آبائيات

مقدمة الرسائل عن الروح القدس للقديس أثناسيوس الرسولي

مقدمة الرسائل عن الروح القدس للقديس أثناسيوس الرسولي

مقدمة الرسائل عن الروح القدس للقديس أثناسيوس الرسولي

 

مقدمة الرسائل عن الروح القدس للقديس أثناسيوس الرسولي
مقدمة الرسائل عن الروح القدس للقديس أثناسيوس الرسولي

 

الـرسائل عن الروح القدس

إلى الأسقف سرابيون

للقديس أثناسيوس الرسـولي

ترجمها عن اليونانية

وأعد المقدمة والملاحظات

دكتور: موريس تاوضروس ـ دكتور: نصحي عبد الشهيد

 

 

مقدمة

أولاً: تاريخ كتابة الرسائل عن الروح القدس

يرجع تاريخ هذه الرسائل إلى فترة النفي الثالث للقديس أثناسيوس بين فبراير سنة 356م – ونوفمبر سنة 361م. ونعرف من كتاب، أبيفانيوس أسقف قبرص عن الهرطقات (Haer. Lxxiii-25) أن بتوليماييس “Ptolemaeus” حضر مجمع سلوكية سنة 359م، كأسقف لـ “Thmuis” تمويس[1]، فلو أننا استنتجنا من هذا أن القديس سرابيون كان قد انتقل إلى السماء في ذلك الوقت، لكانت مشكلة تحديد تاريخ كتابة هذه الرسائل، أسهل جدًا. ولكن هناك احتمال أنه كان في ذلك الوقت منفيًا أو مبعدًا. كما أن هناك دليل ما يوضح أنه كان لا يزال حيًا بعد هذا التاريخ، ففي كتاب “لاونتيوس Leontius” (Adv. Froudes, Apollinaristram). هناك فقرة من خطاب مرسل من أبوليناريوس إلى سرابيون، يمدح رسالة أرسلها أثناسيوس إلى كورنثوس عن التجسد. هذه الفقرة لا يمكن إلاّ أن تكون إشارة إلى رسالة أثناسيوس إلى أبكتيتوس “Ad. Epictatus”.

وللأسف فإن تاريخ هذه الرسالة يصعب تحديده. غير أنه يمكن أن نأخذ فى اعتبارنا بعض الحقائق التى توضحها الرسائل وذلك لتحديد زمن كتابة الرسائل وهى كالآتي:

1ـ أن القديس أثناسيوس كان في البرية، وكان أعداؤه يبحثون عنه بتحفز (رسالة1:1).

ومن الواضح أن أثناسيوس لم يغادر الإسكندرية حتى وقت متأخر في سنة 358م. فجدول تعييد الفصح (Festel Index)، يتحدث عنه على أنه مختفي في المدينة خلال عامي 357م ـ 358م وفي أواخر صيف سنة 358م، كانت المشاعر تتصاعد بشدة ضد الآريوسيين، حتى أن البطريرك المغتصب جوارجيوس، تم طرده واستعاد الأرثوذكس ملكية الكنائس لعدة أسابيع. وعندئذ شدّد رجال السلطة قبضتهم، وفي ديسمبر من نفس العام دخل “سيبستيان Sebastian” الإسكندرية. وتتحدث الرسالة الفصحية رقم 32 (Fest. Ind. xxxii) عن أن “ارتيميوس Artemius” كان يبحث عن أثناسيوس في سنتي 359م ،360م، ونعرف أن بحث أرتيميوس عنه أمتد حتى طيبة[2]. ويبدو مرجحًا جدًا أن أثناسيوس يشير في هذه الرسالة إلى نشاط أرتيميوس في البحث عنه.

2ـ لم يكن أثناسيوس محتاجًا أن يضيف شيئًا إلى ما سبق أن كتبه ضد الآريوسيين (انظر الرسالة الأولى إلى سرابيون1: 2). وهذا يعني بالضرورة أن المقالات الثلاثة ضد الآريوسيين كانت قد كتبت قبل ذلك وانتشرت.

أما زمن كتابة هذه الرسائل عن الروح القدس فقد اختلف الباحثون في تحديده فيما بين سنة 338م وحتى سنة 359م.

فيرجح تشابلاند “C. R. B. Shapland”[3] أن تاريخ كتابة الرسائل هو حوالي 358م وليس قبل ذلك، ويعطي الأسباب لترجيح هذا التاريخ:

أ ـ أن الرسائل كتبت ضد أشخاص كانوا قد انفصلوا عن الآريوسيين. ورغم أنه لم يحدد تاريخ انفصالهم عنهم إلا أنه من المقبول أن نفترض أنه لم يحدث قبل فترة طويلة من مكاتبة سرابيون إلى أثناسيوس. مثل هذا الانفصال عن الآريوسية يتوافق تمامًا مع رد الفعل ضد سوء معاملة الأسقف الدخيل جوارجيوس الكبادوكي في سبتمبر ـ أكتوبر 358م.

