آبائيات

رسالة فيلبي ع5 – ق. يوحنا ذهبي الفم – جورج ميشيل أندراوس

رسالة فيلبي ع5 - ق. يوحنا ذهبي الفم - جورج ميشيل أندراوس

رسالة فيلبي ع5 – ق. يوحنا ذهبي الفم – جورج ميشيل أندراوس

 

رسالة فيلبي ع5 - ق. يوحنا ذهبي الفم - جورج ميشيل أندراوس
رسالة فيلبي ع5 – ق. يوحنا ذهبي الفم – جورج ميشيل أندراوس

 

تفسير رسالة بولس الرسول إلى أهل فيلبي

للقديس يوحنا ذهبي الفم

جزء أول (العظات من 1 ـ 8 )

ترجمة عن اليونانية

الباحث جورج ميشيل أندراوس

 

 

العظة الخامسة

 

   فَمَاذَا أَخْتَارُ؟ لَسْتُ أَدْرِي! فَإِنِّي مَحْصُورٌ مِنْ الاثْنَيْنِ: لِيَ اشْتِهَاءٌ أَنْ أَنْطَلِقَ وَأَكُونَ مَعَ الْمَسِيحِ، ذَاكَ أَفْضَلُ جِدًّا. وَلكِنْ أَنْ أَبْقَى فِي الْجَسَدِ أَلْزَمُ مِنْ أَجْلِكُمْ. فَإِذْ أَنَا وَاثِقٌ بِهذَا أَعْلَمُ أَنِّي أَمْكُثُ وَأَبْقَى مَعَ جَمِيعِكُمْ لأَجْلِ تَقَدُّمِكُمْ وَفَرَحِكُمْ فِي الإِيمَانِ، لِكَيْ يَزْدَادَ افْتِخَارُكُمْ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ فِيَّ، بِوَاسِطَةِ حُضُورِي أَيْضًا عِنْدَكُمْ.[1].

 

   لا شئ أكثر غبطة ولا أكثر نبلاً من روح القديس بولس. فنحن جميعًا نرتجف من الموت، البعض وأنا منهم نخشى الموت، بسبب الخطايا، والبعض الآخر بسبب محبة الحياة وبسبب الجُبن، وياليتني ألا أكون من بين هؤلاء أبدًا، لأن هؤلاء الذين يخافون مثل هذا الخوف هم نفسانيون. إذًا فهذا الذي يرتجف منه الجميع أي الموت قد طلبه ق. بولس، وكان يشتهي الإنطلاق ليكون مع المسيح موضّحًا أن إنطلاقه من هذا العالم أفضل جدًا. إذًا ماذا تقول؟ فأنت بصدد أن تنتقل من الأرض إلى السماء، وأن تكون مع المسيح، ولا تعرف ماذا تختار. لكن هذه الخبرة هى غريبة بالنسبة لروح القديس بولس. لأن مَنْ من البشر إن أعطاه أحد هذا الوعد مع تأكيدات لذلك، ألا يتمسك به على الفور؟! نعم لأنه كما أنه ليس في أيدينا أن ننطلق من هذا العالم ونكون مع المسيح، فإنه ليس في أيدينا أيضًا أن نبقى في هذه الحياة الحاضرة، لكن الاثنين كانا في متناول ق. بولس. وفي أي أمر كان واثقًا؟ فأنت (أيها الرسول) بصدد أن تكون مع المسيح، وتقول لا أعرف ماذا أختار؟ وليس هذا فقط بل وتختار هذه الحياة؟ أتبقى في الجسد في هذا العالم؟ ألم تحيا حياة مُرّة؟ في سهر، في غرق، في جوع وعطش وعُري، في اهتمام ورعاية؟ مع الضعفاء كنت تضعف، ولأجل مَنْ يعثر كنت تلتهب. إذ يقول: ” في صبر كثير في شدائد في ضرورات في ضيقات. في ضربات في سجون في اضطرابات في أصوام في طهارة “. ” خمس مرات قَبلْتَ أربعين جلدة إلاّ واحدة، ثلاث مرات ضُرِبتَ بالعصى، مرة رُجمت. ليلاً ونهارًا قضَّيت في العُمق. بأخطار سيول. بأخطار لصوص بأخطار في المدينة. بأخطار في البرّية. بأخطار من أخوة كذبة[2].

