آبائيات

الروح القدس باقة من أقوال القديس أثناسيوس الرسولى

الروح القدس باقة من أقوال القديس أثناسيوس الرسولى

الروح القدس باقة من أقوال القديس أثناسيوس الرسولى

 

الروح القدس باقة من أقوال القديس أثناسيوس الرسولى
الروح القدس باقة من أقوال القديس أثناسيوس الرسولى

 

 

الروح القدس[1]

باقة من أقوال القديس أثناسيوس الرسولى

 

( 19 )

الينبوع والنور:

يجب على الإنسان أن يتعلم فقط ما هو في الكتب المقدسة. لأن الأمثلة التي تتضمنها النصوص عن هذا الأمر هي كافية وشديدة الوضوح. وهكذا فالآب يدعى ينبوعًا ونورًا لأنه يقول: “ تركوني أنا ينبوع المياه الحية” (إر2: 13). وأيضًا في باروخ ” لماذا أنت يا إسرائيل في أرض أعدائك؟ لقد تركت ينبوع الحكمة” (باروخ10:3 ـ12)، وأيضًا حسب يوحنا ” إلهنا نور” (1يو1: 5).  

          وأما الابن فمن جهة علاقته بالينبوع يدعى نهرًا: ” نهر الله ملآن ماء” (مز64: 9). ومن جهة علاقته بالنور يدعى اشعاعًا. إذ يقول بولس ” الذي هو شعاع مجده ورسم جوهره” (عب1: 3). ومن ثم حيث أن الآب نور والابن هو شعاعه، فلا ينبغي أن نتحاشى تكرار نفس الأشياء عنهما مرات كثيرة.

 

بالروح نستنير:

          ويمكننا أن نرى في الابن، “الروح” الذي بواسطته نستنير. “ لكي يعطيكم روح الحكمة والإعلان في معرفته مستنيرة عيون قلوبكم” (أف1: 17، 18). ولكن حينما نستنير بالروح، فالمسيح هو الذي ينير فيه (أي في الروح) لأنه يقول “ كان النور الحقيقي الذي ينير كل إنسان، آتيًا إلى العالم” (يو1:9) وأيضًا حيث أن الآب ينبوع، والابن يسمى نهرًا، لذلك نقول أننا نشرب الروح لأنه مكتوب       ” جميعنا سقينا روحًا واحدًا” (1كو12: 13) ولكن حينما نشرب الروح، فإننا نشرب المسيح. “ لأنهم كانوا يشربون من صخرة روحية تابعتهم، والصخرة كانت المسيح” (1كو10: 4).

 

بالروح نصير أبناء:

          وبالإضافة إلى ذلك، كما أن المسيح ابن حقيقي، فإننا عندما نأخذ الروح “نصير أبناء”. لأن الكتاب يقول “ إذ لم تأخذوا روح العبودية أيضًا للخوف بل أخذتم روح التبني” (رو8: 15). وأن كان بالروح قد صرنا أبناء فواضح أننا في المسيح ندعى أولاد الله لأن “ كل الذين قبلوه أعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد الله” (يو1: 12). وعلى ذلك، فكما أن الآب هو “الحكيم الوحيد” كما قال الرسول بولس، فإن الابن هو “حكمته”، ” المسيح قوة الله وحكمة الله” (1كو1: 24). وحيث إن ابن الله هو الحكمة وابن الحكمة، فإننا إذ نأخذ روح الحكمة، نملك الابن، وبه نصير حكماء. لأنه هكذا هو مكتوب في المزمور المئة والخامس والأربعون ” الرب يحل المأسورين، الرب يفتح أعين العميان” (مز145: 7، 8).

 

بالروح يقيم الله فينا:

          وحينما يعطي لنا الروح القدس، كما قال المخلص ” اقبلوا الروح القدس“، فإن الله يقيم فينا، لأنه هكذا كتب يوحنا: ” إن أحب بعضنا بعضًا فالله يقيم فينا، بهذا نعرف أننا نقيم فيه وهو فينا، لأنه قد أعطانا من روحه” (1يو14: 12، 13). وحيث إن الله يوجد فينا، فإن الابن أيضًا يكون فينا. لأن الابن نفسه قال: ” الآب وأنا نأتي ونصنع عنده منزلاً” (يو14: 23). وأيضًا، حيث إن الابن هو الحياة لأنه يقول ” أنا هو الحياة” (يو14: 6).