ب ـ ذكر الأونوميين في (رسالة4: 5)، يشير إلى نفس الاتجاه، فأثناء زيارة أونوميوس للأسكندرية سنة 356م ـ 358م، يبدو أنه كان يشغل وضعًا ثانويًا كسكرتير لـ اتيوس “Aetius”، ولكن بعد رحيله إلى إنطاكية فيما بعد، صار في طليعة الأونوميين.

ج ـ وأخيرًا يلزمنا أن نأخذ في اعتبارنا العلاقة بين هذه الرسائل، وبين كتابه عن المجامع “De Synodis” فالتأكيد على الكيان الشخصي “Personal Subsistance” لكل من الآب والابن والروح في (رسالة1: 28؛ 2: 3) والتفسير الذي يعطيه “لكلمةὁμοούσιος ” “هوموأوسيوس” والتي تعني: من نفس الجوهر مع الآب أي التساوي في الجوهر، في نفس الموضع، إنما يؤكد بالأحرى على التساوي بين الأقانيم الثلاثة أكثر مما يركز على وحدتهم.

 

ثانيًا: من هم الـ ”تروبيكيون ـ Tropici ”؟

( أ ) إشارات القديس أثناسيوس عنهم.

يذكر القديس أثناسيوس في رسالته الأولى إلى سرابيون، “الـ تروبيكيين”، “المحرفين” أربع مرات، فيقول:

1 ـ [لكن هؤلاء، الذين هم “المحرفون” قد اتفقوا مع الآريوسيين واقتسموا معهم التجديف على اللاهوت. فبينما قال الآريوسيون عن الابن أنه مخلوق، قال هؤلاء عن الروح القدس أنه مخلوق. لقد تجاسر “المحرفون” أن يجدوا لأنفسهم طرقًا وأن يسيئوا تفسير أقوال الرسول بولس عندما كتب إلى تيموثيئوس ” أناشدك أمام الله والرب يسوع المسيح والملائكة المختارين…” هؤلاء يؤكدون أنه طالما أن الرسول قد سمى أولاً الله والمسيح ثم بعد ذلك سمى الملائكة، فيلزم أن يحسب الروح القدس مع الملائكة ويكون من طغمتهم، وهو ملاك أعظم من الملائكة الآخرين] (الرسالة الأولى: فصل10).

2 ـ [الآريوسيون إذ لم يستطيعوا أن يدركوا كيف أن الثالوث القدوس غير قابل للتقسيم جعلوا الابن واحدًا من المخلوقات، أما المحرفون فيحسبون الروح القدس ضمن المخلوقات] (الرسالة الأولى:17).

3 ـ [وفيما يخص أقوال كل من النبي والرسول، التي خدعوا أنفسهم بتحريفهم إياها، فإن هذه العبارات تكفي لكي تبين أقوال هؤلاء “المحرفين” الشريرة، التي أدى إليها جهلهم] (21:1).

4 ـ [ولكن ابتداع “المحرفين” غير المعقول والخرافي يتناقض من ناحية مع الكتب المقدسة ومن ناحية أخرى يتفق مع عدم عقلانية الآريوسيين المجانين. أنه من الطبيعي بالنسبة لهم (أي المحرفين) أن يتظاهروا هكذا ليخدعوا البسطاء] (32:1).

 

( ب ) كان آريوس يعتقد أن الروح القدس من جوهر مختلف عن جوهر الآب، ورغم أن مسألة الروح القدس لم تثر في مجمع نيقية (325م) إلاّ أن عدم اعتراف الآريوسيين بألوهية الابن وعدم اعتبارهم إياه أنه من جوهر الآب نفسه، كان يتضمن أيضًا عدم الاعتراف بألوهية الروح القدس دون أن يكون ذلك واضحًا في البداية. كل هذا مهد الطريق بعد أن هدأت الثورة الآريوسية قليلاً، إلى ظهور أفكار عند البعض لا تعترف أن الروح من نفس جوهر الآب والابن. فالآريوسيون المتأخرون مثل أتيوس “Aetius” وأونوميوس “Eunomius” يعتبرون الروح القدس أنه أسمى المخلوقات التي خلقها الابن بناء على أمر الآب، كما يعتبرونه مصدر الاستنارة والتقديس.

