آبائيات

لك القوة والمجد – ق. يوحنا ذهبى الفم – د. جورج عوض إبراهيم

لك القوة والمجد - ق. يوحنا ذهبى الفم - د. جورج عوض إبراهيم

لك القوة والمجد – ق. يوحنا ذهبى الفم – د. جورج عوض إبراهيم

 

لك القوة والمجد - ق. يوحنا ذهبى الفم - د. جورج عوض إبراهيم
لك القوة والمجد – ق. يوحنا ذهبى الفم – د. جورج عوض إبراهيم

 

 

(عظة 83 على يوحنا1:18ـ37)

” قال يسوع هذا وخرج مع تلاميذه إلى عبر وادي قدرون حيث كان بستان دخله هو وتلاميذه ” (يو18: 1).

 

ذهب إلى الألم بإرادته[1]:

يعتبرُ الموت أمرًا رهيبًا يبعث على الخوف الشديد، ولكن ليس للذين يعرفون الحكمة السمائية. فالموتَ يعتبر انحلالاً ونهايةً للحياة للذين ليس لديهم معرفةً واضحةً عن الأمور المستقبلية. لذا يكون من الطبيعي أن يرتعبوا ويخافوا على أساس أنهم ماضون نحو العدم. أمَّا بالنسبة لنا نحن الذين تعلمنا ـ بنعمة الله ـ الأمور غير المعروفة وخفايا حكمته، فنعتبر الموت انتقالاً من هذه الحياة الحاضرة إلى الحياة الأخرى. لذا ليس من الصواب أن نرتعب، بل أن نفرح ونبتهج. لأننا، إذ نترك هذه الحياة الفانية، ننتقل إلى الأخرى. إلى حياة أفضل جدًا وأكثر بهاءً وبلا نهاية.

هذا هو ما علَّمه المسيح بأعماله، فقد ذهب إلى الألم ليس عن قهر أو إجبار، بل بإرادته. ” قال يسوع هذا وخرج مع تلاميذه إلى عبر وادي قدرون حيث كان بستانٌ دخله هو وتلاميذه، وكان يهوذا مسلِّمه يعرف الموضع لأن يسوع اجتمع كثيرًا مع تلاميذه” (يو18: 1ـ2). لقد تمشى في منتصف الليل، وعبَر الوادى، وسار ليذهب إلى المكان الذي كان معروفًا للخائن. هكذا لم يُتعب أولئك الذين تشاوروا معه (أي مع يهوذا) وجنَّبهم التعب والحيرة بشأن المكان الذي يوجد فيه. وبذلك برهن لتلاميذه على أنه أتى إلى المكان الذي سوف يُلقى فيه القبض عليه، بإرادته، الأمر الذي يمكن أن يعزِّيهم. وجاء بنفسه إلى البستان، كما لو كان يتعمد أن يسلِّم نفسه إليهم.

هذا هو ما يعنيه بقوله: ” قال يسوع هذا“. لقد كان يتحدث مع بطرس بالتأكيد. وبالتأكيد كان يصلِّي. وأتساءل: لماذا أوقف الصلاة، وأتى للتو إلى هناك؟ لقد فعل ذلك، لأنه لم يكن يصلِّي، بل كان حديثًا صار لأجل التلاميذ الذين ذهبوا معه إلى البستان. وبهذه الطريقة خلَّصهم من الخوف، حتى لا يعترضوا على ما سمعوا منه[2]، بل يذهبوا معه إلى البستان.

أيضًا نتساءل كيف ذهب يهوذا هناك؟ من أين عَرِفَ المكان؟ واضحٌ تماماً أن المسيح ـ في مراتٍ كثيرة ـ كان يقضي الليل في هذا المكان. ولم يكن من الممكن أن يأتي يهوذا إلى هذا المكان الهادئ، لو كان المسيح يقضي وقته دائمًا في البيت. هكذا ذهب يهوذا إلى البستان وهو يأمل أن يرى المسيحَ نائمًا. وعندما تسمع كلمة “بستان”، لا تعتقد أنه اختفى. لذلك فقد أضاف يوحنا الإنجيلي قائلاً:    “وكان يهوذا مسلِّمه يعرف الموضع” (يو18: 2). وليس مجرد أنه يعرفه، بل “ لأن يسوع اجتمع هناك كثيرًا مع تلاميذه” (يو18: 2). فقد كان ينتقل مراتٍ كثيرة مع هؤلاء التلاميذ إلى أماكن خاصة لكي يتحدث معهم عن أمور ضرورية، لا يجب أن يسمعها الآخرون. كان يفعل هذا الأمر على الجبال وفي البساتين. كان يطلب دائمًا مكانًا هادئًا بلا ضوضاء حتى يهيئ عقولهم لسماع حديثة.

 

فأخذ يهوذا الجند وخدامًا من عند رؤساء الكهنة والفريسيين وجاء إلى هناك بمشاعل ومصابيح وسلاح ” (يو18: 3).

كثيرًا ما أرسلوا إليه أُناسًا لكي يقبضوا عليه لكن لم يتمكنوا. بالتالي، فمن الواضح آنذاك، أنه سلَّم ذاته بإرادته. ولكن، كيف اقنعوا كل هذه العُصبة أن يفعلوا هذا الأمر؟

هذه العُصبة كانت من رجال اعتادوا أن يعملوا جنوداً مقابل أموال. ” فخرج يسوع وهو عالم بكل ما يأتي عليه وقال لهم مَنْ تطلبون“. هكذا لم ينتظر أن يعرف منهم لماذا أتوا، لكنه تحدث إليهم وفعل كل شيء دون أي اضطراب، فقد كان يعرف كل ما سيحدث. لكني أتساءل لماذا أتوا بأسلحة لكي يقبضوا عليه؟ ربما خافوا من أتباع يسوع؛ لأجل هذا أتوا ليلاً.

 

قوة يسوع لا تُقهر:

وقال لهم مَن تطلبون، فأجابوه يسوع الناصري“. أرأيت القوة التي لا تُقهر، كيف أعمىَ عيونهم بمجرد حضوره بينهم؟ لم يكن الظلام هو سبب عماهم؛ لأن الإنجيلي قال إنه كانت لديهم مصابيح. ولكن، وإن لم تكن لديهم مصابيح، كان يجب أن يعرفوه من صوته. لأنه وإن كان أولئك لم يعرفوه، فقد عرفَه يهوذا، الذي كان قريبًا منه باستمرار.

إذن، فطالما كان موجودًا معهم، وسقط معهم على الأرض، فإن هذا يبرهن على أنهم ـ ليس فقط ـ لم يتمكنوا من القبض عليه، بل ولا حتى استطاعوا أن ينظروا إليه ـ على الرغم من أنه كان موجودًا بينهم ـ إن لم يسمح هو نفسه بهذا.

أيضًا يقول ” مَن تطلبون؟” يا له من جُبن شديد! كلامه أسقطهم على الأرض وهكذا تراجعوا. ولكن، على الرغم من أنهم اختبروا قوته العظيمة جدًا، إلاَّ أن ذلك لم يمنعهم من الهجوم عليه. وعندما أتموا كل ما كانوا قد عزموا أن يفعلوه، عندئذٍ سلَّم نفسه وقال لهم    ” أنا هو. وكان يهوذا مسلِّمه أيضًا واقفًا معهم“.

 

دعوا هؤلاء يذهبون:

لاحظ حكمة الإنجيلي يوحنا واعتداله، كيف أنه لم يشتم الخائن، بل سرد الحدث بهدف أن يُثبت أمرًا واحدًا فقط، هو أن كل شئ حدث لأن يسوع سمَح به. ولئلا يقول أحدٌ إن يهوذا هو الذي دلَّهم عليه، لذلك سلَّم ذاته. لقد اقتصر عمل يهوذا على أنه قد أظهره لهم، ورغم أن المسيح تركهم يفعلون كل ما كان مسموحًا به لهم، استمروا في شرهم دون أن يكون لديهم مبرر لذلك. عندئذ سلَّم ذاته قائلاً ” فإن كنتم تطلبونني فدعوا هؤلاء يذهبون“، مُظهرًا بذلك محبته لهم حتى آخر ساعة، وكأنه يقول: إن كنتم تطلبونني، فليس هناك شيئًا تأخذونه من هؤلاء؛ لأنني أنا أُسلِّم نفسي ” ليتم القول الذي قاله إنَّ الذين أعطيتني لم أُهلِك منهم أحدًا“. الهلاك هنا ليس موتهم الجسدي فقط، بل والأبدي أيضًا. والإنجيلي كان حاضرًا لهذا الموقف، وعاين تلك اللحظة.

وقد يُدهش أحدكم، كيف لم يُقبض عليهم معه، وكيف لم يُقتَلوا، خاصة في اللحظة التي فيها بَثَّ بطرس فيهم الجرأة بما فعله مع عبد رئيس الكهنة؟ مَنْ ـ إذن ـ الذي منعَّهم؟ لا احد إلاَّ تلك القوة التي طرحتهم على الأرض، الأمر الذي أظهره الإنجيلي بكل وضوح. فلم يمتنع اليهود بإرادتهم عن أن يسبّبوا أذىً للتلاميذ، بل كان الأمر رهنًا بقوة المقبوض عليه وقراره، لذلك أضاف: ” ليتم القول الذي قاله إن الذين أعطيتني لم أُهلِك منهم أحدًا“.

 

شجاعة بطرس وموقف يسوع:

لقد نال بطرس جرأةً وشجاعةً من أقوال المسيح. وهكذا فإن ما حدث هو أنه صار قويًا فى مواجهة أولئك الذين أتوا ضدهم. ولكن، كيف لمَنْ أخذ وصيةً ألاَّ يمتلك كيسًا ولا ثوبين، أن يمتلك سكينًا؟

أنا أظن أنه تجَهَّز منذ فترة؛ لأنه كان يخاف من وقوع هذا الحدث. لكن إن قُلت: كيف لمن أخذ وصيةُ ألاَّ يلطم، أن يصير قاتلاً؟ أقول: بالتأكيد، لقد أخذ وصيةً ألاَّ يدافع عن نفسه، بيد أنه لم يكن هنا يدافع عن نفسه، بل عن معلمه. إضافةً إلى أنهم لم يكونوا ـ بعد ـ كاملين روحيًا.

لكنك، إذا أردت أن ترى صلابة بطرس، فسوف تراه بعد ذلك يتحمل الأذى بوداعة، ويكابد آلامًا لا حصر لها دون أن يغضب.

يسوع هنا يصنع المعجزات، وفي نفس الوقت يُعلِّم أنه يجب أن نُحسن لمن يسيئون إلينا، ويعلن قوته، لذلك أرجع أُذن العبد. وأمَّا بطرس فقد قال له ” لأن كل الذين يأخذون بالسيف بالسيف يهلكون” (مت26: 52). وكما فعل بالضبط عند غسل أرجل التلاميذ، فقد أطفأ شِدة حماسه وغيرته عليه، هكذا هنا.

