آبائيات

الاحتفال بالقيامة – ق. يوحنا ذهبى الفم – د. جورج عوض إبراهيم

الاحتفال بالقيامة - ق. يوحنا ذهبى الفم - د. جورج عوض إبراهيم

الاحتفال بالقيامة – ق. يوحنا ذهبى الفم – د. جورج عوض إبراهيم

 

الاحتفال بالقيامة - ق. يوحنا ذهبى الفم - د. جورج عوض إبراهيم
الاحتفال بالقيامة – ق. يوحنا ذهبى الفم – د. جورج عوض إبراهيم

 

الاحتفال بالقيامة

الصوم الجسدي والروحي، والسُكر بالخمر والسُكر الروحى

 

1 ـ بعد أن ألقينا حِمل الصوم من على كاهلنا، لا ينبغي أن نترك ثماره تتلف، إذ من الممكن أن نلقي عنا حمل الصوم بدون أن نكف عن إتلاف ثماره. انتهت الأتعاب، لكن لا ينبغي أن ينتهي اهتمامنا بنتائج جهادنا. انتهت فترة الصوم الأربعيني، ويا ليت التقوى تستمر وبالأحرى أيضًا ليت الصوم لا ينتهي. لا يخاف أحد، أنا أقول هذا لا لكي أعلن لكم عن بداية أربعين مقدسة أخرى، لكن لكي أقول لكم يجب أن تظلوا سالكين فى الفضيلة. الصوم الجسدي قد انتهى، ولكن الصوم الروحي باقٍ. فالثاني أفضل من الأول، كما أن الأول صار من أجل الثاني. وكما قلت لكم وأنتم صائمون إنه من الممكن ألاّ يعتبر الشخص صائمًا على الرغم من أنه يُمارس الصوم، هكذا أقول لكم الآن كيف أنه من الممكن أن “يصوم” الشخص غير الصائم، ربما يبدو أن ما  أقوله غريبًا، لكن سوف أشرح لكم كيف يكون ممكنًا ألاّ يكون الشخص غير صائمٍ على الرغم من ممارسته الصوم، يحدث هذا عندما يمتنع عن الطعام ولا يمتنع من الخطية.

 

          ومن ناحية أخرى كيف يمكن أن يكون الشخص صائمًا وهو لم يمارس الصوم؟ ونجيب عندما يأكل بحرية أطعمة مختلفة، لكنه يصوم ويتجنب تذوق طعم الخطية، هذا الصوم هو الأفضل والأسهل.

 

فكثيرون يجدون عذرًا لعدم الصوم متعلّلين بأن الصوم الجسدي يجلب أمراضًا خطيرة واضطرابًا رهيبًا. فقد يقول شخص: ضعفت صحتي من الأكل المسلوق بالماء، لا أستطيع أن أشبع بالخضروات. لقد سمعت كثيرًا من هذه الأعذار أثناء فترة الصوم، لكن لا يستطيع أحد أن يقول شئ مثل هذا عن الصوم الروحي. فالآن وقد انتهى الصوم، اجلس إلى المائدة، اشبع من اللحوم ولن يعوقك أحد، تذوق كل شئ بحرية، فقط ابتعد عن الخطية. هل رأيت أن هذا الصوم الروحى سهل للجميع؟ لا تستطيع أن تعتذر بالضعف الجسدي، فهذا الصوم هو مفخرة للنفس.

 

          أيضَا من الممكن أن يسكر المرء بدون أن يشرب الخمر، وبالعكس يمكن أن يظل متعقلاً طالما قد شرب باعتدال. اسمع ماذا يقول النبي عن إمكانية أن يسكر المرء دون أن يشرب الخمر: ” ويل للذين يسكرون بدون شرب الخمر” (إش28: 1س). لكن كيف من الممكن أن يسكر أحد بدون أن يشرب خمرًا؟ ونجيب عندما لا يُحَجِم بفكره عن الشهوات. إنه من الممكن أيضًا أن يشرب أحد الخمر ولا يسكر، لأنه إن لم يكن هذا ممكنًا، هل كان سينصح بولس تيموثاؤس ويكتب له قائلاً: ” اشرب خمرًا قليلاً من أجل معدتك” (1تي5: 23). لأن السُكر ليس شيئًا آخر إلا فقدان التعقل، واختلال العقل، والحرمان من الفهم. وهذه الأشياء لا يسببها فقط السكر، نتيجة إدمان الخمر، لكن تكون أيضًا نتيجة السُكر بالغضب وبالشهوات الجامحة. ونفس الأمر يسببه السهر والانفعال والضيق والأطعمة الفاسدة، فالأسباب مختلفة لكن النتيجة واحدة تلك التى تؤدى إلى نفس الأمراض. فالخمر كما قلنا يسبب السُكر، وأيضًا نفس الأمر تفعله الشهوة، والنتيجة رغم اختلاف الأسباب هي واحدة: المرض والمعاناة.

