آبائيات

الرسالة إلى ديوجينيتوس – بولين تدرى أسعد

الرسالة إلى ديوجينيتوس - بولين تدرى أسعد

الرسالة إلى ديوجينيتوس – بولين تدرى أسعد

الرسالة إلى ديوجينيتوس - بولين تدرى أسعد
الرسالة إلى ديوجينيتوس – بولين تدرى أسعد

 

الرسالة إلى ديوجينيتوس

 

فصل 1 : سبب كتابة الرسالة:

 

         إنى أرى يا ديوجينيتوس أنك تبذل جهدًا عظيمًا لاستقصاء أخبار دين المسيحيين وأنك تستخبر عنهم بدقة وعناية. مَنْ هو الإله الذى يتكلمون عنه؟ وما هو نوع العبادة التى تجعلهم يحتقرون المادة ويهزءون بالموت ولا يعترفون بآلهة اليونانيين ولا يمارسون خرافات اليهود؟ وما سر المحبة المتبادلة بينهم؟ ولماذا انتشر هذا الدم الجديد أو الروح فى العالم اليوم لا قبل ذلك؟

 

أنا من صميم قلبى أرحب بذلك المطلب منك، وأتضرع إلى الله، الذى يمكِّننا نحن الاثنين من السمع والكلام، أن يهبنى أن أتكلم فى كل هذه الأمور، وفوق كل شئ أنك عندما تسمع سوف تنال بنيانًا، وأنت أيضًا تسمع منى أنا الذى أتكلم، أنه لا يوجد سبب يجعلنى أتأسف أننى تكلمت.

 

فصل 2: بطلان الأصنام:

 

         تعال، إذن، بعد أن تنقى نفسك من كل تحيز يسيطر على فكرك، واترك جانبًا كل ما تعودت عليه، كشئ يمكن أن يخدعك، وإذ تصير إنسانًا جديدًا من البداية طبقًا لاعترافك بأنك ستكون مستمعًا لنظام العقيدة الجديدة (المسيحية).

 

         تعال وتأمل، ليس بعينيك فقط بل بفهمك أيضًا، ما هو جوهر وما هو شكل أولئك الذين تعتبرونهم أنتم آلهة. أليس واحد منها حجرًا مشابهًا للحجر الذى ندوسه بالأقدام؟ أليس الثانى نحاس، ولا يزيد بأى حال عن الأوعية التى تُصَّنع للاستعمالات العادية الدارجة؟ أليس الثالث خشبة تتعفن بسهولة؟ أليس الرابع فضة، التى تحتاج حراسة من الإنسان لئلا تُسرق؟ أليس الخامس حديد، الذى يتآكل بالصدأ؟ أليس السادس فخار، ليس له قيمة أعلى مما يُصَّنع لأحقر الأغراض؟ أليست كل هذه الأشياء من مادة قابلة للفساد والتحلل؟ ألم يُصَّنعوا بالحديد والنار؟ ألم يشكِّل صانع التماثيل واحدًا منها، وصانع النحاس إلهًا آخر، وصائغ الفضة صنع ثالثهم، والخزاف رابعهم؟ أليس كل واحد من هذه التماثيل التى تم عملها عن طريق الصُنّاع المختلفين لتأخذ شكل الآلهة، كان من الممكن تغييره؟ ألم يكن من الممكن لهذه الأشياء التى هى الآن بشكل أوانى ومصنوعة من نفس المواد أن تتحول بيد صانع ماهر إلى تماثيل؟ أليست هذه التماثيل التى تُعبد منك الآن، يُعاد صنعها على أيدى صانعى الأوانى مثل الأخرى؟ أليسوا كلهم صُم؟ أليسوا كلهم عميان؟ أليسوا بلا حياة؟ أليسوا خاليين من الإحساس؟ أليسوا عاجزين عن الحركة؟ أليست معرضة أن يفسدها السوس؟ أليست كلها قابلة للفساد؟ هذه الأشياء التى تدعونها آلهة، وتخدمونها وتعبدونها، أنتم تصيرون مثلها. لذلك أنتم تكرهون المسيحيين، لأنهم لم يعتبروا هذه الأشياء آلهة. ولكن ألستم أنتم أنفسكم الذين تفكرون الآن وتفترضون أنها آلهة، تستخفون بها، أكثر مما يفعل المسيحيون؟ ألستم تهزؤون وتسخرون بها حينما تعبدون أشياء مصنوعة من الحجر والخزف، بدون تعيين أى شخص لحراستها، أما الأشياء المصنوعة من الذهب أو الفضة فتغلقون عليها ليلاً، وتعينون حراسًا بالنهار لحراستها، خشية أن تُسرق؟ وأيضًا ألستم بهذه الهدايا التى تقدمونها لها تعاقبونها بدلاً من أن تكرمونها ـ لو كان عندها أى إحساس؟ ولكن من ناحية أخرى لو أنها كانت خالية من أى تمييز فأنتم توبخونها على هذا الأمر بينما أنتم تعبدونها بالدم ودخان الذبائح؟ دع أى واحد منكم يعانى هذه الإهانات! دع أى واحد أن يحتمل أن تحدث له هذه الأشياء!، لا يوجد أى إنسان يحتمل هذه المعاملة إلاّ إذا أُجبر على ذلك، حيث إن عنده تمييز وعقل.