   وحينما رجع الغلاطيون لحفظ وصايا الناموس ألم تصرخ قائلاً:  ” أيها الذين تتبررون بالناموس. سقطتم من النعمة[3]؟ فلماذا إذًا لا تشعر بالأسى، ولازلت ترغب في أن تبقى في هذه الحياة الحاضرة؟ لأنه إن لم يحدث لك أي شئ من هذا، ولكن كل ما أنجزته، قد أتممته بأمان، وهدوء، ألم يكن من الأجدر أن تسرع إلى الميناء خشية المستقبل غير المؤكد؟ أخبرني أي تاجر هذا الذي يرغب في أن يستمر في الإبحار بينما سفينة شحنه المملوءة بالأشياء الثمينة قد وصلت إلى برّ الأمان. وأي رياضي هذا الذي يُفضّل أن يستمر في المباراة بينما هو بصدد أن يُكلّل؟ وأي ملاكم هذا الذي يُفضّل أن يأتي مرّة أخرى إلى الصراع ويُضرب رأسه بشدة بينما هو مهيئ لكي ينال إكليل الفوز؟ أي قائد هذا، الذي في مقدوره أن يُعفَى من الحرب وينال صيتًا حسنًا وتذكارات وأن يستريح بأن يجلس في القصور إلى جوار الملك، يختار أن يشقى وأن يستمر في القتال؟ فكيف إذًا ترغب أن تبقى في الجسد وتعيش هذه الحياة المُرّة؟ ألم تقل: أخاف أنه بعدما كرزت للآخرين أصير أنا نفسي مرفوضًا؟[4] فإن لم يكن هناك أى شئ آخر، فعلى الأقل لأجل هذا كان يجب أن يرغب في الإنطلاق، حتى وإن كانت الحياة الحاضرة مليئة بالخيرات الكثيرة، فعلى الأقل لأجل المسيح المشتاق إليه كان ينبغي أن يفضِّل هذا الإنطلاق.

   يا لهذه الروح التي للقديس بولس! لا يوجد لها مثيل، ولن يكون. أتخاف المستقبل، وتعاني آلامًا كثيرة، ولا تريد أن تكون بجانب المسيح؟ يجيب بلا، فإن أبقى في الجسد فهو لأجل المسيح، كي أجعل هؤلاء الذين صيّرتهم عبيدًا له، أكثر حبًا له، وحتى أجعل الحقل الذي زرعته يأتي بالثمر. ألم تسمع إني لم أطلب ما لنفسي، وإنما ما هو لمنفعة الآخرين؟ ألم تسمع، أني كنت أود لو أكون محرومًا (من المسيح)، من أجل أن يأتي الكثيرون للمسيح؟ فمن اختار هذه (المتاعب)، ألا يختار بالأحرى أن يبذل نفسه فرحًا بهذا التأخير والتأجيل، حتى يخّلص الآخرين؟

   من يتّكلم بأعمالك العظيمة أيها الرب[5]، لأنك لم تترك بولس دون أن تُظهره، لأنك قدَّمت للعالم مثل ذلك الرجل؟ لقد سبَحتَّك كل الملائكة معًا، حينما خَلَقْتَ النجوم[6]، وحينما خَلَقْتَ الشمس، ولكن حينما أظْهَرْتَ بولس للعالم أجمع كان تسبيحهم أعظم. بواسطته صارت الأرض أكثر ضياءًا من السماء، لأنه أبهى من ضوء الشمس، وأبهى من إشراقها، وأكثر لمعانًا من أشعتها. فكم يكون مقدار الثمر الروحي الذي قدمه لأجلنا، فالأمر لا يتعلق بزيادة في سنابل القمح ولا بزراعة الرمان، وإنما بإنتاج وإنضاج ثمر البر، وحينما نسقط في أخطاء فدائمًا ما يسترّدنا. بينما لا تقدر الشمس أن تفيد الجزء الذي فسد من الثمر مرة واحدة، إلاّ أن بولس دَعا هؤلاء الذين كانوا في فساد مضاعف أن يتركوا خطاياهم. ورغم أن الشمس تفسح مجالاً لظلام الليل، إلاّ أن بولس كان له سلطان ألا يفسح مجالاً لظلمة أعمال الشيطان.

   لا شئ كان يمكن أن يقهر ذلك القديس، أو أن يسود عليه. فبينما كانت (الشمس) تُرسل من العلو أشعتها إلى الأرض، كان هذا الطوباوي يشرق من أسفل، ويملأ بالنور ليس فقط ما بين السماء والأرض، بل أنه كان بمجرد أن يفتح فاه، يغمر الملائكة بالفرح العظيم. لأنه إن كان هناك فرح في السماء بخاطئ واحد يتوب، فكيف لا يملأ ق. بولس القوات السمائية بالفرح وهو الذي جذب الكثيرين بعد سماعهم له لأول مرة؟ ماذا أقول؟ فإنه يكفي فقط أن يتكلم بولس، والسموات تثب وتفرح. فإن كانت الجبال قد قفزت مثل الكباش حينما خرج الإسرائيليون من مصر[7]، فكم تظن حجم الفرح حينما انتقل البشر من الأرض إلى السماء؟ لأجل هذا يقول إن بقائي بالجسد في هذه الحياة الحاضرة، لهو أكثر إحتياجًا لأجلكم.