          فلنهرب من إدمان الخمر الذي يسبب السُكر، ولا أقول نهرب من الخمر بل من السُكر، فالخمر لا يسبب سُكرًا لأنه يدخل ضمن خيرات الله، وخيرات الله لا تسبب أي ضرر لكن رغبة النفس الشريرة هي التي تسبب السٌكر. اسمع ما يقوله بولس: ” لا تسكروا بالخمر الذي فيه الخلاعة” (أف5: 18). وبطريقة عجيبة وبجملة مختصرة أدان إدمان الخمر. ماذا يعني ” لا تسكروا بالخمر الذي فيه الخلاعة“؟ فالذين يمارسون الخلاعة هم أولئك الشباب الذين نالوا ميراثاً من والديهم وأنفقوه بدون أن يفكروا لحساب من يبذرون أموالهم ولا حتى يدركون أنه ينبغى عليهم أن يحافظوا على ما يملكون، لكن بعثروه كله على الزناة وعلى التفاهات مثل شراء الثياب والذهب والفضة. مثل هذا الشر هو سُكر، طالما أنه يأسر فكر هؤلاء الذين يُدمنونه، وتُستعبد عقولهم لهذا الشر، إذ يجبرهم على بعثرة كل ميراثهم الروحي بدون فهم: المُدمن لا يعرف متى يتحدث ومتى يصمت ففمه مفتوح دائمًا. والمُدمن لا يمكن أن يتحدث بأدب، لا يمكن أن يستخدم كنوز نفسه بالصواب، يصرف ويبذر كل كنوزه. السُكر هو جنون ينتابنا بإرادتنا، إنه خيانه للتعقل، هو كارثة يسخر منها الكل، هو مرض يتهكم عليه الجميع، إنه شيطان يستولي علينا بإرادتنا، إنه أكثر خطرًا من الجنون.

 

الامتناع عن السكر:

2 ـ هل تريد أن تعلم لماذا يعتبر المخمور هو أسوأ من الذى به شيطان؟ هذا الإنسان يحزن عليه الجميع، أما المخمور فيمقته الكل. الأول يجعلنا نشاركه الحزن، أما الثانى فيملأنا بالغضب والغيظ. لكن لماذا؟ لأن الأول هو مريض بغير إرادته، أما الثانى هو مريض نتيجة لا مبالاته. الذى به شيطان هو مريض والمسئول عن مرضه هو الشيطان، أما المخمور فهو مريض وهو نفسه المسئول عن مرض. والمخمور يعاني نفس ما يعانيه الذى به شيطان، يتصرف بنفس الطريقة، وبنفس الدرجة يظلمَّ عقله، وينهار، وبنفس الطريقة تَحوَّلَ عيناه، وبنفس الكيفية يسقط إلى أسفل على الأرض ويتلوى, يمتلئ فمه بالريم ويسيل منه لعاب قذر ويمتلئ فمه هكذا برائحة كريهة لا تُطاق. وأصدقائه يشعرون بإشمئزاز تجاهه، وأعداؤه يتهكمون عليه، وخُدامه يحتقرونه، وفي نظر امرأته هو تعيس، إنه مُزعج للجميع وتصرفاته ممقوتة إذ تتجاوز تصرفات الحيوانات، لأن الحيوانات تشرب على قدر ما تعطش، ويشبعون رغباتهم وفق إحتياجاتهم، بينما المخمور يتجاوز حدود احتياجاته ويصير بالأكثر أغبى من الحيوانات.

 

          والأسوأ هو أن هذا “المرض” الذي هو مملوء من الشرور ويسبب دمارًا شديدًا يتسابق عليه الجلساء على موائد الأغنياء، ويتنافسون تنافسًا شديدًا فيما بينهم حول مَن سوف يُسيئ إلى نفسه بالأكثر؟ مَنْ سوف يثير أعصابه بالأكثر؟ مَن سيدمر قوته النفسية والجسدية بالأكثر؟ مَن سيُغضِب بالأكثر رب المائدة بأفعاله؟ ويرى المرء في هذه الجلسات مناوشات ومنافسات تُسعد الشيطان. لذلك فإن المخمور هو في حالة يُرثى لها أكثر من رثاء الأحياء للأموات، لأن المائت لا يشعر بشئ ولا يفعل الصلاح ولا الشر، بينما المخمور قادر على أن يفعل الشر. وكأنه دفن نفسه وجعل جسده قبر لها، وأخذ يجول بجسد ميت.

