آبائيات

رسالة فيلبي ع6 – ق. يوحنا ذهبي الفم – جورج ميشيل أندراوس

رسالة فيلبي ع6 - ق. يوحنا ذهبي الفم - جورج ميشيل أندراوس

رسالة فيلبي ع6 – ق. يوحنا ذهبي الفم – جورج ميشيل أندراوس

 

رسالة فيلبي ع6 - ق. يوحنا ذهبي الفم - جورج ميشيل أندراوس
رسالة فيلبي ع6 – ق. يوحنا ذهبي الفم – جورج ميشيل أندراوس

 

تفسير رسالة بولس الرسول إلى أهل فيلبي

للقديس يوحنا ذهبي الفم

جزء أول (العظات من 1 ـ 8 )

ترجمة عن اليونانية

الباحث جورج ميشيل أندراوس

 

 

العظة السادسة

 

فَإِنْ كَانَ وَعْظٌ مَا فِي الْمَسِيحِ. إِنْ كَانَتْ تَسْلِيَةٌ مَا لِلْمَحَبَّةِ. إِنْ كَانَتْ شَرِكَةٌ مَا فِي الرُّوحِ. إِنْ كَانَتْ أَحْشَاءٌ وَرَأْفَةٌ، فَتَمِّمُوا فَرَحِي حَتَّى تَفْتَكِرُوا فِكْرًا وَاحِدًا وَلَكُمْ مَحَبَّةٌ وَاحِدَةٌ بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ، مُفْتَكِرِينَ شَيْئًا وَاحِدًا، لاَ شَيْئًا بِتَحَزُّبٍ أَوْ بِعُجْبٍ، بَلْ بِتَوَاضُعٍ، حَاسِبِينَ بَعْضُكُمُ الْبَعْضَ أَفْضَلَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ. لاَ تَنْظُرُوا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا هُوَ لِنَفْسِهِ، بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا هُوَ لآخَرِينَ أَيْضًا[1].

 

لا يوجد شئ أفضل، ولا أكثر حنوًا من معلّم روحي يفوق عطفه على حنو الأب الطبيعي. لاحظوا إذًا التضّرع الذي يتوّجه به المطّوب بولس للفيلبيين لأجل فائدتهم. فماذا يقول إذًا، وهو يحثهم على الوئام فيما بينهم؛ والذي هو علّة كل الأمور الصالحة؟ انظروا كيف يتحدّث بإصرار وقوة وأيضًا بكثير من العطف. ” إن كان وعظ ما في المسيح “، أى أنه يقول إن كانت تعزية ما فهى في المسيح. وكأنه يقول، إن كان لديكم ما تقولونه عني، وإن كنتم تهتمون بي، وإن كنتم قد نلتم إحسانات مني، إذًا فافعلوا هذا (في المسيح). بهذه الطريقة نحن نُعبّر عن رغبتنا حين نطلب شيئًا أن نفضلّه عن باقي الأشياء الأخرى، لأننا إن لم نفضلّه عن كل الأشياء، فلن ننال المجازاة في هذا الشئ عوضًا عن باقي الأشياء، كما أننا لن نستطيع أن نقول أن كل الأشياء الأخرى تتحقق في هذا الشيء.

