آبائيات

رسالة فليمون ع1 – ق. يوحنا ذهبى الفم – رأفت موسى ذكرى

رسالة فليمون ع1 - ق. يوحنا ذهبى الفم - رأفت موسى ذكرى

رسالة فليمون ع1 – ق. يوحنا ذهبى الفم – رأفت موسى ذكرى

رسالة فليمون ع1 - ق. يوحنا ذهبى الفم - رأفت موسى ذكرى
رسالة فليمون ع1 – ق. يوحنا ذهبى الفم – رأفت موسى ذكرى

 

 

تفسير رسالة القديس بولس الرسول إلي فليمون

للقديس يوحنا ذهبى الفم

 

أسباب كتابة الرسالة

         من المهم أولاً أن ندرس ونعرف أسباب كتابة الرسالة. ثم ندرس الأحداث المتعلقة بها والأسئلة المثارة حولها.

 

         إن فليمون ـ كما تتضح صفاته من الرسالة ـ رجل نبيل, شريف, ورائع. فقد آمن هو وجميع بيته ولما آمنوا دعوا “كنيسة” لأن بولس يقول في الرسالة “ إلي الكنيسة التي في بيتك[1] وقد شهد بولس علي نبل أخلاقه وطاعته العظيمة حينما قال ” لأن أحشاء القديسين قد استراحت بك أيها الأخ[2] كما أن الرسول بولس ـ في نفس الرسالة ـ يوصيه أن يُعِد له منزلاً[3] وعلي ما يبدو لي أن منزل فليمون كان “لمأوى القديسين”. فيا له من رجل ممتاز. وكان لفليمون عبد يدعي “أنسيمس”، وهذا الأخير كان قد سرق بعض الأشياء من سيده وهرب, وهذا يتضح مما قاله بولس في الرسالة ” ثم إن كان ظلمك بشئ ولك عليه دين فاحسب ذلك علي[4]  كان أنسيمس قد جاء إلي بولس في روما ووجده في السجن. وقد استمتع بتعاليمه المفيدة. وقبل منه نعمة المعمودية. الأمر الذي جعل بولس يقول عنه ” الذي ولدته في قيودي[5]. لذا فإن بولس يكتب إلي فليمون سيد أنسيمس موصيا إياه به. ويطلب إليه أن يصفح عنه ويقبله كشخص تجّدد بالمعمودية ولكن قد يقول البعض: إن هذه الرسالة زائدة عن الحد أو غير ضرورية. ويجب أن يُضم مضمونها إلي رسالة أخرى. فبولس ينشغل فيها بحدث صغير, مجرد طلب مصالحة نيابة عن شخص ما. لكن دعنا ندرس الآن اعتراض هؤلاء, فهؤلاء أنفسهم يستحقون لومًا كثيرًا, حيث إن هذه الرسالة الصغيرة فيها أشياء كثيرة هامة جدًا يجب أن تدرس, فهي تعكس جانبًا من حياة رسول. وكم أشتاق دائمًا أن أقابل شخصًا يمكنه أن يخبرنا عن تاريخ الرسل, لأن معظم الرسل لم يتركوا لنا رسائل. ومع ذلك فإن الأحاديث المتبقية منهم وكل الأمور المتعلّقة بهم؛ أى ماذا أكلوا؟, ومتى مشوا؟, وأين جلسوا؟, وماذا كانوا يعملون كل يوم؟ و في أى مكان عاشوا؟, وأى البيوت دخلوا؟, وأين سكنوا؟. فان كل شئ قد تم بواسطتهم هو مفعم بالمميزات. ولكن لأن الكثير من الناس لا يعرف فائدة هذه الرسالة وما فيها, لهذا هم ينتقدونها. فلو إننا رأينا فقط أماكن الرسل التي جلسوا فيها أو سجنوا فيها ـ حتى لو كانت أماكن مهجورة كبقعة بلا حياة ـ فغالبًا ما ننقل عقولنا إلي هناك, ونتخّيل فضائلهم. ونتشجع ونكون أكثر حماسة. وبالأكثر سيحدث هذا إن سمعنا نحن عن كلماتهم وأفعالهم المختلفة. فلو إن احد اهتم بصديقه فإنه يسأل: أين يعيش؟ ماذا يعمل؟ إلي أين يذهب؟. فكم بالحري أن نسأل نحن عن شخص قد قاد الحياة الروحية, فكل ما يتعلق به من سلوك, وطريقة الكلام, والأفعال التي عملها, كل هذا له فائدة. وكذلك من المفيد للجميع أن يتعلموا أن هذه الرسالة أُرسلت لأجل حدث هام. انظر إذن, ها هي الأمور التي عالجها الرسول في هذه الرسالة:

 

أولاً: يجب أن نكون جادين في كل شي, فبولس يهتم اهتمامًا عظيمًا بعبدٍ هارب, سارق ولص, ولا يخجل من أن يرسله راجعًا وحاملاً رسالة يكتبها هو نفسه إلي سيده فليمون وهكذا يجب أن نعطي اهتمامًا اكثر لمثل هذه الأمور التي تبدو للبعض أنها صغيرة.

ثانيًا: يجب علينا أيضا ألا نُهمل العبيد, حتى لو صدر منهم بغض شديد, فلو كان من بينهم لص قد هرب ثم تاب مثل أنسيمس فإن بولس مستعد أن يجعله رفيقًا له وهذا يتضح مما كتبه في هذه الرسالة ” الذي كنت أريد أن أمسكه عندي لكي يخدمني عوضا عنك في قيود الانجيل[6]. فإن كان بولس الرسول قد فعل هذا مع عبد تائب ألاَ نفعل نحن هذا بالأكثر مع الأحرار؟.

ثالثًا: لا يجب علي المرء أن يفرّق العبيد عن سادتهم. فمع أن بولس الذي كان لديه دالة كبيرة لدي فليمون, لم يشأ أن يُبقى أنسيمس بجانبه ـ مع أنه كان نافعًا جدًا له ـ بدون موافقة سيده, فكم بالحري علينا أن نفعل نحن أيضا مثل هذا الأمر ؟! لأنه إن كان هذا العبد أو الخادم ناجحًا في خدمته, فلأجل هذا الأمر عينه يجب أن يبقي في عمله في منزل سيده ويجب أن نعترف بسلطانه عليه حتى يصبح ذلك الخادم سبب منفعة لأهل هذا البيت. وإلاّ فما فائدة أن “ يوضع سراج تحت المكيال“؟[7].

   آه لو تمكنا من أن نحضر إلي داخل المدينة هؤلاء “العبيد” الذين هم مِن الخارج. ولكنك تسأل: ماذا لو أنهم أصبحوا فاسدين؟ ولكن لماذا أصبحوا هكذا. أنا أسألكم؟ هل لأنهم أتوا إلي المدينة؟ ولكن انظر, إن من تفسد أخلاقه بتواجده داخل المدينة, ستكون أخلاقه أكثر فسادًا وهو خارجها. فالفساد يعمل داخل الإنسان. فهنا (في المدينة) سوف يتم الاعتناء به من جهة الأمور الضرورية (الاحتياجات المادية والجسدية), وسيأخذ سيده علي عاتقه كيفيه الاعتناء به. ولكن هناك (خارج المدينة) سيهتم العبد بكل هذه الامور المادية وربما يترك الأمور الأكثر أهمية والأكثر روحانية. ولهذا نجد أن المغبوط بولس يُسدي لهم النصيحة الأفضل فيقول ” دعيت وأنت عبد فلا يهمك بل وإن استطعت أن تصير حرا فأستعملها بالحري[8]. فإذا كان أنسيمس مازال مقيدًا في رقه, فهناك ما هو أهم من هذا. ألاَ وهو أن كلمة الله لا يُجدف عليها. كما أن بولس نفسه يقول في إحدى رسائله “جميع الذين هم عبيد تحت نير فليحسبوا سادتهم مستحقين كل إكرام لئلا يُفتري علي اسم الله وتعليمه[9].