         وفي سنة 359م، 360م أخبر القديس سرابيون أسقف تمويس “Thumuis” القديس أثناسيوس في رسالة أرسلها إليه، أن هناك مجموعة من المسيحيين في مصر لا يؤمنون بألوهية الروح القدس رغم أنهم يعترفون بألوهية الابن، وقد رد القديس  أثناسيوس على رسالة الأسقف سرابيون بهذه الرسائل التي يسمى فيها هؤلاء الأشخاص بالـ “تروبيكى Tropici”، نظرًا لأنهم يفسرون نصوص الكتاب التي تتعارض مع تعليمهم تفسيرًا محرفًا. فهم يقولون إن الروح القدس مخلوق من العدم[4]. وعلى وجه التحديد يقولون إن الروح القدس ملاك أعلى من بقية الملائكة في الرتبة، ولكنهم يحسبونه ضمن الأرواح الخادمة المذكورة في (عب1: 14)[5]، ونتيجة لذلك فهو حسب رأيهم من جوهر آخر مختلف عن جوهر الآب والابن[6].

ومن المحتمل جدًا أن “التروبيك” رغم أنهم كانوا سابقين لمن سموا “بمحاربي الروح” المتأخرين عنهم، إلا أنهم كانوا بدعة محلّية في مصر، ولم يكن لهم علاقة مباشرة “بمحاربي الروح” المعاصرين لانعقاد مجمع القسطنطينية المسكوني الثاني سنة 381م.

وإذا قارنا بين تعليم “التروبيكيين” وبين تعليم “محاربى الروح” المتأخرين الذين اشتهروا باسم “المقدونيين”، نجد أن هناك جوانب تشابه هامة، كما أن هناك بعض نقاط اختلاف ذات أهمية: “فالمقدونيون” لا يدعون “الروح”، “ربًا”، كما أنهم يرفضون أن يُمجد مع الآب، فهو عندهم ليس “عاملاً مع الله” “συνεργός” لأنه لا يخلق ولا يعطي الحياة، وهو مثل الملائكة “خادم” “ὐπερέτης” لله، وأداة له. ومع ذلك فلا يعتبر ملاكًا، ولا أحد المخلوقات. وهو ليس غير مشابه للآب والابن، فهو “إلهي Θείος” ولكنه ليس “إلهًا Θεός”، وهو مبتدئ ولكنه ليس مخلوقًا، وهو فرد متميز، وله “طبيعة متوسطة”. أما تعليم التروبيكيين فهو بالمقارنة مع “المقدونيين” يعتبر بعيدًا عن الغموض، وذا وضوح قاطع وتفكير متناسق، فهم يقولون أن الروح مخلوق يختلف عن الملائكة في الدرجة فقط. فهو عندهم في واقع الأمر ملاك كما أنه مخلوق[7]، كما أنهم يعتقدون بأنه لا يشبه الابن.

ويلاحظ أن كل من “التروبيكيين والمقدونيين”، ادّعوا أنهم يؤسسون تعليمهم على الكتاب المقدس. وبينما يذكر أثناسيوس أن “التروبيكيين” يستشهدون بثلاث آيات، فإن المقدونيين يستندون في تفسيراتهم عن الروح إلى العديد من الآيات، ويشرحونها بطريقتهم. فقد استخدموا مجموعة من المقاطع التي استخرجوا منها، أن الروح أقل من الآب والابن، أو أن تلك المقاطع في مدلولها تبدو كما لو كانت تعني أن الروح ليس له مكان في الحياة الإلهية ولا في فاعليتها، ولكن يلاحظ أن الآيات الثلاث التي أستند إليها “التروبيكيون” هي ضمن الآيات الكثيرة التي أستخدمها المقدونيون في نظرتهم للروح القدس.

 

ثالثًا: تعليم القديس أثناسيوس عن الروح القدس

بالنسبة للقديس أثناسيوس، فإن التعليم عن الروح القدس مرتبط بعلاقة وثيقة جدًا بالتعليم عن الابن. ويصر القديس أثناسيوس على هذه العلاقة الوثيقة بين الابن والروح ويؤكد أن “التروبيكية” تتناقض مع تعليم الكنيسة الثابت، وهذا التقييم الذي وصل إليه القديس أثناسيوس من جهة هذه البدعة، ليس مجرد خطة تكتيكية لدحض مقاوميه بل هو مبدأ سليم حسب أساسيات العقيدة. فإن قضية الروح القدس نشأت من داخل الحديث عن قضية الابن، فقد كانت قضية الروح محنة من داخل محنة أخرى. فالعقيدة المسيحية عن الله في شموليتها، كانت تعتمد على هذه القضية. فلو كان القديس أثناسيوس قد أستسلم للتروبيكيين أو أذعن لهم في احتساب الروح مع المخلوقات، لاقتضى منه هذا أن يتخلى عن كل ما جاهد لأجله. ويمكن أن نفهم إلى أي مدى كان القديس أثناسيوس متحققًا بوضوح من هذه العلاقة، من إشاراته إلى الروح في مقالاته الثلاث ضد الآريوسيين، (Contra Arianos I,II,III) وهى كالآتى:

1 ـ الروح القدس مرسل ومعطى بواسطة الابن كخاصته (ضد الآريوسيين1: 47، 48).