 

الروح يحيينا:

          فإننا نحن أيضًا سنحيا بالروح، لأنه يقول: ” الذي أقام المسيح من بين الأموات سيحيي أجسادكم المائتة بروحه الساكن فيكم” (رو8: 11). وحيث إننا مُحيون بالروح، فالمسيح نفسه يحيا فينا، لأنه يقول ” مع المسيح صلبت فأحيا لا أنا، بل المسيح يحيا فيَّ” (غلا2: 20). وأيضًا، قال الابن إن الأعمال التي عملها هو، عملها الآب لأنه يقول: ” الآب الحال في هو يعمل أعماله. صدقوني أني في الآب والآب فيَّ، وإلا فصدقوني بسبب أعماله” (يو14: 10ـ12). وهكذا أيضًا قال بولس إن الأعمال التي عملها بقوة الروح هي أعمال المسيح: ” لأني لا أجسر أن أتكلم عن شئ مما لم يفعله المسيح بواسطتي لإطاعة الأمم بالقول والفعل بقوة آيات وعجائب، بقوة الروح القدس” (رو15: 18، 19).

 

( 20 )

          وإذن، حيث إنه توجد مثل هذه المماثلة وهذه الوحدة في الثالوث القدوس فمن يمكنه أن يفصل الابن عن الآب أو يفصل الروح عن الابن أو عن الآب نفسه؟ ومن تصل به الجرأة حتى يقول إن أقانيم الثالوث غير متماثلة فيما بينهما، ومختلفة في الطبيعة، أو أن الابن جوهر غريب عن الآب، أو أن الروح غريب عن الابن.

          ولكن بأية طريقة يمكن أن تحدث هذه الأمور؟ فإن كان أحد أيضًا يتساءل ويبحث قائلاً: كيف حينما يوجد الروح فينا، يقال أن الابن فينا؟ وحينما يكون الابن فينا فكيف يُقال إن الآب فينا؟ وعندما يكون الثالوث حقًا ثالوثًا، فكيف يفهم أنه واحد. أو لماذا حينما يكون فينا، يقال أن الثالوث موجود فينا؟ فعلى هذا أن يفصل أولاً الشعاع عن النور، أو يفصل الحكمة عن الحكيم، أو فليخبرنا كيف تكون هذه الأمور.

 

الكرازة ببرهان الروح:

          ولكن إن كانت هذه الأمور من غير الممكن أن تحدث، فإن توجيه مثل هذه الأسئلة عن الله يكون جرأة جنونية، لأن الإلوهية لا تسلم لنا بواسطة براهين كلامية بل بالإيمان مع التفكير بتقوى ووقار، فإن كان بولس قد كرز بالصليب المخلص “ لا بكلام الحكمة بل ببرهان الروح القدس” (1كو2: 4) وقد سمع في الفردوس       “ كلمات لا ينطق بها ولا يسوغ لإنسان أن يتكلم بها” (2كو12: 4) فمن يستطيع أن يتكلم عن الثالوث القدوس نفسه؟

          ومع ذلك فيمكننا أن نعالج هذه الصعوبة أولاً، بالإيمان، وبعد ذلك باستعمال ما سبق أن ذكرناه من أمثلة أي: الصورة والشعاع، والينبوع والنهر، والجوهر والرسم. وكما أن الابن هو في الروح الذي هو صورته الخاصة، هكذا الآب أيضًا في الابن. لأن الكتاب الإلهي، لكي يعالج عجزنا عن شرح وفهم هذه المعاني بالكلمات، قد أعطانا مثل هذه الأمثلة، حتى بسبب عدم إيمان هؤلاء المتجاسرين، يمكننا أن نعرض بأكثر وضوح، وأن نتكلم بدون التعرض لخطر الضلال. وأن نفكر بطريقة مشروعة.

