاع أن يفعل مثل هذه الأمور. لذلك لم يُقِم من نفسه شاهدًا، بل شهد بنزاهةٍ؛ لأنه لم يؤسس شهادته بأقوالٍ، بل على المعجزة التى حدثت.

ثم عادوا مرةً ثانيةً إلى طريقة الشفاء، مثلهم مثل بعض الصيادين الذين إذا ما حددوا فريستهم يبحثون عنها في كل مكان ويحاصرونها بكافة الطرق هنا وهناك. إذن عادوا إلى أقوالهم السابقة، ولأن أسئلتهم كانت بلا أساس وكانوا مزعزعين وغير ثابتين لكثرة ما سألوه، قالوا: ” ماذا صنع بك. كيف فتَّح عينيك؟” ماذا أجاب الرجل؟ وإذ كان قد انتصر عليهم، لم يتحدث إليهم بنبرة هادئة؛ لأن الأمر بعدما يكون محلاً للفحص والتمحيص، فإن الحديث يكون كافيًا، لكن عندما أفحمهم وانتصر عليهم نصرًا باهرًا تحدث في جرأة وقال: ” قد قلت لكم ولم تسمعوا. لماذا تريدون أن تسمعوا“، هل رأيت شجاعته أمام الكتبة والفريسيين؟ وكما أن الحق يكون قويًا، فإن الكذب ضعيف، فعندما يكون الحق في جانب الضعفاء يجعلهم باهرين، بالرغم من ضعفهم. أمَّا الكذب، فيكشف ضعف الأقوياء رغم قوتهم. ما أقصده هو الآتي، كأنه يقول لهم: بما أنكم لم تنتبهوا إلى كلامي، لذلك لن أتحدث إليكم أو أجيبكم مجددًا، طالما أنتم تسألون دون هدف، ولا تريدون أن تستمعوا بقصد التعلّم، بل لأجل الإدانة، ” ألعلكم (أنتم) تريدون أن تصيروا له تلاميذ“؟ لقد صنف نفسه ضمن التلاميذ؛ لأن “ألعلكم أنتم” تشير إلى حديث إنسان يُظهر نفسه على أنه تلميذه، ومِن ثمَّ سخر منهم فضربهم ضربةً قاضية.

أما وقد أدرك إنه قد وبخهم كثيرًا، فقد قال هذا الكلام بقصد أن يضغط عليهم بطريقة أكثر شدة، الأمر الذي يُعد يكشف عن نفس قوية وغيورة، ودون أن يعير أي اهتمام لجنون اليهود، أظهر أن رتبة الرب عظيمة، تلك الرتبة التي يستند إليها في شجاعته العظيمة. وأعلن أن هؤلاء اليهود يحتقرون المسيح بالرغم من أنه رجل معجزات، بينما ما قالوه له (للمولود أعمى) لا يُعد من قبيل الاحتقار، بل نسبوا له كرامةً حين قالوا ” أنت تلميذ ذاك أمَّا نحن فإننا تلاميذ موسى“. غير أن هذا الأمر لا يستند على أي أساس منطقي؛ لأنكم لستم تلاميذ موسى، ولا تلاميذ يسوع. فلو كنتم تلاميذ موسى لكنتم بالضرورة تلاميذ يسوع. لذلك قال لهم المسيح: ” لأنكم لو كنتم تصدقون موسى لكنتم تصدقونني لأنه هو كتب عني” (يو5: 46). ولكنهم دائمًا ما يلجأون إلى أقوالٍ مثل ” نحن نعلم أن موسى كلمه الله“، مَن قال لكم هذا ومَن أخبركم به؟ أجدادكم، هكذا تقولون أنه مكتوب. لكن أليس المكتوب أجدر بالتصديق من أجدادكم؟ إنه يؤكد هذا الأمر بالمعجزات، وإنه أتى من الله، وإنه يقول أقوال الله. ولعلك تلاحظ أنهم لم يقولوا: نحن سمعنا إن الله كلَّم موسى، بل “نحن نعلم”، فهل تدعمون ما تسمعونه ـ أنتم أيها اليهودـ حتى تكونوا على قناعة بما تعرفون، فلماذا إذن تعتبرون ما ترونه أقل مما تسمعونه؟ إن ما سمعتموه لم تروه، بينما ما يحدث الآن قد رأيتموه ولم تسمعوه.