إذًا فنحن نذّكر بالحقوق المرتبطة بالجسد. فعلى سبيل المثال لو قال أب (لإبنه) إن كنت ما زلت تحتفظ بأي تقدير لأبيك، وإن كنت مازلت تذكر تربيتي الحسنة لك، إن كنت ترى أنه ينبغي عليك أن تُظهر بعض المحبة نحوي، إن كنت تتذّكر الحنو والعطف الذي نلته على يدي، فلا تصنع عداوة مع أخيك، هذا ما أطلبه كمقابل لكل ما قدّمته لك. ولكن القديس بولس لا يسلك بهذه الطريقة، فلا يذّكر بأية حقوق جسدّية، وإنما بالمطالب الروحية. فما يقوله هو إن أردتم أن تعزّوني في الأوقات الصعبة التي أجتازها وأن أتشجّع في المسيح، إن كنتم تريدون أن تمنحونني عزاءًا بسبب حبكم ليَّ، وأن تظهروا شركة في الروح القدس، وإن كانت لديكم مشاعر رأفة وحنو، فتتمموا فرحي. ” إن كانت أحشاء ورأفة “. مشاعر المحبة هذه كما يقول تأتي من خلال وحدة الفكر بين التلاميذ. فالقديس بولس يبيّن أن هناك خطر عظيم، في فقدان التوافق فيما بينهم. فيقول إن كان من الممكن أن أنال راحة بواسطتكم، أو أحصل على عزاء بسبب محبتكم، وأكون معكم في شركة الرب والروح القدس، وإن كان ممكنًا أن تقدّموا لي عاطفة ورأفة، فإن تعويض كل هذه الأمور يأتي من خلال محبتكم، كل هذه الأشياء يمكن أن أنالها إن كان لديكم محبة لبعضكم البعض. ” تمموا فرحي ” لاحظوا كيف أنه لكي لا يبيّن أن وصيته تتجه إلى الضعفاء من المؤمنين، يقول ” تمموا  فرحي” وليس اجعلوني أفرح، أي أنكم بدأتم هذا الغرس في داخلي، وبالتالي أشعرتموني بالسلام، ولكنني أرغب في البلوغ إلى كماله. أخبرني ماذا تريد؟ هل تريد أن نحررك من المخاطر؟ أو أن نمنحك شيئًا ما؟ يجيب لا شئ من هذه الأمور، وإنما ” حتى تفتكروا فكرًا واحدًا، ولكم محبة واحدة ” وهى التي بدأتموها، ” بنفس واحدة مفتكرين شيئًا واحدًا “. يا للعجب كم مرة يعلن ق. بولس عن رغبته في هذا الأمر أي الفكر الواحد، ذلك لأن عبارة “فكرًا واحدًا” تفوق عبارة ” نفس الفكر”.

ولكم محبة واحدة ” أي أن المطلوب ليس هو فقط الأمور التي تختص بالإيمان، وإنما أيضًا الأمور الأخرى. لأنه من الممكن أن يكون لدينا نفس الفكر ولا يكون بيننا محبة. ” ولكم محبة واحدة “، أى بهذه الطريقة: أن تُحِبوا وأن تُحَبوا. فلا ينبغي أن تتمتّع بمحبة كبيرة من قِبل الآخرين، وتُظهر أنت محبة أقل، فتكون طماعًا أيضًا من جهة المحبة، فلا تُحمّل نفسك هذا الألم.