          هل رأيت كم هو هالك أكثر من الإنسان الذى به شيطان؟ وكم أنه ميت وفى حالة أسوأ من الذين ماتوا؟ هل تريد أن أقول لك الأسوأ والأكثر إيلاماً من كل هذا؟ المخمور لا يمكن أن يدخل ملكوت السموات. مَن قال هذا؟ قاله الرسول بولس” لا تضلوا. لا زناة ولا عبدة أوثان ولا فاسقون ولا مأبونون ولا مضاجعوا ذكور. ولا سارقون ولا طماعون ولا سكيرون ولا شتامون ولا خاطفون يرثون ملكوت السموات” (1كو6: 9ـ10). هل سمعت مع مَنْ تشابه المخمور؟ مع عبدة الأوثان، ومع الزناة ومع المأبونين ومع الشتامين ومع الطماعين مع السارقين. لكن سوف يتساءل أحد هل المخمور والزاني يتساويان؟ لا تسألني، من فضلك، مثل هذه الأسئلة. اسأل بولس وسوف يرد عليك. لا أستطيع أنا أن أوكد لك إن كان المخمور سوف يُعاقب في الجحيم مثل الآخرين. لكن أستطيع بيقين أن أزعم بأنه سوف يفقد ملكوت السموات مثل عابد الأوثان. وطالما أن هذا هو ما يؤكده لنا بولس، لماذا تطلب تفسيرًا عن حجم هذه الخطية؟ أي لماذا تسألني عن درجة وثقل هذه الخطية، في الوقت الذي نحن متيقنين فيه أنه سوف يظل خارج الفردوس، وأنه سوف يفقد الملكوت، وسوف يفقد الخلاص، وسوف يذهب إلى الجحيم.

 

امتلئوا بنعمة الروح القدس

          يا أحبائي، أنا لا أخصكم بالحديث لأنني على اقتناع تام بأن نفوسكم متحررة من هذا المرض وهذه الشهوة، وبرهان عافيتكم هو حضوركم هنا، واستعدادكم الدائم للمجئ وانصاتكم بدقة لأقوال الله، لأن لا يوجد مخمور لديه القدرة لأن يسمع العظة الإلهية. ” لا تسكروا بالخمر الذي فيه الخلاعة بل امتلئوا بالروح” (أف5: 18). هذا هو الخمر الجيد، أن تملأ نفسك بنعمة الروح القدس ولا تملأها بالخمر الذي فيه الخلاعة. اعتني بأن تملأ فكرك وذهنك بنعمة الروح القدس، حتى لا يكون فارغًا وتسكن فيه هذه الشهوة المخيفة والقبيحة. لذلك لم يقل ضع في نفسك الروح القدس، بل قال: ” املأ نفسك بالروح القدس” وذلك باستخدام فعل “امتلئوا”.

          إذن املأ نفسك تمامًا من نعمة الروح القدس، حتى لا يستطيع الشيطان أن يضع شيئاً داخلك. لذا يجب أن تشتركوا في التسابيح والترانيم والألحان الكنسية، لأن بهذه الأمور التي تسمعونها اليوم وتفرحوا بها تمتلئوا بنعمة الروح القدس. وإني على يقين بأنكم متعقلون. يوجد أمامكم كأس مملوء بخمر جيد للسُكر الروحي، كأس سُكر يسبب التعفف والتعقل وليس الهذيان. وما هو هذا الكأس؟ هو الكأس الروحي، كأس دم الرب الأبدي. هذا الكأس لا يسبب سُكرًا، ولا هذيانًا، لأنه لا يُقيد قوتنا بل يشدّدها، لا يحل أعصابنا بل يقويها. هذا الكأس يخلق في داخلنا هدوء النفس، هذا الكأس يكرّمه الملائكة، وترتعب منه الشياطين، إنه الكأس الجدير بالتقدير والإحترام من جانب البشر والمحبوب لدى الله. اسمع ماذا قال داود عن هذا الكأس الروحي الموجود على المائدة المقدسة: ” قدمت لي كأسًا يعطي سُكرًا قويًا وعظيمًا” (مز 23: 5س).

