آبائيات

رسائل عن الروح القدس ج2 للقديس أثناسيوس الرسولي

رسائل عن الروح القدس ج2 للقديس أثناسيوس الرسولي

رسائل عن الروح القدس ج2 للقديس أثناسيوس الرسولي

 

رسائل عن الروح القدس ج2 للقديس أثناسيوس الرسولي
رسائل عن الروح القدس ج2 للقديس أثناسيوس الرسولي

 

 
رسائل القديس أثناسيوس
إلى سرابيون أسقف تمويس

الرسالة الأولى الجزء الثاني

 (ضد الذين يجدفون ويقولون إن الروح القدس مخلوق)

 

(19)

وإذن فحيث إن مثل هذه المحاولة هي جنون خطير بل أكثر من جنون فليس لأحد أن يسأل بعد مثل هذه الأسئلة، بل عليه أن يتعلّم فقط ما هو في الكتب المقدسة. لأن الأمثلة التي تتضمّنها النصوص عن هذا الأمر هي كافية وشديدة الوضوح. وهكذا فالآب يدعى ينبوعًا ونورًا لأنه يقول “ تركوني أنا ينبوع المياه الحيّة” (إر2: 13). وأيضًا في باروخ ” لماذا أنت يا إسرائيل في أرض أعدائك؟ لقد تركت ينبوع الحكمة” (باروخ3: 10ـ12)، وأيضًا حسب يوحنا ” إلهنا نور” (1يو1: 5).  

وأمّا الابن فمن جهة علاقته بالينبوع يدعى نهرًا: ” نهر الله ملآن ماء” (مز64: 9). ومن جهة علاقته بالنور يدعى اشعاعًا[1]. إذ يقول بولس ” الذي هو شعاع مجده ورسم جوهره” (عب1: 3). ومن ثم حيث إن الآب نور والابن هو شعاعه، فلا ينبغي أن نتحاشى تكرار نفس الأشياء عنهما مرات كثيرة. ويمكننا أن نرى في الابن، “الروح” الذي بواسطته نستنير[2]. ” لكي يعطيكم روح الحكمة والإعلان في معرفته مستنيرة عيون قلوبكم” (أف1: 17و18). ولكن حينما نستنير بالروح، فالمسيح هو الذي ينير فيه (أي في الروح) لأنه يقول ” كان النور الحقيقي الذي ينير كل إنسان، آتيًا إلى العالم” (يو1: 9) وأيضًا حيث إن الآب ينبوع، والابن يسمى نهراً، لذلك نقول أننا نشرب الروح لأنه مكتوب ” جميعنا سقينا روحًا واحدًا” (1كو12: 13) ولكن حينما نشرب الروح، فإننا نشرب المسيح. ” لأنهم كانوا يشربون من صخرة روحية تابعتهم، والصخرة كانت المسيح” (1كو10: 4). وبالإضافة إلى ذلك، كما أن المسيح ابن حقيقي، فإننا عندما نأخذ الروح “نصير أبناء”[3]. لأن الكتاب يقول “ إذ لم تأخذوا روح العبودية أيضاً للخوف بل أخذتم روح التبني” (رو8: 15). وإن كان بالروح قد صرنا أبناء فواضح أننا في المسيح ندعى أولاد الله لأن ” كل الذين قبلوه أعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله” (يو1: 12). وعلى ذلك، فكما أن الآب هو “الحكيم الوحيد” كما قال الرسول بولس، فإن الابن هو “حكمته”،    “ المسيح قوة الله وحكمة الله” (1كو1: 24). وحيث إن ابن الله هو الحكمة وابن الحكمة، فإننا إذ نأخذ روح الحكمة، نملك الابن، وبه نصير حكماء. لأنه هكذا هو مكتوب في المزمور المئة والخامس والأربعون: ” الرب يحل المأسورين، الرب يفتح أعين العميان” (مز145: 7و8). وحينما يُعطى لنا الروح القدس، (قال المخلّص ” اقبلوا الروح القدس“)، يقيم الله فينا، لأنه هكذا كتب يوحنا: ” إن أحب بعضنا بعضاً فالله يقيم فينا، بهذا نعرف أننا نقيم فيه وهو فينا، لأنه قد أعطانا من روحه” (1يو4: 12و13). وحيث إن الله يوجد فينا، يكون الابن أيضًا فينا. لأن الابن نفسه قال: ” الآب وأنا نأتي ونصنع عنده منزلاً” (يو14: 23). وأيضًا، حيث إن الابن هو الحياة لأنه يقول ” أنا هو الحياة” (يو14: 6). فإننا نحن أيضًا سنحيا بالروح، لأنه يقول:       ” الذي أقام المسيح من بين الأموات سيحيي أجسادكم المائتة بروحه الساكن فيكم” (رو8: 11). وحيث إننا مُحيون بالروح، فالمسيح نفسه يحيا فينا، لأنه يقول ” مع المسيح صلبت فأحيا لا أنا، بل المسيح يحيا فيَّ” (غلا2: 20). وأيضًا، قال الابن إن الأعمال التي عملها هو، عملها الآب لأنه يقول ” الآب الحال فيَّ هو يعمل الأعمال. صدقوني أني في الآب والآب فيَّ، وإلا فصدقوني بسبب الأعمال نفسها” (يو14: 10ـ12). وهكذا أيضًا قال بولس إن الأعمال التي عملها بقوة الروح هي أعمال المسيح: ” لأني لا أجسر أن أتكلم عن شئ مما لم يفعله المسيح بواسطتي لأجل إطاعة الأمم بالقول والفعل بقوة آيات وعجائب، بقوة الروح القدس” (رو 15: 18، 19).

 

(20)

وإذن، حيث إنه توجد مثل هذه المماثلة وهذه الوحدة في الثالوث القدوس فمن يمكنه أن يفصل الابن عن الآب أو يفصل الروح عن الابن أو عن الآب نفسه؟ ومن تصل به الجرأة حتى يقول أن أقانيم الثالوث غير متماثلة فيما بينهما، ومختلفة في الطبيعة، أو أن الابن جوهر غريب عن الآب، أو أن الروح غريب عن الابن.

ولكن بأية طريقة يمكن أن تحدث هذه الأمور؟ فإن كان أحد أيضًا يسأل ويبحث قائلاً: كيف حينما يوجد الروح فينا، يُقال إن الابن فينا؟ وحينما يكون الابن فينا فكيف يُقال إن الآب فينا؟ وعندما يكون الثالوث حقًا ثالوثًا، فكيف يُفهم أنه واحد. أو لماذا حينما يكون أحد أقانيم الثالوث فينا، يُقال إن الثالوث موجود فينا؟ فعلى هذا أن يفصل أولاً الشعاع عن النور، أو يفصل الحكمة عن الحكيم، أو فليخبرنا كيف تكون هذه الأمور؟.

ولكن إن كانت هذه الأمور من غير الممكن أن تحدث، فإن توجيه مثل هذه الأسئلة عن الله يكون جرأة جنونية، لأن الألوهية لا تسلّم لنا بواسطة براهين كلامية بل بالإيمان مع التفكير بتقوى ووقار، فإن كان بولس قد كرز بصليب المخلّص ” لا بكلام الحكمة بل ببرهان الروح القدس” (1كو2: 4) وقد سمع في الفردوس ” كلمات لا ينطق بها ولا يسوغ لإنسان أن يتكلم بها” (2كو12: 4) فمَنْ يستطيع أن يتكلّم عن الثالوث القدوس نفسه؟

ومع ذلك فيمكننا أن نعالج هذه الصعوبة أولاً، بالإيمان، وبعد ذلك باستعمال ما سبق أن ذكرناه من أمثلة أي: الصورة والشعاع، والينبوع والنهر، والجوهر والرسم. وكما أن الابن هو في الروح الذي هو صورته الخاصة[4]، هكذا الآب أيضًا في الابن. لأن الكتاب الإلهي ـ لكي يعالج عجزنا عن شرح وفهم هذه المعاني بالكلمات ـ قد أعطانا مثل هذه الأمثلة، حتى بسبب عدم إيمان هؤلاء المتجاسرين، يمكننا أن نشرح بأكثر وضوح، وأن نتكلّم بدون التعرض لخطر الضلال. وأن نفكر بطريقة مشروعة، وأن نؤمن بقداسة[5] واحدة مستمدة من الآب بالابن في الروح القدس. لأنه كما أن الابن هو وليد وحيد[6]، هكذا أيضًا الروح إذ هو مُعطّى ومُرسل من الابن، هو نفسه واحد وليس كثيرين، وليس واحدًا من كثيرين، بل هو نفسه وحيد. إذن، كما أن الابن ـ الكلمة الحي ـ هو واحد، هكذا فإن القوة الحيوية والعطيّة التي بها يقدس ويضئ، ينبغي أن تكون واحدة كاملة وتامة، وهي التى يُقال عنها إنها تنبثق من الآب، لأنها من الكلمة ـ الذي يعترف أنه من الآب ـ وهى التى تشرق وتُرسل وتُعطى. فالابن إذن، يُرسَل من الآب، لأنه يقول: ” هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد“(يو3: 16). والابن يرسِل الروح فهو يقول: “ إن ذهبت أرسل المعزي” (يو16: 7). الابن يمجد الآب قائلاً: ” أيها الآب أنا مجدتك” (يو17: 4)، بينما الروح يمجد الابن، لأنه يقول: ذلك يمجدني (يو16: 14). وبينما يقول الابن: ” ما سمعته من الآب فهذا أقوله للعالم” (يو8: 26)، فإن الروح يأخذ من الابن لأنه يقول: ” لأنه يأخذ مما لي ويخبركم” (يو16: 14)[7]. والابن أتى باسم الآب، أما الروح القدس فيقول عنه الابن: ” الروح القدس الذي سيرسله الآب باسمي” (يو14: 26).