         أما الحجر فهو يحتمل هذه المعاملة لأنه بلا إحساس. بالتأكيد أنت بتصرفك هذا (أى برش الدم عليه) تظهر أن إلهك لا يملك أى تمييز. والحقيقة إن المسيحيين لم يعتادوا أن يخدموا هذه الآلهة. ومن السهل علىَّ أن أجد أشياء كثيرة لأقولها بهذا الخصوص. ولكن إن كان ما قلته لا يبدو لأى أحد أنه كافٍ، فأظن أنه أمر عديم الجدوى أن أقول أى شئ آخر.

 

فصل 3: خرافات اليهود:

 

         وبعد ذلك، أنا أتخيل أنك مشتاق جدًا أن تسمع عن هذه النقطة، وهى أن المسيحيين لا يلتزمون بنفس أشكال العبادة التى يمارسها اليهود. فإذا كان اليهود قد امتنعوا عن أنواع التقدمات الوثنية (التى شرحتها سابقًا)، واعتبروا أنه من الأفضل أن يعبدوا إلهًا واحدًا هو رب الكل، فهذا صواب. ولكن إذا عبدوا الإله الواحد بنفس الطريقة الوثنية فإنهم يخطئون خطأً عظيمًا. فعندما يقدم الوثنيون عطاياهم لهذه التماثيل الخالية من التمييز والسمع، فإنما يقدمون مثالاً للحماقة، ولكنهم من ناحية أخرى بتفكيرهم فى تقديم هذه العطايا لله كأنه محتاج إليها، فهذا يُعتبر حماقة وليس عبادة إلهية، لأن الذى خلق السماء والأرض وكل ما فيها، والذى يعطينا كل شئ نحتاج إليه، هو بالتأكيد لا يحتاج أى شئ من هذه الأشياء التى يمنحها للذين يظنون أنهم يوفرون له هذه الأشياء.

 

         ولكن الذين يتخيلون أنه برش الدم ورفع بخور التضحيات والمحرقات يقدمون ذبائح مقبولة لدى الله، وأنهم بمثل هذا الإكرام يظهرون له الاحترام ـ هؤلاء بافتراضهم أنهم قادرون أن يعطوا أى شئ لمن هو غير محتاج لشئ، أرى أنهم لا يختلفون بأى حال عن الذين يمنحون الإكرام للأشياء التى لا تحس، ولذلك فهى غير قادرة أن تتمتع بهذه الكرامات.

 

 

فصل 4: الاحتراسات الأخرى عند اليهود

         أما من جهة وسوستهم بخصوص اللحوم، وخرافاتهم من جهة السبوت، وتباهيهم بالختان، وخيالاتهم بخصوص الصوم وأوائل الشهور، والتى كلها مدعاة للسخرية وغير جديرة بالاهتمام، فأنا لا أظن أنك تحتاج أن تتعلم منى أى شئ عنها.