         إن الوثنيين سيقولون: إن العبد أيضا يمكن أن يَسُرّ قلب الله, ولكن كثيرين يجدفون بقولهم إن المسيحية قد جاءت لتنشر الفتنة وتدمر كل الأعراف الاجتماعية, فطالما أن السادة لن يجدوا عبيدًا يرغبون في خدمتهم بإرادتهم, فإن السادة سوف يجبرون العبيد بالقوة علي أن يبقوا في خدمتهم.

 

         هناك أمر آخر ضروري وهو ألا نخجل من ذكر فضائل عبيدنا إن كانوا يعيشون في حياة الفضيلة. فلو أن بولس الذي هو جدير بالاحترام أكثر من الجميع يتكلّم بالصالح في حق هذا العبد “أنسيمس”, فكم بالحري جدير بنا أن نتكلّم بالعطف علي عبيدنا نحن, وسوف يكون لهذا نتيجة طيبة.

  ورغم كل هذه التعاليم المفيدة ـ مع اننا لم نذكر كل شئ بعد في هذه الرسالة ـ هل مازال أحد يعتقد ان هذه الرسالة لا لزوم لها ويجب ألاّ توضع ضمن أسفار الكتاب المقدس؟ وألاَ تكون مثل هذه الأقوال هي دليل علي حماقة مفرطة؟.

         أرجوكم دعونا من هذا اللغو. فنحن قد قدّمنا للرسالة التي كتبها الرسول بولس وكسبنا منها فوائد كثيرة, وسوف نستفيد أكثر من خلال شرح الرسالة.

 

 

العظة الأولى

 

بولس أسير يسوع المسيح وتيموثاوس الأخ إلي فليمون المحبوب والعامل معنا. وإلي أبفيه المحبوبة وأرخبس المتجند معنا وإلي الكنيسة التي في بيتك. نعمة لكم وسلام من الله ابينا والرب يسوع المسيح(فل1ـ3).

 

         هذا الكلام موجه إلي سيد لأجل أحد عبيده, لقد أراد الرسول بولس في أول الأمر ـ وبشكل مباشر ـ أن يهدئ من نار غضب  فليمون, بل وأن يؤنب ضميره أيضًا, كما جعله يرجع إلى نفسه. كما أنه بيَّن أن كل هذه الأمور الظاهرية ـ أى كون أنسيمس هو عبد لدي فليمون ـ كأنها لا شئ حيث إنه لا يوجد عبد أو حر في المسيح يسوع, فالأسر والقيود لأجل إكرام المسيح ليست خزي ولكنها مباهاة. فالعبودية أفضل بكثير من الحرية التي تصاحبها أفعال ملومة.

 وعندما يقول بولس هذا القول فهو لا يرفع من شأن نفسه بل لأجل غرض جيد. فهو يريد أن يُظهر مَنْ هو المستحق أن نكون مدينين له. وهو لا يقول هذا لأجل أن ينال تكريم خاص من أحد, ولكن لأجل إكرام ذاك الذي يستطيع أن يمنح العطف الكثير عن طيب نفس. وكأن بولس يقول: إن قيودي هذه كانت من أجلك (لحساب المسيح) كما أنه يقول في موضع آخر موضحًا أنه لا يوجد أعظم من أن يحمل الإنسان سمات المسيح في جسده ” لأني حامل في جسدي سمات الرب يسوع[10] ويدعو هذا الفخر بـ”عار المسيح”

أسير يسوع المسيح

  أى أنه سُجِنَ لأجل المسيح. فمَنْ لا يرتعب ومَنْ لا تتحرك مشاعره حينما يسمع حديثًا عن ” قيود المسيح”, مَنْ ذا الذي لا يكون مستعدًا لأن يقدم حياته وليس فقط أحد عبيده!!.