 

          لقد أضاف داود عبارة ” قويًا وعظيمًا” حتى لا تخاف للتو عندما تسمع كلمة ” سُكرًا” وتظن أنه يجلب مرضًا. اذن لدينا طريقة جديدة للسُكر تضع فينا قوة وتجعلنا أكثر انضباطًا وأكثر عافية، لأن هذا السُكر يأتي من منبع روحي. وهو لا يضلّل أفكارنا لنفعل الشر ولكنه يخلق فينا أمورًا روحية جديدة.

 

البصخة (القيامة) عيد روحي 

3 ـ ليتنا نُفضل هذا السُكر الروحي ونبتعد عن السُكر الآخر، حتى لا نسئ إلى هذا العيد، لأن هذا العيد لا يُحتفل به فقط في الأرض لكن في السماء. فاليوم تفرح الأرض والسماء، لأنه إذا كان فرح عظيم على الأرض وفي السماء لخلاص خاطئ واحد، فإنه يصير فرح أعظم في السماء من أجل كل المسكونه التي حررها المسيح من يد الشيطان. اليوم تفرح الملائكة، اليوم يفرح رؤساء الملائكة فرحًا عظيمًا، اليوم السيرافيم والشاروبيم يشاركون في الاحتفال بالعيد.

 

          إنهم الآن لا يخجلون مِنا نحن الذين صرنا عبيدًا للرب، لكن يفرحون معنا لأجل خلاصنا. فبالرغم من أن الجنس البشري أُقيم بواسطة الرب، إلا أن الفرح هو خاص بهم. ولماذا أتحدث فقط عن الملائكة، الذين هم أيضًا عبيد لله؟! فرب الملائكة والبشر يشتهى أن يشاركنا في هذا الاحتفال. ولا أحتاج لأن أقول كيف إنه يشتهى، لأنه قال: ” شهوة اشتهت أن آكل الفصح معكم” (لو22: 15). وطالما أراد أن يحتفل معنا (بالفصح) بالبصخة، فمن الواضح أن نفس الأمر يسري على القيامة. إذن عندما تفرح الملائكة ورؤساء الملائكة ويحتفل معنا رب القوات السماوية، فلأي سبب نحزن؟

 

رؤية إفخارستية للغنى والفقر

          لا ينبغي أن يحزن أي فقير بسبب فقره، لأن هذا العيد هو عيد روحي. ولا ينبغي لأي غني أن يفتخر بسبب غناه، لأن أمواله لا يمكن أن تضيف شيئًا لفرح هذا العيد. ففي الأعياد الأخرى التي نشاهدها في حياتنا اليومية، يوجد الخمر والمائدة المملوءة بالأطعمة حيث الشراهة والضحك، كما تسودها الأفعال الشيطانية، من الطبيعي أن يكون الفقير حزينًا والغني فَرِحًا، لكن لماذا؟ لأن الغني يعد مائدة غنية تتميز بكل الرفاهية، بينما يستحي الفقير من فقره، إذ يظهر بهذا المظهر المتواضع. لكن هنا لا يحدث مثل هذا الأمر. فإنه توجد مائدة واحدة مشتركة لأجل الجميع، للغني وللفقير، ولا يستطيع الغني أن يضيف شيئًا لهذه المائدة، كما أن الفقير لا يُحرم بسبب فقره من الشركة فى هذه المائدة الإلهية، لأن النعمة الإلهية تُقدم هنا للكل. ولماذا يبدو لك أنه أمر غريب أن تُقدم مائدة واحدة للغني وللفقير معًا؟ طالما أن هذا الأمر يسرى على الملك نفسه، فالملك الذي يلبس الثياب الملوكية ويضع التاج على رأسه، والذي له سلطة عظيمة على كل الأرض، يشارك الفقير، الذي يطلب إحسانًا، نفس المائدة. وهذه هي العطايا التي يقدمها لنا الرب. إنه لا يقسّم المجتمع إلى طبقات وفقًا للمكانة الاجتماعية، لكنه يعامل كل واحد بحسب استعداده الشخصى وإيمانه.