 

         لأن قبول بعض الأشياء التى خلقها الله ليستخدمها الإنسان بحسب ما خُلقت له، ورفض البعض الآخر على أنه غير نافع وزائد عن الحاجة ـ كيف يمكن أن يكون هذا أمرًا مشروعًا؟ والإدعاء على الله كأنه هو الذى نهانا عن عمل الخير فى السبوت، كيف لا يكون هذا أمرًا ضد التقوى؟

         وأن يتباهى الإنسان بختان الجسد على أنه برهان على الاختيار وأنهم بسببه يتمتعون بمحبة خاصة عند الله، كيف لا يكون هذا مادة للسخرية؟ وملاحظتهم للقمر والنجوم وتوزيعاتهم لحساب الأيام والشهور، وفهم مواعيد الله طبقًا لمداراتهم، واعتبارهم تغيير فصول السنة بعضها للأعياد أو للفرح وبعضها للحداد والحزن فكيف يُعتبر كل هذا جزءً من العبادة وليس بالأحرى مظهرًا من مظاهر الحماقة.

 

         أظن الآن، أنك مقتنع تمامًا بأن المسيحية لها رأى سديد فى امتناعها عن خرافات اليهود والوثنيين وأخطائهم. فإذا ابتعدت عن روح الفضولية وغرور التباهى الذى لليهود فيجب أيضًا ألاّ تتوقع أن تتعلم عن سر عبادتهم الشكلية لله من أى إنسان.

 

فصل 5: سمو حياة المسيحيين

 

         إن المسيحيين لا يختلفون عن سواهم من أبناء البشر في الوطن أو اللغة والعادات. والواقع هو أنهم لا يقطنون مدنًا خاصة بهم وحدهم، ولا يتكلمون لغة خاصة بهم، ولا يعيشون عيشة غريبة شاذة. وأن عقيدتهم ليست من مكتشفات أشخاص فضوليين خياليين متكبرين. ولا يؤيدون كغيرهم عقيدة من صنع البشر. ومع أنهم يسكنون في مدن يونانية وغير يونانية حسب نصيب كل منهم، ويسلكون بموجب عادات البلد الذي يحلون فيه من جهة الزى والطعام وأساليب المعيشة الأخرى، فإن أسلوب معيشتهم يستوجب الاعجاب والإقرار بأنه غير متوقع. تراهم يسكنون البلدان ولكنهم غرباء. هم يشتركون في كل شئ كمواطنين ولكنهم يحتملون كل ما يحتمله الغرباء. كل بلد أجنبى وطن لهم. وكل وطن لهم بلد غريب. يتزاوجون كغيرهم ويتوالدون. ولكنهم لا يهملون أولادهم ولا يعرضونهم للموت. يفرشون طعامهم للجميع ولكنهم لا يفرشون فراشهم. هم موجودون في الجسد ولكنهم لا يعيشون للجسد. يقضون أيامهم على الأرض ولكنهم مرتبطون بوطن سماوى. يطيعون القوانين المرعية لكنهم يتقيدون بأكثر منها في حياتهم الخصوصية. يحبون جميع الناس ولكن الجميع يضطهدونهم. تراهم مجهولين ولكنهم مُدانون. يُماتون ولكنهم يُعادون إلى الحياة. فقراء ولكنهم يغنون كثيرين. معتازين لكل شئ ولكنهم ينعمون بكل شئ. يُفترى عليهم ولكنهم يُبررون. يُشتمون ولكنهم يباركون. يُهانون ولكنهم يكرّمون الآخرين. يعملون الخير فيُجازون كأشرار، حينما يُعاقبون (بالموت) يفرحون كأنهم يُقامون إلى الحياة. يحاربهم اليهود كأنهم أجانب، ويضطهدهم اليونانيون. ومع ذلك فالذين يكرهونهم يعجزون عن ذكر سبب كراهيتهم لهم”.