 

قداسة واحدة .. فى الروح القدس:

 وأن نؤمن بقداسة واحدة مستمدة من الآب بالابن في الروح القدس. لأنه كما أن الابن هو وليد وحيد، هكذا أيضًا الروح إذ هو معطي ومرسل من الابن، هو نفسه واحد وليس  كثيرين، وليس واحدًا من كثيرين، بل هو نفسه وحيد. إذن، كما أن الابن الكلمة الحي هو واحد، هكذا فإن القوة الحيوية والعطية التي بها يقدس ويضئ، ينبغي أن تكون واحدة كاملة وتامة، وهي التي يقال عنها أنها تنبثق من الآب، لأنها من الكلمة، الذي يعترف أنه من الآب، وهي التي تشرق وترسل وتُعطى، فالابن يُرسل من الآب، لأنه يقول: “ هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد” (يو3: 16). والابن يرسل الروح فهو يقول: ” إن ذهبت أرسل المعزي” (يو16: 7). الابن يمجد الآب قائلاً: “ أيها الآب أنا مجدتك” (يو17: 4)، بينما الروح يمجد الابن، لأنه يقول ذلك يمجدني (يو16: 14). وبينما يقول الابن: “ ما سمعته من الآب فهذا أقوله للعالم” (يو8: 26)، فإن الروح يأخذ من الابن لأنه يقول: “ لأنه يأخذ مما لي ويخبركم” (يو16: 14). الابن آتي باسم الآب. ويقول الابن: ” الروح القدس الذي سيرسله الآب باسمي” (يو14: 26).

 

( 21 )

          فإذا كان الروح له مثل هذه الرتبة والطبيعة. مع الابن، مثل ما للابن مع الآب، فإن ذاك الذي يدعو الروح مخلوقًا، أفلا يقول نفس الشيء بالضرورة عن الابن أيضًا؟ لأنه إن كان الروح مخلوقًا من الابن فإن هذا يقتضيهم أن يقولوا أن الكلمة مخلوق من الآب. لأن الآريوسيين إذ قد تصوروا مثل هذه التصورات فقد سقطوا في يهودية قيافا. ولكن إن كان هؤلاء الذين يقولون مثل هذه الأشياء عن الروح يدعون أنهم لا يأخذون بتصورات آريوس، فدعهم يتحاشون كلماته، وألا يتكلموا بعدم تقوى عن الروح. لأنه كما أن الابن الذي هو في الآب والآب هو فيه، ليس مخلوقًا بل هو من جوهر الآب ذاته هذا هو ما تدعون أنكم تقولونه أيضًا، هكذا أيضًا فإن الروح الذي هو في الابن والابن فيه، ليس مسموحًا أن يحسب بين المخلوقات، ولا أن نفصله عن الكلمة ولا أن نقدم الثالوث بصورة غير كاملة.

          وفيما يخص أقوال كل من النبي والرسول التي خدعوا أنفسهم بتحريفهم إياها، فإن هذه الاعتبارات تكفي لكي تبين أقوال هؤلاء المحرفين الشريرة التي أدى إليها جهلهم. ويتبقى علينا إذن أن ننظر في الأقوال التي وردت عن الروح القدس في الكتب الإلهية، واحدًا فواحدًا، وكصرافين مهرة فلنحكم، هل الروح فيه أي شئ يختص بالمخلوقات أم هو خاص بالله، وذلك لكي ندعوه أما مخلوقًا أو أنه يختلف عن المخلوقات وينتمي إلى طبيعة الله كما أنه واحد معه في الثالوث الذي لا ابتداء له. وربما – على هذا النحو يخجلون حينما يتحققون إلى أي درجة أن كلمات التجديف التي اخترعوها هي غير متوافقة مع الأقوال الإلهية.