ماذا قال الذي شفي؟ ” إن في هذا عجبًا إنكم لستم تعلمون من أين هو“، لقد صنع مثل هذه المعجزات، وهو ليس واحدًا منكم أو من الرسميين، ولا من الظاهرين، ولا من المشاهير، لكنه يصنع هذه المعجزات وبهذا يظهر للكل أنه الله، ولم يكن في احتياج إلى معونةٍ بشريةٍ.

ويقولون أيضًا: “ونعلم أن الله لا يسمع للخطاة“؛ لأنهم قالوا قبلاً:   ” كيف يقدر إنسان خاطئ أن يعمل مثل هذه الآيات” (يو9: 16)، لقد ذكر رأيهم مرفقًا بأقوالهم. إن هذا الرأي هو رأيي أنا أيضًا، أبقوا إذن ثابتين على رأيكم. ولعلك تلاحظ مدى إدراكه، فقد كان دائمًا يصر على تكرار مسألة المعجزة؛ لأنه كان يصيغ آراءه منها، وهم أيضًا لا يمكنهم أن ينكروها.

هل رأيت أنه ـ ليس عن شك ـ قال: ” أخاطئ هو. لست أعلم” (يو9: 25)، لكنه كان يعرف أنه ليس خاطئًا. فالآن، حين وجد الفرصة المناسبة، دافع عنه قائلاً: ” نعلم إن الله لا يسمع للخطاة، ولكن إن كان أحد يتقي الله ويفعل مشيئته، فلهذا يسمع” (يو9: 31). إن الرجل لا يبرأ المسيح فقط من مسألة الخطايا، ولكن يقدمه على أنه مرضيٌ عنه تمامًا عند الله، وإنه يفعل مشيئته. ولأن اليهود قالوا عن نفسهم أنهم أتقياء، أضاف الأعمى “ويفعل مشيئته”. ومن ثم يُصعِّد الأمر قائلاً: ” منذ الدهر لم يسمع أن أحدًا فتَّح عيني مولود أعمى” (يو9: 32)، فإن اعترفتم أن الله لا يسمع للخطاة، فهذا (أى المسيح) صنع معجزة، ومثل هذه المعجزة لا يقدر أن يفعلها أي إنسان، وهنا يكون من الواضح أنه قد وضع كل واحد منهم في مواجهة الفضيلة، وإن هذه المعجزة أعظم من المقدرة البشرية.

 

اليهود يتطاولون على المولود الأعمى:

         ماذا إذن قال أولئك؟ ” في الخطايا وُلِدتَ أنت بجملتك وأنت تعلمنا؟” كان عندهم أمل أن ينكر، وأن يعتبروه جديرًا بالتصديق فيما لو أنكر المعجزة، واستدعوه لأجل ذلك. ومرة ثانيةً نقول: إذا كان الذي شفي غير جدير بأن يصدّقوه، فلماذا استدعيتموه للمرة الثانية؟ لكن وبسبب أنه قال الحق ـ دون أي خوف – أدانوه في الوقت الذي كان يجب أن ينال استحسانهم. ماذا يعني “في الخطايا ولدت أنت بجملتك”؟ لقد عايروه بقسوة بسبب عماه، وكأن لسان حالهم يقول: منذ بداية حياتك وأنت في الخطية، ملمحين له بأنه ولد أعمى لأجل هذا السبب، الأمر الذي يجافي المنطق. عمومًا لقد عزاه المسيح حين قال: “أتيت أنا إلى هذا العالم حتى يبصر الذين لا يبصرون ويعمى الذين يبصرون” (يو9: 39).

في الخطايا ولدت أنت بجملتك وأنت تعلمنا؟” بماذا أجاب هذا الإنسان؟ هل قال رأيه الشخصي؟ هل لم يكن يذكر قاعدةً عامةً عندما قال: ” ونعلم إن الله لا يسمع للخطاة“؟ ألا يتفق ما صنعه مع هذا الذي قلتموه؟ “فأخرجوه خارجًا”. هل رأيت كرازة الحق، كيف أن فقره لم يصر عائقًا للتقوى؟ هل رأيت كم سمع من البداية، وكم عانى؟ وكيف شهد بأقوال وأفعال؟.