وتيموثاوس الأخ

   هنا بولس الرسول لا يطلب شيئًا من فليمون بشخصه فقط ولكن يضم معه شخص آخر هو “تيموثاوس” مُريدًا بهذا أن يستميله حتى يعفو عن عبده “أنسيمس” بسهولة أكثر.

 

إلي فليمون المحبوب والعامل معنا

    إن تعبير “المحبوب ” يدل علي أن ثقة بولس في فليمون ليست من قِبل الجرأة في الحديث ـ حتى يخاطبه هكذا بدون القاب ـ ولكن هذا دليل علي وجود علاقة صداقة ومحبة بينهم.

العامل معنا  

   إن هذه الكلمة لا تعنى فقط أن بولس يريد أن يعلّم أمرًا أو يلقى بوصية واجبة الطاعة, ولكنها تعبّر عن إرادته في أن يجعل فليمون يعترف بأن هناك إحسانات قد حصل عليها حيث إنه يعمل, ويبني مع بولس في نفس العمل الكرازي ـ لذلك بصرف النظر عن أي طلب ـ هو يريد أن يقول : أنت يا فليمون لست فقط محبوبًا لدينا بل وعاملاً معنا أيضًا وهذا نافع للعمل الكرازى, وبما أنك شريك معنا في هذه الخدمة يتعيّن عليك ألاَ تكون أنت هو من نتوسل إليه بل أن تتوسل معنا في نفس الطلب الذي نطلبه.

وإلي أبفيه المحبوبة

    يبدو لي أن أبفيه هي زوجة فليمون. ومن الملاحظ رقة بولس في الحديث, فهو أولاً يوجه خطابًا لفليمون ليس باسمه فقط ولكنه يضم معه شخص تيموثاوس وثانيا نجده يوجه الحديث ليس فقط لفليمون ولكن لزوجته أيضًا. وهناك شخص آخر ربما يكون صديق هو “أرخبس” ويقول عنه ” المتجند معنا” فليس الهدف أن ينهي الموضوع بتوجيه أوامر لهم بدون أن يتحمل مشقة إقناعهم. فبولس لا يعرض طلبه مباشرة ولكنه يستجديهم لعمل أمر غريب وهو أن يساعدوه في طلبه. فهو لم يبدأ بطلبات عديدة ولكن بدء طلبه بأن يحث الكثيرين لكي يساهموا في هذه العطية. ولأجل هذا يقول: وأرخبس المتجند معنا, وكأنه يريد أن يقول: فلو كنت يا أرخبس متجند معنا يتعيّن عليك أيضًا أن يكون لديك الاهتمام بنفس هذا الأمر.

   وأيضًا يذكر الرسول بولس أرخبس في رسالته إلي كولوسي فيقول: ” و قولوا لأرخبس انظر إلى الخدمة التي قبلتها في الرب لكي تتممها[11]. وكما يبدو لي أن أرخبس هذا كان أحد الكهنة، ولهذا يدعوه بالمتجّند معنا. وهو بالتأكيد كان يتعاون معه بكل الوسائل.

 

والكنيسة التي في بيتك  

هنا بولس لم يستثنِ أحد ولا حتى العبيد.لأنه يعرف أن كلام العبيد ـ أحيانًا ـ لديه القدرة علي تحريض السادة نحو أحدهم. وخاصة بالأكثر حينما يطلب بولس نيابة عن عبد ـ حيث إنه من المحتمل أن هؤلاء العبيد هم الذين كانوا قد أثاروا فليمون ضد عبده ـ ولما كان لا يريدهم أن يحسدوا ” أنسيمس”، فقد شرفهم بضم أسمائهم في التحية مع سادتهم كما أنه بهذا لا يسمح للسادة أن يعتبروا أن أشارته للعبيد بالاسم, هو إهانة لهم, فربما يغضبهم ذلك. ومن ناحية أخرى لو أن بولس لم يذكر العبيد بالمرة, فربما يستاءون من هذا. لاحظ  كيف أنه من أجل هذا فطن لإيجاد طريقة أدبية يذكرهم بها. فشرّف الجميع بهذه الإشارة دون أن يغضب أحدًا وهذا من خلال استخدام كلمة “كنيسة” فهو لم يُغضب السادة بالرغم من أنه يحسبهم مع العبيد لأن الكنيسة لا تعترف بالتمييز بين السيد والعبد. فهي تنظر إلي الواحد والآخر بمقدار عمله الصالح أو بحسب خطيئته. إذ أنه في الكنيسة لن يغضب السادة إذ أتى العبيد معهم لأن في المسيح يسوع ليس عبد ولا حر[12].