بنفس واحدة” لا يمكن أن يكون الجميع معًا بحسب الجوهر بنفس واحدة لأن ذلك مستحيل، لكن ما يمكن تحقيقه في الواقع هو أن يكون الجميع “بنفس واحدة” في الرغبة والرأي. لقد شرح معنى “بنفس واحدة” فقال “مفتكرين شيئًا واحدًا “، ليكن الفكر واحدًا كما أن النفس واحدة. ” لا شيئًا بتحزب “. فهو يقدّر ذلك الأمر ويُحدّد الطريقة التي بواسطتها يتم تحقيق هذا الأمر. ” لا شيئًا بتحزّب أو بعُجب ” وهو ما أتكلّم عنه دائمًا إذ أن التحزّب هو سبب كل الشرور. ومنه تأتي المصادمات والنزاعات، وأيضًا الحسد والخصام، وبرودة المحبة. أعني أن ذلك يحدث حينما تكون لدينا رغبة شديدة في المجد الذي يأتي من الناس، حينما نكون عبيدًا للكرامة التي ننالها من الآخرين. لأنه لا يمكن لأحد أن يكون عبدًا حقيقيًا لله وهو في نفس الوقت عبد للكرامة. قد يقول أحد إذًا كيف سنتجنب الزهو؟ لأنك حتى الآن لم تقل لنا الطريقة. فلنسمع المطوب بولس حينما يقول: ” بل بتواضع حاسبين بعضكم البعض أفضل من أنفسهم ” يا للعجب! فبأية طريقة قد أظهر رأيه المملوء من الحكمة والذي يقودنا إلى التحرّر التام؟ فهو يقول إن كنت تعتبر أن الآخر أعظم منك وتقبل هذا، ليس بالقول فقط وإنما بالفعل، فستمنحه كرامة تليق به. فإن كنت تعطي كرامة للآخر، فلن تغتاظ حينما تراه يُكرّم من الآخرين. فلا تعتقد إذًا أنه مجرد شخص أعظم منك، وإنما هو يفوقك، وهو ما يعني السمو الفائق، وحينما تراه يُكرّم لا تندهش ولا تحزن، وإن كان سلوكه نحوك فيه احتقار فاصبر بشجاعة، لأنك قد اعتبرته أفضل منك، فإن أهانك فلتتسامح معه وإن أساء إليك فاصبر بدون احتجاج. فإن النفس حينما تتيّقن مرة واحدة أن الآخر هو أعظم شأنًا، لا تغضب إذا لقيت منه معاملة سيئة، وأيضًا لا تلجأ إلى الحسد. فلا أحد يستطيع أن يحسد هؤلاء المتميّزون بدرجة كبيرة عن الآخرين، لأن كل الأمور لديهم هى مثال للتفوق. هكذا يتعلّم الآخر أن يسلك بنفس الأسلوب. فحينما ينال ذاك تلك الكرامة العظيمة فسوف يسلك هو أيضًا نحوك بطريقة مماثلة لسلوكك نحوه، وهذا يعني أن هناك سياجان من التسامح. فأنت تعتبر ذاك أنه مستحق للكرامة، وهو يعتبرك كذلك أيضًا. وبهذا تصير كل الأمور في سلام. لأنه إن كان ما يحدث بواسطة الواحد يستطيع أن يحّل كل النزاعات، فمن سيقدر أن ينزع هذا الأمان حين يصير من الاثنين، بل إن الشيطان ذاته لا يستطيع أن يصنع هذا لأن الحصن سيكون قوي ومتين، ثلاث وأربع مرات أكثر قوة، بل وأكثر بكثير من ذلك.

إذًا فالتواضع هو سبب كل الخيرات. ولكي تدرك ما أقوله، أصغ لقول النبي: ” لأنك لا تُسر بذبيحة وإلاّ فكنت أقدمها. بمحرقة لا ترضي. ذبائح الله هى روح منكسرة. القلب المنكسر والمنسحق يا الله لا تحتقره”[2]. ليس المطلوب إذًا مجرد الاتضاع، وإنما المطلوب هو الاتضاع الشديد. فكما يحدث في حالة الأبدان فإن الجسد الواهن لا يقاوم نظيره القوي، وإنما سيقاوم آلامه أولاً، مفضلاً ذلك على مهاجمة الآخر، هكذا أيضًا فإن النفس ستختار أن تعاني الآلام والموت وتكون في أمان مفضلّة ذلك على أن تقاوم غيرها. فإلى أي مدى سنرتفع بزهو مزّيف؟ مثلما نضحك حينما نرى الأطفال يجمعون كل قواهم كي يثبوا إلى أعلى أو حينما يرفعون حجرًا ويقذفونه، هكذا أيضًا فإن الكبرياء يُعد تفكير طفولي وغير منطقي.    ” لماذا يتكبّر التراب والرماد[3]. لما تتكبّر أيها الإنسان؟ وما هى الفائدة من ذلك؟ أخبرني لأي سبب تتكبّر على نظرائك؟ ألا تشترك في نفس الطبيعة؟ ألا تمتلك نفس الروح؟ ألم يعطك الله نفس الكرامة؟ إن كنت حكيمًا فيجب عليك أن تشكر الله على ذلك لا أن تتكّبر. إن الزهو هو بداية الجحود، لأنه يمحو عطية الإحسان. لأن مَن يزهو بنفسه، يفتخر كمَن حقق شيئًا وحده، ولكن مَن يعتقد أنه حقق شيئًا، هو جاحد أمام من منحه هذه القدرة. هل لديك شئ صالح؟! فلتعترف بالفضل لِمْن وهبك هذا الصلاح. استمع لما يقوله يوسف ودانيال. فحينما دُعي يوسف من قِبَل فرعون مصر، سأله أمام كل الشعب كيّ يَعْلَم عن الأمر (حلم فرعون) الذي لأجله اجتمع كل المصريين، والذين كانوا أقدر منه بالنسبة لهذه الأمور، وكان بإمكانه أن يتباهى أمام هذا الجمع، وأن يظهر أنه أكثر حكمة من المنجمّين والعرّافين والمشّعوذين والسَّحرة وكل فلاسفة ذلك العصر، وأكثر حكمة من الأسرى والعبيد، وبالرغم من كونه صغيرًا، إلاّ أن المجد كان أعظم، لأنه لم يكن هناك ما يساوي هذا الأمر في بهائه، وبالرغم من فقدان الرجاء بسبب طول الانتظار، إلاّ أن هذا جعل الأمر أكثر إبهارًا، فماذا قال حينما حضر أمام فرعون؟ هل قال نعم أعرف؟ لنرى ماذا قال؟ فعلى الرغم من أن أحدًا لم يراجع ما يقول، إلاّ أنه يتكلَّم بمشاعر إعطاء الفضل لذويه قائلاً: ” أليست لله التعابير “؟[4]. انظر كيف أنه أعطى المجد لله، لذلك مجده الله. وهذا ليس أمرًا يسيرًا، فإعلان يوسف أن الله (هو مُتمم العمل) هو أعظم من نجاح يوسف ذاته في العمل. وهو بهذا المسلك أضفى الثقة على ما يقوله، وهذا برهان عظيم على مدى عشرته مع الله. فلا يوجد شئ أفضل من عشرة الإنسان مع الله. اسمع ما يقوله الكتاب ” لأنه إن كان (ابرآم) قد تبّرر بالأعمال فله فخر، ولكن ليس لدى الله [5]. فالذي تُغفر خطاياه بسبب محبة الله له ونعمته عليه يحق له أن يفتخر بالرب، كما أن من يعمل يمكنه أن يفتخر بأعماله، لكن هذا الفخر ينصرف إلى فعله هو وليس إلى عمل الله. وهذا هو برهان ضعفنا أننا لا ننسب العمل لله أما يوسف ذاك الذي نال حكمة إلهية، ألا يكون بالأحرى مثار إعجاب؟ فهو يمجّد الله، وينال مجدًا من الله أيضًا. حسبما يقول الكتاب ” فإني أُكرم الذين يكرمونني [6].