 

فصل 6: المسيحيون هم روح العالم

         وبالاختصار فإن المسيحيين للعالم كالروح للجسد. الروح تمتد إلى جميع أعضاء الجسد والمسيحيون ينتشرون في جميع مدن العالم. وكما أن الروح تسكن في الجسد وهى ليست منه، فهكذا المسيحيون فإنهم يسكنون في العالم ولكنهم ليسوا منه. وكما أن الروح غير المنظورة تُحبس في الجسد المنظور فهكذا المسيحيون فإنهم يعرفون مسيحيين في العالم ولكن تقواهم تظل غير منظورة. ومع أن النفس لا تسئ إلى الجسم فإن الجسم يكرهها ويحاربها لأنها تعيقه عن الانغماس في الملذات. والمسيحيون كذلك لا يسيئون إلى العالم ولكن العالم يكرههم لأنهم يقاومون ملذاته. والنفس تحب الجسد الذي يكرهها كما أن المسيحيين يحبون الذين يكرهونهم. وكما أن النفس تُحبس في الجسد ولكنها تحفظه، فإن المسيحيين أيضًا يحبسون في العالم ولكنهم هم الذين يحفظون العالم. وكما أن النفس الخالدة تسكن في خيمة فانية، فإن المسيحيين أيضًا يعيشون غرباء بين الأشياء الفانية منتظرين الخلود في السماء. وكما أن النفس تكون فى حال أفضل بتقنين المأكل والمشرب فإن المسيحيين يتزايدون رغم انهم يعاقبون. هذا هو الوضع الذى وكلهم الله به ولا يجوز لهم أن يتخلوا عنه.

 

فصل7 : ظهور المسيح:

         المسيحية، كما قلت، ليست مجرد بدعة أرضية أتت إليهم، أو مجرد رأى إنسانى حافظوا عليه جيدًا، وليس مجرد ناموس ائتمنوا عليه، بل هو الله بذاته، القادر على كل شئ، وخالق جميع الأشياء، وغير المرئى، أُرسل من السماء، وعاش بين البشر، هو الحق، والقدوس كلمة الله غير المُدَّرك، والقائم بثبات فى قلوبهم. هو لم يرسل كما يتخيل أحد، أى خادم، أو ملاك، أو حاكم، أو أى شئ يدب على الأرض، ولا عَهِدَ بذلك لمن يحكمون الأشياء فى السماء، بل أرسل جابل وصانع كل الأشياء، الذى به صنع السماوات، وبه جعل حدًا للبحار، الذى تخضع له النجوم بحق، ومنه تستمد الشمس قوتها لتطيعه، وهو الذى يطيعه القمر ويضيء فى الليل، وتطيعه النجوم أيضًا فى مداراتها، بل زُينت كل الأشياء ووُضِعت فى حدودها، هو الذى تخضع له السموات وكل ما فيها، والأرض وكل ما عليها، والبحر وكل ما فيه؛ هو الذى يحكم النار والهواء والهاوية، وكل شئ فى الأعالى، وكل شئ تحت الأرض، وكل شئ بينهما. هذا (الكلمة) أرسله إليهم ليس لكى يتسلط عليهم ولا لكى يرعبهم، بل ليظهر رحمته ووداعته. فكما يرسل الملك ابنه، الذى هو ملك أيضًا، هكذا أرسل الله ابنه كإله، أرسله كمخلص للبشر ليفتش عنا لكى يقنعنا وليس ليقهرنا لأن العنف والإكراه ليسا من طبع الله. أرسله ليدعونا، وليس كمنتقم يتعقبنا، أرسله لمحبته لنا، وليس ليحاكمنا. ومع ذلك فهو سيأتى (فيما بعد) لكى يديننا، ومن يحتمل ظهوره؟.

 

         ألاّ ترى كيف تعرض هؤلاء لهجوم الوحوش المفترسة لكى يجعلوهم ينكرون الرب، لكنهم لم ينهزموا؟ ألاّ ترى كيف أنهم كلما عُذب البعض منهم فإنهم يزدادون فى العدد؟ وهذا يبيّن أن هذا العمل ليس هو عمل إنسان بل هو قوة الله؛ هذه هى البراهين على ظهوره.

 

فصل 8: سوء حالة البشرية قبل مجيء الكلمة

         مَنْ من الناس يملك القدرة على إدراك الله قبل مجيئه؟ هل سلّمت بغرور وسخافة أفكار الذين يثقون فى الفلاسفة؟ فمن هؤلاء من قال إن النار هى الله، الذى به خُلِقوا وأتوا إلى الوجود. والبعض الآخر يقول إن الماء هو الله. وآخرون منهم يعتبرون أشياء خلقها الله أنها هى الله. ولكن لو أن أى نظرية من هذه النظريات تستحق الاستحسان، فبالتبعية لابد أن نقر أن بقية الأشياء المخلوقة هى آلهة. ولكن هذا الإقرار مرعب وخاطئ وكلام غش.