2 ـ المساواة بين الروح والابن فى الجوهر (ضد الآريوسيين1: 50).

3 ـ الروح هو بنوع خاص عطية الله، وإرساله من الابن يثبت ألوهية الابن (ضد الآريوسيين 2: 18).

4 ـ الروح في الثالوث هو كنشاط النور الذي في الشعاع الآتي من الشمس (ضد الآريوسيين 3: 15). وقد أوضح القديس أثناسيوس هذه العلاقة بين الروح والابن (في الرسالة الأولى إلى سرابيون: 19) إذ يقول “حيث إن الآب نور والابن هو شعاع….. فيمكننا أن نرى في الابن “الروح” الذي بواسطته نستنير”.

5 ـ الله حال فينا، بسكنى الروح القدس (ضد الآريوسيين 3: 24).

هذه الاعتبارات تكفي للرد على القول بأن الإيمان بألوهية الروح القدس، هو أمر التقطه أثناء سفره في روما والغرب. فتعليمه عن الروح ليس مجرد فضلة زائدة ملصقة بعقيدته في الابن، فالتعليم عن الابن والتعليم عن الروح ينبع كل منهما من الآخر بطريقة طبيعية وحتمية. فالتعليميان متكاملان تمامًا. ولكن لإصرار أثناسيوس على أننا نستقي معرفتنا للروح من معرفتنا للابن، فإنه يكشف ليس فقط تقديرًا دقيقًا للاتجاه المعاصر له من جهة الفكر اللاهوتي، بل أيضًا فهمًا عميقًا وقويًا لموضوعه.

ونحن نجد هنا عند أثناسيوس مرة أخرى، مفهوم العهد الجديد عن الروح القدس: أنه روح الابن، ليس فقط لأن الابن يعطيه ويرسله، بل لأن الروح هو الذي يحقق حياة المسيح فينا. فخدمة الروح القدس هي خدمة الابن، وكل ما يعمله الابن إنما يتحقق في الروح القدس (رسالة 1: 19، 20). ويمكننا أن نقول بحق عن أثناسيوس ما قاله ليبرتون J. Lebreton عن بولس: “المسيح يقف وراء فهمه للروح”، إذ أن القديس أثناسيوس يقول: لأنه لا يوجد شئ لم يخلق ولم يعمل بالكلمة في الروح (رسالة1: 31). فهذه الصيغة “بالكلمة في الروح” المبنية على (1كو 8: 6؛ 1كو 12: 3) وغيرها تتكرر مرة بعد الأخرى في هذه الرسائل (رسالة 1: 9، 12، 24، 25، 30؛ ورسالة 3: 5).

فالعمل الإلهى كما يفهمه القديس أثناسيوس يبتدئ من الآب ويتحقق بواسطة الابن في الروح القدس. لهذا يقول:

1 ـ الروح هو الأنيرجيا ἐνέργια أى energy والأنيرجيا تعني الفعل أو القوة أو الطاقة (انظر رسالة 1: 20) إذ يقول: ” القوة الحيّوية والعطية التي بها يقدس الكلمة الحي ويضئ، تنبثق من الآب، لأنها من الابن الذي يُعترف أنه من الآب، فالآب يرسل الابن والابن يرسل الروح”. وانظر رسالة1: 30 حيث يقول فى تعليقه على (1كو 12: 4ـ6) حينما يتكلم الرسول بولس عن المواهب والخدم وأنواع أعمال، (إنيرجياenergy )، يقول: “المواهب التي يقسّمها الروح لكل واحد تُمنح من الآب بالكلمة. لأن كل ما هو من الآب هو من الابن أيضًا. وإذن فتلك الأشياء التي تُعطَى من الابن في الروح هي مواهب الآب. وحينما يكون الروح فينا، فالكلمة الذي يعطى الروح يكون أيضًا فينا”.

2 ـ وفى رسالته الثالثة:5 يقول إن: “الأشياء المخلوقة بالكلمة تنال قوة الوجود من الكلمة بالروح”. وهذه العبارة تعني أن القديس أثناسيوس ينظر إلى الروح على أنه هو الذي يُعطي تحقيقًا واقعيًا لقوة الله وعمله. ويبلغ بالعمل إلى غايته المحدّدة… فالروح هو روح القوة والمعطى الحيوية ومكمّل أعمال الله.

ويقول أثناسيوس عن الروح أنه “النور” الذي به نستنير فيكتب هكذا: [حيث إن الآب نور والابن هو شعاعه… ويمكننا أن نرى في الابن “الروح” الذي بواسطته نستنير… ولكن حينما نستنير بالروح فالمسيح هو الذي ينير في الروح لأنه يقول: ” كان النور الحقيقي الذي ينير كل إنسان آتيًا إلى العالم” (يو1: 9)]. فالشعاع يدل على ما تشعه الشمس، والنور يدل على ما تستقبله العين، وهو الذي يحقق ويكمّل كل عملية الإنارة في المتقبل الذي يستنير.