 

          إذن عندما ترى في الكنيسة الفقير يقف بجوار الغني، والرئيس بجوار المواطن العادي، والمغمور بجوار المشهور، وعندما ترى ذاك الذي يرتعب خارج الكنيسة من الضابط صاحب المقام العالي لكنه الآن يقف بجواره، عندئذ سوف تفهم ماذا تعني عبارة ” سيوجد الذئب مع الحمل” (إش6: 11). بالتالي فالكتاب يدعو الغني ذئبًا والفقير حملاً. من أين نستنتج أن الذئب سوف يتآلف مع الحمل، مثلما يتألف الغني مع الفقير؟ انتبه لما أقوله. مرات كثيرة يأتي إلى الكنيسة الغني والفقير وعندما يأتي وقت تقديس الأسرار المقدسة، يضطر الغني لأن يخرج خارج الكنيسة، لأنه مازال في عداد الموعوظين، بينما يظل الفقير داخل الكنيسة[1]، وهذا لا يسبب غضبًا للغَنى، لأنه يعرف أنه مازال بعيدًا عن التقدم الأسرار الإلهية. آه كم عظيمة هي نعمة الله! إن نعمة الله تجعل كل الذين هم داخل الكنيسة ليسوا فقط متساوين، بل مرات كثيرة يتفوق الفقير على الغني في التقوى، لأن الغني الذى لا يعيش بالتقوى لا ينتفع إطلاقًا بما يملكه، كما أن الفقر لا يسبب ضررًا للمؤمن الذي يقف بتقوى وخوف أمام المذبح المقدس. هذا أقوله، يا أحبائي، للموعوظين وليس لأولئك الذين هم مجرد أغنياء. تأمل، أيها الحبيب الذى كُتب، إن سيد البيت يترك الكنيسة بينما يظل العبد في الكنيسة يتابع الأسرار لأنه مسيحي مؤمن، وترحل السيدة وتبقى العبده ” لأن الله لا يحابي الوجوه” (غلا2: 6). إذن لا يوجد في الكنيسة عبد وحر. إنما الكتاب يعتبر العبد هو مَنْ يُستعبد للخطية      ” لأن من يفعل الخطية هو عبد للخطية” (يو8: 34). كما أنه يصف الحر بأنه ذاك الذي حررته نعمة الله من الخطية.

          إذن يأتي الملك والفقير إلى هذه المائدة بنفس الثقة وبنفس الكرامة، ومرات كثيرة يأتى الفقير بكرامة أعظم. لكن لماذا؟ لأن الملك كثيرًا ما يتورط في آلاف الأمور العالمية وتضربه ـ كسفينة فى عرض البحر ـ أمواج الخطية التي تحيط به، بينما الفقير الذي ينشغل فقط بطعامه الضروري، تتسم حياته بالهدوء والسكينة، فهو هادئ كما لو كان موجودًا في الميناء، ويقترب إلى المائدة المقدسة بدون اضطراب.

 

          أيضًا في الأعياد العالمية يتضايق الفقير، بينما يفرح الغَني، ليس فقط لأجل حرمانه من المائدة المملوءة بالأطعمة لكن أيضًا لأجل افتقاره للملابس الغالية الثمن. فما عانى منه بسبب المائدة، يعاني منه بسبب الملابس. فعندما يرى الفقير أن الغني يلبس الملابس الغالية والثمينة، يتضايق كثيرًا ويعتقد في نفسه أنه أكثر تعاسة من الكل. لكن هنا في الكنيسة يختفى هذا النوع من الفقر، لأن هنا يوجد لباس واحد للجميع، لباس العماد الخلاصي. لذلك يقول بولس: ” أنتم الذين إعتمدتم قد لبستم المسيح” (غلا3: 27).

 

 

إذن ليتنا لا نُهين هذا العيد بالسُكر، لأن إلهنا قد كرَّم الأغنياء والفقراء، العبيد والسادة على السواء. لكن يجب أن نستجيب لإحسانات الرب علينا، والاستجابة الممتازة هي أن نحيا فى توبة عن ارتكاب الخطايا وأن تكون نفوسنا متيقظة. هذا العيد وهذا الاحتفال لا يتطلب أموالاً ولا نفقات، بل يحتاج إلى الاستعداد الروحى والفكر الصالح. هنا لا يوجد شئ مادي يُباع، لكن توجد كلمة الله، وطلبات الآباء القديسين، وبركات الكهنة، والوفاق والسلام، والإتفاق، هنا العطايا والمكافأت الروحية.

ليتنا نشترك ـ إذن ـ في هذا العيد العظيم والبهي، أى في قيامة ربنا.

ليتنا نُعيّد له بالفرح والتقوى معًا، لأن الرب قام وقامت معه كل المسكونة.

قام المسيح ومزق رباطات الموت،

وبينما أخطأ آدم ومات بسبب الخطية،

فإن المسيح لم يخطئ ولكنه مات.

هذا الحدث عجيب ومدهش!.

فآدم أخطأ ومات،

بينما المسيح مات فى حين أنه لم يخطئ.

