آبائيات

رسائل عن الروح القدس ج5 للقديس أثناسيوس الرسولي

رسائل عن الروح القدس ج5 للقديس أثناسيوس الرسولي

رسائل عن الروح القدس ج5 للقديس أثناسيوس الرسولي

 

رسائل عن الروح القدس ج5 للقديس أثناسيوس الرسولي
رسائل عن الروح القدس ج5 للقديس أثناسيوس الرسولي

 

الـرســالة الرابـعـة

( 1 )

درست الرسالة التي كتبتموها تقواكم الآن، وقد أدهشني جداً جسارة الهراطقة حتى أني انتهيت إلى أنه لا شئ يناسب أن يقال عنهم، إلا ما نصح به الرسول “الرجل المبتدع بعد الإنذار مرة ومرتين أعرض عنه، عالماً أن مثل هذا قد انحرف وهو يخطئ محكوماً عليه من نفسه” (تي 3: 10، 11). فهو إذ له فكر ملتو، فإنه لا يسأل لكي يقتنع بما يسمعه أو لكي يغير رأيه نتيجة ما يتعلمه، ولكنه يسأل بسبب هؤلاء الذين انخدعوا، لئلا يحكم عليه منهم، إذ صمت. أن ما قلناه سابقاً يكفي. وكان يكفي لمثل هذه البراهين التي قدمت لهم، أن توقفهم عن التجديف على الروح القدس. إلا أنهم لم يكتفوا بل عاودا جسارتهم حتى لكي يظهروا أنهم بعد أن تعلموا أن يحاربوا الكلمة، يحاربون الآن ضد الروح. وبع قليل سيموتون في غباوتهم. وبالطبع فإذا أجاب أحد على أسئلتهم الحاضرة فأنهم سيصيرون “مخترعي شرور” (رو 1: 30). وإذا يطلبون فلن يجدوا وإذ يستمعون فلن يفهموا. فأية أسئلة حكيمة لهم، فهم يقولون: إن لم يكن الروح القدس مخلوقاً، فهو إذن ابن ويكون بالتالي هو والكلمة آخين، وإذن فكما كتبت أنت هم يكلمون قائلين: إن كان الروح سيأخذ مما للابن ومنه يعطي كما هو مكتوب، فإنهم يمضون مباشرة قائلين: عندئذ يكون الآب جداً والروح حفيداً.

 

( 2 )

فمن حينما يسمع هذه الأمور يظل يعتبرهم مسيحيين، وليسوا بالحرى عبدة أوثان؟ لأن مثل هذه الأمور، يتكلم بها عبدة الأوثان فيما بينهم ضدنا. فمن هو الذي يريد أن يجاوب على غباوتهم هذه؟ فأنني من جهتي، إذ قد فكرت كثيراً، وطالباً إجابة مناسبة لهم، فأني لم أجد سوى ذلك الذي حدث مع الفريسيين في ذلك الوقت. لأنه كما أن هؤلاء عندما سألوا المخلص بخبث، سألهم هو أيضاً، لكيما يدركوا شر أفكارهم، وهكذا فحيث أن هؤلاء يسألون مثل هذه الأسئلة فعليهم أن يخبرونا بل بالحرى فليجاوبونا، عندما نسألهم كما سألوا لأنهم إذ يتكلمون لا يفهمون إبداعاتهم، فربما عندما يسمعون قد يتحققون من غباوتهم. فإن لم يكن الروح القدس مخلوقاً، بل هو من الله، وهو معطى من الله، وإذن فهو ابن، ويكون هناك أخوان هو والابن، فإن كان الروح من الابن، والروح يقبل كل الأشياء من الابن كما قال الابن نفسه، وإذ هو الذي أعطاه للتلاميذ نافخاً فيهم (انظر يو 20: 22)، لأنكم أنتم أيضاً تعترفون بهذا، وبالتالي يكون الآب جدا ويكون الروح حفيده. ولذلك يحق لنا أن نسألكم نفس الأسئلة التي تسألونها وتطلبونها منا. فإن كنتم تنكرون ما هو مكتوب فلا تدعون مسيحيين بعد، ويكون من المنطق أننا نحن المسيحيين نسأل منكم. ولكن إن كنتم تقرءون نفس الكتب، التي تقرؤها نحن، فهكذا يكون من الضروري أن تسألوا منا عن نفس الأمور. وإذن فأخبرونا دون أن تفكرا فيما إذ كان الروح هو ابن والآب هو جد. ولكن إن كنتم تفكرون كما فعلا الفريسيون في ذلك الوقت، وتقولون فيما بينكم إن قلنا أنه ابن فسوف نسمع. أين كتب هذا؟ وأما إذا قلنا، أنه ليس أبناً فإننا نخاف لئلا يقولوا لنا كيف إذن كتب: نحن لم نأخذ روح العالم بل الروح الذي من الله؟ (1كو 2: 12). ولكن أن كنتم حينما تتجادلون فيما بينكم في مثل هذه الأمور، تقولون أيضاً نحن لا نعرف: فإنه من الضروري بالنسبة لمن يسأل منكم أن يصمت مقتنعاً بذاك الذي يقول “لا تجاوب الجاهل حسب حماقته لئلا تصير مثله” (أم 26: 4). فالصمت هو بالحرى أنسب جواب عليكم لكي تتحققوا من الجهل الذي فيكم.