 

( 22 )

الروح القدس من الله:

          وإذن فالخلائق قد أتت من العدم إذ لها بداية لوجودها، لأنه “ في البدء خلق الله السموات والأرض” (تك1:1) وكل ما هو موجود فيها. وأما الروح القدس فقد قيل عنه أنه من الله، لأنه يقول ” ليس أحد يعرف أمور الإنسان إلا روح الإنسان الذي فيه، هكذا أيضًا أمور الله لا يعرفها أحد إلا روح الله ونحن لم نأخذ روح العالم بل الروح الذي من الله” (1كو2: 11، 12). وعلى أساس ما سبق، فأية قرابة إذن يمكن أن توجد بين الروح وبين المخلوقات؟ فالمخلوقات لم يكن لها وجود بينما أن الله هو الكائن، والروح هو منه. والذي هو من الله لا يمكن أن يكون مما هو غير كائن، ولا يمكن أن يكون مخلوقًا لئلا بحسب تقديرهم، فالذي منه الروح أيضًا ينبغي أن يعتبر مخلوقًا. فمن إذن سوف يحتمل مثل هذه؟ لأنهم يقولون أيضًا في قلوبهم ” ليس إله” (مز13: 1). لأنه إن كان أحد لا يعرف أمور الإنسان إلا روح الإنسان الذي فيه، هكذا أيضًا لا أحد يعرف أمور الله إلا الروح الذي فيه، أفلا يكون تجديفًا أن يدعى الروح الذي في الله مخلوقًا، وهو الذي يفحص حتى أعماق الله؟ لأنه على هذا الأساس سيكون من الضروري أن يقبل المتكلم أن يقول إن روح الإنسان هو خارج عن الإنسان نفسه، وأن الكلمة الذي في الآب هو مخلوق.

 

روح القداسة والتجديد:

          وأيضًا الروح هو روح القداسة والتجديد ويدعي هكذا. لأن بولس يكتب: ” وتحدد أنه ابن بقوة من جهة روح القداسة بالقيامة من الأموات، يسوع المسيح ربنا” (رو1: 4). ويقول أيضًا: ” لكن تقدستم بل تبررتم باسم الرب يسوع وبروح إلهنا” (1كو6: 11). وحينما يكتب إلى تيطس يقول:” لكن ظهر لطف مخلصنا الله ومحبته للبشر، لا بأعمال في بر عملناها نحن، بل بمقتضى رحمته خلصنا بحميم الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس الذي سكبه علينا بغنى بيسوع المسيح مخلصنا. حتى إذا تبررنا بنعمته نصير ورثة حسب رجاء الحياة الأبدية” (تي3: 4ـ7). وأما المخلوقات فتتقدس وتتجدد: ” ترسل روحك فتخلق وتجدد وجه الأرض” (مز104: 30) ويقول بولس:     ” لأن الذين استنيروا مرة وذاقوا الموهبة السماوية وصاروا شركاء الروح القدس وسقطوا لا يمكن تجديدهم أيضًا للتوبة” (عب6: 4ـ6).

 

( 23 )

الروح معطى الحياة:

          وإذن فإن ذلك الذي لا يتقدس بواسطة آخر، ولا يأخذ القداسة، بل هو نفسه الذي تشترك فيه كل المخلوقات لكى تتقدس، فكيف يمكن أن يكون واحدًا من بين الكل، أو يكون من خاصة أولئك الذين يشتركون فيه؟ لأن أولئك الذين يقولون هذا يلزم أن يقولوا إن الابن الذي به وُجِدتْ كل الأشياء، هو واحد من بين كل هذه الأشياء.

          هو يدعى روح محيي لأنه يقول “الذي أقام يسوع من الأموات سيحيي أجسادكم المائتة أيضًا بروحه الساكن فيكم” (رو8: 11). والرب هو الحياة نفسها، وهو ” بادئ الحياة” كما قال بطرس (أع3: 15)، بل والرب نفسه قال: ” الماء الذي أعطيه يصير فيه ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية… قال هذا عن الروح الذي كان المؤمنون به مزمعين أن يقبلوه” (يو4: 14؛ 7: 39). ولكن المخلوقات كما قيل، تنال الحياة به. فذلك الذي لا يأخذ الحياة بل هو نفسه الذي تؤخذ منه، ويحيي المخلوقات فأية قرابة يمكن أن تكون بينه وبين الأشياء المخلوقة؟ كيف يمكن أن يكون من بين المخلوقات التي تنال الحياة به من الكلمة.