 

وأنت لا تفقد شجاعتك بسبب أمور الحياة الحاضرة:

إن هذه الأقوال إنما كُتبت لكي نتمثل بذاك؛ لأن الذي شفي قبل أن يرى المسيح أظهر شجاعةً فائقةً قبل أن يشجعه المسيح، فقد وقف أمام كل الجمع الذي كان ضده، وكأن هذا الجمع قد ناله مس شيطاني وهوس، لذلك أرادوا أن يدينوا المسيح بواسطة أقوال هذا الذي كان أعمى، وبالرغم من ذلك لم يفقد شجاعته، ولا تراجع، بل بكل شجاعة سد أفواه اليهود وفضَّل أن يخرجوه خارجًا عن أن يخون الحق. فكم يجب علينا ـ نحن الذين عشنا في الإيمان، وأحسنَ الرب إلينا أكثر من هذا الأعمى، وأعادنا لنبصر بأعينٍ روحيةٍ ورأينا أسرارًا لا توصف، ودُعِينا لكرامةٍ عظيمةٍ – كم يجب علينا أن نظهر كل شجاعتنا لنشهد للمسيح أمام أولئك الذين يشرعون في إدانته بقولهم شيئًا ضد المسيحيين، لكي نسد أفواههم ولا نكتفي بمجرد احتمالنا لهم؟ يمكننا أن نفعل هذا إذا كانت لدينا شجاعةً وكنا واعين للكتب المقدسة، فلا نسمعها بلا مبالاة. فلو أن شخصًا جاء إلى هنا وكان منتبهًا، فسوف يكتسب خبرةً كبيرةً بالمكتوب، حتى وإن كان بعد لا يقرأ هذه الكتب في بيته؛ لأننا لا نقرأ اليوم هذه الكتب، ونقرأ غيرها غدًا، بل نقرأ ذات الكتب في كل يوم. لكن كثيرين هم الذين يستحقون الرثاء، فبرغم تكرار القراءة، لا يعرفون حتى أسماء الكتب، ولا يستحون ولا يرتعدون آتين باستهتار لمكان الحضور الإلهي.

لكن عندما يكون هناك عازف مشهور للقيثارة، أو قائد أوركسترا أو ممثل مسرحي، فالكل يسرعون باهتمام شديد، ويشكرون من دعاهم معترفين بالجميل له لأجل هذه الدعوة، ويقضون نصف اليوم كله منتبهين فقط لهذا الشخص، بينما عندما يتحدث إلينا الله بواسطة الأنبياء والرسل نتثاءب ونفرك عيوننا وتنتابنا الدوخة.

في أثناء وقت الحصاد ـ حيث توجد أدخنة كثيرة ـ نلجأ إلى السوق، وأثناء الشتاء حينما تعوقنا الأمطار والوحل والطين، نظل في البيوت، ولكن عندما يكون هناك سباقٌ للخيول، فبالرغم من أنه لا توجد أسقُف تحمي من المطر لا تتورع الأغلبية ـ بالرغم من سقوط الأمطار الكثيرة، وبرغم أن الهواء العاصف يلفح وجوههم ـ عن الوقوف لمراقبة المسابقات كالمجانين، غير عابئين بالبرد والمطر والوحل وطول الطريق، ولا شيء يفلح في إعاقتهم ليلزموا بيوتهم؛ بينما هنا (أى فى الكنيسة)، بالرغم من وجود المأوى والدفء، يهربون ولا يأتون، وكل هذا في الوقت الذي يعود فيه هذا الاجتماع عليهم بمنفعة لنفوسهم.