هذا الخط الفكري يرتبط في  يسر شديد بعمل الروح في تقديس المخلوقات. ومن هذه الناحية فأن أثناسيوس يفكر في الخلق والتقديس كعمل واحد، ولذلك ففي عرضه لخدمة الروح في (الرسالة الأولى 22ـ24)، يتناول فاعليته في الخلق لا بصورة مستقلة بل كما لو كانت ضمن إطار فاعلية الروح التقديسية. وكان هذا ميسورًا جدًا بالنسبة لأثناسيوس بسبب تعليمه عن الخلق ذاته، كما جاء في الرسالة إلى الوثنيين حيث قال: [ لهذا صنع (الله) كل الأشياء بكلمته الأزلي، وأعطى الخليقة جوهرها الخاص… ونظرًا لصلاحه فإنه يرشد كل الخليقة ويركزها بكلمته الذي هو نفسه الله أيضًا، لكي يكون للخليقة نور تدبير ورعاية وتنظيم “الكلمة” (اللوغوس)، ولكي تتمكن من أن تستقر آمنة دوامًا، لأنها تشترك مع الكلمة الذي يستمد الوجود الحقيقي من الآب، وتستمد منه المعونة للوجود لئلا يصيبها ما كان ممكنًا أن يحل بها لولا بقاؤها بواسطة اللوغوس، أي لئلا يصيبها الانحلال، لأنه هو ” صورة الله غير المنظور، بكر كل خليقة، فإنه به وفيه كل الأشياء كائنة، ما يرى وما لا يرى، وهو رأس الكنيسة” (1كو1: 15ـ18)، كما يُعلّم خُدام الحق في كتاباتهم المقدسة] (ضد الوثنيين فصل41: 3). وجاء في كتابه “تجسد الكلمة” ما يلي:

[ولذلك خلق كل الأشياء من العدم بكلمته يسوع المسيح ربنا، وبنوع خاص تحنن على جنس البشر. ولأنه رأى عدم قدرة الإنسان أن يبقى دائمًا على الحالة التي خُلق فيها، أعطاه نعمة إضافية، فلم يكتف بخلق البشر مثل باقي الكائنات غير العاقلة على الأرض، بل خلقهم على صورته وأعطاهم شركة في قوة كلمته حتى يستطيعوا بطريقة ما، ولهم بعض من ظل (الكلمة) وقد صاروا عقلاء، أن يبقوا في سعادة ويحيوا الحياة الحقيقية، حياة القديسين في الفردوس][8].

والله إذ خلق فإنه قد منح خلائقه شركة في طبيعته، واستمرار مخلوقاته في الوجود يصير مضمونًا بواسطة حضوره فيها. وإن كان القديس أثناسيوس في “الرسالة إلى الوثنيين” وفي “تجسد الكلمة” لا ينسب هذا الحضور إلى الروح بل إلى الابن، إلا أنه حينما يكتب هذه الرسائل عن الروح القدس، فإنه يعيد تفسير كلاً من فعلى الخلق والتأليه، لكي يعطي لعمل الروح القدس حق قدرة. ففي (الرسالة الأولى فصل 29) يصر القديس أثناسيوس في تفسيره (أفسس 4: 6) على أن “التروبيكيين” بإنكارهم ألوهية الروح القدس ينكرون فاعلية الله في المعمودية لأن الروح كما يقول القديس أثناسيوس “هو الذي يوحّدنا بالله” (1: 29).

وفي عرضه لعمل الروح القدس فى التقديس، فإنه يعود بنا مرة أخرى إلى العهد الجديد، فهو يتحدث عن عمل الروح القدس في الأنبياء، ويركز هذا العمل في وحي الكتب المقدسة. فهو لا يتكلم كثيرًا عن عمل الروح بل ينشغل بالأكثر، بتأكيد حقيقته أنه خاص بالله. وتقدير أثناسيوس للروح هو متأثر أساسًا بفهمه للتقديس كعمل إلهي فائق للطبيعة أكثر مما هو عمل أخلاقي ورغم أن لفظة Θεοποίησις “تأليه” ومشتقاتها ليست بارزة في هذه الرسائل بمثل بروزها في مقالاته ضد الأريوسيين إلاّ أن فكرة التأليه هذه تسود تفكيره. ويقصد القديس أثناسيوس بالتأليه الارتفاع بالطبيعة البشرية إلى حالة عدم الفساد الخاصة بالله، حتى أنها توهب القدرة على الاشتراك في غبطة الله بقدر ما تسمح مخلوقيتها.