أي عذرٍ لنا؟ قد يحدث أن يرغب الإنسان في مرّات عديدة أن يعيش في مدينة صغيرة وفقيرة، ولا يرغب في أن ينتقل لمكان آخر، وإنما يفضّل هدوءه الخاص. إن ق. بولس كان يشتهي أن ينطلق ويكون مع المسيح، الذي كان يشتاق إليه كثيرًا، لكنه لم يفعل ذلك، حتى يتمم عمله مع أخوته. لذلك كان يمكن أن يقبل حتى الجحيم (أي الحرمان من المسيح)[8] لذا بقى في الجسد، كي يجاهد من أجل كل الناس. فأي عذر لنا؟ فهل يجب إذًا أن نذكر ق. بولس هكذا ببساطة؟ فلاحظ ماذا فعل. بيَّن أنه من الأفضل أن ينطلق، وحتى لا يشعر بالأسى، أشار إلى أنه وحتى إن بقى في هذه الحياة فذلك لأجل منفعة إخوته. ولكي يقنع هؤلاء بما يفعل، فإنه أورد السبب وكأنه يقول : إنني بالتأكيد سأبقى في الحياة، إن كان هذا ضروريًا، لا مجرد أن أبقى، وإنما سأبقى معكم. لأن ذلك هو ما يعنيه بقوله ” أبقى مع جميعكم “، بمعنى أنني سأراكم. ولأي سبب؟ ” لأجل تقدّمكم وفرحكم في الإيمان “. هنا أيضًا هو ينهضهم حتى يلاحظوا أنفسهم. فيقول إنه إن بقيت فهذا لأجلكم، فانتبهوا لا تخزوا بقائي بينكم. فبينما كنت بصدد الإنطلاق لرؤية المسيح، إلاّ أنني اخترت أن أبقى في الحياة الحاضرة، ولأن حضوري سيساعدكم في الإيمان وفي الفرح، فقد اخترت أن أبقى لأجل تقدّمكم. ماذا إذًا؟ هل بقى (ق. بولس) فقط لأجل الفيلبيين؟ لم يبق لأجلهم، وإنما يقول هذا كي يظهر الإهتمام بهم. فكيف كان ممكنًا أن يتقدّموا نحو الإيمان؟ فبقائه كان لأجل أن يثبتوا أكثر، مثل صغار الطير التي لها حاجة للأم، حتى تقوى أجنحتها. هذا برهان على محبته الكبيرة. هكذا نحن أيضًا نُنهض البعض، حينما نقول لشخص إنني بقيت لأجلك، كي أجعلك إنسانًا صالحًا.

لكي يزداد افتخاركم في المسيح يسوع فيّ بواسطة حضوري أيضًا عندكم “. أرأيت كيف أن عبارة ” أبقى مع جميعكم ” تعني هذا المعنى؟ لاحظ تواضعه. فبقوله “لأجل تقدّمكم ” يبيّن أنه يهدف إلى فائدته هو أيضًا. هذا ما يفعله أيضًا حينما يكتب لأهل رومية قائلاً: ” أى لنتعزى بينكم ” بعد أن سبقها بالقول ” لكي أمنحكم هبة روحية[9]. وماذا يعني ” لكي يزداد افتخاركم “؟ فإن ذاك الإفتخار، هو أن يكونوا ثابتين في الإيمان، لأن ذلك هو الافتخار في المسيح؛ أن يعيش أحد بإيمان ثابت.

افتخاركم فيَّ بواسطة حضوري أيضًا عندكم “. يقول ” لأن من هو رجاؤنا واكليل افتخارنا أم لستم أنتم أيضًا [10]. ” إننا فخركم كما أنكم أيضًا فخرنا[11] بمعنى أنني أستطيع أن أفتخر بكم أكثر. كيف؟   ” لكي يزداد افتخاركم “. أستطيع أن أفتخر كثيرًا جدًا، حينما تتقدّمون. ” بواسطة حضوري أيضًا عندكم ” ماذا إذًا؟ هل أتى لهؤلاء؟ ابحثوا أحقًا هكذا؟

يقول ” فقط عيشوا كما يحق لإنجيل المسيح [12]. أترى كيف أنه قال كل شئ لأجل هذا؛ لكي يحضّهم على اقتناء الفضيلة؟ ” فقط عيشوا كما يحق لإنجيل المسيح “. ماذا يعني بكلمة “فقط”؟ أي أن هذا هو الذي تطلبونه فقط، ولا شئ آخر، إن وُجد، فلن يحدث لنا أي شئ مؤلم.