هكذا أيضًا الذي أنحدر من نسل يوسف، أي دانيال، والذي لا يوجد أحكم منه، حيث يقول النبي “ها أنت أحكم من دانيال! “[7]. لقد كان دانيال أحكم الحكماء الموجودون في بابل، وأيضًا من العرّافين والمنجمّين والسَّحرة وكل الفلاسفة، والذين لم يدانوا فقط، وإنما أبيدوا أيضًا، حيث كانت إبادتهم دليل على أنهم خدعوا الملك سابقًا، وحينما حضر دانيال وشرع في حل تساؤل الملك، لا نجده قد افتخر، وإنما نسب كل شئ أولاً إلى الله فيقول ” أما أنا فلم يُكشف لي هذا السر لحكمة فيّ أكثر من كل الأحياء [8]. حينئذٍ خرَّ الملك على وجهه وسجد لدانيال، وأمر بأن يقدّموا له تقدّمة. أرأيت هذا الاتضاع؟ أرأيت ذلك الاعتراف بالفضل وهذا الوقار؟ أيضًا لنسمع الرسل حينما يقولون ذات مرة ” لماذا تشخصون إلينا، كأننا بقوتنا أو تقوانا قد جعلنا هذا يمشي ؟”[9] ومرة أخرى يقولون ” نحن أيضًا بشر تحت آلام مثلكم “[10]. فإن كان هؤلاء الرجال هم هكذا وقد رفضوا أية كرامة تُنسب إليهم، وهم الذين بسبب اتضاع وقّوة الرّب يسوع قد عملوا أعمالاً جاء وصفها بحسب قوله ” من يؤمن بي فالأعمال التي أنا أعملها يعملها هو أيضًا ويعمل أعظم منها[11]، فكيف لا نرفض نحن التعساء والضعفاء تلك الكرامة، نحن الذين لا نستطيع أن نطرد حتى البعوض، وبالأكثر لا نستطيع طرد الشياطين؟ نحن الذين لسنا في موضع أن نفيد إنسانًا واحدًا، فنحن أقل من جميع الناس، ومع ذلك نفتخر جدًا وبصورة لا يُقِدم عليها الشيطان ذاته؟