إذن، اخبرني كيف يتحملون كل هذا؟! لذلك فنحن أكثر خبرة من الجميع في الأمور العالمية، لكن فيما هو ضروري، نحن أجهل من الأطفال. وإن وصفك واحدٌ بأنك قائدُ مركبة خيل، أو بأنك موسيقيٌ (مايسترو)، فأنت تعتبر هذا إهانة لك، وتبذل كل الجهد في سبيل محو هذه الإهانة، لكن إذا دعاك لكي تشاهد الموسيقيين وقائدي المركبات المشتركة في السباق، فإنك لا ترفض، بل تُسرع خلف هذه الأمور. لكن ذاك الذي يجب أن تكون مثله، وتحمل اسمه، أي أن تكون مسيحيًا، فللأسف، أنت لا تعرف مَن هو؟ هل يوجد أمر أسوأ من هذا الجهل؟ سوف أتحدث إليكم عن هذه الأمور باستمرار. لكني أخاف، لئلا أكون قد صرت كاهنًا بلا نفع وبدون فائدة؛ لأنني أرى ليس فقط الشباب يستولي عليهم هذا الهوس، بل حتى الشيوخ أيضًا، الذين أخجل لأجلهم عندما أرى رجلاً ـ تضفي عليه شيبته وقارًا ـ يلهث وراء هذه الأمور في الوقت الذي كان يجب عليه فيه أن يخجل. أي شيء يمكن أن يكون أسوأ من هذه الأمور؟ أي شيء يكون أكثر وقاحةً من هذا العمل؟ الابن يتعلم من أبيه التصرفات الوقحة. هل تجرحكم أقوالي؟ هذا ما أريده. أنا أريد أن تعانوا ما تسببه لكم أقوالي من ألم، حتى تتخلصوا من هذه الأعمال الرديئة، طالما أن هناك أناسٌ معينون أكثرُ بلادةٍ من هؤلاء، لا يخجلون من هذه الأقوال، وليس هذا فقط، بل ويجادلون بأكثر حدة بخصوص هذه الأمور. فإذا سألتهم من هو عاموس، أو عوبديا، أو كم هو عدد الرسل والأنبياء، لا يستطيعوا أن يفتحوا أفواههم، لكن بخصوص الخيول وقائدي المركبات المشاركون في السباق، فحدِّث ولا حرج، أفضل من الحكماء والخطباء! وبعد هذا كله يتساءلون عن الضرر في ذلك؟ وما هو التلف الذي حصل؟ وهذا هو ما يجعلنى أتضايق، لأنكم لا تعرفون الضرر الذي ينطوي عليه ذلك، ولا تشعرون بكثرة الشرور التي يسببها.

إذا كان الله قد أعطاك عطية الحياة لكي تعبده، لكنك تقضي حياتك بلا هدفٍ، وفي الأمور المهلكة التي لا تفيد، أتسأل بعد ذلك ما هو الضرر؟! إذا أنفقت بضعةَ نقودٍ قليلة، فإنك تتضرر من ذلك، ولكنك إذا أنفقت كل أيامك في مواكب واحتفالات شيطانية، فإنك لا تعتقد أنك تفعل شيئًا شريرًا! وبينما يجب أن تمضي حياتك في التضرعات والصلوات، تصرفها بلا هدف ولشر نفسك في الصراخ والضوضاء والكلام البذيء والمعارك والمتع الشريرة وأعمال السحر، وبعد كل هذا تسأل ما هو الضرر؟ ألا تعرف أنه يجب أن نصرف وقتنا ـ أكثر من أي أمرٍ آخر ـ بحرصٍ شديد؟ إذا أنفقت نقودًا استطعت أن تحصل عليها مرةً أخرى، لكن إن فقدت الوقت، من الصعب أن تحصل عليه مرةً أخرى؛ لأن الوقت مُقصّر فى حياتنا الحاضرة. إذن إن لم نستخدمه كما يليق، ما الذي نقوله عندما ننتقل إلى الحياة الأخرى؟ اخبرني، لو أنك طلبت من واحدٍ من أولادك أن يتعلم فنًا من الفنون، فتقاعس ذاك وبقي في المنزل أو قضى وقته في غير مكان المدرسة، أفلا يطلبه المعلم؟ ألا يقول لك أكتب معي عقدًا يلتزم فيه ابنكم أن يقضي معي وقتًا محددًا، بحيث لو أنه لم يمضِ هذا الوقت بالقرب مني، لن يمكنني أن أجعله تلميذًا ناجحًا؟

هذا ما يجب أن نقوله نحن. سيقول الله لنا: قد أعطيتكم وقتًا لكي تتعلموا فن التقوى، وأنتم صرفتم هذا الوقت هباءً وعبثًا، لماذا لم تذهبوا إلى المعلم باستمرار ولا انتبهتم لأقواله؟ وأمَّا إنَّ التقوى فن، فاسمع ماذا يقول النبي: ” هلم أيها البنون استمعوا إلىَّ فأُعلِّمكم مخافة الرب“، وأيضًا “ طوبى للرجل الذي تؤدبه يا رب وتعلمه من شريعتك” (مز94: 12). إذن، عندما تقضي وقتك بلا هدف، أيُ دفاعٍ يكون لديك؟ وقد تقول: لماذا وقتًا في الحياة مُقصّر؟ يا لها من بلادة كبيرة! أتُدين مَن يجب أن تشكره لأنه قلل أتعابك، وقصَّر زمن مشقَّاتك وجعل راحتك طويلةً وخالدة؟