 

( 3 )

مرة ثانية إذن، فإنه من العدل أن نسألكم، من نفس الأسئلة التي تسألونها. وحيث أن الأنبياء يتكلمون بواسطة روح الله، وأيضاً الروح القدس، يتنبأ في أشعياء كما تبين مما كتبناه سابقاً وإذن فالروح هو كلمة إلهية، وعلى ذلك يوجد كلمتان الروح والابن، لأن الأنبياء كانوا يتنبأون حينما تصير الكلمة إليهم. وأيضاً فبالإضافة إلى ذلك، وحيث أن كل الأشياء قد صارت بواسطة الكلمة، “وبغيره لم يكن شئ مما كان” (يو 1: 3)، وأيضاً “الرب بالحكمة أسس الأرض” (أم 3: 19)، وقد خلق كل الأشياء بالحكمة (مز 103: 24)، لأنه قد كتب كما تبين لنا سابقاً “ترسل روحك فتخلق الأشياء” (مز 103: 30). وإذن فأما أن يكون الروح هو الكلمة، أو أن الله خلق كل الأشياء باثنين (أي) بالحكمة والروح.  فكيف إذن قال بولس “إله واحد الذي منه كل الأشياء، ورب واحد، الذي بواسطته كل الأشياء” (1كو 8: 6). وأيضاً حيث أن الابن هو صورة الآب غير المنظور (انظر كو 1: 15)، فيكون الروح هو صورة الابن لأنه مكتوب: “لأن الذين سبق فعرفهم سبق فعينهم ليكونوا مشابهين صورة ابنه” (رو 8: 29).

وعلى هذا الأساس، يكون الآب جداً، وحيث أن الابن قد أتي باسم الآب، وقد قال الابن “الروح القدس الذي سيرسله الآب باسمي” (يو 14: 26)، فعلى هذا النحو أيضاً يكون الآب جداً. فماذا عندكم من جهة هذا وأنتم الذين تقولون كل شئ بدون ترو؟ فبأي شئ تتحاورون فيما بينكم؟ هل تنتقدون مثل هذه الأسئلة، وأنتم ترون أنفسكم في حالة ارتباك؟ ولكن أولاً لوموا أنفسكم لأنكم اعتدتم أن تسألوا مثل هذه الأسئلة، فاخضعوا للكتب المقدسة، وإذا تحيرتم في الإجابة فلتتعلموا في النهاية أن الروح لم يسم أبناً، ولكنه دعى الروح القدس أو روح الله. وكما أن الروح لم يسم ابناً، فهكذا لم يكتب عن الابن أنه هو الروح القدس. وإذن فحيث أن الروح لم يسم أبناً، ولا الابن هو الروح، فهل الإيمان يتناقض مع الحق؟ حاشا. ولكن بالأحرى فكل من المسميات المذكورة له معناه الخاص. لأن الابن هو المولود الذاتي لجوهر الآب وطبيعته. وهذا هو مدلول المسمى. فالروح الذي يدعى روح الله، وهو في الله، ليس غريباً عن طبيعة الابن ولا عن ألوهية الآب.