نعمة لكم وسلام

         حينما يذكر الرسول بولس “النعمة” فهو بهذا يجعل “فليمون” يتذكر خطاياه الخاصة. وكأنه بهذا أراد أن يقول له: انظر كيف أن الله العظيم قد سامحك في أشياء كثيرة وبواسطة النعمة قد حُفظت. فتمثل بالرب يسوع في فعله.

         كما نجد أن الرسول بولس يتمني له السلام وهذا أمر عظيم. وبالطبع سيكون له هذا السلام حينما يُقدم فليمون علي محاكاة الرب فتسكن النعمة فيه أيضا. وهذا حتى لا يكون مثل ذلك العبد الذي لم يرحم العبد رفيقه حين طالبه بالمائة فِلس. بالرغم من أن نعمة سيده ثابتة عليه, ولكن عندما طالب رفيقه, أُخذت منه تلك النعمة وأُرسل إلي العذاب الأبدي[13].

         ويجب علينا عندما نضع ما حدث في هذا المثل أمام أعينا أن نكون بدورنا رحماء ونغفر لأولئك الذين أساءوا إلينا. إن المائة فِلس في هذا المثل هي بمثابة الإساءة الموجهه إلينا, بينما الآلاف من الوزنات تمثل الإساءة التي نفعلها نحن في حق الله. والأهم هو أنه بينما تعرف أن هذه الطريقة خاطئة فمع ذلك تحكم بنفس الطريقة علي الآخرين. فعلي سبيل المثال: الذي يهين شخصًا عاديًا فإنه يعمل عملاً خطأً, ولكن ليس كالذي يهين شخصًا رفيع المستوي. والذي يهين شخصًا أعظم فخطأه أعظم. والذي يهين الأدنى فإن خطأه أقل ولكن الذي يهين الملك فإهانته بالغة. فالجرح والإهانة هما حقًا في نفس مستوي الشخص الموجهة إليه الإهانة[14] فالذي يهين ملكًا له عذاب لا يطاق وهذا فقط بسبب مقام الشخص المُهان. ولكن كم عدد الوزنات التي سيسأل عنها ذاك الذي يهين الله؟!.فإن كنا نرتكب الإساءة ضد الله مثل تلك التي نعملها ضد الآخرين ـ فبسبب عدم التساوي بين الله والآخرين ـ فلا يمكن أن تتساوي الخطيئة التي نرتكبها ضد الله بالخطيئة الموجهة ضد الآخرين. إن القول الذى أحاول النطق به لهو قول رهيب. حقًا هو مرهوب. ولكن من الضروري أن اقوله فربما من خلاله ترتعد عقولنا ونفكر بطريقة صحيحة ونفهم من خلال تلك العلاقة بين الخطية والشخص الذي نخطئ في حقه. اسمعوا قولي: نحن نخاف الناس أكثر من الله ونكرّم الناس أكثر من الله!!. أترون كيف يكون هذا؟ إن الذي يُقدم علي الزنا يعرف أن الله يراه وبالرغم من هذا فإنه يتجاهله. ولكن لو رآه إنسان فإنه يقيد شهوته. فليس فقط أن الشخص يحترم الناس أكثر من الله بل أنه أيضًا يهين الله. وليس هذا فقط ولكن يحدث ما هو أسوأ. فبينما هو يخاف الناس فإنهم هم  يحتقرونه. لهذا إذا رأى هذا الشخص أناسًا آخرين فإنه يكبح نار شهوته, ولكن بالحري أي نار؟! ليست نار الشهوة إنما نار الفضيحة في أنه يتصل بامرأة بشكل غير قانوني فالأمر يبدأ برغبة ولكن حينما يراه الناس وهو يحقق رغبته هذه, فإن ما يفعله يصبح مهانة ودعارة, فيكف عن ولعة الجنوني إذا رأهم. ولكن لأن الله طويل الأناة فإنه ينال منه احترامًا أقل. وهناك من يسرق ويكون واعيًا حينما يسرق ويسعي لخداع الناس ويدافع عن نفسه ضد أولئك الذين يتهمونه, ويحاول أن يُبرر نفسه. مع ذلك فهو لا يستطيع أن يغلب الله بحجته. فهذا الإنسان لا يحترم الله ولا يخافه ولا يكرمه. فلو إن الملك الأرضى أوصانا أن نمتنع عن سرقة الآخرين أو حتى نقدم أموالنا, نكون علي استعداد أن نتعاون معه ولكن عندما يوصينا الله ألاّ نسرق  وألاّ نطمع فيما للآخرين, فنحن لا نطيعه.