 

(21)

فإذا كان الروح له مثل هذه الرتبة والطبيعة[8] مع الابن، مثل ما للابن مع الآب، فإن ذاك الذي يدعو الروح مخلوقًا، أفلا يقول نفس الشئ بالضرورة عن الابن أيضًا؟ لأنه إن كان الروح مخلوقًا من الابن فإن هذا يقتضيهم أن يقولوا إن الكلمة مخلوق من الآب. لأن الآريوسيين إذ قد تصوروا مثل هذه التصورات فقد سقطوا في يهودية قيافا. ولكن إن كان هؤلاء الذين يقولون مثل هذه الأشياء عن الروح يدعون أنهم لا يأخذون بتصورات آريوس، فدعهم يتحاشون كلماته، وألاّ يتكلّموا بعدم تقوى عن الروح. لأنه كما أن الابن الذي هو في الآب والآب هو فيه، ليس مخلوقًا بل هو من جوهر الآب ذاته (لأن هذا هو ما تدعون أنكم تقولونه أيضًا)، هكذا أيضاً فإن الروح الذي هو في الابن والابن فيه، ليس مسموحًا أن يُحسب بين المخلوقات، ولا أن نفصله عن الكلمة ولا أن نقدم الثالوث بصورة غير كاملة.

وفيما يخص أقوال كل من النبى والرسول التي خدعوا أنفسهم بتحريفهم إياها، فإن هذه الاعتبارات تكفي لكي تبين أقوال هؤلاء المحرّفين الشريرة التي أدى إليها جهلهم. ويتبقى علينا إذن أن ننظر في الأقوال التي وردت عن الروح القدس في الكتب الإلهية، واحدًا فواحدًا، وكصرافين مهرة فلنحكم، هل الروح فيه أي شئ يختص بالمخلوقات أم هو خاص بالله، وذلك لكي ندعوه أما مخلوقًا أو أنه يختلف عن المخلوقات وينتمي إلى – كما أنه واحد مع اللاهوت في الثالوث الذي لا ابتداء له. وربما ـ على هذا النحو يخجلون حينما يتحققون إلى أي درجة أن كلمات التجديف التي اخترعوها هي غير متوافقة مع الأقوال الإلهية.

 

(22)

وإذن فالخلائق قد أتت من العدم إذ لها بداية لوجودها، لأنه ” في البدء خلق الله السموات والأرض” (تك1:1) وكل ما هو موجود فيها. وأما الروح القدس فقد قيل عنه أنه من الله، لأنه يقول: ” لأن مَنْ مِن الناس يعرف أمور الإنسان إلا روح الإنسان الذي فيه، هكذا أيضاً أمور الله لا يعرفها أحد إلا روح الله ونحن لم نأخذ روح العالم بل الروح الذي من الله” (1كو2: 11و12). وعلى أساس ما سبق، فأية قرابة إذن يمكن أن توجد بين الروح وبين المخلوقات؟ فالمخلوقات لم يكن لها وجود بينما أن الله هو الكائن، والروح هو منه. والذي هو من الله لا يمكن أن يكون مما هو غير كائن، ولا يمكن أن يكون مخلوقاً لئلا يُظن ـ حسب تقديرهم ـ أن (الله) الذى منه الروح القدس هو أيضًا مخلوق. فمن إذن سوف يحتمل مثل هذه التجاديف؟ لأنهم يقولون أيضاً في قلوبهم “ ليس إله” (مز13: 1)؟. لأنه إن كان أحد لا يعرف أمور الإنسان إلاّ روح الإنسان الذي فيه، هكذا أيضًا لا أحد يعرف أمور الله إلا الروح الذي فيه، أفلا يكون تجديفًا أن يدعى الروح الذي في الله مخلوقًا، وهو الذي يفحص حتى أعماق الله؟ لأنه على هذا الأساس سيكون من الضروري أن يقبل المتكلّم أن يقول إن روح الإنسان هو خارج عن الإنسان نفسه، وأن الكلمة الذي في الآب هو مخلوق.

وأيضاً الروح هو روح القداسة والتجديد[9] ويدعي هكذا. لأن بولس يكتب: ” وتعيّن ابن الله بقوة من جهة روح القداسة بالقيامة من الأموات. يسوع المسيح ربنا” (رو1: 4). ويقول أيضًا: ” لكن اغتسلتم بل تقدستم بل تبررتم باسم الرب يسوع وبروح إلهنا” (1كو6: 11). وحينما يكتب إلى تيطس يقول: ” لكن ظهر لطف مخلصنا الله ومحبته للبشر، لا بأعمال في بر عملناها نحن، بل بمقتضى رحمته خلصنا بحميم الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس الذي سكبه علينا بغنى بيسوع المسيح مخلصنا. حتى إذا تبررنا بنعمته نصير ورثة حسب رجاء الحياة الأبدية” (تي3: 4ـ7). وأما المخلوقات فتتقدّس وتتجدّد:    ” ترسل روحك فتخلق وتجدد وجه الأرض“(مز104: 30) ويقول بولس: ” لأن الذين استنيروا مرة وذاقوا الموهبة السماوية وصاروا شركاء الروح القدس وسقطوا لا يمكن تجديدهم أيضاً للتوبة” (عب6: 4ـ6).

 

(23)

وإذن فإن ذلك الذي لا يتقدّس بواسطة آخر، ولا يأخذ القداسة، بل هو نفسه الذي يُشتَرك فيه، والذي فيه تتقدّس كل المخلوقات، فكيف يمكن أن يكون واحداً من بين الكل، أو يكون من خاصة أولئك الذين يشتركون فيه؟ لأن أولئك الذين يقولون هذا يلزم أن يقولوا إن الابن الذي به وُجِدت كل الأشياء، هو واحد من بين كل هذه الأشياء.

هو يدعى روح محيي لأنه يقول: ” الذي أقام يسوع من الأموات سيحيي أجسادكم المائتة أيضاً بروحه الساكن فيكم” (رو8: 11). والرب هو الحياة نفسها، وهو “بادئ الحياة” كما قال بطرس (أع3: 15)، بل والرب نفسه قال: ” الماء الذي أعطيه يصير فيه ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية… قال هذا عن الروح الذي كان المؤمنون به مزمعين أن يقبلوه” (يو4: 14؛ 7: 39). ولكن المخلوقات كما قيل، تنال الحياة به. فذلك الذي لا يأخذ الحياة بل هو نفسه الذي تؤخذ منه، ويحيي المخلوقات فأية قرابة يمكن أن تكون بينه وبين الأشياء المخلوقة؟ كيف يمكن أن يكون من بين المخلوقات التي تنال الحياة به من الكلمة؟.

والروح يدعى مسحة وهو الختم لأن يوحنا يكتب: ” أما أنتم فالمسحة التي أخذتموها منه ثابتة فيكم ولا حاجة بكم إلى أن يعلمكم أحد بل كما تعلمكم مسحته” روحه، ” عن كل شئ” (1يو2: 27). وكذلك كُتِب في إشعياء النبي: ” روح الرب علىَّ لأن الرب مسحنى” (إش61: 1) ويقول بولس: ” الذي فيه أيضاً أنتم إذ آمنتم… ختمتم ليوم الفداء” (أف1: 13؛ 5: 30). والمخلوقات تُختم وتُمسح بواسطته وتتعلّم منه كل شئ. ولكن إن كان الروح هو المسحة والختم الذي به يمسح الكلمة كل الأشياء ويختمها، إذن فأي شبه أو انتماء للمسحة والختم مع الأشياء التي تُمسح وتُختم؟ وبناء على هذا لا يمكن أن يكون الروح من بين كل المخلوقات. فالختم لا يمكن أن يكون من بين الأشياء التي تُختم، والمسحة لا يمكن أن تكون من بين الأشياء التي تُمسح، ولكنه يخص الكلمة الذي يَمسح والذي يَختم، لأن المسحة لها أريج ورائحة من يمسح، وأولئك الذين يمسحون يقولون حينما ينالونها: ” نحن رائحة المسيح الزكية” (2كو2: 15). والختم له صورة المسيح الذي يختم، والذين يُختمون يشتركون في الختم ويتشكّلون حسبه، كما يقول الرسول: ” يا أولادي الذين أتمخض بكم أيضاً إلى أن يتصور المسيح فيكم” (غلا4: 19). وهكذا إذ نُختم فمن الطبيعي أن نصير ” شركاء الطبيعة الإلهية” كما يقول بطرس (2بط1: 4). وهكذا فكل الخليقة تشترك في الكلمة بالروح.