فليس هناك ما هو غريب عن الروح المسيحية أكثر من الكبرياء، إنني أتكلّم عن الكبرياء، وليس عن الشجاعة أو الشهامة، إذ أنهما يتوافقان مع الروح المسيحية. فهذا شئ وذاك شئ آخر. فالتواضع شئ والدناءة شئ آخر، والنفاق شئ واللطف شئ آخر. فإن شئتم فسأعطيكم أمثلة لكل هذا. يتضّح لي أن هذه التباينات تجاور الواحدة منها الأخرى، كما في حالة الزوان والحنطة والأشواك والورود. إن الأطفال هم الذين يمكن خداعهم بسهولة، أما الرجال ذو الخبرة في الفلاحة الروحية، فيعرفون أن يميّزوا بين ما هو جيد حقًا وبين ما هو سيئ. إذًا لنتقّدم ونعطي أمثلة من الكتاب المقدس لبعض أشخاص اتصفت تصرفاتهم ـ بالتملّق أو الخسّة، أو اللطف. فإن صبيًا قد تملَّق داود وأساء إلي سمعة سيده[12]، وبالأكثر قد فعل أخيتوفل مع أبشالوم[13]. أما داود فلم يكن كذلك، وإنما كان متضعًا. والباقين كانوا منافقين، فعلى سبيل المثال نجدهم يقولون: ” عش أيها الملك إلى الأبد[14].

السحرة هم أيضًا بطريقة ما متملقين. كذلك سنجد في سفر أعمال الرسل كثيرًا من المواقف المشابهة، حينما تَحَاوَر بولس الرسول مع اليهود، ولكنه لم يتحاور بتملّق وإنما بتواضع، وهو يعرف أيضًا أن يتكلّم بشجاعة، ويتضّح هذا من قوله: ” أيها الرجال الأخوة، مع أنى لم أفعل شيئًا ضد الشعب، أو عوائد الآباء، أُسلمت مقيدًا من أورشليم[15]. فهذه الكلمات تعبّر عن إتضاعه، واسمع كيف يوبخّهم بالكلمات التالية ” أنه حسنًا كلّم الروح القدس آباءنا، ستسمعون سمعًا ولا تفهمون، وستنظرون نظرًا ولا تبصرون “[16]. أرأيت هذه الشجاعة؟ لننظر أيضًا لشجاعة يوحنا المعمدان والتي أظهرها أمام هيرودس قائلاً له: ” لا يحل أن تكون لك امرأة أخيك (فيلبس) [17]. فهذه شجاعة ورجولة. وهي ليست كتلك التي كانت في حالة شمعي حينما قال:     ” اخرج يا رجل الدماء[18]، حتى وإن كان قد تكلّم هو أيضًا بشجاعة. إنما هذه ليست شجاعة، وإنما وقاحة وإهانة ولسان بذئ. هكذا سبّت إيزابل ياهو قائلة: ” قاتل سيده[19]. فهذه كانت وقاحة وليست شجاعة. لقد وبخّ إيليا أيضًا (أخاب) ولكن هذه كانت شجاعة وإقدام: ” لم أكدر إسرائيل، بل أنت وبيت أبيك[20]. مرة أخرى فإن إيليا قد تكلّم بشجاعة إلى جميع الشعب قائلاً: ” حتى متى تعرجون بين الفرقتين؟[21]. هكذا فإن التوبيخ هنا كان شجاعة وإقدام، وهذا ما فعله الأنبياء، أما الحالات الأخرى فكانت وقاحة.