وأتساءل لأي سبب؟

 

          لقد حدث هذا لكي يستطيع ذاك الذى أخطأ ومات (آدم) أن يتحرر من قيود الموت بمعونة (المسيح) الذي مات دون أن يخطئ. مثلما يحدث في حالة الإقتراض، فالشخص الذي عليه دين، إن لم يكن لديه مال ليدفع دينه سوف يُسجن، فإذا وُجِد شخص آخر لديه مال ويريد أن يدفع عنه الدين، فإذا دفع دينه يكون قد منحه الحرية. هكذا صار في حالة آدم. استدان آدم وكان في قبضة الشيطان، ولم يكن لديه ما يدفعه، لكن المسيح لم يُستدِن ولم يكن في قبضة الشيطان، لكنه كان الوحيد الذي يمكنه أن يسدد الدين. فأتى ودفع بموته دين ذاك الذي كان في قبضة الشيطان، لكي يحرره.

الموت والقيامة

4 ـ رأيت ما الذي ظفرنا به بقيامة المسيح؟ نحن متنا مرتين، لذلك يجب أن ننتظر قيامة مزدوجة. والمسيح مات مرة واحدة، لذلك قام مرة. كيف حدث ذلك؟ سوف أشرح لكم؟ لقد أخطأ آدم فمات جسديًا ونفسيًا إذ قال له الرب: “ يوم تأكل من هذه الشجرة موتاً تموت” (تك2: 17). وفي ذلك اليوم لم يذق الموت الجسدي لكن موت الخطية (النفس). لقد ماتت نفسه[2] وبعد ذلك مات جسده هنا في الأرض. موت النفس هو نتيجة الخطية والعقاب الأبدي. لذلك يقول المسيح: ” ولا تخافوا من الذين يقتلون الجسد ولكن النفس لا يقدرون أن يقتلوها. بل خافوا بالحرى من الذي يقدر أن يهلك النفس والجسد كليهما في جهنم” (مت10: 28).

 

          لكن دعونا أن نرجع مرة ثانية إلى هذا الذي قلته سابقًا، أي أن الموت الذى نجتازه هو موت مزدوج. وبما أن الأمر هكذا، إذن يجب أن تكون القيامة أيضًا مزدوجة. أما في حالة المسيح فإنه مات مرة واحدة، لأنه لم يخطئ كما أخطأ آدم أولاً، لكن الموت الواحد الذى ماته على الصليب صار لنا، لأنه هو لم يكن يستحق يموت، لأنه كان بلا خطية، وبالتالي جاز الموت وهو لم يكن مسئولاً عنه. لذلك قام مرة واحدة، كما مات مرة واحدة. لكن نحن الذين نموت مرتين، يجب أن نقوم مرتين. قمنا من الخطية القديمة طالما أننا بالعماد الذي قبلناه دُفنا معه، وبالمعمودية أيضًا قُمنا معه. هذه هي القيامة الأولى التي خلّصتنا من الخطية، بينما الثانية تخص قيامة الجسد. لقد منحنا الرب القيامة العظمى، فيجب أن ننتظر الصغرى. الأولى أعظم من الثانية، طالما أن هناك ضرورة للتخلص من الخطايا. لقد سقط الإنسان بسبب الخطية. وطالما أن الخطية هي سبب السقوط، فبداية القيامة يجب أن تكون التخلّص من الخطية. إذن فقد حصلنا على القيامة العظمى، إذ زال عنا موت الخطية الرهيب وخلعنا الملابس القديمة. ليتنا لا نقلل من قيمة القيامة الثانية. إذن نحن قد حصلنا على القيامة الأكثر أهمية، عندما تعمدنا نحن، وكذلك كل الذين استحقوا أن يُعمدوا هذا المساء[3].

 

          أمس كان الرب فوق الصليب، لكنه الليلة قد قام، وهؤلاء (المقبلين على المعمودية) كانوا بالأمس عبيدًا للخطية، لكنهم الآن قاموا مع المسيح. ذاك مات جسديًا وقام جسديًا، هؤلاء ماتوا بالخطية وتحرروا من الخطية وقاموا. حسنًا هذه الأرض في فصل الربيع تنبت ورودًا وريحانًا. لكن مياه هذا الفصل (إذ صارت مياهًا للمعمودية) تقدم لنا نبعًا عظيمًا. ولا تتشكك كيف تنبت الورود من الماء. لأن في بداية الخليقة أفاضت الماء كائنات حية تتحرك إذ قال الله: ” لتفض المياه زحافات ذات نفس حية” (تك1: 20)، وقد تحقق أمره على الفور. هكذا الآن، فمياه المعمودية لم تلد كائنات حية، لكنها ولدت مواهب روحية. لقد ولدت المياه وقتئذ (أي في الخلق) أسماك بدون عقل أو نطق، لكن الآن ولدت المياه أسماكًا روحية وعاقلة، أسماكًا اصطادها الرسل. وطريقتهم فى الصيد هي في الحقيقة طريقة جديدة. فمن يصطاد السمك يخرجه من المياه، بينما نحن نلقيها داخل الماء وهكذا نصطادها.