 

(24)

وبالإضافة إلى ذلك فإنه يُقال عنا إننا: ” شركاء الله“. لأنه يقول:  ” أما تعلمون أنكم هيكل الله وروح الله يسكن فيكم؟ إن كان أحد يفسد هيكل الله فسيفسده الله لأن هيكل الله مقدّس الذى أنتم هو” (1كو16:3و17).

فلو كان الروح القدس مخلوقًا، لما كان لنا اشتراك فى الله بواسطته. فإن كنا قد اتحدنا بمخلوق فإننا نكون غرباء عن الطبيعة الإلهية حيث إننا لم نشترك فيها. أمّا الآن فلكوننا نُدعى شركاء المسيح وشركاء الله، فهذا يوضّح أن المسحة والختم الذى فينا، ليس من طبيعة المخلوقات بل من طبيعة الابن، الذى يوحّدنا بالآب بواسطة الروح الذى فيه. هذا ما علّمنا إياه يوحنا ـ كما قيل سابقًا ـ عندما كتب: ” بهذا نعرف أننا نثبت فى الله وهو فينا أنه قد أعطانا من روحه” (1يو13:4). ولكن إن كنا بالاشتراك في الروح نصير “شركاء الطبيعة الإلهية” (2بط 1: 4)، فإنه يكون من الجنون أن نقول إن الروح من طبيعة المخلوقات وليس من طبيعة الله. وعلى هذا الأساس فإن الذين هم فيه، يتألهون. وإن كان هو يؤله[10] البشر، فلا ينبغي أن يُشَك في أن طبيعته هي طبيعة إلهية.

ولكن بوضوح أكثر ـ كما قلت سابقًا ـ  لأجل إبادة هذه الهرطقة يرنم المرنم في المزمور المائة والثالث: ” تنزع روحهم فيموتون ويعودون إلى ترابهم. ترسل روحك فيخلقون وتجدّد وجه الأرض” (مز103: 29و30). وكتب بولس إلى تيطس: ” بحميم الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس، الذي سكبه بغنى علينا بيسوع المسيح..” (تي3: 5و6). ولكن إن كان الآب بالكلمة في الروح القدس يخلق كل الأشياء ويجدّدها فأي شبه أو قرابة بين الخالق والمخلوقات. فذلك الذي فيه خُلِقت كل الأشياء، كيف يمكن أن يكون مخلوقًا؟. إن مثل هذا الكلام الرديء يقود إلى التجديف على الابن حتى أن أولئك الذين يقولون إن الروح مخلوق، يقولون أيضًا إن الكلمة الذى خُلِقت به كل الأشياء، مخلوق.

ويُقال عن الروح ـ وهو كذلك ـ إنه صورة الابن لأن ” الذين سبق فعرفهم سبق فعينهم ليكونوا مشابهين صورة ابنه” (رو8: 29). وإذن، فإن كانوا يعترفون أن الابن ليس مخلوقًا، فلا يكون صورته أيضًا مخلوقًا لأنه كما تكون الصورة، هكذا يكون أصل الصورة. هكذا فمن الطبيعي والمناسب أن يُعتَرف أن الكلمة ليس مخلوقًا لأنه صورة الآب. ولذلك فمَنْ يَعدّ الروح مع المخلوقات، فإنه بالضرورة سيحصى الابن أيضًا بينها. وبهذا سوف يتكلّم كلامًا رديئًا على الآب أيضًا بكلامه الرديء على صورته.

 

(25)

إذن فالروح هو مختلف عن المخلوقات، ويتضّح بالحرى أنه خاص[11] بالابن وليس غريبًا عن الله. أما فيما يخص سؤالهم الحكيم[12]: إن كان من الله فلماذا لا يدعى هو نفسه أيضًا ابنًا؟ فلقد سبق أن أوضحنا أنه سؤال متهور ومتجاسر، والآن نحن نوضح أنه ليس أقل من ذلك. ورغم أن الكتب المقدسة لا تدعوه ابنًا بل روح الله، ولكنها تقول إنه في الله نفسه ومن الله نفسه كما كتب الرسول. وإن كان الابن، بسبب أنه من الآب، هو خاص بجوهر الآب، فينبغي أن الروح الذي هو من الله، يكون بالجوهر خاصاً بالابن. وهكذا، فكما أن الرب هو الابن، فالروح يدعى روح البنوة. وأيضاً كما أن الابن هو الحكمة والحق، فالروح كتب عنه أنه روح الحكمة والحق. وأيضاً من جهة، الابن هو قوة الله وهو رب المجد، ومن جهة أخرى، الروح يدعى روح القوة وروح المجد. ويشير الكتاب إلى كل منهما بما يأتي: فبولس كتب إلى الكورنثيين: ” لو عرفوا لما صلبوا رب المجد” (1كو2: 8).

وفي موضع آخر يقول: ” إذ لم تأخذوا روح العبودية أيضًا للخوف بل أخذتم روح التبني” (رو8: 15). وقال أيضًا ” أرسل الله روح ابنه إلى قلوبكم، صارخًا يا أبا الآب” (غلا4: 6). وكتب بطرس  ” أن عيرتم باسم المسيح فطوبى لكم لأن روح المجد والقوة وروح الله يحل عليكم” (1بط4: 14)، والرب دعا الروح: “روح الحق” و”المعزي” (يو14: 16و17). مبينًا بهذا أن الثالوث كامل به. فالكلمة يجعل الخليقة مجيدة بواسطة الروح القدس، وبمنحه إياها الحياة الإلهية والتبني فإنه يجذبها إلى الآب. ولهذا فإن الذي يربط الخليقة بالكلمة لا يمكن أن يكون واحدًا من المخلوقات. والذي يمنح التبني للخليقة لا يمكن أن يكون غريبًا عن الابن. لأننا بغير ذلك يكون من الضرورى أن نطلب روحًا آخر لكي به يمكن أن يرتبط هذا الروح بالكلمة. وهذا كلام غير معقول. لذلك فالروح ليس واحدًا من المخلوقات، بل هو خاص بألوهية الآب والذي فيه يجعل الكلمة الأشياء المخلوقة تشارك في الطبيعة الإلهية. ولكن ذلك الذي فيه تشترك الخليقة في الطبيعة الإلهية لا يمكن أن يكون خارج ألوهية الآب.

 

(26)

أما أن الروح هو فوق الخليقة، ومختلف في الطبيعة عن الأشياء المخلوقة، وأنه خاص بالألوهية، فهذا يمكن أن نعرفه مما يلي. فالروح القدس غير قابل للتغيّر والتحوّل لأنه يقول ” روح التأديب، يهرب من الغش ويتحول عن الأفكار الغبية” (حكمة1: 5) ويقول بطرس ” في الروح عديم الفساد الوديع الهادئ” (1بط3: 4)، وأيضًا في الحكمة: ” روحك العديم الفساد هو في كل شئ” (حكمة12: 1). وأيضًا: ” لا أحد يعرف أمور الله إلا روح الله الذي فيه” (1كو2: 11). لأنه ليس لدى الله ” تغيير ولا ظل دوران” كما قال يعقوب (يع1: 17).

فالروح القدس لكونه في الله، ينبغي أن يكون غير قابل للتغيّر والتحوّل والفساد. لكن طبيعة الأشياء الناشئة والأشياء المخلوقة قابلة للتغيّر، حيث إنها خارج جوهر الله، وأتت إلى الوجود من العدم. لأنه يقول ” كل إنسان كاذب” (مز115: 11)، وأيضًا ” الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله” (رو3: 23)، ” والملائكة الذين لم يحفظوا رئاستهم بل تركوا مسكنهم الخاص، حفظهم إلى دينونة اليوم العظيم بقيود أبدية تحت الظلام” (يهوذا 6). وفي أيوب ” هوذا ملائكته لا يأتمنهم، وإلى ملائكته ينسب حماقة، والنجوم غير نقية في عينيه” (أي4: 18؛ 25: 5).