وقد أضاف الإنجيلي اسم العبد؛ لأن ذلك كان ضروريًا جدًا، ليس فقط لأنه شفى هذا العبد، بل لأن هذا العبد كان ضده، وقد لطمَّه، وبذلك أوقف المسيحُ الغضب الذي كان مشتعلاً ضد التلاميذ من جراء هذه الحادثة. وقد ذكر الإنجيلي اسم العبد حتى يعطي فرصةً للذين لا يعرفون هذه الأمور أن يناقشوها ويبحثوا إن كانت قد حدثت بالفعل أم لم تحدث. ولم يذكر الأذن اليُمنى مصادفةً، بل لأنه أراد أن يُظهِر اندفاع الرسول، أي أنه هوى بالسيف على رأسه. ولكن يسوع، لم يضبط اندفاع بطرس بالإنذار فقط، بل عزاه بكلام آخر قائلاً:     ” الكأس التي أعطاني الآب ألا أشربها“، وهكذا يظهر ـ مرةً أخرى ـ أن الحدث لم يكن نتيجة قوة أولئك، بل بسبب أنه سمَح به، ولكي يُعلن أنه لم تكن له إرادة ضد إرادة الله، بل أطاع أبيه حتى الموت.

 

أمام حنان:

ثم أن الجند والقائد وخدام اليهود قبضوا على يسوع وأوثقوه ومضوا به إلى حنَّان“. لماذا “إلى حنَّان”؟ لقد وجهَّوا الأحداث كما لو كانوا يحتفلون بنصرٍ، ويقيمون نُصبًا تذكاريًا للفوز. ” لأنه كان حما قيافا الذي كان رئيسًا للكهنة في تلك السنة. وكان قيافا هو الذي أشار على اليهود أنه خير أن يموت إنسانٌ واحدٌ عن الشعب“.

ولماذا يُذَّكرنا الإنجيلي بهذه النبوة؟

لكي يبرهن على أن هذه الأمور صارت لأجل الخلاص. ولكي يبرهن أيضاً على أن الحقيقة عظيمة جدًا، حتى أن الأعداء أنفسهم تحدثوا عنها. ولكي لا يتشكك أحدٌ ـ عندما يسمع عن القيود ـ أنَّ خلاص العالم تم بموته.

 

تواضع يوحنا الحبيب:

وكان سمعان بطرس والتلميذ الآخر يتبعان يسوع“. مَن هو     ” التلميذ الآخر“؟ هو الذي كتب هذه الأقوال (يوحنا الإنجيلي). ولماذا لم يُسمِ نفسه؟ لأنه عندما ذكر أنه اتكأ على صدر يسوع، أخفى اسمه. ولماذا فعل هذا الآن؟ لأجل السبب ذاته. فبما أن الجميع ابتعدوا وهربَّوا، أمَّا هو فقد تبعه، فالحديث هنا عن إنجاز عظيم، لذلك أخفى ذاته. وهو يذكر بطرس أولاً، لكي تعلم أنه يسرد الأحداث بدقة شديدة، إذ كان يتابع الأحداث من دار الولاية، أي من الداخل، ولم يكن لازمًا أن يذكر اسمه. ولاحظ أنه لا يمدح نفسه، حتى لا يقول أحدٌ ها هو يثني على نفسه. ولكن كيف دخل إلى دار الولاية، وسبق بطرس في الوقت الذي هرب فيه الجميع؟ يقول: “وكان ذلك التلميذ معروفًا عند رئيس الكهنة“. وهو يقول ذلك، حتى لا ينبهر أحدٌ بسبب إتباعه للمسيح، ولا يمدحه لأجل شجاعته. ولكن تجدر الإشارة إلى ما حدث لبطرس، فعلى الرغم من أنه كان خائفًا، فإنه وصل إلى الدار الخارجية، في الوقت الذي هرب فيه الآخرون. وقد كان هذا برهانًا على شوقه ومحبته.

 

بطرس يتابع مشهد الآلام وينكر المسيح:

أمَّا فيما يختص بعدم دخوله الدار الداخلية، فهذا يرجع إلى الصراع الذي كان يعتمل بداخله. وهكذا أتى الإنجيلي على ذكر كل هذه الأحداث، وربطها معاً لكي يهيئ الأمر للحديث عن إنكار بطرس. لذا لم يُشِر إلى نفسه بأي شيء هام، سوى فقط، أنه كان معروفًا لرئيس الكهنة، لذا ” دخل مع يسوع“. وحتى لا تعتقد أنه ذو شأن كبير، أشار إلى السبب (أي سبب دخوله). الأمر الذي كان يمكن أن يساعد بطرس على الدخول، وهذا هو ما أظهره فيما بعد.

فعندما دخل يسوع طلب يوحنا من البوابة أن تسمح لبطرس بالدخول. وللتو دخل بطرس. أمَّا لماذا لم يقم هو بإدخال بطرس للداخل؟ فلأنه كان ملتصقًا بالمسيح وملازمًا له، لذلك طلب من البوابة أن تقوده إلى الداخل. فماذا قالت المرأة؟ “ ألست أنت أيضًا من تلاميذ هذا الإنسان؟”

ماذا قُلت يا بطرس؟

ألم تقل من قبل أنني سوف ” أضع نفسي عنك“؟ (يو13: 27).

إذن ماذا حدث، حتى أنك لم تستطع أن تحتمل سؤال البوابة؟

فقد يكون مقبولاً أنك لا تحتمل السؤال لو كان مَن سألك جنديًا؟

أو كان واحدًا من الذين قبضوا على يسوع؟

ولكن التى سألتك كانت مجرد بوابة، في أدنى الدرجات الوظيفية.

ولم يكن سؤالها وقحًا؛ لأنها لم تقل إنك تلميذ هذا المضلل والمدمر، بل ” تلميذ هذا الإنسان“، الأمر الذي يعنى أنها امرأةٌ ممتلئةٌ عطفًا وحزنًا عليه. لكن بطرس لم يحتمل شيئًا من مثل هذا. ” ألست أنت؟” قالت هذا لأن يوحنا كان داخل دار الولاية. لقد تحدثت المرأة مع بطرس بتحفظٍ شديد. لكنه لم يُدرك شيئًا من هذا كله، ولا خطر على باله. ولا حتى عندما أنكر في المرة الأولى. ولا أيضًا في المرة الثانية. ولا في المرة الثالثة. ولا حتى صياح الديك جعله يتذكر، إلى أن حانت اللحظة التي فيها نظر إليه يسوع بنظرةٍ مملوءة بالحزن، بينما كان واقفًا هناك يستدفئ مع عبيد رئيس الكهنة، وكان المسيح مقيدًا بالداخل.

 

رئيس الكهنة يستجوب المسيح:

هذا نقوله، ليس لكي ندين بطرس، بل لكي نُظهر حقيقة الأقوال التي قالها المسيح:” فسأل رئيس الكهنة يسوع عن تلاميذه وعن تعاليمه“.

         يا له من خبثٍ فظيع!

         فبالرغم من أنه كان يسمع أن يسوع يتحدث دائًما في الهيكل ويُعلِّم بجرأة. يريد الآن أن يعلم!!

         لقد سألوه عن تلاميذه؛ لأنهم لم يكن لديهم أي اتهام ضد المسيح، ولذلك سألوه أين هم الآن؟ وبأي هدف تجتمع بهم؟ وما الذي تريد فعله؟ هذه هي الأسئلة التي وجهها رئيس الكهنة للمسيح، كأنه أراد أن يختبره ويحقق معه كمتمردٍ ومبتدع. وكما لو لم يكن هناك من رآه وهو يزاول نشاطه هذا. وكأن تلاميذه كانوا يشكلون عصابةً شريرةً. ماذا أجاب المسيح؟ ردَّ يسوع على هذا السؤال، وقال: ” أنا كلَّمتُ العالم علانية” ليس لفئةٍ خاصةٍ من التلاميذ، ” أنا علَّمت كل حين في المجمع وفي الهيكل” (يو20:18). ماذا إذن، هو لم يقل شيئًا في الخفاء، لقد قال هذه الأقوال دون أدنى خوف، وليس كما كان هؤلاء يظنون. فأقواله كانت أعلا من قدرات سامعيه الفكرية. كأنه يقول: لماذا تسألني أنا؟ سَل الذين سمعوا هذه الأقوال، فهي لا تتضمن أية إساءة.

لكن الرد الذي كان مقنعًا حقًا، هو ما قاله منذ البداية: ” إن كنت اشهد لنفسي فشهادتي ليست حقًا” (يو5: 31). وكأنه بهذا يقول: أريد أن أقدم شهادةً صادقةً. ولأن رئيس الكهنة سأله عن تلاميذه. وقال برده هذا ـ كما هو واضح من الإجابة ” أتسألني عن خاصتي“؟ اسأل الأعداء المتآمرين. أولئك الذين قيدوني، فليقولوا. وشهادة الأعداء للحق هي برهان غير قابل للشك. فماذا قال رئيس الكهنة؟ لم يفعل شيئًا، في حين كان عليه أن يتجه نحو الذين سمعوه ليستعلم منهم.

المسيح يُلطم:

ولما قال هذا لطم يسوع واحدٌ من الخدام كان واقفًا” (يو22:18). وأنا أتساءل هل هناك أوقح من هذا الذي حدث؟ ارتعدي أيتها السماء. واهربي أيتها الأرض من مكانك بسبب طول أناة الرب وجحود العبيد. ماذا قال؟ لم يتجنب الرد حين قال ” لماذا تسألني“، ولكنه تكلم أيضًا هذه المرة، بهدف أن يكشف عن كل ما في داخلهم من دوافع للجحود. وقَبِلَ اللطم بينما كان في استطاعته أن يبيد من أمامه كل شئ ويُمحوه. ولكنه لم يفعل أي شئ من هذا، بل قال كلامًا يمكن أن يُوقف أى وحشية: ” إن كنت قد تكلمت رديًا فأشهد على الردئ“، أي إن كان لديك إدانةً على كلامي أظهرها لي. “وإن حسنًا فلماذا تضربني؟” (يو23:18) أرأيت هذه المحكمة المليئة بالفوضى والاضطراب والغضب وخلط الأمور بعضها ببعض؟ وفي الوقت الذي سأله رئيس الكهنة في خسةٍ وجُبن، أجاب المسيح باستقامة ولياقة. ما الذى كان على رئيس الكهنة أن يفعله؟ إمِّا أن يواجهه بما لديه من اعتراضات، أو أن يقبل ما قاله. لكن شيئاً من هذا لم يحدث، بل لطمه العبد. يتضح لنا من ذلك أن ما جرى لم يكن محاكمة، بل مؤامرة واستبداد.

 

يسوع يُساق إلى قيافا:

ولكن، ولأنهم لم يجدوا فيه شيئًا يدينه، ” أرسله موثقًا إلى قيافا رئيس الكهنة” (يو24:18). “ وسمعان بطرس كان يصطلي” (يو25:18). يا حسرتاه! كم أصابه الدفء بالخمول في ذات اللحظة التي يُساق فيها يسوع إلى قيافا؟ وبالرغم من كل ما حدث لم يتحرك، بل ظل واقفاً يصطلي، وهو ما يُظهِر مدى الضعف الذي يصيب الطبيعة البشرية بدون (نعمة) الله. وعندما سُئل أيضًا، أنكر. ” ثم قال واحد من عبيد رئيس الكهنة وهو نسيب الذي قطع بطرس أذنه“. وكان بطرس مضطربًا مما يحدث. قال له العبد ” أما رأيتك أنا معه في البستان؟” (يو26:18). وحتى البستان لم يجعله يتذكر، ولا الحُب الشديد الذي عبَّر عنه هناك بأقواله. كان قد نسى كل شيء بسبب صراعه الداخلي.