حتى إذا جئت ورأيتكم، أو كنت غائبًا أسمع أموركم ” يقول هذا لا كمن غّير هدفه، ولا كان قصده أنه سيزورهم، وإنما يقول إذا حدث هذا، وحتى وإن كنت غائبًا أستطيع أن أبتهج. حين ” أسمع أنكم تثبتون في روح واحد. بنفس واحدة “. فإن هذا، قبل كل شئ آخر، هو ما يوّحد المؤمنين ويحفظ المحبة كاملة، ليكونوا واحدًا.      ” كل مملكة منقسمة على ذاتها تخرب[13]. لأجل هذا فإنه في كل موضع يعطي نصائح كثيرة لأجل الوحدة. كما يقول المسيح له المجد: ” بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذي، إن كان لكم حب بعضًا لبعض[14]. وهذا يعني ألاّ تبقوا ساكنين منتظرين حضوري آملين مجيئي، لأنه حينما تفكرون في عدم مجيئي، تتفككون. فإنني أستطيع أن أفرح بطريقة مماثلة عن طريق سماع أخباركم أيضًا.

ماذا يعني “بروح واحد”؟ أي بهذه النعمة؛ نعمة التوافق، وموهبة حسن الإستعداد. لأن الروح واحد، وهو يبيّن أنه بالتأكيد يمكن أن نقف بنفسٍ واحدةٍ؛ حينما يكون لنا جميعًا روح واحد. انظر إلى كلمة “واحد” لقد قيلت لكي توضح معنى التوافق. انظر فإن الأنفس الكثيرة تُدعى واحدًا. هكذا كان العصر الرسولي الأول، كما هو مكتوب     ” وكان لجمهور الذين آمنوا قلب واحد ونفس واحدة[15].

مجاهدين معًا لإيمان الإنجيل[16]. فهل يقصد إذًا بقوله مجاهدين للإيمان أنهم يتصارعون فيما بينهم؟ هل كانوا حقًا يتصارعون فيما بينهم؟ ما يقوله هو أن يسند كل واحد الآخر في جهادهم لإيمان الإنجيل.

غير مخوفين بشئ من المقاومين الأمر الذي هو لهم بيّنة للهلاك وأما لكم فللخلاص[17]. حسنًا استخدم كلمة مخوفين، لأن هذا هو ما يأتي من الأعداء، فهم فقط يُخيفون الآخرين. لذا يقول إن ما يفعله هؤلاء هو “لا شيء”، وحتى لو حدث أي شيء أو أية مخاطر، أو أية مكائد فإن كل هذا يحدث للذين يسلكون بإستقامة. أما المقاومون فإنهم لن يستطيعوا أن يفعلوا شيئًا عدا أنهم يسببون فقط الخوف لغيرهم. ولأنه كان من الطبيعي أن يضطَّرب هؤلاء لأن ق. بولس عانى آلامًا كثيرة، لذلك يكتب: لا أقول فقط لا تتزعزعوا، ولكن أيضًا ألا ترتعبوا، بل أن لا تهتموا بهؤلاء (الأعداء) إطلاقًا. لأنكم إن سلكتم هكذا سيكون هذا، ليس فقط سببًا في خلاصكم بل أيضًا برهانًا على هلاكهم. فحينما يَرون أنهم بحيلهم التي لا تحصى عاجزون أن يخيفونكم، يحسبون هذا برهان هلاكهم. لأنه حينما لا يتغلب المضطهدون على من يضطهدونهم، ولا الذين يدبِّرون المكائد ضد من يكيدون لهم، ولا أصحاب السلطان على من هم تحت سلطانهم، فإن هذا سيُظهر لهم أنهم سيهلكون، وأنهم لا يقدرون على شئ، وأن كل ما لديهم باطل، وكل ما لأولئك هو حق.