         وكتب بولس ” ألستم تعلمون أننا سندين ملائكة فبالأولى أمور هذه الحياة” (1كو6: 3). ولقد سمعنا أن إبليس، الذي كان “بين الشاروبيم”، وكان “خاتم الشبه”، سقط ” كالبرق من السماء” (حز28: 12؛ لو10: 18). ولكن إن كانت المخلوقات لها مثل هذه الطبيعة المتغيّرة، وقد كُتِب مثل هذا عن الملائكة، والروح هو هو نفسه وهو غير متغيّر، فإن كان الروح له نفس عدم تحول الابن، ويظل دائماً معه غير متغيّر فأي شبه بين غير المتغيّر والمتغيّر؟ وهكذا يتضّح أنه ليس مخلوقًا وليس هو من جوهر الملائكة على الإطلاق لأنهم متغيّرون، أما هو فهو صورة الكلمة ويخص الآب.

وأيضًا، فإن روح الرب يملأ المسكونة، ولذلك يرتل داود ” أين أذهب من روحك” (مز138: 7). وأيضًا مكتوب في سفر الحكمة: “روحك غير الفاسد هو في كل الأشياء” (حك12: 1). ولكن الأشياء المخلوقة هي في أماكن محددة لها: الشمس، والقمر والنجوم في الجلد، والسحب في الهواء. أما للناس، فقد وضع حدودًا للشعوب، (انظر تث32: 8) والملائكة يرسلون للخدمات (انظر عب1: 14). ” وجاء الملائكة ليمثلوا أمام وجه الرب“، كما هو مكتوب في أيوب (أي1: 6). ورأي يعقوب البطريرك حلمًا: “وإذا سلّم منصوبة على الأرض ورأسها يمس السماء، وهوذا ملائكة صاعدة ونازلة عليها“(تك28: 12). ولكن إن كان الروح يملأ كل الأشياء وهو في الكلمة حاضر في كل الأشياء. وإن كان الملائكة أقل منه، وحيثما يُرسلون فهناك يكونون حاضرين، إذن فلا ينبغي أن يشك في أن الروح ليس بين الأشياء المخلوقة وليس هو ملاكًا على الإطلاق، كما تقولون أنتم، بل هو فوق طبيعة الملائكة.

 

(27)

ومما يلي أيضًا يمكن أن ترى كيف أن الروح القدس يُشتَرك فيه ولكن هو لا يشترك[13]، (ولا ينبغي أن نتردد في تكرار نفس الكلام). لأنه مكتوب ” إن الذين استنيروا مرة وذاقوا الموهبة السماوية وصاروا شركاء الروح القدس، وذاقوا كلمة الله الصالحة” (عب4:6و5)، فالملائكة والمخلوقات الأخرى تشترك في الروح نفسه، وإذن فهم يمكن أن يسقطوا من الذي يشتركون فيه. ولكن الروح هو دائمًا كما هو، لأنه ليس واحدًا من بين أولئك الذين يشتركون، ولكن كل الأشياء تشترك فيه. فإن كان هو دائمًا كما هو، ودائمًا يشترك فيه، وإن كانت المخلوقات تشترك فيه، فالروح القدس لا يمكن أن يكون ملاكًا ولا مخلوقًا على الإطلاق، بل هو خاص بالكلمة، الذي به يُعطَي، من أجل أن تشترك المخلوقات في الروح. فأفكارهم هذه ستؤدى بهم أن يقولوا إن الابن مخلوق، وهو الذي فيه نصير كلنا شركاء في الروح.

وأيضًا، فإن الروح القدس واحد، أما المخلوقات فكثيرة، فالملائكة ” ألوف ألوف وربوات ربوات” (دا 7: 10). وتوجد أنوار كثيرة (انظر تك1: 14)، وعروش وسيادات وسموات وشاروبيم وسيرافيم ورؤساء ملائكة كثيرة. وباختصار فالمخلوقات ليست واحداً، ولكنها كلها معًا هي كثيرة ومتنوعة. فإن كان الروح القدس واحدًا والمخلوقات كثيرة، والملائكة كثيرون، فأي شبه بين الروح وبين المخلوقات؟ وإذن يتضح أن الروح ليس واحدًا بين كثيرين وليس هو ملاكًا. ولكن لأنه واحد، وبالأكثر لأنه خاص بالكلمة الذي هو واحد وخاص بالله الذي هو واحد، فهو من نفس الجوهر.

هذه الأقوال عن الروح القدس ـ هي وحدها في ذاتها ـ توضح أنه لا يوجد شئ مشترك أو خاص بينه وبين المخلوقات في الطبيعة وفي الجوهر، وأنه مختلف عن الأشياء المخلوقة، وهو خاص بلاهوت الابن وجوهره وليس غريباً عنه، ومن أجل هذا فهو من الثالوث القدوس، وهذا يكشف قلة فهمهم.

 

(28)

ولكن بالإضافة إلى ذلك، دعونا ننظر إلى تقليد الكنيسة الجامعة وتعليمها، وإيمانها[14]، الذي هو من البداية ” والذي أعطاه الرب وكرز به الرسل وحفظه الآباء“، وعلى هذا الأساس تأسست الكنيسة، ومن يسقط منه فلن يكون مسيحيًا ولا ينبغي أن يدعى كذلك فيما بعد.

وإذن يوجد ثالوث قدوس وكامل، يُعترف به أنه الله ـ في الآب والابن والروح القدس، وليس له شئ غريب أو خارجي ممتزج به، ولا يتكوّن من خالق ومخلوق، ولكن الكل يبني ويخلق، وهو متماثل فى ذاته وغير منقسم من جهة الطبيعة، وفعله واحد. فالآب بالكلمة في الروح القدس يعمل كل الأشياء، وهكذا تُحفظ وحدة الثالوث القدوس سالمة. وهكذا يُكرز بإله واحد في الكنيسة، ” الذي على الكل وبالكل وفي الكل” (أف4: 6). “على الكل” أى كأب وكبدءٍ وكينبوع، “وبالكل” أي بالكلمة، “وفي الكل” أي في الروح القدس. هو ثالوث ليس فقط بالاسم وصيغة الكلام، بل بالحق والوجود الفعلي. لأنه كما أن الآب هو الكائن الذي يكون، هكذا أيضًا الكلمة هو الكائن والإله على الكل. والروح القدس ليس بدون وجود حقيقي، بل هو موجود وله كيان فعلي. وليس بأقل من هؤلاء الثلاثة تعتقد الكنيسة الجامعة، لئلا تنزلق إلى أفكار اليهود المعاصرين الرديئة ـ الذين حسب قيافا ـ وإلى أفكار سابيليوس، كما أنها لا تعتقد بأكثر من ثلاثة، لئلا تتدحرج إلى تعدد الآلهة عند اليونانيين. ولكي يعرف هؤلاء أن هذا هو إيمان الكنيسة، فدعهم يفهمون كيف أن الرب حينما أرسل الرسل، أوصاهم أن يضعوا هذا الأساس للكنيسة قائلاً: ” اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس” (مت28: 19). فمضوا الرسل وهكذا عملوا. وهذه هي الكرازة إلى كل الكنيسة التي تحت السماء.

 

 

(29)

وإذن فحيث إن الكنيسة لها أساس الإيمان هذا، فليقل لنا أولئك الناس مرة أخرى وليعطوا جوابًا: هل الله ثالوث أم اثنان؟ فإذا كان اثنين فعليكم أن تحسبوا الروح بين المخلوقات، وبهذا يكون إيمانكم ليس إيماناً بإله واحد، ” الذي على الكل، وبالكل، وفي الكل” (أف4: 6). فإن فصلتم وأبعدتم الروح القدس عن الألوهة، فلا يكون لكم ذلك الذى هو “فى الكل”؛ وإذا كنتم تفكرون هكذا فإن التكميل[15]، الذي تمارسونه ليس انضمامًا إلى الألوهية بالمرة. لأنكم تمزجون مخلوقًا مع الألوهية، ومثل الآريوسيين واليونانيين[16] تضعون الخليقة مع الله الذي خلقها بكلمته الذاتي. فإن كان هذا هو اتجاهكم فأي رجاء يكون لكم؟ فمن هو الذي يوحّدكم بالله، إن لم يكن لكم روح الله بل الروح الذي من الخليقة؟ إنها جسارة وعدم مبالاة أن تنقصوا الآب وكلمته إلى مستوى المخلوقات، وأن تضعوا المخلوقات في مستوى الله، لأن هذا هو ما تفعلونه حينما تتخيلون الروح القدس مخلوقًا وتحسبونه مع الثالوث، فأي جنون من جهتكم أن تنسبوا الظلم إلى الله، إذ لا تحسبون مع الله وكلمته سوى واحد من بين كل الملائكة وكل المخلوقات، لأنه إن كان الروح ـ كما تقولون ـ هو ملاك مخلوق، وفي نفس الوقت يحسب مع الثالوث، إذن يكون ضروريًا، ليس لواحد فقط بل لكل الملائكة الذين خلقوا، أن يحسبوا مع الألوهة، وبذلك لا يعود هناك فيما بعد ثالوث بل عدد لا يحصى في الألوهة. وهكذا فإن طقس الانضمام[17] ـ الذي نكرّر ـ أنه يظهر أنه طقسكم، هو منقسم بين هنا وهناك وصار غير أكيد بسبب تقلبه. هكذا تكون طقوسكم وطقوس الآريوسيين الذين يجادلون ضد الألوهة ويعبدون المخلوقات دون الله الذي خلق كل الأشياء.