         وأيضًا إن الله لم يره أحد ولا عرفه، بل هو الذى أعلن ذاته. لقد أظهر ذاته بالإيمان للذين أُعطى لهم فقط. الله هو رب كل الأشياء وصانعها، وهو الذى وضعها فى أماكنها المختلفة. وهو أظهر ذاته ليس كمجرد صديق للبشرية فقط بل أظهر ذاته مشتركًا فى معاناتهم. الله كان دائمًا محبًا ويبقى محبًا، وسيقى كذلك على الدوام، وهو خالٍ من أى ميل للانتقام. هو إله حقيقى، وهو الوحيد الصالح. وله اتحاد عظيم يفوق الإدراك مع ابنه وحده. وكما حفظ سر حكمته مكتومًا لدرجة أنه يبدو كأنه يهملنا، وكأنه لا يعتنى بنا. ولكن بعد ذلك كشف عن الأشياء المُعدة لنا منذ البداية عن طريق ابنه الحبيب. فقد أنعم علينا بكل البركات مرة واحدة، ولذلك يجب علينا نحن أيضًا أن نشاركه فى العطاء ونكون جادين فى خدمته. مَنْ منا كان يتوقع هذه الأشياء؟ هو الذى كان يهتم بكل هذه الأمور فى عقله، ومن خلال ابنه على أساس العلاقة الأزلية بينهما.

 

 

فصل 9 : لماذا أُرسل الابن متأخرًا؟

فى سالف الزمان، ولدنا بدوافع عنيدة ولنا شهوات عديدة مُبتعدين عن كل الرغبات الصالحة. وليس معنى هذا أن الله كان مسرورًا بخطايانا، أو كان يسمح لنا بفرصة لعمل الشر، بل كان ـ ببساطة ـ يحتملنا. وكان يفتش عن عقل متيقظ وواعٍ لصلاحه وبره، حتى إذا اقتنعنا أثناء حياتنا بعدم استحقاقنا لنوال الحياة بأعمالنا الخاصة، عندئذٍ كان لابد أن يمنح الله لنا الحياة بسبب شفقته علينا. وإذ صار أمرًا واضحًا لنا أننا لا نستطيع أن ندخل إلى ملكوت الله بذواتنا فإننا نصير قادرين بقوة الله أن ندخل إلى ملكوته. ولكن حينما وصل شرنا إلى أقصاه وأصبح واضحًا أننا مستحقون للعقاب والموت، وحينما جاء الوقت المُعين من الله لإظهار قوته وصلاحه فإن حب الله الفائق جعله لا ينظر إلينا بكراهية، ولا أن يطردنا بعيدًا، كما أنه لم يذكر شرنا ويقيمه ضدنا، بل أظهر طول أناة عظيم جدًا واحتملنا حتى أنه حمل بنفسه ثقل خطايانا، إذ بذل ابنه الوحيد كفدية لأجلنا، القدوس من أجل العُصاة، والذى بلا لوم من أجل الأشرار، والبار من أجل الآثمة، وغير الفاسد من أجل الفاسدين، وغير المائت من أجل المائتين. فأى شئ آخر كان يمكن أن يستر خطايانا سوى بره؟ بأى شخص آخر كان يمكن تبريرنا نحن الأشرار وعديمى التقوى إلاّ بشخص ابن الله الوحيد؟ ما أجمل هذه المبادلة! ما هذا الفعل الذى يفوق الفحص، يا للبركات التى تفوق كل التوقعات! أن شر الكثيرين يُوضع على بار واحد، وبر واحد يبرّر عُصاة كثيرين!.

         لذلك إذ قد اقتنعنا فى الزمان السابق على مجيء المخلص أن طبيعتنا كانت عاجزة عن البلوغ إلى الحياة، والآن إذ قد أُعلن المخلص القادر أن ينقذ أولئك الذين كان من غير الممكن إنقاذهم فيما سبق. بهاتين الحقيقتين أراد هو أن يقودنا لكى نثق فى لطفه وصلاحه ولكى نعتبره مصدر حياتنا، وأبانا، ومعلمنا، ومرشدنا، وشافينا، وحكمتنا، ونورنا، ومجدنا، وكرامتنا، وقوتنا، وحياتنا، حتى أننا لا نقلق أو نهتم من جهة الملبس والمأكل.