         هل رأيتم الآن كيف أننا نكرّم الناس أكثر من الله ؟! إن هذا قول محزن ومؤلم وتهمة ثقيلة. وهل لأنه مؤلم نهرب من بشاعة تلك الأفعال؟ وبما أنكم لا تخافون من فعل مثل هذه الأمور كيف لي أن أصدقّكم إذ قلتم: إننا نخاف من كلماتك, وهل تطرح العبء علىَّ إذن؟ لا. إنكم بهذا القول تلقون بالمسئولية على أنفسكم فما أقوله ليس كلماتى. فلو كنت أنا صاحب تلك الوصايا التي يجب أن تعملوها فأنتم مهانون. لأن هذا أمر هزلي لأن الأشياء التي قيلت بواسطتي قد يثبت خطأها! وفي هذه الحالة سوف أرجع الأمر كله لضعف اللغة ولا أقول إني قد أخطأت. كمن يخطئ ثم يعاتبك علي أنك أنت السبب ويثبت لك بالبرهان كيف أنك أنت السبب.

         نحن لا نوقر الناس أكثر من الله فقط, ولكن من بيننا مَنْ يُجبر الآخرين أن يسلكوا نفس السلوك. فكثيرون قد أرغموا عبيدهم وإماءهم علي الزواج ضد إرادتهم وآخرون أجبروهم وأرسلوهم في خدمات معيبة ـ إلي الدعارة ـ وإلي أفعال السلب والاحتيال والعنف. لذلك فالتهمة مضاعفة علي هؤلاء. ولا أحد يستطيع أن ينال المغفرة بحجة العوز. فأنت تعمل أمور ترفضها وترجع ما تفعله إلى العادات. ومع هذا كله فليس لك ـ بأي حال ـ عذر مقبول[15] والأكثر من هذا حينما تجبر الآخرين أن يعملوا نفس الأمر الذي ترفضه!. أية مغفرة تكون لمثل هذا الشخص؟ فما قلته أيها الأخوة لم أقله رغبة في إدانتكم ولكن لأظهر لكم الأشياء التي نحن مدينين بها لله. فحتى لو تساوى احترام الناس مع احترامنا لله فنحن نهين الله أيضًا. فكم وكم حينما نقّدرهم أكثر منه!!. حتى ولو أن الإساءة نفسها التي تُرتكب ضد الناس نري أنها تصير أعظم جدًا لو ارتكبت ضد الله. والأكثر حينما تكون الإساءة الفعلية ضد الله وبشكل مباشر.