لأنه وهب لكم لأجل المسيح لا أن تؤمنوا به فقط بل أيضًا أن تتألموا لأجله[18]. مرّة أخرى يعلّمهم أن يكونوا متواضعين، بأن ينسبوا كل شئ إلى الله قائلاً: إذا تألم أحد لأجل المسيح فهذا معناه أنه ينال نعمة وهبة وعطية. فلا تخجلوا إذًا، لأن هبة التألم لأجل المسيح هي حقًا هبة أكثر إعجازًا من إقامة الموتى، وأن يصنع العجائب. لأن في حالة من يُقيم الموتى سيكون هو المَدين[19]، أما في حالة الألم لأجل المسيح، فالمسيح نفسه هو المَدين. ولذلك يجب علينا ليس فقط ألا نخجل، وإنما أن نبتهج أيضًا لنوال هذه العطية.

إنه يدعو الفضائل هبات، ولكنها ليست كتلك الهبات الأخرى، لأن تلك تأتي بالكامل من الله، أما هذه فتتوقف علينا أيضًا. ولكن لأنه في هذه الحالة أيضًا يتوقف الجزء الأهم على الله، لذا يقول إن الله هو الذي يمنح كل شئ، دون أن يمحو بذلك دور الإرادة الشخصية، وإنما قال هذا كي يدّرب هؤلاء أن يكونوا متواضعين وحكماء.

إذ لكم الجهاد عينه الذي رأيتموه فيَّ[20] أي عندكم المثال. وهنا ينهضهم مرة أخرى، لأنه يُظهر لهم في كل موضع أن جهادهم، مثل جهاده. وكفاحهم نفس كفاحه، حتى إذا لم يكونوا معه، وبهذا اتحدوا معه محتملين كل التجارب. لم يقل سمعتم وإنما “رأيتم”، بسبب كونه جاهد هناك في فيلبي[21].

بالتالي فإن هذه (احتمال الآلام) هى فضيلة عظمى. لذلك يكتب لأهل غلاطية قائلاً ” أهذا المقدار احتملتم عبثًا؟ إن كان عبثًا! “[22]. وبالمثل يكتب إلى العبرانيين فيقول: ” تذكروا الأيام السالفة التي فيها بعد ما أنرتم صبرتم على مجاهدة آلام كثيرة من جهة مشهورين بتعييرات وضيقات ومن جهة صائرين شركاء الذين تُصرَّف فيهم هكذا[23]. ومن ناحية أخرى يكتب إلى المكدونيين، أي إلى التسالونيكيين قائلاً: ” لأنهم هم يخبرون عنا أي دخول كان لنا إليكم“، وأيضًا ” لأنكم أنتم أيها الأخوة تعلمون دخولنا إليكم أنه لم يكن باطلاً[24]. وبنفس الطريقة يشهد أمام الجميع بنفس الشئ أي الكفاح والجهاد. غير أن هذا الجهاد والكفاح يتخذ صورة أخرى، فكثيرون يفضلون التعب من أجل الحصول على الأموال أما من يكتب إليهم الرسول فلهم موقف آخر تجاه المال لهذا يكتب للبعض: ”  وقبلتم سلب أموالكم بفرح[25]، ولآخرين يقول إن ” أهل مكدونية وأخائية استحسنوا أن يصنعوا توزيعًا للفقراء [26]، وأيضًا “وغيرتكم قد حرّضت الأكثرين[27].

أرأيت المديح الذي يوجهه لرجال ذاك العصر؟ أما نحن الآن فلا نتحمل ولا حتى أي لطمات، أو جراح، أو تعيير، أو خسارة أموال. لقد كان أولئك غيورين مستجيبين لاحتياجات الآخرين بسرعة، ومجاهدين كشهداء، أما نحن فننموا في محبتنا للمسيح بفتور. مرة أخرى أضطَّر أن أوبخ أمورًا حاضرة. ولِمَ أقول هذا؟ لم أُرِد ذلك، وإنما اضطَّر لهذا. لأنه إن كان ممكنًا أن أمحو ما حدث بالصمت، لكان من الواجب أن أصمت، ولكن إن كانت (تلك الشرور) لا تُمحى بصمتي، وإنما تصبح بالحري أسوأ، فمن الضروري أن أتكلّم. لأن الذي يوبخ الخطاة، حتى وإن لم ينجح في أي شئ آخر، فإنه يعوقهم عن أن تسوء حالتهم أكثر. لا يوجد أحد بالطبع يصل إلى هذه الدرجة من السفه أو الطيش حين يسمع باستمرار نقد الآخرين له ولا يخجل، أو لا يهجر شروره الكثيرة. في الواقع يوجد لدى هؤلاء أيضًا مقدار ضئيل من الخجل، لأن الله قد زرع الخجل في طبيعتنا. لأنه بالتأكيد لم يكن كافيًا أن يوجِّهنا الله بالخوف، فأعد طرقًا أخرى كي نتجنّب الخطية، مثل التأنيب، والخشيّة من النواميس الموضوعة، والرغبة القوّية في نوالنا الصيت الحسن، والحاجة إلى تكوين صداقات. كل هذه وُجدت حتى لا نخطئ. ولهذا فإنه في كثير من الأحيان هناك أشياء لا نفعلها بسبب مخافة الله، بل بسبب الخجل أو بسبب الخوف من البشر. مع إنه من الواجب هو أن نحرص على ألاّ نخطيء، وأن نفعل ذلك لأجل مخافة الله لا بسبب الخوف أو الخجل من البشر.