 

(30)

         مثل هذه الضلالات تقابل من يقول إن الله اثنان. ولكن إن كان هو ثالوث، كما هو حقًا، وإن كان قد تبيّن أن الثالوث غير منقسم، ومتماثل، وإذن فبالضرورة تكون قداسته واحدة، وأبديته واحدة، وكذلك طبيعته غير القابلة للتغيّر. لأن الإيمان بالثالوث[18] المُسلّم إلينا ـ هو واحد وهو الذى يجعلنا متحدين بالله، لذلك فمَنْ يستبعد أي واحد من الثالوث، ويعتمد باسم الآب وحده أو باسم الابن وحده، أو باسم الآب والابن بدون الروح القدس، لا ينال شيئًا، بل يظل فارغ وغير مكتمل[19]، هو نفسه وذلك الذى يظن أنه ضمه، (لأن طقس الاكتمال[20] هو بالثالوث)، هكذا فإن الذى يفصل الابن عن الآب أو يُنزِل الروح القدس إلى مستوى المخلوقات، فهذا لن يكون له الآب ولا الابن بل هو بدون إله، وهو أشر من غير المؤمن. ويمكن أن يكون أي شئ إلا أن يكون مسيحيًا، وهذا أمر عادل. لأنه كما أن المعمودية التي تُعطَى بالآب والابن والروح، هي واحدة، وكما أن هناك إيمان واحد بالثالوث، هكذا الثالوث القدوس إذ هو واحد مع نفسه، ومتحد في نفسه، وليس له في نفسه ما هو من المخلوقات. وهذه هى وحدة الثالوث غير المنقسمة، ولذلك فالإيمان به هو واحد. ولكن إن كان الأمر بحسب الابتداع الجديد الذي صنعتموه أيها “المحرّفون” ليس هو كذلك، وإن كنتم قد رأيتم أحلامًا بأن تدعو الروح القدس مخلوقاً، فإذن لا يعود لكم بعد إيمان واحد ومعمودية واحدة[21] بل اثنان، واحدة (باسم) الآب والابن وأخرى (باسم) ملاك هو مخلوق، ولا يبقى لكم يقين ولا حق. لأنه أية شركة بين المخلوق والخالق؟ وأية وحدة بين المخلوقات السفلى وبين “الكلمة” الذي خلقها؟ والمبارك بولس، إذ عرف هذا، لا يُقسِّم الثالوث كما تفعلون، بل إذ يعرف وحدته فقد كتب إلى الكورنثيين عن الأمور الروحية. فهو يَرُد كل الأشياء إلى إله واحد، الآب[22] قائلاً: ” أنواع مواهب موجودة وأنواع أعمال موجودة ولكن الله واحد الذي يعمل الكل في الكل” (1كو12: 4ـ6).

فالمواهب التي يقسِّمها الروح لكل واحد تُمنح من الآب “بالكلمة”. لأن كل ما هو من الآب هو من الابن أيضاً. وإذن فتلك الأشياء التي تُعطي من الابن في الروح هي مواهب الآب. وحينما يكون الروح فينا، فالكلمة الذي يعطى الروح يكون أيضًا فينا، والآب موجود في الكلمة. وهكذا يكون كما قال: “سنأتي أنا والآب ونصنع عنده منزلاً” (يو14: 23). لأنه حيث يكون النور فهناك الشعاع أيضًا. وحيث يكون الشعاع فهناك أيضًا فاعليته ونعمته المضيئة.

وهذا هو ما علّم به الرسول أيضًا حينما كتب إلى الكورنثيين في الرسالة الثانية قائلاً: ” نعمة ربنا يسوع المسيح ومحبة الله وشركة الروح القدس مع جميعكم” (2كو13:13). لأن هذه النعمة والهبة تعطي في الثالوث من الآب والابن في الروح القدس، وكما أن النعمة المعطاة هي من الآب والابن، هكذا فإنه لا يكون لنا شركة في العطية إلا في الروح القدس. لأننا حينما نشترك فيه تكون لنا محبة الآب ونعمة وشركة الروح نفسه.

 

(31)

         ويتضح مما سبق أن فعل الثالوث هو واحد. فالرسول لا يعني أن ما يعطي، يعطي من كل واحد متنوعًا ومجزئًا[23]، ولكن ما يعطى إنما يعطي في الثالوث، والكل من إله واحد. وعلى ذلك فالذي هو غير مخلوق، بل هو متحد مع الابن، كما أن الابن متحد مع الآب، والذي هو ممجد مع الآب والابن، الذي يعترف به إلهاً مع الكلمة، والذي هو يفعل الأعمال التي يعملها الآب مع الكلمة، كيف يمكن أن يُدعى مخلوقًا[24]؟ وهكذا أفلا يكون ذلك الإنسان الذى يدعوه مخلوقًا مجرمًا بفكر مباشر ضد الابن نفسه؟ لأنه لا يوجد شئ لم يخلق ولم يعمل بالكلمة في الروح. وهكذا يرتل في المزامير: ” بكلمة الرب صنعت السموات وبروح فيه كل جنودها“(مز32: 6). وفي المزمور المئة والسابع والأربعين: ” يرسل كلمته فيذيبها، يهب بروحه فتسيل المياه” (مز147: 18). ونحن ” قد تبررنا باسم ربنا يسوع المسيح وبروح إلهنا” كما يقول الرسول (1كو6: 11). لأن الروح غير منفصل عن الكلمة، وبالتأكيد حينما يقول الرب ” سنأتي أنا والآب” (يو14: 23)، يأتي الروح معهما ويسكن فينا، ليس لسبب آخر غير أن يحلّ الابن فينا، كما كتب بولس إلى الأفسسيين ” لكي يعطيكم بحسب غنى مجده، أن تتأيدوا بالقوة بروحه في الإنسان الباطن ليحل المسيح” (أف3: 16ـ17). ولكن إن كان الابن فينا يكون الآب فينا أيضاً كما يقول الابن ” أنا في الآب والآب فيَّ” (يو14: 10).

لذلك حينما يكون الكلمة في الأنبياء فإنهم يتنبئون بالروح القدس[25]. وحينما يقول الكتاب ” صارت كلمة الرب“(إر1: 2؛ ميخا1: 1)، إلى ذلك النبي بالذات، فهذا يوضح أنه يتنبأ بالروح القدس. ومكتوب في زكريا ” لكن اقبلوا كلامي وفرائضي التي أوصيت بها عبيدي  الأنبياء بروحي” (زك1: 6). وحينما وبخ النبي الشعب بعد ذلك بقليل “جعلوا قلبهم عنيداً لئلا يسمعوا شريعتي والكلام الذي أرسله رب الجنود بروحه عن يد الأنبياء الأولين” (زك7: 12)، وقال بطرس في سفر الأعمال ” أيها الأخوة كان ينبغي أن يتم الكتاب الذي سبق الروح القدس فقاله” (أع1: 16). والرسل صرخوا بصوت عالٍ معًا قائلين: ” أيها السيد، أنت هو الإله الصانع السموات والأرض والبحر وكل ما فيها، القائل بالروح القدس بفم داود فتاك...” (أع4: 24ـ25). وبولس حينما كان في رومية تكلّم بجرأة إلى اليهود الذين أتوا إليه: “حسنًا كلم الروح القدس آبائكم النبي” (أع28: 25). وكتب إلى تيموثاوس: ” الروح يقول صريحًا أنه في الأزمنة الأخيرة يرتد قوم عن الإيمان تابعين أرواحاً مضلة” (1تي4: 1). ولذلك حينما يُقال إن الروح موجود في أي أحد فهذا يعني أن الكلمة كائن فيه وهو الذي يمنح الروح. وحينما تحققت النبوة القائلة: ” أني أسكب روحي على كل بشر” (يؤ2: 28) بعد ذلك قال بولس: ” حسب موآزرة روح يسوع المسيح لي” (في1: 19). وكتب إلى الكورنثيين: “ إن كنتم تطلبون برهان المسيح المتكلم فيَّ” (2كو13: 3). ولكن إن كان الذي تكلّم فيه هو المسيح، فهذا يوضّح أن الروح الذي تكلّم فيه هو روح المسيح. وبسبب أن روح المسيح كان يتكلّم فيه، قال أيضًا في سفر الأعمال: ” والآن ها أنا ذاهب إلى أورشليم مقيداً بالروح لا أعلم ما يصادفني هناك، غير أن الروح يشهد في كل مدينة قائلاً، أن وثقاً وشدائد تنتظرني” (أع20: 22و23). وعليه فحينما يقول القديسون: ” هكذا قال الرب” (انظر عا1: 3)، فإنهم لا يتكلّمون إلاّ بالروح القدس. وإذ يتكلّمون بالروح القدس فهم يتكلمون بهذا في المسيح. وإذ يقول أغابوس في الأعمال “ هذا يقوله الروح القدس” (أع21: 11)، فليس إلا بواسطة الكلمة الآتي إليه، يمنح الروح أيضًا القوة ليتكلّم ويشهد عن الأمور التي تنتظر بولس في أورشليم. وهكذا أيضًا حينما شهد الروح لبولس ـ فكما قلنا قبلاً ـ إن المسيح عينه كان هو المتكلّم فيه، لتكون الشهادة التي أتت من الروح هي تخص الكلمة. وهكذا أيضًا حينما افتقد الكلمة، العذراء القديسة مريم، أتي الروح القدس إليها معه، والكلمة بالروح شكل الجسد وهيأه لنفسه، راغبًا أن يوحّد ويقدِّم كل الخليقة للآب بواسطة نفسه، “ويصالح كل الأشياء فيه… صانعًا سلامًا… سواء ما هو في السموات أو ما هو على الأرض“(كو1: 20).