هذا المفهوم لم يكن أثناسيوس هو أول من تكلّم عنه. فقد تكلم اكليمندس الأسكندرى عن تحوّل الطبيعة البشرية إلى مستوى إلهي ولكنه يفسر هذا التحول على أنه نوع من الاستنارة، بينما يربط القديس أثناسيوس هذا التحول مباشرة بحالة البشرية الساقطة وفقداننا للخلود الذي نتج عن السقوط. فعنده أن غرض التجسد ليس فقط نوال الاستنارة بل أيضًا أن يعيد خلق بشريتنا بإعادة توحيدها مع الله. وبذلك يوقف عملية الموت. وبهذا الإصرار على “عدم الفساد” (Ἀφθαρσία) باعتباره الخاصية المتميزة في الحياة الإلهية، كما هي معطاة للبشر، فإنه بهذا الإصرار يتخذ موقف تعليم القديس إيرينيوس، وقبل إيرينيوس يمكن أن نتتبع هذا التعليم فنجده عند أغناطيوس، ومن ثم نجد بدايته في الإنجيل للقديس يوحنا. وهذا ما تصلي به الكنيسة القبطية في صلاة الصلح للقداس الباسيلي قائلة: الله جبل الإنسان على “غير فساد” وأنه هزم الموت بظهور أبنه الوحيد ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح في الجسد لكي يعيدنا إلى “عدم الفساد”.

إن معالجة القديس أثناسيوس لهذا الموضوع، التأليه أو التقديس في هذه الرسائل كما في مقالته الأولى ضد الآريوسيين، هي في غاية الأهمية، لا بسبب أنه يوسع مفهوم التقديس الموجود في كتاب تجسد الكلمة، بل بسبب انه يربط هذا التقديس بالروح القدس. ففي “مقالته الأولى ضد الآريوسيين” يقول في حديثه عن ألوهية الابن: [أما المخلّص فحيث إنه هو الله فإنه يزاول دائمًا حكم مملكة الآب. ولما كان هو نفسه مانح الروح القدس، إلا أنه يُقال الآن أنه يُمسح، لكنه كإنسان يقال عنه أنه يُمسح بالروح، وذلك حتى يبني فينا نحن البشر سكنى الروح وألفته تمامًا مثلما وهبنا الرفعة والقيامة… إذن فإن كان يقدس ذاته من أجلنا وهو يفعل هذا لأنه قد صار إنسانًا، فمن الواضح جدًا أن نزول الروح عليه في الأردن إنما كان نزولاً علينا نحن، بسبب لبسه جسدنا، وهذا لم يصر من أجل ترقية اللوغوس بل من أجل تقديسنا من جديد، ولكي نشترك في مسحته، ولكي يقال عنا     ” ألستم تعلمون أنكم هيكل الله وروح الله يسكن فيكم” (1كو3: 16).. وحينما اغتسل الرب في الأردن كإنسان كنا نحن الذين صرنا متقبلين للروح بواسطته… إذن فلا يكون اللوغوس باعتباره اللوغوس والحكمة هو الذي يُمسح من الروح الذي يعطيه هو ذاته، بل الجسد الذي قد أتخذه هو، الذي يمسح فيه ومنه، وذلك لكي يصير التقديس الصائر إلى الرب كإنسان، يصير (هذا التقديس) إلى جميع البشر به. لأنه يقول أن ” الروح لا يتكلم من نفسه” (يو16: 13)، بل اللوغوس هو الذي يعطي هذا الروح للمستحقين] (ضد الآريوسيين المقالة الأولى)[9].

وفي الرسالة الأولى إلى سرابيون، يقول القديس أثناسيوس: [وأيضًا الروح هو روح القداسة والتجديد وهو يدعى هكذا… والروح يدعى مسحة وهو الختم… والمخلوقات تختم وتمسح بواسطته وتتعلم منه كل شئ. ولكن إن كان الروح هو المسحة والختم الذي به يمسح الكلمة كل الأشياء ويختمها، فإذن أي شبه أو انتماء للمسحة أو الختم مع الأشياء التي تُمسح وتُختم؟ وأولئك الذين يُمسحون يقولون حينما ينالون المسحة، نحن رائحة المسيح الذكية (2كو2: 15). والختم له صورة المسيح الذي يختم، والذين يُختمون يشتركون في الختم ويتشكلون حسبه، كما يقول الرسول ” يا أولادي الذين أتمخض بكم أيضًا إلى أن يتصور المسيح فيكم” (غلا4: 19). وهكذا إذ نُختم فمن الطبيعي أن نصير “ شركاء الطبيعة الإلهية” كما يقول بطرس الرسول (2بط1: 4). وهكذا فكل الخليقة تشترك في الكلمة بالروح، وبالإضافة إلى ذلك فإنه يقال عنا إننا شركاء الله لأنه يقول: ” أما تعلمون أنكم هيكل الله وروح الله يسكن فيكم” (1كو3: 16)…