إذًا لماذا ينصح القديس بولس هؤلاء الذين كانوا بصدد النيل من الأعداء، بانتظار المجازاة (الإلهية) لهم، وليس مجرد الخوف من الله، عندما كتب قائلاً “ لا تنتقموا لأنفسكم“؟ الرد يأتي في قوله: “لأنك إن فعلت هذا تجمع جمر نار على رأسه [28]. فهذا ما يريده ق. بولس في المرتبة الأولى، أي بلوغ الفضيلة. ما أقوله إذًا هو أنه يوجد شئ من الخجل بداخلنا، ولدينا الكثير من الميزات الطبيعية كي نربح الفضيلة، فنحن ننقاد بطبيعتنا مثل كل البشر لفعل الرحمة، وليس هناك شئ آخر يتصف بالصلاح، يلازم هكذا طبيعتنا أكثر من الرحمة. لأجل هذا فإنه من المناسب أن يتساءل المرء لماذا زُرعت هذه الفضيلة على الأخص في طبيعتنا، والتي بها نرِّق ذارفين الدموع ونتأثر ونكون مستعدين للشفقة. فمع إنه لا يوجد أحد متوانٍ بحسب الطبيعة ولا يوجد أحد بطبيعته لا يزهو، كما إنه لا يستطيع أحد بالطبيعة أن يهزم الغيرة، لكن الرحمة موجودة في طبيعة كل واحد، وسواء كان الشخص عنيفًا أو قاسيًا. فما العجيب في ذلك؟ فنحن نترأف على الوحوش، هكذا هي غنية الرأفة الموجودة بداخلنا، حتى لو إننا رأينا شبل أسد، فنحن نتأثر بقدر ما، ولكننا نتأثر ونشفق بالأكثر لأجل بني جنسنا.

انظر إلى عدد المُقعدين، وهذا كافٍ في حد ذاته أن يقودنا للشفقة. فلا يوجد ما يفَّرح الله أكثر من الرحمة. لذلك فإن الكهنة يُمسحوا بالزيت، كذلك أيضًا الملوك والأنبياء، لأنه رمز لمحبة الله للبشر. بالإضافة لذلك ليكن معلومًا أن الحاكم يجب أن يتمتع بأكبر قدر من الرحمة على المحكومين، ومن هنا يتضح أنه بسبب رحمة الله يسكن الروح القدس في الإنسان، لأن الله يرحم البشر ويحبهم. فيقول ” لكنك ترحم الجميع لأنك قادر على كل شئ[29]. لأجل هذا فهم يُدهنوا بالزيت. كما أنه من مراحم الله علينا أنه دبر لنا سر الكهنوت. وإذا أراد أحد أن يمدح حاكمًا فلن يقول شيئًا يناسبه أكثر من وصفه بالرحمة، لأن الرحمة هى من الصفات التي يجب أن يتمتع بها مَن يكون في السلطة. لنتذّكر أن العالم قد خُلق بسبب رحمة الله ولنتمثل بالمكتوب ” رحمة الإنسان لقريبه، أما رحمة الرب فلكل ذي جسد[30]. كيف تكون الرحمة لكل ذي جسد؟ هل ستكون للخطاة والأبرار؟ نعم، فنحن جميعًا نحتاج لرحمة الله، وكلنا نتمتّع بها، سواء كان هذا الإنسان هو بولس، أو بطرس، أو يوحنا. فاسمع ما يقوله أحدهم، ولا حاجة لكلامي. ماذا يقول إذًا المطوب بولس؟ ” ولكنني رُحمت لأني فعلت بجهل[31].وعندما يصف حاله بقوله ” أنا تعبت أكثر منهم جميعهم. ولكن لا أنا بل نعمة الله التي معي[32] فهل يمكن أن تكون هناك رحمة أكثر من هذا؟ وعن أبفرودتس يقول: ” فإنه مرض قريبًا من الموت لكن الله رحمه وليس إياه وحده بل إياي أيضًا لئلا يكون لي حزن على حزن[33]. وأيضًا: ” أننا تثقلنا جدًا فوق الطاقة حتى أيسنا من الحياة أيضًا. لكن كان لنا في أنفسنا حكم الموت لكي لا نكون متَّكلِـين على أنفسنا بل على الله. الذي نجانا من موت مثل هذا وهو ينجي[34]. وأيضًا: ” فأُنقذت من فم الأسد. وسينقذني الرب[35]. وهكذا في كل موضع نجد بولس يفتخر بأنه خَلُصَ بمراحم الرب.