(32)

         وعلى ذلك ـ فوفقًا للكتب الإلهية ـ يتبين أن الروح القدس ليس مخلوقًا بل هو خاص بالكلمة وبلاهوت الآب، وهكذا يتفق مع تعليم القديسين[26] عن الثالوث القدوس غير المنقسم، وهو الإيمان الواحد الذي للكنيسة الجامعة. ولكن ابتداع “المحرّفين” غير المعقول والخرافي يتناقض من ناحية مع الكتب المقدسة ومن ناحية أخرى يتفق مع عدم عقلانية الآريوسيين المجانين. إنه من الطبيعي بالنسبة لهم أن يتظاهروا هكذا ليخدعوا البسطاء، ولكن شكرًا للرب فكما تكتب أنت لم ينجحوا في تغطية أنفسهم باصطناع الخلاف مع الآريوسيين. لقد صاروا مكروهين من أولئك لأنهم يدعون أن الروح فقط مخلوق دون أن يدعوا الابن كذلك. وقد أدانهم جميع الناس لأنهم في الحقيقة يحاربون الروح[27]، وبعد قليل سوف يموتون إذ هم مقفرون وخالون من الروح، وبكلمات الرسول المبارك إذ هم ” أناس نفسانيون“، فإنهم لا يستطيعون أن يقبلوا ما يخص روح الله لأن هذه الأمور إنما يحكم فيها روحياً. أما أولئك الذين يهتمون بالأمور التي تخص الحق، فيحكمون في كل شئ، ولكن هم أنفسهم لا يحكم فيهم من أحد، لأنهم يملكون الرب في أنفسهم الذي يكشف لهم ذاته في الروح، وبواسطة ذاته يكشف الآب.

 

         33 ـ ورغم أني أسكن الآن في البرية، ولكن بسبب وقاحة الذين تحولوا عن الحق، فإني لم أبال بأولئك الذين يرغبون أن يضحكوا على ضعف شرحي وفقره. ولكن إذ قد كتبت باختصار فأني أرسله إلى تقواك مع توسلات كثيرة أنك حينما تقرأه، فإنك من ناحية تصححه ومن ناحية أخرى، حينما تجد أن الكتابة ضعيفة فإنك تلتمس العذر. وبحسب الإيمان الرسولي المسلّم لنا بالتقليد من الآباء، فإني قد سلّمت التقليد بدون ابتداع أي شئ خارجًا عنه. فما تعلمته فذلك قد سطرته مطابقًا للكتب المقدسة، لأنه يتطابق أيضًا مع تلك المقاطع من الكتب المقدسة التي اقتبسناها أعلاه، لأجل التأكيد.

وهذا ليس ابتداعًا خارجيًا، ولكن الرب يسوع المسيح نفسه، هو بشخصه علّم المرأة السامرية وعلّمنا من خلالها كمال الثالوث القدوس الذي هو ألوهية واحدة غير منقسمة، فالحق نفسه هو الذي يشهد حينما يقول للسامرية: ” يا امرأة، صدقيني أنه تأتي ساعة وهي الآن حين الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح وبالحق، لأن الآب طالب مثل هؤلاء الساجدين له. الله روح والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا” (يو4: 21ـ24). ومن هذه الفقرة يتضح أن الحق هو الابن نفسه، كما يقول: ” أنا هو الحق” (يو14: 6)، والذي بخصوصه صلى داود النبي قائلاً: ” ارسل نورك وحقك” (مز43: 3). لذلك فالساجدون الحقيقيون يسجدون للآب ولكن بالروح والحق، معترفين بالابن وبالروح فيه. لأن الروح غير منفصل عن الابن، كما أن الابن غير منفصل عن الآب. فالحق نفسه يشهد حينما يقول: ” سأرسل لكم المعزي روح الحق الذي من عند الآب ينبثق، الذي لا يستطيع العالم أن يقبله” (يو15: 26؛ 14: 17)، أي أولئك الذين ينكرون أنه من الآب في الابن.

لذلك فينبغي على مثال الساجدين الحقيقيين أن نعترف بالحق وننحاز إليه. وإن كانوا بعد هذه الأمور لا يزالون غير راغبين أن يتعلّموا، وليس لديهم قوة أن يفهموا، فدعهم على الأقل أن يكفوا عن الكلام الشرير. دعهم لا يقسِّمون الثالوث لئلا يُفصلوا عن الحياة. دعهم لا يحسبوا الروح القدس بين المخلوقات، لئلا مثل الفريسيين القدماء، ينسبون أعمال الروح إلى بعلزبول، فأنهم بسبب جسارة مشابهة، يجلبون (على أنفسهم) مع هؤلاء الناس العقاب الذي هو بلا رجاء في الغفران هنا، وما بعد ذلك.

[1] أي نور يشع نورًا، أي أن الابن نور مشع من الآب، وهكذا نفهم نص قانون الإيمان “نور من نور”. بعكس فهم “إشعاع” بمعنى نور مقتبس من نور آخر مثلما يأخذ السراج نوره من سراج آخر فيكون تعبيرًا عن الانقسام والتجزئة في عالم المخلوقات، والتي لا وجود لها في طبيعة الله الثالوث.

[2] يوضح القديس أثناسيوس هنا أننا يمكن أن نرى الروح في الابن، وهذا ما يذكره صراحة في الرسالة الأولى عندما يقول: “وكما أن الابن، الكلمة الحي، هو واحد، هكذا فإن القوة الحيوية والعطية التي بها يقدس ويضئ ينبغي أن تكون واحدة كاملة وتامة” (رسالة1: 20). ويقول أيضًا: “أنه حيث يكون النور فهناك الشعاع أيضًا، وحيث يكون الشعاع فهناك أيضًا فاعليته ونعمته المضيئة” (رسالة 1: 30). ومع تأكيد القديس أثناسيوس على وحدة الروح والابن، فإنه يهتم أن يؤكد أيضًا تميز الأقانيم كما يبدو في كلماته في الفصل 28 من هذه الرسالة إذ يقول: “الآب بالكلمة في الروح القدس يعمل كل الأشياء… وهكذا يكرز بإله واحد في الكنيسة” “ الذي على الكل وبالكل وفي الكل” (أف4: 6). “على الكل” كآب وكبدء وكينبوع، و “بالكل” أي بالكلمة، “وفي الكل” أي في الروح القدس. هو ثالوث ليس فقط بالاسم وصيغة الكلام بل بالحق والوجود الفعلي. لأنه كما أن الآب هو الكائن الذي يكون، هكذا أيضًا الكلمة هو الكائن والإله على الكل. والروح القدس ليس بدون وجود= =حقيقي بل هو يوجد وله كيان فعلي. وليس بأقل من هؤلاء الثلاثة تعتقد الكنيسة الجامعة لئلا تنزلق إلى أفكار اليهود المعاصرين الرديئة وإلى أفكار سابيليوس، كما أنها لا تعتقد بأكثر من ثلاثة لئلا تتدحرج إلى تعدد الإلهة عند اليونانيين (رسالة1: 28).