 

المسحة والختم:

          والروح يدعى مسحة وهو الختم  لأن يوحنا يكتب: “ أما أنتم فالمسحة التي أخذتموها منه ثابتة فيكم ولا حاجة بكم إلى أن يعلمكم أحد بل كما تعلمكم مسحته” روحه، ” عن كل شئ” (1يو2: 27). وكذلك كتب في إشعياء النبي: “ روح الرب علىَّ لأن الرب مسحني” (إش61: 1) ويقول بولس “ الذي فيه أيضًا أنتم إذ آمنتم …. ختمتم ليوم الفداء” (أف1: 13؛ 5: 30). والمخلوقات تختم وتمسح بواسطته وتتعلم منه كل شئ. ولكن إن كان الروح هو المسحة والختم الذي به يمسح الكلمة كل الأشياء ويختمها، إذن فأي شبه أو انتماء للمسحة والختم مع الأشياء التي تُمسَح وتُختَم؟ وبناء على هذا لا يمكن أن يكون الروح من بين كل المخلوقات. فالختم لا يمكن أن يكون من بين الأشياء التي تُختَم، والمسحة لا يمكن أن تكون من بين الأشياء التي تُمسَح، ولكنه يخص الكلمة الذي يمسح والذي يختم، لأن المسحة لها أريج ورائحة من يمسح، وأولئك الذين يُمسحون يقولون حينما ينالونها: ” نحن رائحة المسيح الزكية” (2كو2: 15). والختم له صورة المسيح الذي يختم، والذين يُختمون يشتركون في الختم ويتشكّلون حسبه، كما يقول الرسول: ” يا أولادي الذين أتمخض بكم أيضًا إلى أن يتصور المسيح فيكم” (غلا4: 19). وهكذا إذ نُختَم فمن الطبيعي أن نصير “شركاء الطبيعة الإلهية” كما يقول بطرس (2بط1: 4). وهكذا فكل الخليقة تشترك في الكلمة بالروح.

 

بالروح نصير شركاء الطبيعة الإلهية:

          وبالإضافة إلى ذلك فإنه يُقال عنا أننا ” شركاء الله”. لأنه يقول:   “ أما تعلمون أنكم هيكل الله وروح الله يسكن فيكم؟ إن كان يفسد هيكل الله فسيفسده الله لأن هيكل الله مقدس الذى أنتم هو” (1كو16:3و17).

          فلو كان الروح القدس مخلوقًا، لما كان لنا اشتراك فى الله بواسطته. فإن كنا قد اتحدنا بمخلوق فإننا نكون غرباء عن الطبيعة الإلهية حيث إننا لم نشترك فيها. أما الآن فلكوننا نُدعى شركاء المسيح وشركاء الله، فهذا يوضح أن المسحة والختم الذى فينا، ليس من طبيعة المخلوقات بل من طبيعة الابن، الذى يوحدنا بالآب بواسطة الروح الذى فيه. هذا ما علّمنا إياه يوحنا ـ كما قيل سابقًا ـ عندما كتب: ” بهذا نعرف أننا نثبت فى الله وهو فينا أنه قد أعطانا من روحه” (1يو13:4). ولكن إن كنا           بالاشتراك في الروح نصير ” شركاء الطبيعة الإلهية” (2بط1: 4)، فإنه يكون من الجنون أن نقول إن الروح من طبيعة المخلوقات وليس من طبيعة الله. وعلى هذا الأساس فإن الذين هم فيه، يتألهون وأن كان هو يؤله البشر، فلا ينبغي أن يشك أن طبيعته هي طبيعة إلهية.

          ولكن بوضوح أكثر، لأجل إبادة هذه الهرطقة يرنم المرنم ـ كما قلنا سابقًا – في المزمور المائة والثالث: ” تنزع روحهم فيموتون ويعودون إلى ترابهم. ترسل روحك فيخلقون وتجدد وجه الأرض” (مز103: 29، 30). وكتب بولس إلى تيطس ” بحميم الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس، الذي سكبه بغنى علينا بيسوع المسيح..” (تي3: 5، 6). ولكن إن كان الآب بالكلمة في الروح القدس يخلق كل الأشياء ويجددها فأي شبه أو قرابة بين الخالق والمخلوقات. فذلك الذي فيه خلقت كل الأشياء، كيف يمكن أن يكون مخلوقًا. أن مثل هذا الكلام الرديء يقود إلى التجديف على الابن حتى أن أولئك الذين يقولون أن الروح مخلوق، يقولون أيضًا أن الكلمة الذي خلقت به كل الأشياء مخلوق.