 

فصل 10 : بركات الإيمان:

 

         إذا كنت ترغب أن تقتنى هذا الإيمان فيجب أن تحصل أولاً على معرفة الآب. لأن الله قد أحب البشر، الذين من أجلهم خلق العالم، واخضع كل شئ فيه لهم. وقد أعطاهم العقل والإدراك، وأعطى للإنسان وحده امتياز أن ينظر إلى الله. وهو الذى خلق الإنسان على صورته، ومن أجل الإنسان أرسل ابنه الوحيد، وأعطاه وعد ملكوت السموات التى سوف يعطيها للذين أحبوه. وعندما تدرك هذه المعرفة فإنك سوف تشعر بسعادة عظيمة جدًا، وتمتلئ بفرح فائق، وهكذا فإنك ستحب من أحبك أولاً. وإذا أحببته فإنك سوف تقتدى بصلاحه، ولا تدهش من كون أن الإنسان يمكن أن يتشبه بالله. هو يستطيع ذلك إذا أراد. ولذلك فهذا الإنسان لا يتسلط على جيرانه ولا يسعى للارتفاع فوق الضعفاء، ولا يسعى أن يكون غنيًا، وهو لا يكون عنيفًا تجاه من هم أقل منه. فمثل هذه الأمور لا توفر السعادة ولا يستطيع الإنسان بمثل هذه الأمور أن يكون متشبهًا بالله، فهذه الأمور لا تشكل عظمة الله. بل بالعكس فإن الإنسان الذى يحمل أثقال جيرانه ومهما كان أعلى من غيره يكون مستعدًا أن يتنازل للآخرين الذين هم أقل منه، وكل شئ يناله من الله يوزعه على المحتاجين. بهذه الأمور يصبح هذا الإنسان إلهًا بالنسبة للذين يساعدهم: وبذلك يكون متشبهًا بالله.

 

         وعندئذٍ سترى وأنت لا تزال على الأرض أن الله الذى فى السماء يحكم الكون كله؛ وعندئذٍ سوف تبدأ بأن تتكلم عن أسرار الله، عندئذٍ ستجد نفسك تحب الذين يعانون الآلام والضيقات بسبب عدم إنكارهم لله وسوف تُعجب بهم؛ وسوف تستنكر الغش والضلال الذى فى العالم حينما تعرف ما معنى أن تعيش حقًا فى السماء. وسوف تحتقر ما يُعتبر هنا أنه موت، وذلك حينما تتعلم أن تخاف من الموت الحقيقى المحفوظ لأولئك الذين سوف يُحكم عليهم بالنار الأبدية، التى ستهلك أولئك الذين يُوضعون فيها إلى الأبد. وسوف تُعجب بأولئك الذين يحتملون النار للحظة من أجل البر، وسوف تحسبهم سعداء حينما تعرف طبيعة تلك النار.

 

فصل 11: هذه الأشياء جديرة بالمعرفة والتصديق:

 

         أنا لا أتكلم عن أمور غريبة عنى، ولا أهدف لأى شئ يتعارض مع التفكير السليم. بل كتلميذ للرسل أصير معلمًا للوثنيين، أنا أنقل الأشياء التى استلمتها لكى أوصلها للتلاميذ الجديرين بالحق. لأن من يتعلم تعليمًا صحيحًا ويُولد من الكلمة المحب، فإنه لن يسعى أن يفحص بتدقيق فى الأمور التى أظهرها الكلمة لتلاميذه بوضوح، هؤلاء (التلاميذ) الذين إذ عرفوا الكلمة الذى ظهر لهم، فإنه كشف لهم بوضوح معرفة أسرار الآب، هذه التى لا يمكن أن يفهمها غير المؤمنين بل التلاميذ الذين حسبهم أمناء على أسراره. لذلك أرسل الله الكلمة لكى يظهر للعالم، هذا الذى احتقره اليهود، ولكن الوثنيين آمنوا به حينما بشرهم الرسل. هذا الذى كان من البدء، والذى ظهر الآن كأنه جديد، مع أنه موجود من القِدم، ولكنه مازال يولد من جديد فى قلوب القديسين. هذا الذى هو بلا بداية ولا نهاية، وهو الذى ندعوه اليوم الابن؛ الذى منه تغتنى الكنيسة وتمتلئ نعمة وتنتشر بكثرة وتزداد فى عدد القديسين. والنعمة تعطى الفهم، وتكشف الأسرار، وتُعلن الأزمنة، مبتهجة بالمؤمنين، معطية للذين يطلبون (الرب). فالرب يحفظ الإيمان بغير انكسار، كما أن الحدود التى وضعها الآباء الأولون لا يتجاوزها أحد. وعندئذٍ فإن مخافة الناموس يُرنم بها، ونعمة الأنبياء تُعرف، وإيمان الإنجيل يتأسس، وتقليد الرسل يُحفظ، ونعمة الكنيسة ترتفع.