كما أن هذه الرحمة تظهر في حديث الرب مع بطرس عندما قال له: ” هوذا الشيطان طلبكم لكي يغربلكم كالحنطة. ولكني طلبت من أجلك لكي لا يفنى إيمانك[36]. وأيضًا مع يوحنا، وكل الرسل يُظهر المسيح له المجد هذه الرحمة. فاسمعه وهو يقول: ” ليس أنتم اخترتموني بل أنا اخترتكم[37].

إذًا فالجميع بحاجة لرحمة الله كما هو مكتوب ” أما رحمة الرب فلكل ذي جسد “. فإن كان هؤلاء الذين أشرنا إليهم بحاجة لرحمة الله، فماذا سيقول المرء عن بقية البشر؟ فقل لي لماذا تشرق الشمس بلا تفرقة على الأشرار والأبرار؟ وماذا كان سيحدث، لو أن المطر قد أُمسك لمدة عام فقط؟ ألا يصيب الجميع الدمار، وماذا لو أمطرت مطرًا غزيرًا؟ وماذا لو أمطرت نارًا، وماذا لو ألقى ذبابًا؟ لماذا أقول هذا الكلام؟ إذا حل الظلام، كما حدث في وقت ما، أفلا يهلك الجميع؟ إذا أفنى الأرض، أفلا يفنى الكل؟ ” فمن هو الإنسان حتى تذكره[38]. إن الفرصة الآن مناسبة كى نقول إنه إن أهلك الله الأرض فقط، فسيصير كل شئ قبرًا. كما يقول: ” هوذا الأمم كنقطة من دلو كغبار الميزان تُحسب[39]. فكما أنه سهل علينا أن نحرك فوهة الميزان، هكذا فإنه في متناول الله أن يُهلك كل الأشياء، وأن يخلقها مرة أخرى. إذًا فذاك الذي يسود علينا بكل هذا السلطان العظيم، ويرانا كل يوم نخطئ دون أن يعاقبنا، أليست هذه رحمة أنه يُبْقِى علينا؟ فالحيوانات هى الأخرى موجودة بسبب رحمته، ” الناس والبهائم تُخلِّص يا رب[40].

فلأي سبب نظر إلى الأرض وملأها بالكائنات الحيّة؟ لقد فعل هذا لأجلك. فلماذا إذًا جبلك أيها الإنسان؟ ذلك بسبب صلاحه. لا شئ يفوق الرحمة، إنها سبب النور هنا وفي الحياة الأخرى. هكذا يقول النبي، إن صنعت رحمة لقريبك، ” حينئذٍ ينفجر مثل الصبح نورك[41]. وكما أن الزيت يمنح الضوء، هكذا فإن الرحمة تمنحنا نورًا عظيمًا مبهرًا، في الحياة الأبدية.

لقد تكلّم ق. بولس كثيرًا عن الرحمة. فاسمعه حينما يقول: ” غير أن نذكر الفقراء[42]، ومرة أخرى يقول: ” وإن كان يستحق أن أذهب أنا أيضًا [43]. وفي كل مكان، في كل المواضع ترى اهتمامه بنفس الشئ. وأيضًا ” وليتعلّم من لنا أيضًا أن يمارسوا أعمالاً حسنة [44]. ويقول أيضًا: ” فإن هذه الأمور هى الحسنة والنافعة للناس[45]. واسمع في موضع آخر القول: ” الصدقة تنجي من الموت[46]. إن كنت تراقب الآثام يا رب يا سيد فمن يقف ” وأيضًا ” لا تدخل في المحاكمة مع عبدك[47]. ” عظيم هو الإنسان “، لماذا؟ ” وأمين الإنسان الرحيم[48]. فذلك هو الإنسان، رحيم. وبالحري الله، هو الرحمة ذاتها. أرأيت مقدار قوة الرحمة التي لله؟ فهذه صنعت كل الأشياء، خلقت العالم، الملائكة، هذا من أجل الصلاح وحده. لأجل هذا توعّدنا بالجحيم حتى نفوز بملكوت السموات، فبسبب رحمة الله نفوز بهذا الملكوت. أخبرني لماذا فضّل الله أن يخلق كل هذا العدد من البشر؟ أليس بسبب صلاحه؟ أليس بسبب محبته للبشر؟ فإذا سألت لماذا يحدث هذا وذاك، فدائمًا ستجد الإجابة إنه بسبب صلاح الله.