 

          كان لليهود أيضًا معمودية. لكن اسمع أى قوة كانت لها حتى تدرك مدي الفقر اليهودي ولكي تعلم مدى غنى كنيسة المسيح. كان لديهم “بِركة” بها ماء وينزل ملاك ليحرك المياة. وبعد تحريك المياه يدخل مريض واحد إلى المياه ويشفى. واحد فقط يُشفى خلال السنة كلها، وبعد ذلك تُستنزف النعمة مباشرة، ليس لأن من يمنحها هو فقير، لكن لأن أولئك الذين سينالون النعمة هم غير قادرين (على اقتنائها). إذن ينزل الملاك إلى “البِركة” يحرك المياه ويشفى واحد فقط. بينما رب الملائكة نزل فى الأردن، وحَرَك المياه وشفى كل المسكونه. في تلك المعمودية لم يُشف ذاك الذي دخل إليها وترتيبه الثانى، أى بعد نزول الأول، لأن نعمة الله هناك تُقدم الى اليهود الفقراء والمرضى روحياًً، لكن هنا، بعد نزول الأول يدخل الثانى ثم الثالث وهكذا حتى لو نزل العاشر أو العشرين أو المائة أو الآلاف، ولو نزلت كل المسكونة، لا تتوقف نعمة الله، لا تنتهى القوة الصالحة ولا تتدنس المياه. لدينا طريقة جديدة للتطهير والتى لا تنحصر فى الجسد فقط. لأنه عندما نغسل الأجساد فبقدر ما نغسلها كثيرًا بقدر ما تتدنس المياه بالأكثر، بينما هنا بقدر ما تغتسل النفوس بقدر ما تصير المياه نظيفة بالأكثر.

 

حرب ضد الخطيئة

هل رأيت كم أحسن إلينا الرب كثيرًا ؟ فيجب عليك أيها الإنسان، أن تحرس هذه العطية معترفًا بالجميل، واخضع لناموس الله واحفظه بكل دقة. فالحياة هى جهاد وصراع، ومن يجاهد عليه أن يظل منضبطًا في كل شئ، وسوف أقول لك طريقة جيدة وآمنة لكى تنجح. ليتنا نبعد عن نفوسنا تلك الأمور التي تبدو أنها ليست شريرة، لكن تُوّلِد خطايا. لأن بعض من أعمالنا هي خاطئة وبعض الأعمال الأخرى ليست خاطئة، ولكن الثانية قد تصير سببًا للخطايا. فالضحك ـ على سبيل المثال ـ ليس فى حد ذاته خطية، لكن يصير خطية عندما يتجاوز الحد. لأننا ننقاد من الضحك إلى التهكمات ومن التهكمات إلى الأقوال الهزلية، ومن الأقوال الهزلية إلى الأعمال القبيحة، ومن الأعمال القبيحة إلى الجحيم والعقاب. إذن اقتلع الجذر من أساسه لكي تُشفى من المرض كله، لأننا لو حفظنا ذواتنا من تلك الأمور التي تبدو أنها ليست شريرة، فلن نصل على الإطلاق إلى مستوى الانحلال الخلقي. هكذا يعتقد الكثيرون، على سبيل المثال: إنه ليس شرًا أن نرى المناظر المثيرة، لكن أقول إنه من هذه النظرة الشريرة تُولد الرغبة المنحلة، والشهوة تقود إلى الزنى ونتيجة الزنى هى الجحيم والعقاب. والتنعم ليس شرًا، لكن منه يأتي السُكر ومن السُكر شرور كثيرة تصاحبها.