لذلك فهناك ألوهية واحدة في الثالوث أي في الآب وفي الابن وفي الروح القدس نفسه، وفي الثالوث نفسه معمودية وإيمان واحد. فعندما يرسل الآب الروح، فالابن بواسطة النفخ في التلاميذ يعطيهم الروح لأن “كل ما للآب هو للابن” (يو 16: 15). وحينما جاء الكلمة إلى الأنبياء، كان هؤلاء يتنبئون بالروح، كما هو مكتوب وكما قد تبين “بكلمة الرب صنعت السموات وبنسمة فيه كل جنودها” (مز 34: 6).

 

( 4 )

وهكذا فالروح ليس مخلوقاً بل هو خاص بجوهر الكلمة، وخاص بالله، والذي يقل أنه كائن فيه. ومرة أخرى يجب أن لا نتجنب تكرار نفس الكلام، ورغم أن الروح القدس لا يدعى أبناً، ولكنه ليس خارج الابن لأنه قد دعى روح التبني وكما أن “المسيح هو قوة الله وحكمة الله” (1كو 1: 24)، لذلك قيل عن الروح أنه “روح الحكمة وروح القوة” (أش 11: 2). وحينما نشترك في الروح، يكون الابن لنا، وحينما يكون الابن لنا، يكون الروح لنا “صارخاً في قلوبنا أباً أيها الآب” كما قال بولس (غلا 4: 6). ولكن حيث أن الروح هو روح الله، وقد كتب عنه أنه فيه لأن “أمور الله لا يعرفها أحد إلا روح الله الذي فيه” (1كو 2: 11)، وأيضاً قال الابن “أنا في الآب، والآب فيَّ” (يو 14: 10). فلماذا لا يكون لهذا وذاك نفس الاسم، ولكن الواحد هو ابن والآخر هو روح؟ فأن سأل أحدهم مثل هذا السؤال، فإن مثل هذا يكون مجنوناً، إذ أنه يفحص الأمور التي لا تفحص، ولا ينصت لقول الرسول: “من عرف الرب أو من صار له مشيراً” (رو 11: 24). ومن ذا يتجاسر أن يغير اسم من سماه؟ وإلا فدعه يعطي أسماء للأشياء المخلوقة، وحيث أن الخليقة قد وجدت بنفس الأمر، فليقولوا لنا، لماذا دعى الواحد منها شمساً والآخر سماء، والآخر أرضاً، وبحراً، وهواء.

ولكن أن وجد الأغبياء أن هذا غير ممكن – لأن كل مخلوق يبقى كما خلق – فبالأولى جداً، فإن الأشياء التي هي أعلا من المخلوقات يكون ثباتها أبدياً، فلا يكون الآب إلا أباً وليس جدا، والابن هو ابن الله وليس أباً الروح، والروح القدس هو روح قدس وليس حفيد الآب أو أخ الابن.

 

( 5 )

وإذا قد برهنا على هذه الأمور، فإن من يسأل: هل الروح ابن أيضاً؟ فأنه يكون مجنوناً، ولا ينبغي لأي أحد بسبب أن هذا لم يكتب، أن يفصله عن طبيعة الله أو عما يخصه. بل كما مكتوب فليؤمن ولا يقول لماذا هكذا وليس هكذا؟ لئلا وهو يناقش مثل هذه الأمور، يبدأ يفكر ويقول أين أذن هو الله وكيف يكون؟ فسوف يسمع أخيراً “قال الجاهل في قلبه ليس إله” (مز 13: 1س) . لأن المسلمات التي تعطي بالإيمان، تكون معرفتها مما لا يمكن التطفل عليه. وإذ سمع التلاميذ الكلمات: “وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس” (متى 28: 19)، لم يتطفلوا أو يسألوا، لماذا ذكر الابن كثاني والروح كثالث، أو لماذا يكون الكل ثالوثاً. ولكنهم كما سمعوا هكذا آمنوا ولم يسألوا مثلكم: هل الروح إذن ابن؟ وحينما ذكر الرب الروح بعد الابن، لم يسألوا هل الآب إذن جد، لأنهم لم يسمعوا “باسم الجد” بل “باسم الآب”.