         لماذا كتب الإنجيليون عن بطرس أقوالا متفقة عن إنكاره؟ ليس لكي يدينوا بطرس التلميذ، بل أرادوا أن يعلمونا كيف يصل الشر إلى مداه حتى أنه يجعلنا لا نثق بالله. ولا تكون لنا ثقة في أنفسنا. ثم لعلك تتعجب من محبة المعلِّم لأنه على الرغم من أنه كان مقبوضًا عليه ومُقيدًا، إلاَّ أنه اظهر عنايةً فائقةً بتلميذه. لقد فعل هذا بنظراته. وهذه النظرات جعلت بطرس يخرج ويبكى بكاءً مُرًا.

 

المثول أمام قيافا ثم بيلاطس:

ثم جاءوا بيسوع من عِند قيافا إلى دار الولاية” (يو28:18). كان الغرض من هذا أن يبدو هؤلاء القضاة قد فحصوا وحققوا بكل يقظة. “وكان صبح“. قبل أن يصيح الديك اقتادوه إلى قيافا. وفي الصباح جاءوا به إلى بيلاطس. بهذا اظهر الإنجيلي أن قيافا كان يستجوبه منذ منتصف الليل، ولكنه لم يجد يسوع مُذنباً. لأجل هذا أرسله إلى بيلاطس. وقد ترك الإنجيلي تفاصيل تلك الفترة؛ لأن الإنجيليين الآخرين تكلموا عنها. لذا فهو يُسجل كل ما حدث بعد ذلك.

 

ديانة اليهود الشكلية:

لاحظ اليهود الجديرين بالاستهزاء، لقد قبضوا على البار حاملين معهم أسلحتهم، ولكنهم لم يدخلوا إلى دار الولاية ” لكي لا يتنجسوا” (عدد28). أخبرني إذن: مَن هو النجس؟ أليس هو الذى يحكم على البريء ظلمًا ليحاكَم من الظالمين؟! إن هؤلاء الظالمين الذين يُعشِّرون النعناع والشبث (مت23:23، لو42:11) في الوقت الذي يمتنعون فيه عن الدخول إلى دار الولاية لئلا يتنجسوا، لم يشعروا بأنهم قد تنجسوا فعلاً عندما حكموا عليه بالقتل ظلمًا. ولماذا لم يقتلوه، بل اقتادوه إلى بيلاطس؟ من المؤكد أنه لم يكن في سلطتهم القيام بالأمر الأهم (وهو الحكم على أحدٍ بالقتل)، فقد كانت كل أمورهم تحت سلطان الرومان. ومن ناحية أخرى، ربما خافوا من أن يُعاقبوا بعد ذلك بسبب إدانتهم له.

ماذا يعني ” فيأكلون الفصح؟” (يتم الاحتفال بالعيد من أول يوم للفطير). عندما يقول “فصح أو بصخة” فإنه يقصد العيد ككل. أي من الوقت الذي كانوا يعيدون فيه بالبصخة. وقد سُلِّم المسيح قبل اليوم الأول للفطير. كان تحت الحفظ ليوم الاستعداد، الذي فيه كانوا يعيدون البصخة قديمًا. لقد جاء هؤلاء حاملين أسلحةً، وهو الأمر الذي لم يُكن مسموحًا به. وأخذ سافكو الدماء يفحصون دار الحاكم (ما إذا كان سينجسهم أم لا) ويجبرون بيلاطس أن يخرج إليهم.

 

بيلاطس يتفحص الأمر:

وعندما خرج، قال ” أية شكاية تقدمون على هذا الإنسان؟” (عدد29) هل رأيت هذا المتحرر من محبة الفضة والحسد؟ فعندما رآه مقيدًا وسط حشدٍ كبير، لم يتطرق إليه شكٌ في أنهم يملكون دليلَ إدانةٍ غير مشكوك فيه. ولكن الطريقة العشوائية التي حكموا بها عليه، ورغبتهم في تنفيذ الحكم عليه دون محاكمة قانونية، أثارت في نفسه العجب! فماذا قالوا؟

لو لم يكن فاعل شر لما كُنا قد سلَّمناه إليك” (يو30:18).

يا للغباء الشديد! لماذا لم تفصحوا عما أتاه من شرٍ، بل تخفوه؟

لماذا لم تُظهروا هذا الشر؟

هل رأيت كيف أنهم دائمًا ما يهربون من توجيه اتهام مباشر، وهم لا يستطيعون أن يقولوا شيئًا؟

لقد سأله حنَّان عن تعليمه، وعندما سمعه أرسله إلى قيافا. وقيافا سأله أيضًا ولم يجد فيه أيَّة عِلةٍ، فأرسله إلى بيلاطس. وهنا أيضًا ليس لديهم ما يقولونه عليه، سوى بعض الإدعاءات. ولذلك لم يعرف (بيلاطس) ماذا يفعل. وقال “خذوه أنتم واحكموا عليه حسب ناموسكم. فقال له اليهود لا يجوز لنا أن نقتل أحدًا“. ليتم قول يسوع الذي قاله ” مشيرًا إلى أية ميتة كان مزمعًا أن يموت” (عدد31و32).

فماذا كانوا يقصدون من قولهم: ” لا يجوز لنا أن نقتل أحدًا“؟ لا شك أن الإنجيلي كان يقصد أنه لا يمكن أن يموت عنهم وحدهم فقط بل لأجل الأمم أيضًا. أما هم فكانوا يقصدون أنه لا يجوز لهم أن ينفذوا حكم القتل بالصليب. فعندما قالوا ” لا يجوز لنا أن نقتل أحدًا” كانوا يقصدون أنهم يرفضون أن يتم القتل بالوسيلة التي كانت مستخدمة في هذا العصر تحديدًا، أي الموت بالصليب. لأنهم كانوا يقتلون بطرق أخرى، كما يظهر من حادثة رجم اسطفانوس.

 

الموت صلبًا لملك اليهود:

ولكن اليهود كانوا يريدون أن يموت المسيحُ مصلوبًا لكى يهينوه بطريقة موته. وإذ أراد بيلاطس أن يتخلص سريعًا من هذا الإزعاج، قصد أن لا تكون المحاكمة طويلة، بل سأل يسوع قائلاً: ” أنت ملك اليهود. أجابه يسوع أمِن ذاتك تقول هذا، أم آخرون قالوا لك عني“؟ (يو33:18).

فلماذا سأله المسيح هذا السؤال؟ لقد أراد المسيح أن يُظهر نية اليهود الشريرة. ولا شك أن بيلاطس قد سمع هذا من كثيرين؛ لأن أولئك اليهود لم يقولوا شيئًا عليه. ولكن، حتى لا يستغرق التحقيق وقتاً طويلاً، أراد أن يعرضه عليهم، فقال لهم ” خذوه واحكموا عليه حسب ناموسكم“. ولكن، ونظرًا لأنهم لم يريدوا أن يُظهروا أن العلةَ دينية، قالوا “ لا يجوز لنا“. كأنهم يقولون: إنه لم يخطئ وفق ناموسنا، فالجريمة مدنية وليست دينية. وعندما أدرك بيلاطس هذا الأمر، وعرف أنه سوف يتعرض للخطر، قال له ” أنت ملك اليهود“؟ بالطبع لم يسأل ـ بيلاطس ـ المسيحَ عن جهلٍ، بل أراد عن طريق ذلك السؤال أن يترك الفرصة لليهود ليوجهوا تهمةً ضده.

عندما قال المسيح لبيلاطس ” آخرون قالوا لك عني؟”، أراد بيلاطس أن يتحقق من هذا الأمر، فقال ” ألعلى أنا يهودي. أُمتك ورؤساء الكهنة أسلموك إليَّ. ماذا فعلت؟” (عدد35).

وإذ أراد بيلاطس أن يخلِّص نفسه، قال ” أأنت ملك اليهود“؟

وردَّ يسوع عليه بنفس الرد، إذ قال له، لقد سمعت ذلك بالتأكيد من اليهود، فلماذا لا تتحقق من الأمر بالتفصيل؟

لقد قالوا إني شرير، اسألهم ما الشر الذي فعلته؟

ولكنك لم تفعل ذلك، ولم توجِّه لي أي اتهام.

 

مملكتى ليست من هذا العالم:

لقد سَمِعَ طبعًا عن المسيح من آخرين، لكنه لم يستطع الإجابة مباشرةً، بل غيَّر مجرى الكلام مشيرًا إلى الجمع قائلاً لقد ” أسلموك إليَّ“، ويجب أن أسألك ماذا فعلت؟ أما المسيح فقال له: ” مملكتي ليست من هذا العالم” (عدد36).

لقد رفع المسيحُ نظر بيلاطس إلى أمور سامية جدًا، لأنه لم يكن خبيثًا مثل أولئك اليهود، ولذلك أراد الرب أن يُظهر له أنه ليس إنسانًا عاديًا، بل هو الله، وابن الله. فماذا قال أيضًا؟ ” لو كانت مملكتي من هذا العالم لكان خُدامي يجاهدون لكي لا أُسلّم إلى اليهود” (عدد36)، الأمر الذي خفّف مخاوف بيلاطس. فالموضوع لا يندرج تحت الشروع في تكوين سلطة طاغية.

ولكن، أليست مملكته من هذا العالم؟ هي كذلك بالتأكيد.

فكيف يقول ” أنها ليست كذلك”؟

والحقيقة هى أن سيادة مملكته ليست مثل سيادة المملكة البشرية هنا، بل أن السيادة والسلطة الكاملة ستكون في السماء. فهذه المملكة ليست بشرية، بل أسمى جدًا من المملكة الأرضية، وأكثر بهاءً منها. لكن إذا كانت مملكتك أعظم، فكيف يُقبض عليك من قِبل المملكة الأرضية؟ قد حدث هذا لأنه بإرادته سُلِّم إلى هؤلاء، رغم أن هذا لم يظهر منذ البداية.

 

المسيح يعلن ضعف المملكة الأرضية:

فماذا قال إذًا؟ ” لو كانت مملكتي من هذا العالم لكان خُدامي يجاهدون لكي لا أُسلّم إلى اليهود“، بهذه الكلمات يُظهِر ضعف المملكة الأرضية التي تضع قوتها في الخدام. بينما السمائية كافيه في ذاتها، لا تحتاج إلى أحد.

وإن كان أعداء الإيمان[3] قد أخذوا من أقواله حجةً على ما ظنوه تناقضاً في أقوال الخالق، فقالوا فعلاً: ماذا يعني بقوله ” جاء إلى خاصته” (يو1 :11) في الوقت الذي يقول ” ليسوا من العالم كما أني لست من العالم” (يو17: 14)؟ هكذا بنفس الطريقة يقول هنا عن مملكته أنها ليست من هذا العالم. لقد قال هذا، لا لكي يحرم العالم من عنايته ورعايته، بل ليبرهن ـ كما ذكرت ـ على أن مملكته ليست بشريةً، ولا هي فاسدة.

 

لهذا قد وُلدت لأشهد للحق:

قال بيلاطس: ” أفأنت إذن ملك. أجاب يسوع أنت تقول أني ملك. لهذا قد وُلدت أنا” (عدد37). فإن كان قد وُلِد ملكًا، فهذا بالتأكيد بالنسبة لكل ما يتمتع به بسبب أنه ولد ملكًا، ولم يكتسب شيئًا من الخارج. وبالتالي عندما تسمع ” كما أن الآب له حياة في ذاته كذلك أعطى الابن أيضًا أن تكون له حياة في ذاته“، لا تفكر في شيء سوى في هذه الولادة. ولك أن تتأمل في ذلك أيضًا من خلال قوله ” ولهذا قد أتيت إلى العالم لأشهد للحق“، أي لكي أقول وأُعلِّم هذا (الحق)، وأُقنع الجميع لكى يؤمنوا.