 

         أى نعمة تكون لك إذا كنت لا تتردد، بل إنك ستعرف تلك الأشياء التى بعلمنا إياها الكلمة بإرادته وفى الوقت الذى يستحسنه هو. فكل الأشياء التى ننطق بها بإرادة الكلمة الذى يوصينا، نحن ننقلها إليك بكل مشاعرنا، ومن محبتنا للأشياء التى قد كُشفت لنا.

 

فصل 12: أهمية المعرفة للحياة الروحية الحقيقية:

 

         عندما تقرأ وتسمع بعناية هذه الأمور، سوف تعرف ما الذى أغدق الله به على الذين يحبونه بحق، إذ جعلهم فردوسًا للفرح (مثلكم)، إذ أنه أنشأ فى داخلكم شجرة تثمر كل أنواع الثمر الجيد ومزينة بالفواكه المتنوعة، وفى هذا الفردوس وضع شجرة المعرفة وشجرة الحياة، ولكن ليست شجرة المعرفة التى تهلك ـ فالعصيان هو الذى يؤدى إلى الهلاك. والكلمات المكتوبة ليست عديمة الأهمية، كيف أن الله منذ البداية وضع شجرة الحياة فى وسط الفردوس، كاشفًا لنا من خلال المعرفة، الطريق إلى الحياة. وحينما لم يستخدم أبوانا الأولان (آدم وحواء) هذه المعرفة بطريقة سليمة، فإنهما بغواية الحية تعريا. لأن الحياة لا يمكن أن توجد بدون معرفة، وكذلك المعرفة لا تكون فى آمان بدون حياة. ولذلك غُرس الاثنان (الشجرتان) بجوار بعضهما. وقد أدرك الرسول قوة هذا الارتباط بين المعرفة والحياة، ووجه اللوم على المعرفة التى بدون تعليم صحيح وكيف أنها تؤثر على الحياة وذلك بقوله: ” العلم ينفخ لكن المحبة تبنى” (1كو1:8). لهذا فالذى يظن أنه يعرف أى شئ بدون معرفة حقيقية أى بدون أن تشهد حياته لكلامه، فهو لا يعرف شيئًا، بل هو مخدوع من الحية وليس محبًا للحياة. ولكن الذى يجمع بين المعرفة والمخافة ويبحث عن الحياة فهو يزرع على الرجاء منتظرًا الثمر.

 

         اجعل قلبك يحكّمك، واجعل حياتك تكون معرفة حقيقية تمتلئ بها فى داخلك. فإذ تحمل هذه الشجرة وتظهر ثمرها فإنك سوف تحصل على الأشياء التى يحبها الله، والتى لا تستطيع الحية أن تصل إليها، ولا الخداع أن يقترب منها؛ وعندئذٍ فإن حواء لن تفسد، بل ستكون موضع ثقة كعذراء؛ وعندئذٍ يظهر الخلاص، ويمتلئ الرسل بالمعرفة، وفصح الرب سيتقدم، وخوارس الخدام والشعب تجتمع معًا، بترتيب لائق، والكلمة يفرح بتعليم القديسين، الذى به يتمجد الآب: له المجد إلى الأبد. آمين.

 

الرسالة إلى ديوجينيتوس – بولين تدرى أسعد