وإذا فكروا تفكيراً سليماً، كرزوا بهذا الإيمان في كل مكان. لأنه لم يكن ممكناً أن يقال شئ آخر سوى ما قاله المخلص: أنه هو نفسه الابن، والآخر هو الروح القدس. كما أن الترتيب الذي رتبوا به، غير قابل للتغيير كما هو الأمر بالنسبة للآب أيضاً(1). وكما أنه من غير الممكن التحدث عنه بطريقة أخرى سوى أنه آب، هكذا يكون من عدم التقوى التساؤل أن كان الابن هو الروح، أو أن الروح هو ابن. ومن أجل هذا حكم على سابيليوس أنه عدو للكنيسة إذ أنه تجاسر أن يقول على الآب أنه الابن، ويطلق على الابن اسم الآب. 

هل يجرؤ أحد بعد ذلك أن يقول، حينما يسمع كلمتي أبن وروح، أن الآب جد؟ أو أن الروح هو ابن؟ نعم، أنهم سيتجرؤن هؤلاء هم الأونوميون والآودوكسيون واليوسابيون. ولكونهم مروجين للبدعة الآريوسية، فأنهم لا يضبطون ألسنتهم عن الكفر. فمن هو الذي سلم هذه الأمور إليهم؟ ومن هو الذي علمهم؟ فبالتأكيد لم يتعلموا هذا من أحد الأسفار الإلهية، بل من فيض قلوبهم خرج هذا الجنون.

 

( 6 )

وحيث أنه قد تبرهن أن الروح ليس مخلوقاً، فإن كنتم تسألون، هل الروح أذن هو ابن؟ فعندئذ يلزمكم أن تسألوا أيضاً هل الابن هو آب؟ لأنكم قد تعلمتم سابقاً أن الابن ليس مخلوقاً، إذ أن الأشياء المخلوقة قد خلقت به. أو تتساءلون هكذا: هل الروح أذن ابن، والابن أيضاً هو الروح القدس؟ ولكن كانوا هكذا يفكرون، فأنهم يصيرون مبعدين عن الثالوث القدوس ويحكم عليهم بأنهم بلا إله، لأنه يغيرون اسم الآب والابن والروح القدس، وبحسب مشيئتهم ينظرون إليهم بشبه التناسل البشري، داعين إياهم حفدة  وأجداداً صانعين من جديد لأنفسهم أنساب آلهة الوثنيين.

ليس هذا هو إيمان الكنيسة، بل كما قل المخلص: بالآب والابن والروح القدس. الآب الذي لا يمكن أن يدعى جدا، والابن الذي لا يمكن أن يدعى أباً، والروح القدس الذي لا يسمى باسم آخر غير هذا. وفي هذا الإيمان لا تجوز مبادلة الأسماء. فالآب هو دائماً آب والابن هو دائماً ابن، والروح القدس يدعى دائماً الروح القدس. وأما فيما يختص بالعلاقات البشرية فالأمر ليس هكذا، حتى وأن كان هذا هو ما يتوهمه الآريوسيون “فالله ليس مثل الإنسان” كما هو مكتوب (عد 23: 10). حتى أنه يمكننا أن نقول أن البشر ليسوا  مثل الله. لأنه فيما يتصل بالبشر فالآب ليس دائماً أباً ولا الابن دائماً أبناً لأن الذي كان أبناً لآخر يصير هو نفسه أباً لابن، والابن الذي هو ابن لأبيه يصير أباً لابن آخر. فإبراهيم إذن قد كان أبناً لناحور، صار أباً لأسحق. وأسحق وقد كان أبناً لإبراهيم صار أباً ليعقوب لأن كل واحد منهم إذ هو جزء من والديه يولد ويصير هو نفسه أباً لابن آخر. أما بالنسبة إلى الألوهية فليس الأمر كذلك، لأن الله ليس مثل الإنسان. فالآب لم يولد من آب آخر، ولذلك فهو لا يلد أبناً يصير أباً لآخر. وليس الابن جزءاً من الآب، ولذلك فهو لم يولد ليلد أبناً. وإذن ففي الألوهية وحدها الآب هو آب، وقد كان، ويظل دائماً كما هو، لأنه هو الآب بحصر المعنى. وهو آب فقط. والابن هو ابن بحصر المعنى، وهو ابن فقط. ويثبت القول أن الآب هو آب ويدعى دائماً أباً. والابن هو ابن. والروح القدس هو دائماً الروح القدس، وهو الذي قد آمنا به أنه من الله وأنه يعطي من الآب بواسطة الابن. وهكذا فالثالوث القدوس يظل غير قابل للتغير ويعرف في ألوهية واحدة. ولذلك فالذي يسأل هل الروح إذن ابن؟ كما لو كان الاسم يمكن أن يتغير، فهو واهم ويجعل نفسه مجنوناً، والذي يسأل هل الآب أذن جد، فبابتداعه اسماً للآب يضل في قلبه. وليس من الأمان أن نعطي جواباً أكثر من ذلك على صفاته الهراطقة لأن ذلك يتعارض مع وصية الرسول(1). لأنه من الأفضل بالحرى أن تعطي المشورة كما أوصى بها.