 

تمثلوا بالمسيح:

أيها الإنسان، ضع في اعتبارك هذه الأمور، وأنت تشاهد ربك مقيدًا ومُقتادًا هنا وهناك. انتبه إلى أن أمور هذه الحياة الحاضرة لا تساوي شيئًا. لأنه من الغريب أن يحتمل هو أشياءً كثيرةً لأجلك، بينما أنت في ـ مرات كثيرة ـ لا تحتمل سماع أقوال الكتاب؟

         وبينما بُصِقَ عليه، تهتم أنت بتزيين ملابسك. وتشعر أن حياتك لا تُطاق إن لم تنل استحسان الجميع. وفي حين شُتم وأُهِين وضُرِب وصُفِع على وجهه وهم يضحكون عليه، تطلب أنت التكريم والاحترام والتقدير، ولا تحتمل إهانةً من اجل المسيح. ألم تستمع إلى قول بولس ” تمثلوا بى كما أنا بالمسيح“.

إذن، عندما يستهزئ بك أحد، تذَّكر سيدك. لقد سجدوا له باستهزاء. وأهانوه بالكلام والأفعال وسخروا منه في معاملتهم له، ولم يدافع عن نفسه. وليس هذا فحسب، بل اتخذ موقفًا مختلفًا، فدافع عن نفسه بالوداعة والرحمة. ليتنا نتمثل به؛ لأنه هكذا نستطيع أن نتحرَّر من كل تأثير إهانة. فمن يُصاب بالأذى والضرر، ليس هو الذى يُشتم، بل مَن هو عديم الأناة، والذى يتضايق من الشتائم. هم يعانون الشرور، وهم الذين يسببون الشرور، فلماذا إذن يستولي عليك الحزن؟

إن شُتمت ظُلمًا فلا تغضب ممن ظلمك، بل تراءف عليه وارحمه. وإن شُتمت بسبب خطأ حدث منك، فبالأحرى جدًا، يجب ان تبقى هادئًا. وإن مدحك أحدٌ على أنك غني، بينما أنت في الحقيقة فقير، فإنَّ عبارات الثناء هنا لا تفيدك بشيء، بل بالحري لا تكون عبارات الثناء هذه، إلاَّ استهزاءً (بك). وعلى نفس القياس، إن شتمك أحدٌ بسبب أشياء غير صحيحة، فسخريته هذه لا علاقة لها بك.

أمَّا إذا ضايقك ضميرك لأجل كلمات السبُاب التي وُجِّهت إليك، فلا تستلم للحزن، بل عليك أن تُصلح أعمالك. وإن شُتمت لأجل فقرك، أو انتمائك إلى طبقةٍ متواضعة، فهذا أيضًا يستحق الضحك، طالما لا تمثل هذه الشتائم إهانةً لمن يسمعها، بل بالحري لمن ينطق بها؛ لأنه لا يتصف بالحكمة.

أمَّا عندما تصدر هذه الشتائم ممن لا يعرفون الحق، يكون الجرح عندئذ غير محتمل. ولكن يمكنك أن تحتمله إذا كان هناك شهود عيان يمتدحونك. أمَّا المسيح فقد استهزءوا به وسخروا منه، ولم يدافع عن نفسه، بل لم يقل شيئًا. ولذلك، فهو جدير بالتمجيد أكثر من الذين يفكرون بطريقة عقلية محضة. ولذلك، إن تخطَّى أحدكم طريقة التفكير هذه، فسيفرح به المسيح، وينال فرحًا سماويًا؛ لأن الكل هناك سوف يمتدحونه، والجميع سيصفقون له ويطوبونه. بل يكفيه أن يرى ذلك من ملاكٍ واحدٍ عوضًا عن المسكونة جمعاء. ولماذا أقول الملائكة، فالله الآب نفسه سوف يشهد له.

ليتنا نطبق هذه الأفكار على ذواتنا؛ لأن الخطأ ليس في أن يصمت أحد وهو يُشتم، بل على النقيض، فإن الدفاع عن النفس هو الخطأ. إذ لو كان الصمتُ خطأً، لِمَا قال المسيح ” من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر” (مت5: 39).

إذن، فإنْ ادعى عليك أحدٌ بأمور ليست حقيقية، فارحمَّه وتراءف عليه لأنه يجلب على نفسه الجحيم والعقاب، ولا يكون هذا الشخص مستحقًا حتى لقراءة الكتب المقدسة “وللشرير قال الله مالك تُحدث بفرائضي وتحمل عهدي على فمك. تجلس تتكلم على أخيك. لابن أمك تصنع معثرة” (مز16:50ـ20). فالذي يقول أشياءً ليست حقيقية يكون إنسانًا بائسًا وشقيًا. فالفريسي قال أشياء ليست حقيقية. لكن عندما سمع العشار ما قاله الفريسي عنه، لم يُصب بأذىً، بل عاد عليه ذلك بالفائدة، بينما حُرم الفريسي من خيراتٍ لا تحصى، وعانى الموت من هذه الإدانة. هكذا في الحالتين: فإن مَن يُدان ليس أنت، بل الذي يشتمك.

أمَّا أنت، فإذا تيقظت، فإنك سوف تأخذ ربحًا مزدوجًا: تربح اعتدالاً ورزانةً، وفي نفس الوقت تعتبر ما يُقال ضدك، دافعًا تُصلح به من نفسك، وتحتقر المجد البشري. لأن اهتمامك بما يقال عنك من الناس، قد يسبب لك الحزن، ولكن لو تصرفنا بحكمةٍ، فسوف نكتشف أن تلك الأمور البشرية لا قيمة لها على الإطلاق.

تعالوا ـ إذن ـ نتعلّم مما ذكرنا، متفكرين في أخطائنا، لكي نصرف زماننا في تصحيح أخطائنا وتقويم أنفسنا. تعالوا نقول لأنفسنا: سوف أصلح هذا الخطأ أثناء هذا الشهر. وفي الشهر التالي الخطأ الآخر. وفي الشهر الثالث أنظر لخطأ ثالث أصلحه وأُجرى عملية الإصلاح هذه. وهكذا، كأننا نصعد ونرتفع تدريجيًا لكي نصل إلى السماء بواسطة سُلَّم يعقوب. فأنا أعتقد أن هذا السُلَّم الذي رآه في الحُلم يُشير إلى الصعود التدريجي بواسطة الفضيلة التي ترفعنا من الأرض إلى السماء، مستخدمين، ليس درجات محسوسة مادية، بل الفضيلة التي بها نُصلح أنفسنا.

ليتنا ننشغل بهذه الرحلة، وهذا الصعود لكي ننجح في الوصول إلى السماء ونستمتع بكل الخيرات بنعمة ومحبة ربنا يسوع المسيح للبشر، الذي له المجد من الآن والى أبد الآبدين أمين.

 

(عظة 84 على يوحنا 18: 37ـ19: 15)

” لهذا قد وُلِدت أنا ولهذا قد أتيت إلى العالم لأشهد للحق. كل من هو من الحق يسمع صوتي” (يو18: 37).

 

طول أناة المسيح:

لا شك أن طول الأناة أمرٌ يستحق الإعجاب، فهي تجعل النفس تبدو وكأنها موجودة في ميناء هادئ وتخلصها من الأمواج والأرواح الشريرة. وهذا ما علَّمه لنا المسيح. والآن فعندما يُحكم عليه ويُساق من محاكمة إلى أخرى، حيث اقتادوه إلى حنَّان، أجاب برأفة ورحمة كبيرة، ونطق بكلمات مليئة بقوة للعبد الذى لطمه، تمحو أي حسد وكراهية. ومن هناك ذهب إلى قيافا ثم إلى بيلاطس وقضى الليل كله بالقرب منهما، وأظهر كل وداعة. وعندما زعموا أنه شرير ولم يتمكنوا من البرهنة على ذلك، وقف صامتاً. وعندما سُئل في المحاكمة عن مملكته، تحدث حينئذ إلى بيلاطس مُعلِّماً ورافعاً إياه ـ روحيًا ـ إلى أعلى. ولكن لماذا لم يستجوبه بيلاطس في حضورهم، بل فضَّل أن يحاكمه بمفرده عندما دخل إلى دار الولاية؟ لقد كانت لديه شكوكاً قوية فيهم، ولذلك أراد أن يعرف كل شيء بدقة. ولكن حين سأله ” ماذا فعلت؟”، لم يُجب ولم يحقق رغبة بيلاطس في معرفة ما يتوق إليه. بينما عندما سأله عن مملكته، أجاب قائلاً “مملكتي ليست من هذا العالم” (يو18: 36). وكأنه أراد أن يقول: أنا ملك لكن ليس مثلما تظن. إن مملكته أكثرُ بهاءً. وقد أظهر أنه لم يفعل أي شر عندما قال ” لهذا قد وُلدت أنا ولهذا قد أتيت إلى العالم لأشهد للحق” (يو18: 37). لأنه بهذا القول أظهر أنه لم يفعل أي شر.

 

بيلاطس يسأل عن الحق ويبرئ المسيح:

وعندما يقول “ كل مَن هو مِن الحق يسمع صوتى” (يو18: 37)، كان يريد أن يجذبه (أي يجذب بيلاطس) ويقنعه بأن يصير سامعًا جيدًا لأقواله. على أية حال، فقد حدث ذلك وانجذب بيلاطس سريعاً لهذه الأقوال، لدرجة أنه قال ” ما هو الحق؟”، لكنه توقف والتفت إلى الأمر العاجل. إذ أدرك أن هذا السؤال يحتاج إلى وقت مناسب، بينما كان عليه في تلك اللحظة أن يخلُّصه من هجوم اليهود الشرس عليه، لذلك خرج وقال لهم؟ ” أنا لست أجد فيه عِلة واحدة” (عدد38).

 

اليهود يطلبون اللص:

ولك أن تلاحظ مدى إدراكه وفهمه، فهو لم يقل: إنه مستوجب الموت لأنه أخطأ، ولكن امنحوا له الحياة بسبب العيد. بل وأكثر من ذلك، فإذ نفى عنه أولاً أية تهمة من خلال شهادته هذه، تحدث معهم لكي إذا كانوا لا يريدون أن يطلقوه كبريء، فإنه يتعين عليهم ـ على الأقل ـ أن يضمنوا له الحياة بسبب العيد إذا كان مذنباً في نظرهم. لذلك قال ” لكم عادة أن أُطلق لكم واحدًا في الفصح“، ومن ثم جعل يحدثهم بطريقة جيدة حتى يحترموه ويقدِّروه ” أفتريدون أن أطلق لكم ملك اليهود؟ فصرخوا أيضًا جميعهم قائلين ليس هذا، بل باراباس” (عدد39و40).

يا له من قرار أحمق! يطلبون اللصوص لأنهم يشبهونهم، ويطلقون المذنبين، أمَّا البريء فيتحرشون به ويحكمون عليه؛ لأن هذه عادتهم منذ القدم. ورغم ذلك، تلاحظ عظم محبة الرب لهم.