[3] انظر المقالة الثالثة ضد الآريوسيين للقديس أثناسيوس، وديديموس على الثالوث Didymus de Trin. II, 748c، حيث “نصير أبناء”، “نصير آلهة” يُقال إنهما من عمل الروح القدس. وهذان التعبيران يعبران عن فكرة واحدة، والقديس أثناسيوس عمومًا يفضل تعبير “نصير آلهة”.

[4] قد سبق أثناسيوس واستعمل هذا التشبيه عن الابن. وهو الآن يستعمله عن الروح، ويضيف مجموعة من الآيات المماثلة ليبيّن كيف أن رسم الابن يوجد كما في الروح. واستعمال هذا التشبيه هو أقدم من أثناسيوس، لأن غريغوريوس العجائبي في: “اعترافه” يتحدث عن الروح على أنه صورة الابن، بل في الحقيقة ربما يرجع هذا التشبيه إلى إيرينيوس، انظر Hare. IV. Viii. 4 ، كما نجد أن ديديموس يأخذ هذا التشبيه في كتابه عن الثالوث (Dr Trin. II 504 B) وانظر أيضًا القديس باسيليوس ضد أونوميوس (Basil, adv. Eun. V 724c, etc.). واستمرار استعمال هذا التشبيه يتضح من ظهوره في كتابات يوحنا الدمشقي (القرن الثامن) مثل كتاب “في الإيمان الأرثوذكسي De Fid. Orth.”. ونلاحظ أن ما يقوله أثناسيوس هنا يكمّل ويؤيد الحقيقة التي سبق أن ذكرها في القسم السابق أن الروح يمكن أن يُرى في الابن.

[5] إن وحدة الطاقة (القوةἐνεργία ) تستلزم وحدة الجوهر، لذلك فلو أن هناك انقسامًا في الجوهر حسب تصور التروبيكيين فهذا يستلزم تعدّد الطاقات (القدرات). ويجد أثناسيوس في هذه الحقيقة تعليلاً لتعليمه اللاهوتي عن النعمة الإلهية الواحدة للثالوث الواحد، والتى تمدنا بقداسة واحدة.

[6]وليد” (Γεννημά) لا يجد القديس أثناسيوس أية صعوبة في استعمال هذه الكلمة عن المسيح رغم أن كل من اتيوس وأفنوميوس الآريوسيين يستعملونها كمرادفة لكلمة مخلوق أو مصنوع. ويقول القديس أثناسيوس في مقالته ضد الآريوسيين3: 4، إن طبيعة الابن هي نفسها طبيعة الآب “لأن الوليد ليس مغايرًا لأنه هو صورته وكل ما هو للآب هو للابن” “لأن الشعاع هو أيضًا نور ليس ثانيًا بعد للشمس ولا هو نور مختلف، ولا بمجرد المشاركة فيها، بل هو وليد كامل وخاص بها. ومثل هذا المولود هو بالضرورة نور واحد، ولا أحد  يستطيع أن يقول إنه يوجد نوران.= =فرغم أن الشمس والشعاع هما اثنان، إلا أن هناك نور واحد ينبعث من الشمس ويضيئ بشعاعه كل الأشياء”.

[7]يأخذ من الابن“: على غير ما يحاوله بعض المفسرين خطأ من الاستناد إلى هذه الآية لكي ينسبوا أصل الروح الأزلي إلى الابن مع الآب، فإننا نجد أن القديس أثناسيوس هنا يشرح هذه الآية على أنها تشير فقط إلى مجرد إرسال الروح القدس من الابن، إذ هو يقارن بين ما سمعه الابن من الآب وتكلّم به في (يو8: 26)، وبين ما يسمعه الروح القدس من الابن ويتكلّم به، كما يقول الرب يسوع ـ في الفقرة التي اقتبس منها هنا القديس أثناسيوس ـ عن علاقة الروح بالابن ” لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به.. لأنه يأخذ مما لي ويخبركم” (يو16: 13، 14). وعلى ذلك فإن الآية التالية التي يقول فيها: ” كل ما للآب فهو لي” تنحصر هنا في عمل الإخبار بما يسمع، لأن الرب يكمل قائلاً: “ لهذا قلت إنه يأخذ مما لي ويخبركم” (يو16: 15).

[8] كلمة رتبة “Τάξις” هنا ليست ترتيبًا عدديًا بل تعني “وضع” Rank، فالقديس أثناسيوس لا يقصد أن الروح يأتي في الترتيب بعد الابن مثلما يأتي الابن بعد الآب بل هو يعني ببساطة أن وضع الروح مع الابن هو تماماً مثل وضع الابن مع الآب. ويستعمل القديس أثناسيوس كلمة الطبيعة “φύσις” بعد كلمة رتبة لكي يوضح أن المقصود بكلمة “رتبة” ليس مجرد وظيفة أو امتياز معين بل وحده الجوهر بين الأقانيم الثلاثة.

[9]روح القداسة والتجديد“: يرى القديس أثناسيوس أن القداسة هي الخاصية المميزة للروح، وهذا نجده أيضًا في تفسير القديس أثناسيوس للآية (يو17: 19) في المقالة الأولى ضد الآريوسيين حيث يقول: “كوني أنا كلمة الآب، فأنا نفسي أُعطي ذاتى الروح، حينما أصير إنسانًا. وأنا الصائر إنسانًا، أقدس نفسى (فى الاب) لكي يتقدس الجميع فيَّ، أنا الذي هو الحق (لأن كلمتك أنت هى الحق) [ضد الآريوسيين1: 46 ترجمة الأستاذ صموئيل كامل والدكتور نصحي عبد الشهيد صفحة 89 مركز دراسات الآباء 1984 القاهرة]. وكون القديس أثناسيوس ـ عندما يتحدث عن الروح ـ يضيف كلمة التجديد بعد كلمة القداسة فهذا يبيّن أنه لا يفصل بين القداسة وبين تجديد الطبيعة وأعادتها إلى عدم الفساد. وهذا ما يتحدث عنه أيضاً في كتابه تجسد الكلمة (فصول من 4ـ10) دون أن يشير إلى الروح القدس. والقديس أثناسيوس يستعمل عبارة نصير إلهيين في تجسد الكلمة 54: 3 كمرادف للتجديد أو إعادة الطبيعة البشرية إلى عدم الفساد أو عدم الموت، كنتيجة لتجسد الكلمة. وكل هذه التعبيرات المستعملة في هذا الجزء من الرسالة تشير إلى نفس هذه العملية التي يصيغها بتعبيرات متنوعة في المناسبات المختلفة سواء نسبها إلى الكلمة أو إلى الروح، (مثال انظر فصل 24 من هذه الرسالة).

[10]يـؤله” “Θεωποιεί ” أي “يجعل إلهًا”.. نلاحظ هنا أن القديس أثناسيوس يشرح عبارة بطرس الرسول تصيروا شركاء الطبيعة الإلهية بأنها تعني التأليه. وهو يقول إن الروح القدس هو الذي= =يؤله البشر أي يصيّرهم آلهة باشتراكهم فيه. وعلى هذا الأساس يستنتج أن الروح القدس لا يمكن أن يكون من طبيعة المخلوقات بل بالضرورة له طبيعة الله. وقد استعمل القديس أثناسيوس هذه الكلمة في مواضع كثيرة من كتاباته أهمها:

1 ـ كتاب تجسد الكلمة فصل 54 حيث يقول “لأنه صار إنساناً لكي يؤلهنا”.

2 ـ وفي المقالة الأولى ضد الآريوسيين فقرة 39 “كان إلهاً وفيما بعد صار إنساناً لكي يؤلهنا… وكيف يحدث التأليه بدون اللوغوس… كل الذين دعوا أبناء وآلهة قد نالوا التبني وصاروا متألهين من خلال اللوغوس”.

3 ـ وفي المقالة الثانية ضد الآريوسيين فقرة 70 يقول: “لأنه ما كان للإنسان أن يتأله لو أنه أتحد بمخلوق أو لو أن الابن لم يكن إلهاً حقيقياً .. هكذا لم يكن للإنسان أن يؤله لو لم يكن الكلمة الذي صار جسداً هو ابن طبيعي حقيقي وذاتي من الآب. لهذا إذن صار الاتحاد هكذا، أن يتحد ما هو بشرى بالطبيعة بالذي له طبيعة الألوهية ويصير خلاص الإنسان وتأليهه مؤكداً”.

4 ـ وفي المقالة الأولى ضد الآريوسيين فقرة 9 يشرح (مز 81: 6) “أنا قلت أنكم آلهة” بأن حصول البشر على هذه النعمة هو من الآب بمشاركتهم للكلمة عن طريق الروح القدس”.