… أما الآن فلكوننا ندعى شركاء المسيح وشركاء الله، فهذا يوضح أن المسح والختم الذي فينا ليس من طبيعة المخلوقات بل من طبيعة الابن الذي يوحدنا بالآب بواسطة الروح الذي فيه. وإن كنا بالاشتراك في الروح نصير شركاء الطبيعة الإلهية فإنه يكون من الجنون أن نقول إن الروح من طبيعة المخلوقات وليس من طبيعة الله. وعلى هذا الأساس فإن الذين هم فيه، يتألهون، وإن كان هو يؤله البشر، فلا ينبغي أن يشك أن طبيعته هي طبيعة إلهية] (رسالة1: 23، 24).

في هذه الرسائل ينسب القديس أثناسيوس فعل التأليه للروح القدس. وهنا نجد أن فكر القديس أثناسيوس قريب جدًا من فكر القديس إيرينيوس الذي أكد بشكل خاص في تعليمه عن التقديس على عمل الروح، أكثر من أي كاتب آخر من كتاب القرنين الثاني والثالث. والتشابه بينهما ليس محصورًا فقط في الفكرة العامة، فالرموز والمصطلحات التي يعبران بها، والنصوص التي يبنيان عليها، غالبًا مشتركة بينهما (انظر “ضد الهرطقات” لإيرينيوس3: 17، 18؛ 5: 1 ؛ 6: 1 ؛ 7: 1). ويمكن أن يكون أثناسيوس متأثرًا مباشرة بإيرينيوس في هذه النقاط. ولكن حتى إن كان قد استعار مادته منه، إلاّ أنه يوجهها حسب استعماله الخاص، ويجعلها تخدم مفهومه في أن الروح يخص الابن. فمثلاً كل من أوريجينوس وإيرينيوس يستخدم رمز “المسحة”. فبالنسبة لأوريجينوس تعبر “المسحة” عن اتحاد كلمة الله وحكمته بنفس المسيح الإنسانية (من مزمور44: 8)، حتى أن رائحة المسحة تمتد إلى أولئك الذين يشتركون فيه، أما إيرينيوس فيأخذ الكلام عن “المسحة” من إشعياء61: 1، ويربطها بنزول الروح على المسيح فيقول “إنه الآب هو الذي يمسح، ولكن الابن هو الذي يُمسح بواسطة الروح الذي هو المسحة” (انظرHaer.III, xviii, 3 ) وكما يأخذ المسيح الروح هكذا هو ينقله إلى أولئك الذين يشتركون في شخصه. وأثناسيوس كما هو واضح من مقالته الأولى ضد الآريوسيين (1: 46، 47) يبدأ أيضًا من إش61: 1، ومن معمودية المسيح. ولكن منذ البداية، الروح عنده هو روح الابن إذ يقول: “كوني أنا كلمة الآب فأنا نفسي أنا الصائر إنسانًا أعطى ذاتي الروح”. فكون المسحة هي من الآب يستبعدها أثناسيوس مؤقتًا، وهكذا نجد في الرسالة الأولى إلى سرابيون (1: 23) تأكيدًا على أن المسيح هو الذي يمسح، وأيضًا تأكيدًا على أن الخاصية المميزة التي تُمنح بواسطة الروح هي خاصة بالمسيح.

ولكوننا نُمسح بالروح فإننا رائحة المسيح وهكذا بالمثل يعتبر إيرينيوس الروح كناقل لصورة الآب والابن إلى الإنسان (Haer. III, xvii, 3 )، أو بتعبير آخر “شبه الله“. وحينما يتكلم أثناسيوس عن الروح كختم وصورة فهو يحصر الاستعارة في علاقة الروح بالابن. وبالمثل فالروح عند إيرينيوس هو على وجه العموم “روح الله“، وأحيانًا قليلة يستعمل عبارة “روح الآب” (Hear. III, xvii, 1)، ولكن إيرينيوس لا يستعمل مطلقًا عبارة “روح الابن”.

أما عند أثناسيوس فإن عبارة “روح الابن” هي التسمية المعتادة عنده للروح.

وفي كل هذا، لا يوجد بالطبع أي قصد عند أثناسيوس بأن يبعد الروح عن الآب. وربما بسبب أنه شعر أن ما يقوله في  الرسالة الأولى (1: 22 وما بعده) يكمن أن يساء فهمه بهذا الشكل (أي كما لو أنه يبعد الروح عن الآب)، لذلك فهو يُصر بوضوح في الرسالة الثالثة (3: 1) على “أن الروح القدس الذي قيل أنه للابن فهو للآب”. فالابن كما لو كان يصل بين الآب والروح، فلأن الروح خاص بالابن، لذلك نفهم انبثاقه من الآب إذ يقول في الرسالة الأولى (1: 20) “هكذا فإن القوة الحيوية والعطية التي بها يقدس ويضئ (الابن) ينبغي أن تكون واحدة كاملة وتامة وهي التي يُقال عنها أنها تنبثق من الآب لأنها من الكلمة، الذي يعترف أنه من الآب، وهي (أي الروح القدس) التي تشرق وتُرسل وتُعطي”.