لا أريد أن نتوسع في هذا الحديث، بل أرى انه من الضروري أن نوجزه طالما يقدم مثالاً لبؤسنا، لأننا إذا أطلنا هنا الحديث، فسرعان ما نظهر لا مبالاتنا وعدم اهتمامنا، بينما نتحرك مبكرًا وما تزال مصابيح الشوارع مضاءة، حتى نجد مكانًا في مسابقات الخيول رغم أنها تبدأ في منتصف النهار. لكن حتى لا نشكوكم دائمًا، أرجوكم وأتضرع إليكم أنْ تعطونى الفرح لي ولنفوسكم. وإذ نتحرر من كل الأمور الأخرى، تعالوا نجعل أنفسنا تتطلِّع نحو الأمور المفيدة؛ لأنني سوف اجني منكم الفرح والابتهاج، وأفتخر بكم، وأنال مكافأة لأجل ذلك، أمَّا كل الأجر فسوف تنالونه أنتم. فإذا كنتم مأخوذين بهوس الحفلات الموسيقية، أضع أمامكم الخوف من الله، وتوسلي الشخصي حتى تحرروا أنفسكم من ذلك المرض. أكسروا القيود وأسرعوا نحو الله، عندئذٍ توفَّون أجركم ليس هناك فقط، بل وتجنون هنا اللذة الحقيقية، فمثل هذه اللذة هي الفضيلة مع المتوجين، وهكذا فإن الفضيلة تجعل الحياة سعيدة.

تعالوا إذن نؤمن بما قيل حتى ننال الصلاح هنا وهناك بنعمة ربنا يسوع المسيح محب البشر الذي له مع الآب والروح القدس المجد إلى أبد الآبدين آمين.

 

(عظة 59)

”فأخرجوه خارجًا. فسمع يسوع أنهم أخرجوه خارجًا فوجده وقال له أتؤمن بابن الله. أجاب ذاك وقال مَنْ هو يا سيد لأؤمن به”

(يو9: 34 ـ 36)

 

أُكرِم الذين يكرموننى:

     أولئك الذين يتعرضون للشر، ويُشتمون لأجل الحق، ولأجل اعترافهم بالمسيح، هؤلاء يُكرَّمون قبل الجميع. فإذا بذل شخصٌ أمواله لأجل آخر، عندئذٍ يسعى هذا الآخر قبل كل شيء لكي يعوِّضه عن هذه الأموال ويقدم له كل محبته. هكذا الذي يُشتم، فإنه يستحق التكريم. وقد حدث هذا الأمر مع مَن كان أعمى. لقد أخرجه اليهود وطردوه من الهيكل، لكن رب الهيكل وجده. لقد تخلَّص من محكمة الموت وقابل نبع الخلاص. أُهين من أولئك الذين أهانوا المسيح، ولكنه كُرِّم من ملائكة الرب (مثل هذه هي مكافأة الحق). هكذا نحن، إذا احتقرنا الأموال هنا، نجد الدالة هناك. إذا أعطينا هذه الأموال للمساكين، نستريح في السموات، وإذا شُتِمنا من أجل الله، نُكرم هنا في هذه الحياة وفي الآتية أيضًا.

 

الإيمان بابن الله:

عندما طُرد الرجل الذى كان أعمى من الهيكل، وجده يسوع. والإنجيلي هنا يُظهر أن المسيح جاء إلى الهيكل لأجل هذا الهدف، أي لكي يقابله. أنتبه إذن للمكافأة التي كافأه المسيحُ بها، إنها قمة الخيرات، فقد أعلن ذاته له لأن مَن كان أعمى لم يكن يعرفه مَن هو، وبهذا فقد وضعه في مصاف التلاميذ. لاحظ أيضًا كيف يصف الإنجيلي ـ بدقة ـ الحوار الذي دار فيما بينهما؛ فعندما قال المسيح: ” أتؤمن بابن الله؟”، يقول: ” مَن هو يا سيد لأؤمن به“؛ لأنه لم يكن يعرفه بعد، بالرغم من أنه هو الذى شفاه. لأن الذي شُفِيَ، قبل أن يأتي إلى مَن شفاه، كان قد اقتيد من اليهود الأردياء من هنا إلى هناك. ومثل مصارعٍ تعب تعبًا شديدًا في حلبة المصارعة ومِن ثَمَّ فهو يستحق التتويج، قال له: ” أتؤمن بابن الله؟”، ماذا يعني هذا؟ بعد معارضته الشديدة لليهود، وبعد كل ما قاله لهم، سأله: “أتؤمن؟” ليس لأنه كان يجهل إنْ كان يؤمن به أم لا، بل لأنه أراد أن يعلن له ذاته ويُبرهن له على أنه يقدِّر إيمانه به تقديرًا شديدًا. وكأن الرجل يقول للرب: شتمني جمع اليهود كثيرًا، ولكني لم أُعرهم اهتمامًا، شيءٌ واحدٌ أهتم به، أنْ أؤمن بك؛ لأن واحدًا يتمم مشيئة الرب أفضل من آلافٍ العصاة (راجع حكمة بن سيراخ 18: 3).

     ” أتؤمن بابن الله؟”، كأنه كان حاضرًا، وقَبِلَ كلام اليهود، هكذا يسأله. ففي البدء أخذ المسيح يثير في مَن كان أعمى الشوق إلى معرفته، لأنه لم يسأله: “ أتؤمن؟” بشكل عام، لكن تدرج معه بأسئلة متتابعة. ماذا قال الذي شفي؟ “مَنْ هو يا سيد لأؤمن به؟”، والتعبير هنا يكشف عن نفسٍ مشتاقة وراغبة في معرفته، فلقد كانت لهذا الشخص محبة كبيرة للحق. ولأنه لم يكن قد رآه بعد ” قال له يسوع قد رأيته والذي يتكلم معك هو هو“. في البداية لم يقل له يسوع أنا هو، ولكن بكلام غير مباشر قال: ” قد رأيته“. ولأنه لم يكن معروفًا لديه بعد، أضاف بكل وضوح: ” الذي يتكلم معك هو هو“. ” فقال أؤمن    يا سيد، وسجد له“. لم يقل له أنا هو مَن شفاك، أو أنا الذي قلت لك اذهب واغتسل في بركة سلوام، بل قال: ” أتؤمن بابن الله؟”. ولكي يؤكد الذي شفي إيمانه سجد له مباشرةً، الأمر الذي فعله قليلون من الذين شفاهم، مثل البُرَّص، وربما شخص آخر، لذلك أظهر (للمولود أعمى الذى شُفى) القوة الإلهية التى نالها، وحتى لا يعتقد أحدٌ إن ما قاله ليس أكثر من مجرد كلام، أضاف الأعمال إلى الأقوال.

 

البصر الروحى والعمى الذهنى:

     وعندما سجد له، قال المسيح: ” لدينونة أتيت أنا إلى هذا العالم حتى يبصر الذين لا يبصرون ويعمى الذين يبصرون“، وهذا أيضًا ما قاله بولس: ” فماذا نقول إنَّ الأمم الذين لم يسعوا في أثر البر أدركوا البر. البر الذي بالإيمان. ولكن إسرائيل وهو يسعي في أثر ناموس البر لم يدرك ناموس البر” (رو9: 30ـ31). وبقوله: ” لدينونة أتيت أنا إلى هذا العالم“، جعله أكثر قوة في إيمانه، بينما استفز أولئك الذين تبعوه وكانوا من الفريسيين. “لدينونةٍ”، قالها لكي يعلن أن هناك عقابًا عظيمًا، وإن مَن أدانوه هم المدانون أصلاً، هؤلاء الذين حكموا عليه كخاطئ هم المدانون. وهنا أنا أقصد نوعين من البَصَر ونوعين من العَمَى: البصر الحسى والذهنى، والعمى الحسى والذهنى[6].