ومن الفقرات السابقة يتبيّن كيف أن القديس أثناسيوس ينسب عمل التأليه أحياناً إلى الكلمة وأحياناً أخرى إلى الروح القدس. وفي بعض الأحيان ينسبه إلى الكلمة عن طريق الروح القدس.

[11] أي من نفس الجوهر مع الابن. ἴδιον εἶναι τοῦ Υἱοῦ.

[12] يقصد الحكيم في نظرهم.

[13] يقصد القديس أثناسيوس أن الروح القدس لا يمكن أن يفقد قداسته لأنه لا ينالها عن طريق الاشتراك ولكنه يملكها جوهرياً في ذاته.

[14] يُلاحظ هنا أن القديس أثناسيوس لا يفرق بين التقليد والتعليم والإيمان، بل هو يتكلّم عن الثلاثة كشيء واحد حتى أنه يستعمل لها اسم الموصول المفرد (الذى) وليس الجمع، وهذا يبيّن أهمية تقليد الكنيسة الجامعة على أنه ممتد من المسيح بواسطة الرسل حتى الآباء كما يبدو في العبارة المكملة لهذه الجملة ” الذي أعطاه الرب وكرز به الرسل وحفظه الآباء”.

[15]التكمـيـل” هو طقس المعمودية الذي يتم به الانضمام إلى الكنيسة. وأثناسيوس هنا ينسب إلى التروبيكيين ما سبق أن نسبه إلى الآريوسيين عن عدم فاعلية المعمودية عندهم بسبب عدم إيمانهم بألوهية الابن إذ يقول في المقالة الثانية ضد الآريوسيين: “أما هؤلاء الآريوسيون فإنهم يخاطرون بفقدان إتمام السر وأعني به المعمودية لأنه أن كان إتمام السر يعطي باسم الآب والابن وهم لا يقرون بأب حقيقي بسبب إنكارهم للذي هو منه الذي هو مثله في الجوهر منكرين الابن الحقيقي ويسمون لأنفسهم ابنًا آخر… إلا يكون طقس المعمودية الذي يتمونه فارغًا تمامًا وعديم الجدوى إذ أن له مظهر خارجي، أما في الحقيقة فإنه ليس له شئ يعين على التقوى.. لأن الآريوسيين لا يعمدون باسم الآب والابن بل باسم خالق ومخلوق… فليس من يقول ببساطة “يارب” هو الذي يعطي المعمودية، بل هو ذلك الذي مع الاسم الذي يدعوه عنده أيضاً إيمان مستقيم.. ومع الإيمان يأتي إتمام المعمودية” (المقالة الثانية ضد الآريوسيين فصل 42، ترجمة الأستاذ صموئيل كامل عبد السيد، الدكتور نصحي عبد الشهيد ـ نشر مركز دراسات الآباء القاهرة 1987).

[16] نلاحظ أنه بينما دعا القديس أثناسيوس الآريوسيين في الفصل السابق يهودًا، فهو هنا يربطهم باليونانيين أي الوثنيين. فإن كانت الآريوسية تدعو إلى التوحيد فهي عمليًا تنزل إلى الوثنية فعلى الرغم من أنها ادعت بأنها تحفظ وحدانية الله باستبعاد الابن من اللاهوت، فهي من جهة أخرى قد ربطت بينه وبين الله في النعمة والمجد أي عبدته كمخلوق أو عبدت المخلوق. وفي هذا الفصل= =يطبق أثناسيوس نفس الأسلوب بخصوص الروح القدس على أساس أنه مع استدعاء الروح القدس في المعمودية مع الآب والابن، ينكرون ألوهيته ويعتبرونه مخلوقًا.

[17] أي طقس المعمودية الذي به يتم الانضمام إلى الكنيسة.

[18]الإيمان بالثالوث“: يؤكد القديس أثناسيوس على أن هذا هو الإيمان الذي يجعلنا متحدين بالله. والمعمودية تتبع هذا الإيمان. ونفس الأمر يؤكده كيرلس الأورشليمي (Cat. V. 6  )، وأيضًا القديس باسيليوس في كتابه عن الروح القدس يقول: “المعمودية والإيمان طريقان للخلاص لا ينفصلان، فالإيمان يكتمل خلال المعمودية، والمعمودية تتأسس خلال الإيمان، وكلاهما يتم بنفس الأسماء… فأولاً يأتي الإقرار بالإيمان الذي يدخلنا إلى الخلاص، وبعد الإقرار تتم المعمودية التي تختم على موافقتنا” De Sp. S. 28 . وينبغي أن نلاحظ أن أثناسيوس في تعليمه عن المعمودية يشدد على الاندماج في الحياة الإلهية الذي تمنحه لنا المعمودية بما لا يقل عن تشديده على غفران الخطايا.

[19] أي لا يكون قد انضم فعلاً إلى الكنيسة بالمعمودية.

[20] أي طقس الانضمام إلى الكنيسة بالمعمودية.

[21]إيمان واحد ومعمودية واحدة“: (انظر ضد الآريوسيين16:3 C. Ar. III.16 ). يوجد عند القديس أثناسيوس علاقة واضحة ووثيقة بين الإيمان الواحد والمعمودية الواحدة والإله الواحد. فإن كانت صحة المعمودية تعتمد على صحة الإيمان الذي تعطي على أساسه، فهذا بدوره يعتمد على التماسك الداخلي للحياة الإلهية التي يوضحها. وحدة الإيمان ليست فقط مجرد وحدة صيغة الاعتراف بالإيمان، بل تقتضي أيضاً وحدة ذلك الذي يتم الاعتراف به. انظر كيرلس الأورشليمي (Cat. XVI. 4 ). إذ يقول “نحن لا نكرز بثلاثة آلهة… بل بالابن الواحد مع الروح القدس نكرز بإله واحد. فالإيمان غير منقسم والعبادة غير مجزأة”.

[22]فهو يرد كل الأشياء إلى إله واحد، الآب”: يقصد القديس أثناسيوس أن المواهب الروحية المتنوعة وأنواع الخدم يمكن أن تجمع كلها معًا باعتبار أن مصدرها واحد هو “عمل الآب”. وواضح هنا أن القديس أثناسيوس يؤكد أن المقصود بعبارة إله واحد، هو الآب. فالفعل الإلهي وكذلك الحياة الإلهية ينبعان منه. وهذا هو أيضًا ما قصده القديس أثناسيوس من اقتباسه لعبارة الرسول بولس عندما قال: “ولكن الله واحد الذي يعمل الكل في الكل” (1كو 12: 6). وهذا هو اتجاه اللاهوت= =الشرقي عموماً الذي يرد وحدانية الثالوث إلى أقنوم الآب الذي هو الأصل وينبوع الابن والروح القدس.

[23]متنوعًا ومتجزئًا“: مواهب البركة الرسولية لا ينبغي أن تعتبر مواهب منفصلة مخصصة بالتجزئة لكل واحد من الأقانيم بمفرده. أي أن الرسول لا يقصر النعمة على المسيح أو المحبة على الآب أو الشركة على الروح القدس بحسب الصيغة الواردة في (2كو 13: 13) والتي يعلق عليها القديس أثناسيوس هنا، فإنه يحدث أحياناً أن تنسب المحبة إلى الروح القدس (غلا 5: 25). والشركة للابن (1كو 10: 16)، والنعمة لله الآب (1كو15: 10).

[24] أي يدعو الروح القدس مخلوقًا.

[25]يتنبئون بالروح القدس”: هذا التعليم للقديس أثناسيوس يأخذه منه الآباء الذين أتوا بعده. انظر ديديموس عن الروح القدس Sp. S. 29 ، وعن الثالوث II 500 ، باسيليوس عن الروح القدس Sp. S. 37  وأمبروسيوس عن الروح القدس Sp. S. II. 130  (انظر الروح القدس الكتاب الثاني ص 130- 132 نشر بيت التكريس لخدمة الكرازة، وكيرلس الأسكندرى De. Trin VII 1096 ).

[26]تعليم القديسين“: أي تعليم الكتب المقدسة. إن كلمة agioi  “القديسين” عند القديس أثناسيوس تشير عادة إلى شخصيات الكتاب المقدس أو كتبته سواء بالنسبة إلى العهد الجديد أو العهد القديم. ونجد نفس المعنى في تجسد الكلمة 57 وفي De Fug. 15 .

[27]يحاربون الروح” يبدو أن القديس أثناسيوس هو الذي نحت عبارة “محاربي الروح” على مثال “محاربي الكلمة” والتي بدورها ربما تكون على مثال “محاربي الله” التي وردت في سفر الأعمال (5: 39؛ 23: 9).

 

رسائل عن الروح القدس ج2 للقديس أثناسيوس الرسولي