         لندع كل واحد يمتحن نفسه وسوف يرى أنه يعمل كل شي لحساب الناس, بينما سنكون مباركين جدًا, لو صنعنا كل شي إكرامًا لله. مثلما نصنع الأمور لإكرام الناس. عندما نقبل هذا سنجد إجابات عديدة للسؤال التالى: لماذا يتعيّن علينا أن نغفر بكل نشاط لمَنْ جرحنا, ولمَنْ سلب منا أموالنا ؟! وألاّ نحمل ضغينة لأحد, لأن هذا هو الطريق لمغفرة خطايانا, فهو طريق لا يحتاج إلي تعب أو إنفاق ثروة أو أي شي آخر ولكن هو مجرد رغبة داخلية ولن نحتاج أن نذهب بعيدًا ولا أن نرتحل فيما هو أبعد من حدود بلادنا ولا أن نُقدِم علي الأخطار والشراك. ولكن ما نحتاجه بالفعل هو فقط الرغبة في  أن تغفر لمَنْ أساء إليك.

         أخبروني, إن كنا لا نريد أن نعمل تلك الأشياء السهلة مع أنها تجلب علينا مكاسب كثيرة وفوائد كبيرة بدون أى تعب, فأي عذر لنا, وماذا سيكون موقفنا تجاه ما هو أصعب؟ هل تستطيع أن تحتقر الثروة؟ هل تستطيع أن تصرف أموالك علي المحتاجين؟ هل تستطيع فعل أي شئ جيد؟ هل تستطيع أن تغفر لمن جرحك؟ إن كنت لا تستطيع أن تفعل أى من هذه الأمور فعلي الأقل نفذ ما أمرك الله به وهو أن تغفر. لأنه يتعيّن عليك أن تغفر للآخرين. إن الأكثر من هذا أنكم تطلبون بلجاجة أن يُغفر لكم فهل تطلبون هذا بسبب ما أظهره الله نحونا؟ فلو ذهبنا إلي الله الذي يدين الكل, فإنه يعرفنا ويستقبلنا بالحب ويكرِّمنا, ويدفعنا بكل اهتمام إلي طريق الحرية. ومع ذلك فقد رأيناه في مَثل ” العبد الذي لم يرحم العبد رفيقه ” أنه لم يدفع الدين عنا ولكن هو يريد أن يجعلنا ونحن نطالب الآخرين بالسداد أن نكون رحماء معهم.

         انظر, أنت مدين بالكثير لله ومع أنه أوصاك أن تغفر حتى يُغفر لك. إلاَ أنك لا تغفر للآخرين. واني أسألكم لماذا لا تغفروا؟, وإني لمتعجب من هذا الفتور!. فلماذا كل هذا الكسل في اقتناء الفضيلة؟!. فبرغم من أنه لدينا مميزات كثيرة إلاَ أننا نجهد أنفسنا فيما هو رذيل, ونحن نعرض عن ما هو سهل ونطلب ما هو ثقيل. ففي المغفرة للآخرين ليست هناك حاجة إلي قوة جسمانية, ولا ثروة, ولا سلطة, ولا قوة, ولا صداقة, ولا أى شئ آخر. فقط يكفي أن تريد وسيتم كل شئ. هل يضايقك شخص ما, ويحتقرك ويسخر منك؟ نعم. ولكن غالبا ما تفعل أنت أيضًا هكذا في الآخرين وحتى ضد الله نفسه, ولكنه يصبر ويغفر. وهذا هو ما قاله :” اغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضًا لمن أساء إلينا[16]. وهكذا فإن لم تغفر فإنك لا تستطيع أن تطلب هذا بدالة. وحتى إذا غفرت فلا تطلب المغفرة كأن الله مدين لك بالغفران. ولا بسبب أنه هكذا يجب أن يفعل الله، ولكن بحسب رحمة الله يمنح المغفرة[17]. وهل يتساوي الغفران الممنوح لذلك الشخص الذي يُخطئ فى حق رفيقه مع ذاك الغفران الذي يُمنح للشخص الذي يُخطئ في حق الله!. غير أن الحقيقة هي أننا نتمتع بمحبة الله العظيمة الفيّاضة للبشر إذ هو غنىٌ في رحمته وشفقته.