 

( 7 )

هذا الكلام يكفي لتوبيخ أقوالكم الحمقاء فلا تعودون تعبثون بعد بالألوهية فمن  شأن أولئك الذين يعبثون أن يسألوا عما هو غير مكتوب، وأن يقولوا: هكذا فالروح هو ابن والآب هو جد. وعلى هذا النحو يسخر الذي من قيصرية والذي من سكيثوبوليس(2). فيكفي لكم أن تؤمنوا أن الروح ليس مخلوقاً بل هو روح الله، وأن في الله ثالوثاً، آب وابن وروح قدس. وليس هناك حاجة لإطلاق اسم الآب على الابن، كذلك ليس مسموحاً أن نقول أن الروح أنه ابن، ولا أن نقول عن الابن أنه هو الروح القدس، بل هو هكذا كما قد ذكرنا. فألوهية الثالوث واحدة، وإيمان واحد، وتوجد معمودية واحدة تعطي فيه. وواحد هو التكميل(3). في يسوع المسيح ربنا. الذي به ومعه للآب مع الروح القدس المجد والقوة إلى كل دهر الدهور آمين.

تكملة الرسالة الرابعة(1):

 

( 8 )

أما بخصوص كلمات الإنجيل التي نبهتني إليها في خطابك، فأنني بضمير صالح (1بطرس 3: 16) أرجوك أن تغفر لي. أنني أتهيب الاقتراب من كلمات الإنجيل لأن انشغالي الشديد في البحث عن معناها سيؤدي إلى عدم قدرتي على الوصول إلى معنى كلمات الإنجيل العميقة. ولهذا السبب وحده ظننت أنني سوف أتجاوز عن سؤالك واكتفى بما كتبت عن الروح القدس من قبل. ولكن حتى لا ترغمني على الكتاب مرة أخرى في نفس الموضوع ضغطت على نفسي لكي أكتب القليل الذي أفهمه والذي تعلمته. ولو وصلت إلى إيضاح الموضوع فسوف تشعر أنت بالرضا، أما إذا أخفقنا فسوف لا تلومنا لأنك تعلم حسن قصدنا بل وضعفنا أيضاً. هذه هي الكلمات التي تسأل عن معناها: بعد أجراء معجزات كثيرة كما ذكر الإنجيل قال الفريسيون “هذا الإنسان يخرج الشياطين ببعلزبول رئيس الشياطين” والرب الذي عرف أفكارهم قال لهم “كل مملكة منقسمة على ذاتها تخرب” (متى 12: 24- 25). وبعدها مباشرة قال “إن كنت بروح الله أخرج الشياطين فقد جاء عليكم ملكوت الله” (متى 12: 28). ثم ختم بقوله “كل خطية وتجديف يغفر أما التجديف على الروح القدس فلا مغفرة له لا في هذا الدهر ولا في الدهر الآتي أيضاً” (متى 12: 31- 32).