لنرحم الأقرباء كي ما نُرحم نحن أيضًا. فنحفظ هذه الرحمة لنا في يوم الدينونة أكثر مما قدمناه لهؤلاء (الأقرباء)، حينما يكون لهيب النار عظيمًا، فإن هذا الزيت (الرحمة) سيخمد النار، ويكون نورًا لنا. هكذا نُنقذ من نار جهنم، لأنه من أين سيحنو علينا ويرحمنا؟ الرحمة نتاج المحبة. فلا شئ يُغضب الله أكثر من أن يكون المرء غير رحيم. فالذي قدّموا إليه مديون بعشرة آلاف وزنة، تحنّن عليه وترك له الدين، ولذاك المديون كان هناك من العبيد رفقائه مديونًا بمئة دينار، فأمسكه وأخذ بعنقه، لأجل هذا سلّمه السيد لأولئك المعذبين كي يعاقبوه، حتى يوفي كل ما كان له عليه من دين[49]. فلنكن رحماء عند سماع هذا الكلام نحو المديونين لنا بالمال أو بالإساءة إلينا. ولا يكن أحد حافظًا للإساءة، إن كان حقًا لا يرغب في أن يسيء إلى نفسه، ويسبب بأفعاله حزنًا شديدًا لذاك (المديون). لأن ذاك إما أن يُعاقَب أو لا يُعاقَب، أما أنت فدون أن تغفر خطايا قريبك تطلب ملكوت السموات؟ لذا فلئلا نتألم، فلنغفر للجميع، وبذلك نغفر لأنفسنا. وأيضًا فلنغفر حتى يغفر الله لنا خطايانا، وبذلك نفوز بخيرات الحياة الأبدية، بالنعمة والرأفة ومحبة البشر اللواتي لربنا يسوع المسيح، الذي يليق به مع أبيه الصالح والروح القدس، المجد والعزة والكرامة الآن وكل أوان وإلى أبد الآبدين آمين.

 

+ + + + + + +

[1]  في22:1ـ26.

[2]  2كو4:6ـ6، 24:11ـ26.

[3]  غلا4:5.

[4]  1كو27:9.

[5]  مز2:106 ” من يتكلم بجبروت الرب “.

[6]  عندما ترنمت كواكب الصبح معًا وهتف جميع بني الله ” (أى7:38).

[7] مز4:114.

 [8] من الواضح أن مرجع القديس يوحنا ذهبي الفم في هذا الكلام ما جاء أيضًا على لسان ق. بولس: ” فإني كنت أود أن أكون أنا نفسي محرومًا من المسيح لأجل إخوتي أنسبائي حسب الجسد ” رو3:9.

[9]  رو12:1، 11.

[10]  1تس19:2.

[11]  2كو14:1.

[12]  في27:1.

[13]  مت25:12.

[14]  يو35:13.

[15]  أع32:4.

[16]  في27:1.

[17]  في28:1.

[18]  في29:1.

  [19] كلمة مَدين هنا تعني إنه مديون لله الذي منحه هذه الموهبة.

[20]  في30:1.

[21]  راجع أع16:16ـ40.

[22]  غلا4:3.

[23]  عب32:10ـ33.

[24]  1تس9:1، 1:2.

[25]  عب34:10.

[26]  رو26:15.

[27]  2كو2:9.

[28]  رو20:12.

[29]  الحكمة 24:11.

[30]  يشوع بن سيراخ 12:18.

[31]  1تي13:1.

[32]  1كو10:15.

[33]  في27:2.

[34]  2كو8:1ـ10.

[35]  2تي17:4ـ18.

[36]  لو31:22ـ32.

[37]  يو16:15.

[38]  مز4:8.

[39]  إش15:40.

[40]  مز6:36.

[41]  إش8:58.

[42]  غلا10:2.

[43]  1كو4:16 يتكلم هنا على مقدار ما سيحملونه من احسانات، فسيرسل أشخاصًا لحمل هذه الاحسانات لأورشليم، وإن كان يتطلب فسيذهب هو أيضًا.

[44]  تي14:3.

[45]  تي8:3.

[46]  طوبيا 9:12.

[47]  مز3:130.، 2:143.

[48]  أم6:20س.

[49]  انظر مت23:18ـ25.

 

رسالة فيلبي ع5 – ق. يوحنا ذهبي الفم – جورج ميشيل أندراوس