         إذا كان هناك شخص يعرفه الجميع ويمدحوه قائلين: إن هذا إنسان تقيٌ, إنه يصفح بسهولة، وهو يعرف كيف لا يحمل ضغينة ضد أحد. حينما يتعرض هذا الشخص لمحنة, مَنْ لا يتعاطف معه وإن طلب العفو عن خطأ قد فعله مَنْ لا يمنحه إياه؟ ألاَ تريد أن تكون مثل هذا الإنسان الورع؟ بلي, إنك بالطبع تريد.

         وأخيرًا أطلب إليكم. أن نعمل كل شئ لأجل الله ونغفر ليس فقط لأصدقائنا، وليس فقط للذين لهم علاقة بنا، ولكن نغفر حتى لعبيدنا, فالرسول بولس يقول: ” تاركين التهديد عالمين أن سيدكم أنتم إذًا فى السموات[18].

         فلو غفرنا للآخرين خطاياهم فإنهم سيغفرون لنا خطايانا, ولو قمنا بأعمال رحمة سنُرحم، ولو كنا متضعين ستغُفر خطايانا إذ أنه بالاتضاع تُغفر الخطايا, فقد قال العشار: ” ارحمني يا الله أنا الخاطئ[19] فذهب مبررًا ـ وبالأكثر نحن أيضًا لو تبنا وتواضعنا سننال مراحم كثيرة. ولو اعترفنا بخطايانا وحكمنا على أنفسنا سنتطهر بالأكثر من أدناسنا.

         اذن، فهناك العديد من الطرق التي تؤدى للنقاوة وفي أي من هذه الطرق سيكون لنا حرب ضد الشيطان. ومع ذلك ما سوف أقوله ليس صعبًا ولا ثقيلاً. فقط اغفر للذي جرحك, اعطف علي المحتاجين, تواضع,  وحتى لو كنت خاطئًا جدًا ربما تستطيع أن تحصل على ملكوت الله حيث إنك بهذه الطرق تطهر نفسك من الخطية.

         فلنسلك جميعًا هكذا والله يمنحنا النعمة ويطهّر نفوسنا, وباعترافنا هنا بكل قذارة خطايانا ربما نحصل هناك علي بركة الوعد الذى في المسيح يسوع ربنا الذي له مع الآب والروح القدس المجد والقوة والإكرام الآن وكل أوان وإلي دهر الدهور آمين.

[1] فليمون 2.

[2] فليمون 7.

[3] فليمون22.

 [4] فليمون 18.

[5] فليمون 11

[6] فليمون 13

[7] مت 5: 15.

[8] 1كو21:7.

[9] اتي1:6

[10] غل17:6

[11] كولوسي17:4

[12] غل 28:28

[13] انظر المثل في انجيل القديس متي إصحاح 18

[14] يبين القديس ذهبي الفم هنا أن الخطأ واحد في كل الحالات ولكن يتعاظم مقداره أو يقل على حسب نظرتنا نحن للشخص المهان.

[15] يبين ذهبي الفم أننا من الممكن ان نعمل أشياء غير مقتنعين بها وهي أشياء خاطئة ونعلل هذا بالعادات والتقاليد.

[16] مت13:6

[17] يقصد هنا أن الغفران الممنوح لنا من الله ليس لأجل بّرنا أو حتى لأننا فعلا نصفح عن الآخرين وكأن الله يغفر لنا لأننا مستحقين هذا ولكنه يمنحنا الغفران من قبل نعمته ورحمته العظيمة.

[18] أف9:6

[19] لو13:8

 

رسالة فليمون ع1 – ق. يوحنا ذهبى الفم – رأفت موسى ذكرى