 

يسوع يُجلد:

فحينئذٍ اخذ بيلاطس يسوع وجلده” (يو1:19). ربما أراد أن يُهدئ الغيرة اليهودية ويُسَّكِنها. وإذ رأى أن محاولاته التي بذلها لإنقاذه منهم باءت بالفشل. أراد أن يوقف الشر عند هذا الحد (أي حتى مرحلة الجلد). فجلده وسمح بكل ما حدث بعد ذلك، فجعلهم ” يلبسونه ثوب الأرجوان، وإكليل الشوك” (يو2:19) حتى يهدئ من غضبهم. ولأجل هذا ساقه إليهم لابساً الإكليل لكي يروا مدى الإهانة التي تعرَّض لها. لقد أراد أن يُخرِج السُم من داخلهم ويطفئ رغبتهم في الانتقام. لأنه كيف فعل الجنود كل هذا، إن لم يكن بأمر الرئيس؟ هو سمح بذلك. لكن الجنود نفذوا أوامره محبةً في الأموال التي يأخذونها من اليهود. لأن هؤلاء الجنود ـ في البداية ـ عندما (أتوا إلى البستان أثناء الليل لم يأخذوا أمرًا منه)، بل فعلوا كل ذلك بهدف الحصول على المال. لقد فعلوا كل ذلك إرضاءً لليهود، ولكن على الرغم من كل ما حدث، إلاَّ أنه ظلَّ صامتًا. الأمر الذي فعله أثناء المحاكمة، ولم يعطِ أية إجابة.

 

تشبّه بالمسيح:

لا تكتفِ بسماع هذه الأمور، بل احفظها دائماً في فكرك، وأطبع في ذهنك صورة ملك المسكونة والجنود يستهزئون به بالأقوال والأفعال، وهو يحتمل كل هذا صامتاً. فلتتشبَّه به بأعمالك.

عندما قال جنود بيلاطس ” يا ملك اليهود” (3:19)، ألبسوه ثوبًا أُرجوانيًا، ثم أخرجه خارجًا قائلاً (مرة أخرى): ” لم أجد فيه عِلةً واحدةً” (عدد4). لقد خرج لابسًا إكليلاً، ولكن هذا لم يُطفئ غضبهم، بل صرخوا ” أصلبه أصلبه“. وعندما رأى بيلاطس أنه لم يجنِ فائدةً مما حدث، قال “خذوه أنتم واصلبوه” (عدد6). وهذا بالتالي يُثبت أن كل ما فعله من قبل كان بسبب هوس اليهود إذ يقول: ” لأني لست أجد فيه عِلةً واحدة“.

لاحظ هنا كيف كان الوالي يدافع عنه بطرق كثيرة محاولاً إنقاذه من التُهم، لكن ولا واحد من هؤلاء (اليهود) سمح له بذلك. وعندما قال لهم “خذوه واصلبوه” كانت هذه الكلمات تدل على مدى ولائه للمسيح، وتدل على إن ذلك كان إقرارًا منه أنه لا يستحق الموت. إذن، برغم أن هؤلاء اليهود اقتادوه إلى بيلاطس ـ لكى يستصدروا قرارًا من الوالي بالحكم عليه بالموت ـ إلاّ أن بيلاطس فعل العكس، فقد أخذ يتنصل من إصدار مثل هذا القرار. ولأنهم شعروا بالعار، قالوا ” لنا ناموس وحسب ناموسنا يجب أن يموت لأنه جعل نفسه ابن الله” (عدد7). عندما قال الوالي ” خذوه أنتم واحكموا عليه حسب ناموسكم“، قالوا ” لا يجوز لنا أن نقتل أحدًا” (يو18: 31) ها هم الآن يلجأون إلى الناموس!

 

صمت المسيح:

وعليك أن تنتبه للاتهام: “جعل نفسه ابن الله”. اخبرني. هل يمكن أن يُعتبر مثل هذا القول اتهاماً؟ بما أنه يعمل أعمال الله، فإنه يدعو نفسه ابن الله. ماذا فعل المسيحُ إذن؟ لقد صَمَتَ، بينما كانوا يتحدثون فيما بينهم بهذه الأقوال، متمماً بذلك نبؤة النبي القائل “ أمَّا هو فتذلل ولم يفتح فاه. كشاة تُساق إلى الذبح وكنعجة صامته أمام جازيها فلم يفتح فاه” (إش53: 7ـ8).

لقد

خاف بيلاطس عندما سمع من هؤلاء أنه يجعل نفسه ابن الله، ربما لأن ما قيل قد يكون حقيقياً، وبالتالي يعتبر كاسرًا للناموس. والعجيب أن هؤلاء اليهود الذين عرفوه من أعماله وأقواله لم يرتعدوا، بل أصرَّوا على قتله لأجل أمور كانت تستحق أن يسجدوا له من أجلها. ولأن رعبًا حل عليه من فوق، عندما كان يستجوبه، لذلك لم يسأله مرة ثانية ” ماذا فعلت؟” (يو18: 35). ولكنه سأله قائلاً:   ” أفأنت إذاً ملك“؟ فلم يجبه بشيء، بل سمع منه ” لهذا قد وُلِدت أنا ولهذا قد أتيت إلى العالم لأشهد للحق“. كما قال له أيضاً إن “مملكتي ليست من هذا العالم” (يو18: 36).

 

وبالرغم من أنه كان ينبغى أن يعارضهم ويخلِّصه منهم، إلاَّ أنه لم يفعل هذا، بل انساق مع الاندفاع اليهودي. وحين رأوا أن أفواههم سُدَّت من كل جانب، قدمَّوا الاتهام كجريمة سياسية قائلين ” كل مَن يجعل نفسه ملكاً يقاوم قيصر” (يو12:19). وهنا كان يجب على بيلاطس أن يحقق بالتفصيل في هذا الأمر. أي كان يجب عليه أن يتحقق مما إن كان المسيح ينوي أن يطرد قيصر من المملكة، وينصب نفسه ملكاً بالقوة أم لا؟ لكنه لم يُجرِ تحقيقاً مفصلاً. لذلك لم يعطِ المسيحُ له إجابةً؛ لأنه عرف أنه لا جدوى من ذلك.

 

ليس لك علىَّ سلطان البتة:

على الجانب الآخر، طالما أن الأعمال التي أتمها المسيح كانت تدعم موقفه وتسانده، لم يُرِد أن يجيب ويدافع عن نفسه بالكلام، حتى يبرهن على أنه ذاهب إلى الألم بإرادته. ولأجل أنه صمت، قال له بيلاطس ” ألست تعلم أن لي سلطانًا أن أصلبك وسلطانًا أن أطلقك” (10:19). أرأيت كيف يدين نفسه مسبقاً؟ لأنه إن كان كل شيء يعتمد عليك (يا بيلاطس)، فما هو السبب الذي جعلك لا تطلقه، طالما أنك لم تجد فيه عِله واحدة؟ ولذلك قال له المسيح ” الذي أسلمني إليك له خطية أعظم” (عدد11). إذن فقد أصدر بيلاطس قرارًا ضد نفسه شخصيًا. وهكذا أظهر كلام المسيح أن بيلاطس نفسه كان مسئولاً عن هذه الخطية (صلب المسيح). ومن ثم كَبَحَ المسيحُ جماح إحساسه بالسلطة وحماسه هذا قائلاً له: ” لم يكن لك عليَّ سلطان البتة لو لم تكن قد أُعطيت من فوق” (يو19: 11)، لكي يثبت له أن هذا الأمر لا يحدث صدفةً، ولا هو نتاج ترتيب طبيعي للأحداث، لكنه يُتمم بطريقة خفية (حسب مشيئة الله).

 

مسئولية بيلاطس:

ولكي لا تظن (يا عزيزى) إن عبارة ” لو لم تكن قد أُعطيت من فوق“، تعفى بيلاطس من المسئولية، إذ قال له: ” الذي أسلمني إليك له خطية أعظم“. ربما تتساءل: إن كانت إرادة الله أن يُسلَّم إليهم، إذن، فلا بيلاطس، ولا اليهود يكونون مسئولين عن جرائمهم. أنت تقول هذا بدون تروّى؛ لأن كلمة “أُعطيت” تعني هنا “السمَاح”، كأنه يقول: قد سمَحَ الله أن يحدث كل هذا، لكنكم لن تكونوا أبرياء من المسئولية عن فعل الشر.

 

اليهود يطلبون ملكًا أرضيًا:

لقد أدهش دفاعُ المسيح بيلاطس، لذلك طلب أن يطلقه. أمَّا هؤلاء، فصرخوا ثانيةً ” إن أطلقت هذا فلست محبًا لقيصر“. لقد لجئوا إلى ما هو خارج الناموس بعدما استنفذوا الاتهامات التي اخترعوها من الناموس. وبطريقة خبيثة قالوا ” كلُ مَن يجعل نفسه ملكاً يقاوم قيصر” ومن أين بدا لكم أن المسيح متمردٌ أو مستبدٌ؟ على ماذا تستندون فيما تدَّعون؟ أعلى ثوب الأرجوان؟ أمْ على الإكليل؟ هل بدا لكم ذلك مِن منظره؟ أمْ مِن الجنود المحيطين به؟ ألم يكن يرافقه اثني عشر تلميذاً فقط؟ ألم يقبل إلاَّ القليل من طعام ولباس ومسكن؟ يا لها من خِسة غريبة! ولأن بيلاطس شعر بأنه يخاطر بمنصبه إذا ما تغافل عن هذه الأقوال، وصل إلى الهدف من التحقيق في الأمر لأنه “جلس على كرسى الولاية” (14:19)، ولكن دون أن يقُم بأي تحقيق، ثم سلَّمهم إياه معتقداً بذلك أنه يهدئهم. واسمع ماذا قال “هوذا ملككم” (عدد14)، ولأنهم قالوا ” أصلبه“، أضاف قائلاً ” أأصلب ملككم؟”. فصرخوا      ” ليس لنا ملكٌ إلاَّ قيصر” (عدد15).

 

لقد ألقوا أنفسهم ـ بإرادتهم ـ في الجحيم، لذلك تركهم الله؛ لأنهم أبعدوا أنفسهم عن عنايته وحمايته. وبسبب رفضهم ـ بالإجماع ـ لملكه تركهَّم يجلبون على أنفسهم ـ بقرارهم ـ المتاعب والمشقات. وعلى الرغم من أن كُل ما قيل، وما حدث كان كافياً لإيقاف غضبهم إلاَّ أنهم خافوا لئلا يُترك حراً، فيجذب إليه حشداً من الشعب. لقد فعلوا كل ذلك لأنهم محبون للرئاسة، وهذا أمر مرعب جدًا، ورهيب يؤدي بالنفس إلى الهلاك، لهذا السبب لم يسمعوا.

 

لماذا موت الصليب؟

وبينما أراد بيلاطس أن يطلقه بمجرد أن سَمِعَ ما قاله المسيح، أصرَّ أولئك قائلين “أصلبه“. ولماذا أردوا أن يميتوه بهذه الطريقة؟ لأن هذا الموت (موت الصليب) كان محتقرًا. لقد كانوا خائفين لئلا ـ بعد كل هذا ـ يترك ذكرى طيبةً، فحرصوا على أن يقتادوه إلى اللعنة، غير مدركين أن الشدائد تجعل الحقيقةَ أكثرُ لمعاناً. ويمكنك أن تتأكد من نياتهم السيئة هذه من قولهم “يا سيد قد تذكرنا أن ذلك المُضِّل قال وهو حي إني بعد ثلاثة أيام أقوم” (مت27: 63). ولكى يصلوا إلى هدفهم، فقد خططوا جيدًا لكل ما شرعوا في عمله، وظلوا يصرخون مرات عديدة “أصلبه“. يا له من جمع فوضوي وفاسد من الرؤساء.