ومن الملاحظ أنه عندما يستعمل القديس أثناسيوس الحرفين Para، ek  ليشير بهما إلى العلاقة بين الروح والابن فهو هنا يتحدث عن إرسالية الروح القدس من الابن في الزمن وليس عن الانبثاق الأزلي لأقنوم الروح القدس.

وعندما يتحدث أثناسيوس عن عمل الله في الخليقة وفي الكنيسة أي في التدبير فإنه يشرح هذا العمل باعتباره عملاً مشتركًا بين الأقانيم الثلاثة، فالآب يعمل كل شئ بالكلمة في الروح، ويؤكد أن الروح ليس خارج الكلمة بل إذ هو في الكلمة فهو في الله (رسالة 3: 5). وبالنسبة للقديس أثناسيوس فإنه يهتم بالتأكيد فقط على أن الروح هو في الله، أما كيف ينبثق الروح القدس من الآب فهذا أمر يعجز المؤمن عن أن يتدخل فيه بعقله، فهو يعتبر أن التفكير العقلي في هذا الأمر هو تجاسر وجنون (انظر رسالة 1: 18، 19).

 

رابعًا: هذه الترجمة

ترجمنا هذه الرسائل من اللغة اليونانية من مجموعة ميني M.G. مجلد 26، والمنشورة أيضًا باليونانية القديمة والحديثة في سلسلة “أباء الكنيسة اليونانية EΠE” منشورات غريغوريوس بالاماس ـ تسالونيكي باليونان ـ أعمال القديس أثناسيوس مجلد 4 سنة 1975.

 

وقارنا الترجمة عن اليونانية بالترجمة الإنجليزية لهذه الرسائل التي ترجمها “شابلاند، C. R. B. Shapland  ” سنة 1951، وكذلك قارناها بالترجمة العربية عن الإنجليزية للقس مرقس داود والتي نشرتها مدارس الأحد بالجيزة حوالي سنة 1952، والتي أعادت طبعها مكتبة المحبة في السنوات القليلة الماضية، كل ذلك للوصول إلى أدق القراءات للرسائل.

 

ونضيف أن الترجمتين الإنجليزية والعربية المذكورتين أعلاه تتوقفان في الرسالة الرابعة عند نهاية فصل 7. أما الأصل اليوناني فيمتد بعد ذلك حوالي 20 صفحة. هذه التكملة للرسالة الرابعة في الأصل اليوناني كان قد ترجمها ونشرها بالعربية الدكتور جورج حبيب بباوى سنة 1976 تحت اسم “الرسالة الخامسة إلى سرابيون عن التجديف على الروح القدس”. ضمن كتاب “الروح القدس في بعض كتابات الآباء”. فقمنا بضم ترجمة الدكتور جورج المنشورة سنة 1976 إلى الرسالة الرابعة في هذه الترجمة الجديدة لأن الأصل اليوناني يحتفظ بهما معًا في رسالة واحدة هي الرسالة الرابعة.

ولإلهنا القدوس الآب والابن والروح كل مجد وسجود إلى الأبد. آمين.

المترجمان.

 

[1] هي مدينة تسمى الآن “تمي الأمديد” بشمال الدلتا بمصر، التي كان القديس سرابيون الذي أرسل له القديس أثناسيوس هذه الرسائل، أسقفًا لها.

[2] انظر حياة باخوميوس 88 – Vita Pachomius 88 .

[3] C.R.B. Shapland, The Letters of St. Athanasius concerning The Holy Spirit, London – New York, 1951.

[4] انظر الرسالة الأولى: فقرة1، 17، 26.

[5] انظر الرسالة الأولى فقرة1

[6] رسالة1: 2.

[7] انظر الرسالة الأولى 1، 10.

[8] تجسد الكلمة، فصل 3:3 ترجمة د. جوزيف موريس فلتس، المركز الأرثوذكسى للدراسات الابائية، الطبعة الثالثة، القاهرة 2004.

[9] انظر المقالة الأولى ضد الآريوسيين ترجمة الأستاذ صموئيل كامل عبد السيد والدكتور نصحي عبد الشهيد، إصدار مركز دراسات الآباء القاهرة 1984، فصلى 46، 47.

 

مقدمة الرسائل عن الروح القدس للقديس أثناسيوس الرسولي