 

الروح صورة الابن:

          يُقال عن الروح – وهو كذلك – أنه صورة الابن لأن “ الذين سبق فعرفهم سبق فعينهم ليكونوا مشابهين صورة ابنه” (رو8: 29). وإذن، فإن كانوا يعترفون أن الابن ليس مخلوقًا، فلا يكون صورته أيضًا مخلوقًا لأنه كما تكون الصورة، هكذا يكون أصل الصورة. هكذا فمن الطبيعي والمناسب أن يعترف أن الكلمة ليس مخلوقًا لأنه صورة الآب. ولذلك فمن يعد الروح مع المخلوقات، فإنه بالضرورة سيحصى الابن أيضًا بينها. وبهذا سوف يتكلم كلامًا رديئًا على الآب أيضًا بكلامه الرديء على صورته.

 

( 25 )

          وإذن فالروح هو مختلف عن المخلوقات، ويتضح بالحرى أنه خاص[2] بالابن وليس غريبًا عن الله. أما فيما يخص سؤالهم الحكيم[3]: إن كان من الله فلماذا لا يدعى هو نفسه أيضًا أبنًا؟ فلقد سبق أن أوضحنا أنه سؤال متهور ومتجاسر، والآن نحن نوضح أنه ليس أقل من ذلك. ورغم أن الكتب المقدسة لا تدعوه أبنًا بل روح الله، ولكنها تقول أنه في الله نفسه ومن الله نفسه كما كتب الرسول. وإن كان الابن، بسبب أنه من الآب، هو خاص بجوهر الآب، فينبغي أن الروح الذي هو من الله، يكون بالجوهر خاصًا بالابن. وهكذا، فكما أن الرب هو الابن، فالروح يدعى روح البنوة. وأيضًا كما أن الابن هو الحكمة والحق، فالروح كتب عنه إنه روح الحكمة والحق. وأيضًا من جهة، الابن هو قوة الله وهو رب المجد، ومن جهة أخرى.

 

روح القوة وروح المجد:

          الروح يدعى روح القوة وروح المجد. ويشير الكتاب إلى كل منهما بما يأتي: فبولس كتب إلى الكورنثيين: ” لو عرفوا لما صلبوا رب المجد” (1كو2: 8).

 

روح البنوة أو التبنى:

          وفي موضع آخر يقول: ” إذ لم تأخذوا روح العبودية أيضًا للخوف بل أخذتم روح التبني” (رو 8: 15). وقال أيضًا: ” أرسل الله روح ابنه إلى قلوبكم، صارخًا يا أبا الآب” (غلا 4: 6). وكتب بطرس: ” إن عيرتم باسم المسيح فطوبى لكم لأن روح المجد والقوة وروح الله يحل عليكم” (1بط4: 14)، والرب دعا الروح: ” روح الحق” و” المعزي” (يو14: 16، 17). مبينًا بهذا أن الثالوث كامل به. ففيه يجعل الكلمة الخليقة مجيدة. وبمنحه إياها الحياة الإلهية والتبني فأنه يجذبها إلى الآب. ولكن ذاك الذي يربط الخليقة بالكلمة لا يمكن أن يكون واحدًا من المخلوقات. والذي يمنح التبني للخليقة لا يمكن أن يكون غريبًا عن الابن. لأننا بغير ذلك يكون من الضرورة أن نطلب روحًا آخر لكي به يمكن أن يرتبط هذا الروح بالكلمة. وهذا كلام غير معقول. لذلك فالروح ليس واحدًا من المخلوقات، بل هو خاص بلاهوت الآب والذي فيه يجعل الكلمة الأشياء المخلوقة تشارك في الطبيعة الإلهية. ولكن ذلك الذي به تشترك الخليقة في الطبيعة الإلهية لا يمكن أن يكون خارج لاهوت الآب.