أتريد أن ترى كلمات الاتضاع وليس النفاق؟ اسمع ما يقوله ق. بولس ” وأما أنا فأقل شئ عندي أن يُحكم فيّ منكم، أو من يوم بشرٍ. بل لست أحكم في نفسي أيضًا. فإني لست أشعر بشئ في ذاتي. لكنني لست بذلك مُبررًا[22]. هذه هى الروح التي تناسب الإنسان المسيحي. مرة أخرى يقول: ” أيتجاسر منكم أحد له دعوى على آخر أن يُحاكَمَ عند الظالمين، وليس عند القديسين؟ “[23]. أتريد أن ترى تملّق اليهود قليلي العقل؟ اسمع ما يقولونه: ” ليس لنا ملك إلاّ قيصر[24]. أتريد أن ترى الاتضاع؟ اسمع مرة أخرى ق. بولس حينما يقول: ” فإننا لسنا نكرز بأنفسنا، بل بالمسيح يسوع ربًا، ولكن بأنفسنا عبيدًا لكم من أجل يسوع[25]. أتريد أن ترى وقاحة وتملّق؟ فانظر وقاحة نابال وتملّق الزّيفيّون[26]. فقد أخبروا عن داود. أتريد أن ترى حكمةً، وليس تملقًا، فأنظر إلى تلك التي لداود، كيف أن شاول كان في متناول يده ولكنه لم يضّره؟ أتريد أن ترى تملّقًا؟ أنظر إلى هؤلاء الذين قتلوا مفيبوشث، والذين قد أماتهم داود.[27]

خلاصة القول نقول بصفة عامة إن الوقاحة تحدث، حينما ينفعل أحد غاضبًا ويسُّب لأجل موقف لا يتناسب وفعله هذا، أو حينما ينتقم لنفسه أو حينما يكون متهورًا بلا سبب. أما الشجاعة والإقدام تكون حينما يتعرَّض أحد لمخاطر عظيمة ويقدم حياته شهادة للحق، بلا محاباة ودون النظر إلى الآخر، سواء كان صديقًا أم عدوًا، لأجل أن يكون مرضيًا أمام الله. من ناحية أخرى فإن التملّق والخسّة يكونان حينما يُقْدِم شخص على خدمة الناس لا لأجل شئ من الأمور الهامة المختصة بالحياة الأبدية، وإنما بهدف اكتساب أشياء خاصة بهذه الحياة الحاضرة، أما التواضع فيكون حينما يعمل المرء هذا لأجل إرضاء الله، لذلك فإنه يتواضع ويتنازل عن مكانته الخاصة لأجل ربح ما هو أعظم وأعجب. فإن عرفنا هذه الأمور سنكون سعداء، لكن بشرط أن نمارس الأعمال الحسنة. فليس كافيًا أن نعرف فقط، لأن الكتاب يقول: ” لأن ليس الذين يسمعون الناموس هم أبرار عند الله، بل الذين يعملون بالناموس هم يبررون [28]. وبالأكثر فإن المعرفة فقط هى إدانة لنا إن لم يَتْبَع ذلك أعمال وفضائل. إذًا فلكي نهرب من الدينونة، لنسلك باستقامة ونمارس الأعمال الحسنة، لكي نربح الخيرات التي وعدنا الله بها، في المسيح يسوع ربنا، الذي يليق به المجد إلى الأبد آمين.

 

+ + + + + + +

[1]  في1:2ـ4.

[2]  مز16:51ـ17.

[3]  يشوع بن سيراخ 9:10

[4]  تك8:40 هذا القول قد قاله يوسف لساقي ملك مصر وخبازه في السجن، ولكنه أيضًا قد قال لفرعون: ” ليس لي. الله يجيب بسلامة فرعون ” (تك16:41)

[5]  رو2:4.

[6]  1صم30:2.

[7]  حز3:28.

[8]  دا30:2.

[9]  أع12:3.

[10]  أع15:14.

[11]  يو12:14.

[12]  2صم1:16ـ3.

[13]  2صم1:17ـ4.

[14]  دا4:2.

[15]  أع17:28.

[16]  أع25:28ـ26.

[17]  مر18:6.

[18]  2صم7:16.

[19]  2مل31:9.

[20]  1مل18:18.

[21]  1مل21:18.

[22]  1كو3:4ـ4.

[23]  1كو1:6.

[24]  يو15:19.

[25]  2كو5:4.

[26]  انظر 1صم1:25ـ44، 1:26ـ25.

[27]  2صم8:4.

[28]  رو13:2.

رسالة فيلبي ع6 – ق. يوحنا ذهبي الفم – جورج ميشيل أندراوس