         قال له مَن تبعوه: ” ألعلنا نحن أيضًا عميان؟”. ومثلما قالوا له في حالة أخرى ” أجابوه إننا ذرية إبراهيم ولم نُستعبد لأحد قط” (يو8: 33)، هكذا الآن أيضًا يلتفتون فقط للمحسوسات، ويرفضون أن يُقال لهم أنهم عميان، ولكي يبرهن لهم على أنه من الأفضل بالنسبة لهم أن يكونوا عميان، عن أن يكونوا مبصرين، قال: ” لو كنتم عميانًا لما كانت لكم خطية“. وقد قال لهم ذلك لأنهم اعتبروا الأمر مثارًا للسخرية، أقصد النكبة، ولكنه ألقى هذه النكبة على رؤوسهم بقوله: هذا صار لكم عقابًا أشد. لقد نحَّى الأفكار البشرية جانبًا، واقتاد البشر نحو سمو الفكر العجيب. ” ولكن الآن تقولون إننا نبصر“، لكنكم لا تبصرون. فما اعتبروه لائقًا بالمديح العظيم أى البصر الجسدي، صار سببًا للعقاب بالنسبة لهم، وبينما عزَّى من كان أعمى فإنه أشار إلى عماهم.

[1] العناوين الجانبية من وضع المترجم.

[2] ينظر الآباء للإنسان نظرة متكاملة، فهم يرونه كلاً متكاملاً، لا ينفصل فيه الجسد عن النفس، ولذلك ففي مقابل الأعضاء الخارجية هناك الأعضاء الداخلية، أو أعضاء النفس. وكما يمارس الإنسان حياته باستخدام الأعضاء الجسدية، كذلك يمارس أمور الروح بالأعضاء الداخلية للنفس، ولا يقتصر الأمر على القديس يوحنا ذهبي الفم، بل أن القديس مقاريوس الكبير على وجه التحديد يرى أن كل عضو من أعضاء الجسد الخارجية يقابله عضو ينسبه إلى النفس، فيقول فى عظته السابعة: كما أن أعضاء الجسد وهي كثيرة تدعى إنسانًا واحدًا هكذا النفس لها أعضاء كثيرة وهي: العقل، والضمير، والإرادة، والأفكار “المشتكية والمحتجة” (رو2 :15) وكل هذه تعتمد على وحدة النفس. إنها أعضاء النفس، أما النفس فهي واحدة، أي الإنسان الباطن. ولكن كما أن العيون الخارجية= =تكشف قدامها، من على بُعد، الأشواك والمهاوى والحفر، وتعطي إنذارًا مقدمًا، هكذا العقل حينما يكون في يقظة وانتباه، فانه يكشف حيل وخداعات القوة المعادية ويسبق فيحصن النفس مقدمًا، انه بالحقيقة هو عين النفس. فلنعطي المجد للآب والابن والروح القدس إلى أبد الآبدين آمين”، راجع عظات القديس مقاريوس الكبير، أيضًا عظات2و 15و49 ترجمة د. نصحي عبد الشهيد، المركز الأرثوذكسى للدراسات الآبائية، الطبعة الرابعة، يناير 2005.

[3] لاحظ عزيزي القارئ رؤية القديس يوحنا ذهبي الفم المتفردة لحادثة إظلام الشمس عند صلب= =السيد المسيح له المجد على الصليب، فهو يرى في المسيح المصلوب منظرًا أكثر بهاءً، تتوارى معه الشمس وتخفي شعاعها أمام نور من صنع خلاصاً في وسط الأرض كلها، وهو ما تقطع به صلاة الأجبية القبطية في قطع الساعة التاسعة على لسان اللص المصلوب معه، إذ تقول: “لما أبصر اللص رئيس الحياة معلقاً قال لولا أن المصلوب معنا إله متجسد ما كانت الشمس أخفت شعاعها ولا الأرض ماجت مرتعدة”، إن منظر الإله المتجسد الذي ينحني تحت الموت لكي ينجي خليقته من عبودية العدو، هو منظر يغطي على كل مصادر الضوء، لأنه منظر النور الحقيقي الذي ينير كل إنسان.

[4] يقصد حقيقة شخص المسيح الذى هو ابن الله.

[5] انظر عدد16.

[6] راجع ما قلناه سابقاً عن أعضاء الجسد وأعضاء النفس، وما أوردناه من أقوال رائعة للقديس مقاريوس الكبير.

 

شفاء المولود أعمى – ق. يوحنا ذهبى الفم – د. جورج عوض إبراهيم

تقييم المستخدمون: كن أول المصوتون !