          أما أن الروح هو فوق الخليقة، ومختلف في الطبيعة عن الأشياء المخلوقة، وأنه خاص باللاهوت، فهذا يمكن أن نعرفه مما يلي. فالروح القدس غير قابل للتغير والتحول لأنه يقول “روح التأديب، يهرب من الغش ويتحول عن الأفكار الغبية” (حكمة1: 5) ويقول بطرس ” في الروح عديم الفساد الوديع الهادئ” (1بط3: 4)، وأيضًا في الحكمة: ” روحك العديم الفساد هو في كل شئ” (حكمة 12: 1). وأيضًا ” لا أحد يعرف أمور الله إلا روح الله الذي فيه” (1كو2: 11). لأنه ليس لدى الله “ تغيير ولا ظل دوران” كما قال يعقوب (يع1: 17).

          فالروح القدس لكونه في الله، ينبغي أن يكون غير قابل للتغير والتحول والفساد. ولكن طبيعة الأشياء الناشئة والأشياء المخلوقة قابلة للتغير، حيث إنها خارج جوهر الله، وأتت إلى الوجود من العدم. لأنه يقول ” كل إنسان كاذب” (مز115: 11)، وأيضًا:       ” الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله” (رو3: 23)، ” والملائكة الذين لم يحفظوا رئاستهم بل تركوا مسكنهم الخاص، حفظهم إلى دينونة اليوم العظيم بقيود أبدية تحت الظلام” (يهوذا 6). وفي أيوب ” هوذا ملائكته لا يأتمنهم، وإلى ملائكته ينسب حماقة، والنجوم غير نقية في عينيه” (أي4: 18؛ 25: 5).

          وكتب بولس “ ألستم تعلمون أننا سندين ملائكة فبالأولى أمور هذه الحياة” (1كو6: 3). ولقد سمعنا أن إبليس، الذي كان “بين الشاروبيم”، وكان “خاتم الشبه”، سقط “ كالبرق من السماء” (حز28: 12؛ لو10: 18). ولكن إن كانت المخلوقات لها مثل هذه الطبيعة المتغيرة، وقد كتب مثل هذا عن الملائكة، والروح هو هو نفسه وهو غير متغير، فإن كان الروح له نفس عدم تحول الابن، ويظل دائمًا معه غير متغير فأي شبه بين غير المتغير والمتغير؟ وهكذا يتضح أنه ليس مخلوقًا وليس هو من جوهر الملائكة على الإطلاق لأنهم متغيرون، أما هو فهو صورة الكلمة ويخص الآب.

 

الروح يملأ المسكونة:

          وأيضًا، فروح الرب يملأ المسكونة، ولذلك يرتل داود ” أين أذهب من روحك” (مز 138: 7). وأيضًا مكتوب في سفر الحكمة “روحك غير الفاسد هو في كل الأشياء” (حك 12: 1). ولكن الأشياء المخلوقة هي في أماكن محددة لها: الشمس، والقمر والنجوم في الجلد، والسحب في الهواء. أما للناس، فقد وضع حدودًا للشعوب، (انظر تث32: 8) والملائكة يرسلون للخدمات (انظر عب1: 14). ” وجاء الملائكة ليمثلوا أمام وجه الرب“، كما هو مكتوب في أيوب (أي1: 6). ورأي يعقوب البطريرك حلمًا: “ وإذا سلم منصوبة على الأرض ورأسها يمس السماء، وهوذا ملائكة صاعدة ونازلة عليها” (تك 28: 12). ولكن إن كان الروح يملأ كل الأشياء وهو في الكلمة حاضر في كل الأشياء. وإن كان الملائكة أقل منه، وحيثما يرسلون فهناك يكونون حاضرين، إذن فلا ينبغي أن يشك في أن الروح ليس بين الأشياء المخلوقة وليس هو ملاكًا على الإطلاق، كما تقولون أنتم، بل هو فوق طبيعة الملائكة.