 

ينبغى علينا أن نتبع خطواته:

نحن لا نكتفي فقط بقراءة هذه الأقوال، بل نفكر ونتأمل فيها، مثل الأقوال عن: إكليل الشوك، ثوبه الأرجواني، القصبة، اللطمات، الجلدات التي تحملها سائرًا في طريقه إلى الجلجثه، التفل على وجهه، التهكم عليه؛ لأن هذه الأمور يمكن أن تؤثر على أفكارنا، فتمحو من داخلنا أي غضبٍ. فإن تعرضنا للسخرية، وإن تألمنا ظُلمًا، نقول ” لا يوجد عبد أعظم من سيده” (يو13: 16). ونفكر فيما قاله اليهود وهم يصيحون في وجهه ” بك شيطان” (يو7: 20)، ” أنت سامريٌ” (يو8: 48)، وإنه “ببعلزبول يُخرج الشياطين” (لو11: 15). لقد احتمل كل هذا لكي نتبع خطواته ونحتمل الإهانات مثلما احتملها هو، الأمر الذي أغضبهم بالأكثر. لقد كانت للمسيح قوة تفوق كثيرًا تلك الإهانات، ولذلك لم يحتمل يسوع كل هذا فقط، بل صنع كل ما من شأنه أن يخلِّص الذين فعلوا به كل هذا من العقاب الذي كان محفوظًا لهم. فقد أرسل الرسل لخلاصهم. اسمع هؤلاء الرسل يقولون لهم ” بجهالة عملتم كما رؤسائكم أيضًا” (أع3: 17). ودعوهم إلى التوبة.

 

ليتنا نتمثل بهؤلاء الرسل؛ لأنه لا يوجد شئ يجعل الله راضيًا عنا، مثل محبتنا لأعدائنا، وإحساننا إلى الذين يسيئون إلينا. فعندما يصنع معك أحدٌ شرًا، لا تنظر إليه، بل إلى الشيطان الذي يُحرَّكه. ومن ثم فرِّغ غضبك كُله فيه، أمَّا الذى ترك نفسه للشيطان ليحركها، فتراءف عليه. فالكذب يأتي من الشيطان لكي يجعلنا نغضب بلا تبصُّر، ولذلك إذا رأيت أحدًا يسخر منكَ، ضع في فكرك أن الشيطان هو الذي يُحرِّكه؛ لأن التهكم والسخرية والضحك ليست من ملامح المسيحيين. فالذي أخذ وصيةً أن يحزن[4] ويسمع ما قاله الكتاب       ” الويل لكم أيها الضاحكون” (لو6: 25) يدرك أن هذا الضاحك، أي المستهزئ ـ عندما يشتم ويسخر ويغضب ـ لا يجب أن يُشتم من جانبنا، بل بالحري يستحق أن نحزن عليه، فالمسيح اضطرب حزنًا عندما فكر في يهوذا.

 

ليتنا

 إذًا نمعن الفكر في كل ذلك، ونطبقه في حياتنا وأعمالنا؛ لأننا إن لم ننجز كل هذا، يكون مجيئنا إلى العالم دونما فائدة، وبالتالى نكون قد أتينا ـ على الأرجح ـ لأجل فعل الشر، وبالتالى أيضًا يعجز الإيمان عن أن يقودنا إلى ملكوت السموات. بيد أن أمر الإيمان على النقيض من ذلك، فالإيمان له من القوة أن يدين الذين يحيون حياةً شريرةً “ أمَّا ذلك العبد الذي يعلم إرادة سيده ولا يستعد ولا يفعل بحسب إرادته فيُضرب كثيرًا” (يو12: 47). وأيضًا ” لو لم أكن قد جئت وكلمتهم لم تكن لهم خطية” (يو15: 22).

إذن، أيُ مبررٍ يكون لنا عندئذٍ، نحن الذين نحيا داخل القصر الإلهي، وحُسبنا مستحقين أن ندخل إلى الأعماق، مشتركين في تلك الأسرار التي تحُرر من الخطايا. ولكننا نصير أسوأ من الأمم الذين لم يستحقوا أن يشتركوا في أي واحدة من هذه الأمور؛ لأنه إن كان أولئك قد اظهروا مجرد حكمة من المجد الباطل، فبالأكثر جدًا علينا نحن أن نمارس كل فضيلة؛ لأن الله يُسرّ بهذه.

 

فنحن إلى الآن لا نحتقر الأموال، بينما أولئك (الأمم) كثيرًا ما كانوا يحتقروا حياتهم، بل واحتقروا الضرورات الطبيعية (مثل المحبة الطبيعية بين الآب وابنه) من اجل الشياطين، فاسلموا أولادهم لهوس الشياطين أثناء حروبهم،. أمَّا نحن، فحتى الأموال لم نحتقرها بعد من اجل المسيح، ولا الغضب تخلَّصنا منه، بل دائمًا ما نغضب، بل ونصل إلى حالة ليست أقل ممن يصابون بالحمى. فكما أن أولئك، إذ يستولي عليهم الشر، يصيرون ضعفاء لدرجة أنهم يحترقون بشهواتهم، هكذا نحن أيضًا لا نستطيع أن نوقف شهواتنا بأي طريقة، كأننا نحترق في النار عندما نشتعل بالغضب وحُب المال. لذا، فأنا أخجل وأندهش إذ أرى كثيرًا من الأمم يحتقرون الأموال، بينما نحن جميعًا يستولي علينا هذا الهوس. وبرغم أنني أرى البعض منا يحتقرون الأموال، إلاَّ أنني احزن لأن الشهوات تستولي على كل من غضب وحقد. فمن الصعب أن أجد تقوى نقية.

 

إذن، السبب هو أننا لا نحرص على تناول الأدوية من الكتب المقدسة. ولا نتيقظ لها بانتباه، فنسمعها فقط متى يتوفر لنا وقت. بينما إذا انشغلنا بقضايا معيشية، فإننا نجعلها تغطي على كل شيء في حياتنا وتستولي علينا، وبالتالي نسمع أقوال الله دون أي يقظة أو انتباه. أمَّا إذا كان الأمر يتعلق بحصولنا على مكسب، فإننا نختفي تمامًا عن الحضور وسماع كلمة الله.

 

إن مَن يصاب بجرح، لا يمكن أن يُشفى بمجرد وضع دواءً فوق الجرح، دون أن يربطه بإحكام، بل يترك الرباط يسقط، فيتسرب للجرح ماء وتراب وقذارة، وأشياء أخرى. وعدم تحسُّن حالة الجرح هنا لا يرجع إلى الدواء، بل إلى اللامبالاة. هذا يحدث لنا عندما لا نعطي انتباهًا تامًا للأقوال الإلهية، بينما دائمًا ما نتصرَّف بدقة وإخلاص تجاه الأمور العالمية. وهكذا تُخنق كل البذار وتصير عقيمة وبلا ثمر. وحتى لا يحدث هذا، ليتنا نرجع إلى أنفسنا قليلاً. ليتنا ننظر نحو السماء، ونرفع نظرنا أيضًا إلى القبور ونرى انحلال أجساد الموتى التي ينخر فيها السوس؛ لأن هذه النهاية تنتظرنا نحن أيضًا، وقد يأتي ارتحالنا من هذا العالم قبل المساء.

 

إذن

 دعونا نستعد لهذا الخروج طالما نحن في حاجة كثيرة إلى المؤن؛ لأن النيران ـ هناك ـ شديدة، والجفاف قاس والوحدة رهيبة. وهناك لا يمكن أن ينزل أحدٌ إلى الفندق، أو يمكن أن يشتري شيئاً، فلابد أن يأخذ كل شيء من هنا. اسمع ما قالته العذارى ” اذهبن إلى الباعة وابتعن لكُنَّ” (مت25: 9). لكن لم يجدن ما يطلبن عندما ذهبن. أسمع ماذا قال إبراهيم ” بيننا وبينكم هوة عظيمة” (لو16: 26).

ليت

 هذا القول لا يكون موجهًا لنا. فطالما أخذنا ـ من هنا ـ مؤنًا كافيةً، فإننا نلتقى بربنا يسوع المسيح بدالة، الذي له المجد والكرامة مع الآب والروح القدس الآن وكل أوان والى دهر الدهور أمين.

 

(عظة 85 على يو19: 16ـ40)

”فحينئذٍ أسلمه إليهم ليُصلب فاخذوا يسوع ومضوا به. فخرج وهو حامل صليبه إلى الموضع الذي يُقال له موضع الجمجمة ويُقال له بالعبرانية جُلجثه حيث صلبوه” (يو19: 16 ـ 18).

 

بيلاطس يسلّم المسيح لليهود:

يتميز المتنعمون بأن لديهم قوة جذب كبيرة حتى للذين يمكنهم أن يفوزوا عليهم. فاليهود برغم أنهم نالوا معونة الله في البداية، وانتصروا على مملكة المصريين، إلاَّ أنهم اشتهوا ناموس مملكة الأمم (التنعم). فبعد أن أكلوا المن في الصحراء، اشتهوا أكل البصل في مصر. بنفس الطريقة هنا رفضوا ملك المسيح طالبين لأنفسهم ملك قيصر. ولأجل هذا أعُطى لهم ملكاً بحسب ما أرادوا.

عندما سمع بيلاطس هذا الكلام، سلَّمه إليهم لكي يُصلب. يا له من انعدام تام للبصيرة. إذ بينما كان يجب عليه أن يتحقق ويسأل عما إن كان المسيح حقاً قد شرع في أن يُنصِّب نفسه ملكاً بسلطة مستبدة، نجده يصدر قراراً نتيجة الخوف. وبالرغم من أن المسيح قال له إن “مملكتي ليست من هذا العالم” (يو18: 36)، إلاَّ أن بيلاطس كان قد استسلم للأمور العالمية (السلطة). لم يُرد أن يتدبر الأمر بحكمه حتى يُتاح له نصيب فى ما هو أعظم. وبالرغم من أن حُلم امرأته كان يمكن أن يدهشه ويحيره، مما يجعله يعيد النظر في قراره، إلاّ أنه ظل كما هو ولم يتغيَّر إلى الأفضل، ولا استطاع أن ينظر إلى السماء، بل سلَّمه لليهود.

اسحق والمسيح:

أولئك اليهود حملَّوه خشبة الصليب كأنه محكوم عليه، ولأنهم اعتبروا خشبة الصليب علامة لعنةٍ، رفضوا حملها أو الاقتراب منها. هكذا تحقق ما اخبرنا به الكتاب بالرموز والظلال عن الموت على مثال الصليب. حيث حمل اسحق خشب المحرقة. لكن في حالة اسحق لم يصل الأمر إلى لحظة تنفيذ القرار بواسطة أبيه (إذ كان الحدثُ مثالاً). لكن الأمر في حالة المسيح وصل إلى التنفيذ الفعلى؛ لأن موته كان حقيقةً وليس ظلاً، فجاء إلى مكان الجمجمة. والبعض يرى أن آدم مات ودُفن في هذا المكان، والمسيح صُلِبَ في هذا المكان حيث ملك الموت. هناك أقام النُصُب التذكاري للنصر حيث خرج حاملاً الصليب كنُصُبٍ تذكاريٍ للانتصار على طغيان الموت. ومثل المنتصرين حمل المسيح ـ هكذا ـ الصليب على كتفيه شعارًا للنُصرة.