 

 

ليتنا نجتث جذور الخطايا. وسيتحقق لنا هذا إن استمعنا باستمرار وكل يوم  لكلمة الله، لذلك لدينا اجتماع فى كل أيام الأسبوع وفيه نقدم لكم المائدة الروحية ونعطيكم فرصة لأن تسمعوا كلام الله، نُعدِّكم يوميًا ونُسلحكم ضد الشيطان، لأنه الآن يهاجمكم بشراسة. وكلما يفيض الله عليكم بالنعمة، بقدر ذلك يصنع الشيطان معكم حربًا شديدة، فالشيطان ـ كما نعرف ـ لا يطيق أن يرى إنسانًا واحدًا في الفردوس. اخبرني، كيف سيتحمل أن يرى كثيرين في السماء؟ اغضِب الوحش، ولا تخاف، إذ لديك قوة عظيمة، وسيف مسنون، اضرب به الحيّة (الشيطان). ولقد سمح الله للحيّة أن تستشيط غضبًا ضدك، لكي تكتسب الخبرة وتدرك حجم القوة التي فيك. ومثل مدرب متميز عندما يتعهد لاعبًا ويغيره من حالة الخمول واللامبالاة وذلك بإعداده بالتدريبات ليُرجع له قوته الجسدية ليخوض المسابقات، عندئذٍ لا يتركه ليهدأ، لكن يشجعه لكي يشارك باستمرار في المسابقات حتى يتعرف عمليًا على مدى القوة التي اكتسبها. وهكذا فعل المسيح، إذ بينما لديه المقدرة لأن يجرد العدو (ويقصيه عن الدخول فى أى منافسة) فإنه لكي يعلّمك مدى عظمة القوة الروحية التي أخذتها في المعمودية، سَمَح للشيطان أن يصارعك لكي يقدم لك فرص كثيرة لتنتصر وتتوج. لذلك على مدى سبعة أيام مستمرة تسمعون كلمة الله، لكي تتعلّموا بالضبط فنون وأسرار الجهاد. على الجانب الآخر هذا الذي يحدث هنا (في الكنيسة) هو زواج روحي. ففي بيت الزوجية نجد أن  حجرة العروس مزينة حتى اليوم السابع. لذلك رأينا نحن أن تظلوا سبعة أيام في هذه الحجرة المُزينة (الكنيسة)، وإذا أردت، تستطيع أن توجد طول فترة حياتك في هذه الحجرة (الكنيسة). أيضا في الزواج بين البشر، بعد الشهر الأول أو الثاني تقل محبة العريس تجاه عروسه، لكن هنا لا يصير نفس الأمر، لكن بقدر مرور الزمن، تصير محبة العروس أعظم، والقبلات أنقى والعلاقة أكثر روحانية إن بقينا في الفضيلة. أيضًا الأجساد تَهِرَّم بعد مرور زمن الشباب، لكن هنا تأتى الحيوية والشباب، إنها تأتي بعد أزمنة الكِبر والعجز، والحيوية تظل دائمًا إذا أردنا.

 

          عظيمة هي النعمة التي يمنحها الله لنا، وستكون أعظم إذا أردنا نحن. وبولس كان عظيمًا قبل أن يعتمد، لكن صار أكثر عظمة بعد العماد، وذلك عندما كرز بكلمة الله وزعزع نفوس اليهود. وبعد هذه الأعمال العظيمة اختُطف إلى الفردوس وصعد حتى إلى السماء الثالثة.

 

          هكذا نستطيع نحن، إذا أردنا، أن نصير عظماء وننمو فى النعمة التي أعطاها الله لنا عندما إعتمدنا. ونصير فى مكانة أعظم وأبهى ونتقدم بالأكثر فى ممارسة أعمال الفضيلة. وعندما يصير هذا، سوف ندخل إلى حجرة العُرس مع العريس بشجاعة عظيمة، وسوف نستمتع بالخيرات التي توجد هناك فى صحبة أولئك الذين يحبونه. وياليتنا جميعًا نستمتع بهذه الخيرات بنعمة ومحبة ربنا يسوع المسيح الذى له المجد والسجود مع الآب والروح القدس إلى أبد الآبدين، آمين.

[1] يقصد ذهبى الفم أن الغنى لو كان من ضمن الموعوظين ولم يدخل بعد فى شركة الكنيسة بالمعمودية المقدسة فلا يحق له إلاّ أن يشترك فى قداس الموعوظين فقط، أما قداس المؤمنين فيحق حضوره للمؤمنين فقط.

[2] بانفصالها عن الله الذى هو مصدر الحياة.

[3] وهذا يوضح أن سر المعمودية قديمًا كان يُمارس فى ليلة عيد القيامة والسبب فى ذلك واضح من ارتباط فعل المعمودية بالموت والقيامة.

 

الاحتفال بالقيامة – ق. يوحنا ذهبى الفم – د. جورج عوض إبراهيم

تقييم المستخدمون: كن أول المصوتون !