 

( 27 )

الاشتراك فى الروح:

          ومما يلي أيضًا يمكن أن ترى كيف أن الروح القدس تشترك فيه المخلوقات (لتأخذ منه) ولكن هو لا يشترك (أى لا يأخذ)، ولا ينبغي أن نتردد في تكرار نفس الكلام. لأنه مكتوب ” إن الذين استنيروا مرة وذاقوا الموهبة السماوية وصاروا شركاء الروح القدس، وذاقوا كلمة الله الصالحة” (عب6: 4، 5)، فالملائكة والمخلوقات الأخرى تشترك في الروح نفسه، وإذن فهم يمكن أن يسقطوا من الذي يشتركون فيه. ولكن الروح هو دائمًا كما هو، لأنه ليس واحدًا من بين أولئك الذين يشتركون، ولكن كل الأشياء تشترك فيه. فإن كان هو دائمًا كما هو، ودائمًا يشترك فيه، وإن كانت المخلوقات تشترك فيه، فالروح القدس لا يمكن أن يكون ملاكًا ولا مخلوقًا على الإطلاق، بل هو خاص بالكلمة، الذي به يعطي، من أجل أن تشترك المخلوقات في الروح وهم يرغبون أن يقولوا إن الابن مخلوق، وهو الذي فيه نصير كلنا شركاء في الروح…

 

( 28 )

تعليم الكنيسة أعطاه الرب، كرز به الرسل، حفظه الآباء:

          ولكن بالإضافة إلى ذلك، دعونا ننظر إلى تقليد الكنيسة الجامعة وتعليمها، وإيمانها، الذي هو من البداية “والذي أعطاه الرب وكرز به الرسل وحفظه الآباء”. وعلى هذا الأساس تأسست الكنيسة، ومن يسقط منه فلن يكون مسيحيًا ولا ينبغي أن يدعى كذلك فيما بعد.

 

الثالوث القدوس:

          وإذن يوجد ثالوث قدوس وكامل، يعترف بلاهوته في الآب والابن والروح القدس، وليس له شئ غريب أو خارجي ممتزج به، ولا يتكون من خالق ومخلوق، ولكن الكل يبني ويخلق، وهو مساوٍ وغير منقسم في الطبيعة، وفعله واحد. فالآب بالكلمة في الروح القدس يعمل كل الأشياء، وهكذا تحفظ وحدة الثالوث القدوس سالمة. وهكذا يكرز بإله واحد في الكنيسة، ” الذي على الكل وبالكل وفي الكل” (أف4: 6). ” على الكل” أى كأب وكبدء وكينبوع، “وبالكل” أي بالكلمة، “وفي الكل” أي في الروح القدس. هو ثالوث ليس فقط بالاسم وصيغة الكلام بل بالحق والوجود الفعلي. لأنه كما أن الآب هو الكائن الذي يكون، هكذا أيضًا الكلمة هو الكائن والإله على الكل. والروح القدس ليس بدون وجود حقيقي، بل هو يوجد وله كيان فعلي. وليس بأقل من هؤلاء الثلاثة تعتقد الكنيسة الجامعة، لئلا تنزلق إلى أفكار اليهود المعاصرين الرديئة، الذين حسب قيافا ـ وإلى أفكار سابيليوس، كما أنها لا تعتقد بأكثر من ثلاثة، لئلا تتدحرج إلى تعدد الآلهة عند اليونانيين. ولكي يعرف هؤلاء أن هذا هو إيمان الكنيسة، فدعهم يفهمون كيف أن الرب حينما أرسل الرسل، أوصاهم أن يضعوا هذا الأساس للكنيسة قائلاً:  ” اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس” (مت28: 19). فمضى الرسل وهكذا عملوا. وهذه هي الكرازة إلى كل الكنيسة التي تحت السماء.

[1] بعض فصول من كتاب الروح القدس للقديس اثناسيوس: الرسالة الأولى، فصول من 19ـ28 ترجمة د. موريس تاوضروس ود. نصحى عبد الشهيد، مركز دراسات الآباء 1994م.

[2] أي من نفس الجوهر مع الابن.

[3] يقصد الحكيم في نظرهم.

 

الروح القدس باقة من أقوال القديس أثناسيوس الرسولى