 

صُلب مع اللصوص:

وهنا تبدو أهمية عدم تردد اليهود في اتخاذ قرار صلب المسيح، إذ أن تلك الأمور التي فعلوها، صارت لأجل إظهار الحق، ولكي تعلم كم هي قوة الحق. لأن هذه الأمور سبق وأن قالها النبي بوحى من السماء ” أُحصيَّ مع أثمةٍ” (إش53: 12). لقد أراد الشيطان أن يغطي على الحدث، ولكنه لم يستطع. فبالرغم من أن ثلاثةً صُلبوا فعلاً، لكن واحدًا فقط كان ذو بهاء وهو المسيح. وحتى تعلم أن قوته صنعت كل شئ، فإنه بالرغم من أن الثلاثة كانوا معلقين كل واحد فوق صليبه، لم يستطع أحد أن ينسب واحدة من المعجزات التي حدثت إلى أيٍ من الاثنين الآخرين، بل فقط إلى يسوع المسيح. وهكذا هرب الشيطان خائفًا، وخرج كل ما كان يفكر فيه بعيدًا عن الهدف تماماً، حتى أن واحدًا من اللصين خَلُصَ. إذن فالشيطان لم يستطع أن يلحق ضررًا بمجد المصلوب. وليس هذا فقط، بل تمَّم كل شيء يؤدى إلى مجده. لأن تحول اللص المصلوب وذهابه إلى الفردوس أحدث دوياً هائلاً ليس أقل من الدوي الهائل الذي حدث حين تزعزعت الصخور وتشققت.

 

ملك اليهود:

وكتب بيلاطس عنوانًا” (يو19:19). وهذا كان أمرًا ضد اليهود وفي نفس الوقت لمجد المسيح. فقد تسلَّم اليهودُ المسيح من بيلاطس بسبب خسّة الأخير، وإمعانًا في إهانته قرروا أن يُصلب مع لصين، حتى لا يعطوا أحدًا الفرصة من التحقق من اتهاماتهم الخبيثة، فيصدق أنه شخصٌ شرير. ولكن بيلاطس ـ بهذا المكتوب ـ لم يسُدَّ أفواههم فقط، بل وكل الذين حكموا على المسيح. فأظهر للجميع أنهم تمردوا ضد ملكهم، فظهر الصليب وكأنه نُصبٌ تذكاريٌ للنصر كُتِبَ عليه عنوان يقول للجميع افرحوا وأعلنوا النصر واكرزوا بالملكوت. وقد أعلن هذا، ليس بلغةٍ واحدة، بل بثلاث لغات. إذ أن كثيرين من أممٍ أخرى غير اليهود كانوا موجودين بسبب العيد. فحتى لا يجهل أحدٌ الإعلان الذي يعتبر دفاعًا عن المسيح، فضح هَوَس اليهود بكل اللغات حيث إنهم حقدوا على المصلوب.

ودعونا نسأل اليهود: بماذا أذاكم المسيح؟ طبعًا لم يؤذهم بالمرة. فإن كان غيرُ قادرٍ على فعل شئ، وسينتهي تمامًا بموته، فلماذا تخافون من الحروف التي تقول إنه ملك اليهود؟ ماذا قالوا؟ ” إنَّ ذاك قال” (يو21:19)، وحتى يظهروا كأن أمر الحكم عليه هو بمثابة قرار ورأي عام، قالوا ” ذاك قال” حتى يظهروا أن الاتهام كان نتيجة وقاحته وكبريائه. لكن بيلاطس لم يُغير رأيه بل ظلَّ ثابتًا على رأيه السابق (يو22:19).

ولهذا الإعلان المكتوب أهمية عظمى بالنسبة لخطة تدبير الله؛ لأن خشبة الصليب التي دُقت على الأرض، لم يهتم أحدٌ بإخراجها بعد إتمام عملية الصلب والدفن بسبب الخوف الذي سيطر على الجميع آنذاك. وكذلك بسبب انشغال المؤمنين بمسائل أخرى طارئة. لذا فقد بدأ البحث عن صليب المسيح بعد سنوات من هذا الحدث، وكانت هناك بالطبع ثلاثة صلبان معًا. وحتى لا يكون صليب الرب مجهولاً، فقد صار معروفاً للجميع أولاً من أنه كان موجودًا في وسط اثنين آخرين. ثم ثانيًا من الإعلان المكتوب عليه؛ لأن صليبي اللصين لم يُكتب عليهما أي إعلان.

 

ثياب المسيح وقميصه:

قسَّم الجنود ثياب المسيح فيما بينهم، ولكنهم لم يقسموا القميص. لاحظ كيف أنهم بأفعالهم الشريرة يتمّمون النبوات (دون أن يدروا)؛ لأن هذا سبق أن قِيل منذ القديم. وبرغم أن ثلاثةً قد صُلبوا إلاَّ أنهم قسَّموا ثيابَ واحدٍ فقط. فلماذا لم يقسِّموا ثياب الآخرين، بل ثياب المسيح فقط؟ انتبه من فضلك إلى دقة النبوة. لأن النبى قال اقتسموا ثيابه، والقميص لم يقتسموه بل اقترعوا عليه. كما أن تعبير ” منسوجًا كله من فوق” (يو23:19) لم يكن على سبيل الصدفة. فهناك من يعطون هذا التعبير أهميةً رمزيةً تدل على أن المصلوب لم يكن إنساناً عادياً، بل يحمل في ذاته إلوهةً من السماء. أمَّا البعض الآخر فقالوا إن الإنجيلي كان يسجل لنا تاريخيًا نوع ذلك القميص؛ لأن الثياب في فلسطين كانت عادةً ما تتكون من قطعتين من القماش مخيطين معًا، وكانوا ينسجون الثياب بهذه الطريقة، ولكي يُظهر يوحنا أن المسيح كان لابسًا مثل هذا القميص، قال ” منسوجًا كله من فوق“. هذا قاله مُشيرًا ـ كما أظن ـ إلى ثمن ثيابه الزهيد. وبالمثل أيضًا كانت كل الأشياء الأخرى التي كان يستخدمها. هكذا أظهر أن الرب كان متقشفًا في ملابسه.

 

المسيح يسّلم أمه ليوحنا:

وبينما كان الجنود يقومون بتقسيم ملابسه عليهم، كان المسيح الرب يُسلِّم أمه إلى تلميذه مُعلِّمًا إيانا أنه يجب أن نبذل كل اهتمام بالوالدين حتى اللحظة الأخيرة. وإن كان قد قال لها في إحدى المرات عندما طَلَبت منه شيئًا في لحظة غير مناسبة ” مالي ولكِ يا امرأة” (يو2: 4)، وقال في إحدى المرات متسائلاً “من هي أمي؟” (مت12: 48)، إلاَّ أنه يظهر هنا حنانًا قويًا، إذ أنه سلَّمها إلى التلميذ الذي كان يحبه. ويوحنا ـ أيضًا ـ يخفي ذاته من فرط تواضعه؛ لأنه لو كان يريد أن يفتخر، لكان قد ذكر السبب الذي لأجله أحبه، حيث إن السبب ـ من الطبيعي ـ أن يكون عظيمًا وعجيبًا. لكن لماذا لم يقل المسيح ليوحنا شيئاً آخر، ولا حتى عزَّاه إذ كان حزينًا؟ طبعًا لأنه لم يكن الوقت مناسبًا لكلمات التعزية. على الجانب الآخر لم يكن أمرًا هينًا أن يُكرم بمثل هذه الكرامة ويأخذ مكافأة على بقائه بالقرب من الرب وقت الصلب.

لكن

 عليك أن تلاحظ من فضلك، أنه بينما كان مصلوبًا، فقد فعل كل شئ بلا اضطرب. فقد تحدث مع تلميذه عن أمة، وتمم النبوة، وأعطى رجاءً حسنًا للص، وذلك كله رغم ما بدا عليه قَبل الصليب من الإجهاد نتيجة التعب والصراع والاضطراب. ماذا يعني هذا؟ لم يثِر هذا الموقف أبدًا الشك والريبة؛ لأن الرب أظهر في الإجهاد والتعب ضعف الطبيعة البشرية، بينما هنا أظهر عظمة قوته. من جهةٍ أخرى، فهو يعلِّمنا بهذين الموقفين أننا دائمًا ما ننزعج عند حدوث النكبات. ولكن هذا لا ينبغى أن يجعلنا نهرب من المشقات، بل عندما ندخل في المعركة أو الصراع، فيجب أن نعتبر كل الأمور الحادثة مفرحة وسهلة ولا تسبب لنا أي اضطراب.

 

لا ينبغى أن نرتعب من الموت:

إذن دعونا لا نرتعب من الموت. ويمكننا إن نؤكد أن النفس ـ بطبيعتها ـ تحب الحياة، لكن الأمر يتوقف علينا، إمَّا أن نُخلصها من قيودها ونضعف الشهوة، أو نربطها بشدة بهذه القيود ونجعل الشهوة أكثر طغيانًا وسيطرة. يحدث ذلك مثلاً في شهوة الاتصال الجسدي، فعندما نتدبر الأمر بحكمه يمكننا أن نسيطر عليها. هكذا يحدث أيضًا مع الحياة. فكما وضع الله داخلنا الشهوة الجسدية لأجل ولادة الأبناء، وبذلك يكون الله قد ضمن تعاقب الجنس البشري وحفظه من الفناء بواسطة الأولاد، ولم يُعِق سيرنا في طريق الانضباط السامي. هكذا زرع داخلنا الشوق للحياة ليمنع بذلك الرغبة في أن نتخلص من حياتنا، وبذلك يشجعنا على احتقار أمور الحياة الحاضرة.

إذن يجب علينا ـ ونحن نعرف كل هذا ـ أن نحرص على الاعتدال، ولا نذهب بإرادتنا إلى الموت. وإن كُنا نعاني من مشقات لا حصر لها، فلا ننجذب لأولئك الذين يخافون ويترددون، بل علينا أن نشارك في الجهاد بجرأة مفضلين الحياة الأخرى على الحياة الحاضرة.

 

النساء يتابعن الموقف عند الصليب:

وكانت نساء واقفات عند صليب يسوع” (يو25:19). لقد أظهر الجنس الأضعف وقتذاك جرأةً أكثر؛ لأنهن صنعن كل شئ. لقد سلَّم المسيح أمه لتلميذه قائلاً “ هوذا ابنك” (يو26:19). يا لها من كرامة عظيمة! لقد كرَّم تلميذه بكرامة عظيمة!

فالمسيح يسلَّم تلميذه مهمة رعاية أمه بعد رحيله من هذا العالم. فمن السهل جدًا أن يطمئن عليها عندما تكون عند ذاك الذي كان يحبه، فقد كانت (بالنسبة ليوحنا) في منزلة أمه طبعًا، وكانت مغتمة وحزينة وتحتاج إلى عناية. ولذلك يقول لتلميذه ” هوذا أمك“. وقال كل ذلك لكي يوحَّد بينهما بالمحبة. الأمر الذي فهمه يوحنا ” ومن تلك الساعة أخذها التلميذ إلى خاصته” (يو27:19).

ولكن لماذا لم يقل شيئًا عن أي امرأة أخرى، بالرغم من وجود امرأة أخرى هناك؟ لكي يعلّمنا أن نعطى أمهاتنا رعايةً أكثر. فعندما يقاومنا الوالدان فيما يختص بحياتنا الروحية، لا يجب حتى أن نلتفت إليهما. لكن عندما لا يسبّبا لنا أية عراقيل في مسيرتنا الروحية يجب أن نقدم لهما  كل محبة. وأن يكونا في الرتبة الأولى قبل الآخرين؛ لأنهما احتملا مشقات لا حصر لها من أجلنا. هكذا أفحم (الرب) وقاحة ماركيون الهرطوقي؛ لأنه لو لم يكن وُلِدَ بحسب الجسد لما كانت له أم. وإلاَّ لأي سبب يعتني ـ فقط ـ بها وهو فوق الصليب؟

 

المسيح يقبل الموت بإرادته:

بعد هذا رأى يسوع أن كل شيء قد كمُل” (يو28:19)، بمعنى أنه لم ينقص شيئًا من خطة التدبير الإلهي؛ فقد حرص ـ بكل الطرق ـ أن يبرهن على أنه يواجه الموت في جسده لأول مرة. وطالما أن قبوله الموت كان متوقفًا على إرادته، ولم يكن قد واجه الموت في جسده قبل هذا الوقت، فقد قبله الآن طالما أنه أكمل كل شئ، لذلك قال (سابقًا): ” ليس أحد يأخذها مني بل أضعها أنا من ذاتي. لي سلطان أن أضعها ولي سلطان أن أخذها أيضًا” (يو10: 18).

لقد

عرف ـ إذن ـ أن كل شئ قد تمَّ. فقال ” أنا عطشان“. وهنا أيضًا يتمم النبوة. أرجو أن تنتبه لمدى رداءة هؤلاء الموجودين (من اليهود والرومان). فعلى الرغم مما قد يكون لنا من أعداء لا حصر لهم، وما قد يلحقوه بنا من شرور لا مفر من مواجهتها، إلاَّ أننا نأسف ونحزن عليهم عندما نراهم يقتلون أنفسهم. أمَّا هؤلاء فلم يتعاطفوا معه ولم يهدأوا حتى بعد كل ما رأوه، بل بالأكثر صاروا أكثر وحشية وزادوا من سخريتهم به وقدموا له خلاً موضوعًا على زوفا. هكذا سقوه. مثلما يفعلوا مع المدانين، لأنه كان يوجد إناءً مملوءًا خلاً (يو29:19).

فلما اخذ يسوع الخل قال قد أُكمل” (يو30:19). أراءيت كيف أنه فعل كل شئ بلا اضطراب بل بسلطان؟ هذا ما أظهره. وبعدما أتم كل شئ ” نكَّس رأسه“، “وأسلم الروح” بمعنى أن الروح قد انطلقت. فالنفس الأخير لم ينطلق أولاً، ثم بعد ذلك نكس الرأس، إذ أنه لم ينكس رأسه لأن روحه انطلقت، الأمر الذي يحدث معنا نحن البشر، بل انطلقت الروح بعد أن نكس رأسه. وهكذا أظهر الإنجيلي أنه كان رب الكل.

أمَّا اليهود الذين ” يصفون عن البعوضة ويبلعون الجمل” (مت23: 24)، فرغم ما فعلوه لم يهتموا بشيء إلاَّ بالبحث بكل تبجح عن الشكليات الجانبية. ” ثم إذ كان استعداد فلكي لا تبقى الأجساد على الصليب في السبت لأن يوم السبت عظيمًا سأل اليهود بيلاطس أن تُكسر سيقانهم ويرفعوا” (يو19: 31).

 

الكنيسة وجنب المسيح:

أرأيت قوة الحقيقة؟ لقد تحققت بعض النبوات بكل ما فعلوه بسيدنا المسيح. كما تحققت نبوة أخرى عندما أتى الجنود وكسروا سيقان اللصين لكنهم لم يكسروا عظام المسيح. ولكى يصنعوا خدمةً لليهود ثقبوا جنبه بحربه فجرى من الجسد الميت دم وماء. يا لها من نوايا دنسه وحمقاء! ولكن لا تنزعج ولا تتضايق أيها الحبيب؛ لأن كل ما فعلوه بقصد شرير، كان لإظهار الحق حيث إن ثمة نبؤة تقول:       ” سينظرون إلى الذي طعنوه” (يو19: 37، زك12: 10).

وليس هذا فقط، بل إن هذه الجسارة صارت برهانًا للإيمان عند أولئك الذين سوف يؤمنون، مثل توما وأمثاله. ومع كل هذا فقد تممَّ سرًا لا يُوصف؛ لأنه خرج منه دم وماء. هذان النبعان لم ينشئا صدفةً، إذ بالاثنين تتكون الكنيسة. والذين يشتركون في الأسرار يعرفون ذلك معترفين بالماء (المعمودية) ومتغذين بالدم والجسد (الإفخارستيا) من هنا ينالون الأسرار. لدرجة أنهم عندما يأتون إلى الكأس الرهيب، يأتون هكذا كأنهم يشربون من هذا الجنب المطعون.

 

يوحنا شاهد عيان:

والذي عاين شهد وشهادته حق” (يو35:19). أي لم أسمع من آخر. لكن أنا نفسي رأيت وكنت موجودًا هناك. وشهادتي هي حق وحسنة جدًا. لأنه يصف سُبابًا وشتائم ولا يصف شيئًا عجيبًا حتى لا يُسبب شبهه للوصف، بل هو نفسه سدَّ أفواه الهراطقة وقال مسبقًا عن الأسرار التى ستتم فى المستقبل، ورأى الكنـز الذي يوجد فيها. لقد وصف الحدث بدقة. لقد تحققت تلك النبوة التي تقول ” عظم لا يُكسر منه” (يو19: 36 مز33: 21). لأنه، بالرغم من أن هذا قِيل عن خروف اليهود (خروف الفصح) وإن كان المثال قد قيل مسبقًا، ولكنه صار منطبقًا بالأكثر على ما حدث هنا. لذلك أشار يوحنا الرسول إلى النبي؛ لأنه رأى أنه غير مستحق أن يشير إلى ذاته، فأشار إلى موسى قائلاً إن هذا لم يحدث صدفةً، بل قِيل مسبقًا من البداية. وهذا هو الذي قِيل عنه بأن “عظمًا لا تكسروا منه” (خر12: 46. عدد9: 12). وأيضًا ينسب للنبي تقييم الأحداث التي تُسرد. هذه الأقوال قالها لكى تعلموا أن علاقة المثال بالواقع الحقيقي علاقة كبيرة جدًا. أرأيت كيف أنه حرص على أن يصبح ذلك الأمر محل إيمان وتصديق، ذلك الأمر الذي يعتبر عارًا ويسبب خجلاً؟[5].

كل

هذا سجَّله الإنجيلي ” لكي تؤمنوا” (يو31:20). فلا يخجل أحدٌ متصورًا أن الإيمان بهذه الأمور يسيء إلى فضائلنا. لأن ما يعتبر عدم كرامة فإنه يمثل فخرًا لأمورنا الصالحة.

 

تكفين المسيح:

ثم إن يوسف الذي من الرامة وهو تلميذ يسوع” (يو38:19) لم يكن من الاثنى عشر لكن ربما من السبعين (لأنه بحسب اعتقاده أن غضب اليهود قد انطفأ بصلب المسيح أتى بدون خوف وانشغل بالتكفين). فقد أتى يوسف الرامي ليطلب خدمةً من بيلاطس، وبيلاطس منحها له. ولماذا لا يفعل هذا؟ لقد قدَّم يوسف خدمة إذ كان القبر جديدًا. وإذ كانوا مازالوا يعتبرونه المسيح إنسان عادى، ولتحقيق هذا الهدف (التكفين) حملوا معهم أطيابًا من التى لها خاصية حفظ الجسد لوقت أطول ولا تسمح للجسد أن للتحلل. الأمر الذى أظهر أنه لا يتوقعان (كل من يوسف ونيقوديموس) شيئًا أسمى من هذا. وبجانب ذلك فقد أظهر كل من يوسف ونيقوديموس حبهما الكبير للمسيح. لكن لماذا لم يأتِ أحد من الاثنى عشر، لا يوحنا ولا بطرس ولا شخصًا آخر من التلاميذ؟ والتلميذ (يوحنا) لا يُخفي هذا الأمر، فلو أراد أن ينكر مسألة الخوف من اليهود، لِما قال إن هؤلاء كان يتملكهم الخوف. حيث قال ” خفية بسبب الخوف من اليهود” (يو19: 37). ولا يستطيع أحد أن يقول إنه قال ذلك بسبب احتقاره الشديد لهما، بل هو نفسه برغم أنه خاف، إلاَّ أنه جاء (عند الصليب). أمَّا يوحنا فعلى الرغم من أنه كان موجودًا ساعة الصلب ورآه يُسلم الروح، إلاَّ أنه لم يفعل شيئاً مثل هذا (التكفين). فلماذا؟ أنا اعتقد بسبب أن يوسف كان من اليهود الرسميين جدًا (وهذا صار واضحًا من التكفين). وبسبب أنه كان معروفاً لبيلاطس. لذلك أخذ على عاتقه هذه الخدمة، وكفَّنه، ليس كمحكوم عليه، بل كشخص عظيم كما تقتضي العادة عند اليهود.

ونظرًا لضيق الوقت؛ لأنه مات قبل الساعة التاسعة وبعد ذلك أتى يوسف إلى بيلاطس ثم أنزل الجسد من على الصليب. وبالطبع كان وقت المساء حين لا يُسمح لأحد بالعمل، فوضعوه في قبر قريب.

 

 

لقد رتَّب التدبير الإلهي أن يوضع في قبر جديد لم يوضع أحد فيه حتى لا يظن أحدٌ أن شخصًا آخر ميتًا ـ كان في نفس القبر ـ قد قام مع يسوع. وحتى يستطيع التلاميذ أن يأتوا بسهوله وأن يروا بأعينهم الأحداث، طالما المكان قريب وكانوا شهودًا للقبر. ليس فقط هؤلاء، بل الأعداء أيضًا إذ ختموا القبر وقاموا بحراسته. هذه كلها كانت أمورًا تؤكد موته ودفنه في القبر. حيث اهتم المسيح بأن يُعترف بموته ليس بأقل من الاعتراف بقيامته. والتلاميذ اظهروا اهتمامًا كبيرًا بهذا حتى يبرهنوا أنه مات. ثم بعد ذلك الكرازة بالقيامة من الأموات.

[1] العناوين الجانبية من وضع المترجم.

[2] “هوذا تأتي ساعةٌ، وقد أتت الآن تتفرقون فيها كل واحد إلى خاصته وتتركوني وحدي. وأنا لست وحدي لأن الآب معي. قد كلمتكم بهذا ليكون لكم فيَّ سلام” (يو16: 32ـ33).

[3] يقصد القديس يوحنا هنا الهراطقة الذين ظنوا أن هناك تناقضاً بين آيات الكتاب المقدس، وتاه منهم المجال الذي يدور فيه حديث السيد.

[4] “طوبى للحزانى لأنهم يتعزون” (مت4:5).

[5]الكلام هنا عن وصف التفاصيل المشينة التي حدثت أثناء الصلب من تكسير العظام وغيره.

 

لك القوة والمجد – ق. يوحنا ذهبى الفم – د. جورج عوض إبراهيم

تقييم المستخدمون: كن أول المصوتون !