ومن هنا جاء سؤالك: لماذا يغفر التجديف على الابن؟ ولماذا لا يغفر التجديف على الروح القدس لا في هذا الدهر ولا في الدهر الآتي أيضاً؟

 

(  9 )

لقد قرأت ما كتبه الآباء وبالذات الحكيم والمجاهد أورجينوس والعجيب المجاهد ثيئوغنوستس. وأطلعت على كتبهم لأرى ماذا قالوا بخصوص هذا الموضوع. كلاهما قال أن التجديف على الروح القدس يحدث عندما يعود الذين حصلوا على نعمة الروح القدس في المعمودية إلى الخطية. ولذلك يتفق كلاهما مع الآخر على عدم وجود مغفرة، مستندين إلى ما ذكره بولس في الرسالة إلى العبرانيين “أنه من المستحيل لمن استنيروا……” (عبرانيين 6: 4- 6). عند هذه النقطة كل منهما يتحدث مثل الآخر تماماً.

( 10 )

يشرح أورجينوس سبب دينونة هؤلاء بهذه الكلمات الله الآب يحل في كل شئ ويضبط كل الكائنات الحية وغير الحية أي التي لها نعمة العقل والتي ليس لها نعمة العقل. أما الابن فهو يشمل بقوته الذين لهم نعمة العقل فقط مثل الموعظين والوثنيين الذين لم يأتوا بعد إلى الإيمان. أما الروح القدس فهو يسكن فقط في الذين قبلوه في المعمودية. ولذلك عندما يخطئ الموعظون أو الوثنيون فأن خطيئتهم هي ضد الابن فقط، لأنه هو فيهم كما ذكر – أورجينوس – ولذلك يمكنهم الحصول على المغفرة عندما يكرمون بنعمة الميلاد الثاني. ولكن عندما يخطئ المعمد فأن الخطية بعد المعمودية موجهة ضد الروح القدس الذي يسكن في الذين عمدوا، ولذلك لا مناص من العقاب.

 

( 11 )

أما ثيئوغنوستس فهو كما ذكرت يتبع نفس شرح أورجينوس ويقول أن الذي يتخطى الحاجز الأول والثاني يستحق عقوبة أقل. ولكن الذي يتخطى الحاجز الثالث لا يمكن أن يحصل على مغفرة. وهو يدعو التعليم الخاص بالآب والابن بالحاجزين الأول والثاني. أما الحاجز الثالث فهو التعليم الذي يقال في المعمودية والخاص بالروح القدس، ولكي يؤكد ثيئوغنوستس هذا الشرح أقتبس كلمات الرب للتلاميذ “عندي أشياء كثيرة لأخبركم ولكنكم لا تحتملون بعد، ولكن متى جاء الروح القدس فهو سيعلمكم” (يو 16: 12- 13). وقال ثيئوغنوستس عن هذه الكلمات أن المخلص تحدث مع أناس لا يمكنهم أن يقبلوا التعاليم الكاملة ولذلك نزل إلى مستواهم غير الكامل. أما الذين تكلموا فهم الذين قبلوا الروح القدس في المعمودية. والتعليم الكامل هو من نصيب الذين حل فيهم الروح القدس.

لكننا نحذر كل من يقرأ هذه الكلمات من عدم فهمها بصورة سليمة، إذ لا يجب أن يظن أحد أن التعليم عن الروح القدس أسمى من التعليم عن الابن مادام الابن قد نزل إلى مستوى غير الكاملين بينما الروح القدس هو “ختم الكمال”. كما علينا أيضاً أن نحذر من الظن بأن الروح أسمى من الابن طالما أن التجديف على الروح بلا مغفرة. ولكن المغفرة لغير الكاملين (غير المعمدين) أما الذين ذاقوا الموهبة السماوية وصاروا كاملين فلا مغفرة لهم ولا صلاة يمكنها أن تسهل لهم المغفرة. هذا ما ذكره هذان الكاتبان المجاهدان.

 

( 12 )

أما عن نفسي فحسب ما تعلمت، أعتقد أن رأى كل منهما يتطلب فحصاً ومراجعة دقيقة لأن كلمات الإنجيل الخاصة بالتجديف عميقة.

في الحقيقة واضح أن الابن في الآب وبالتالي فهو في الذين فيهم الآب أيضاً. والروح القدس ليس غائباً عن الآب والابن لأن الثالوث القدوس المبارك غير منقسم. وزيادة على ذلك إذا كان كل شئ قد خلق بالابن (يوحنا 1: 3) وفيه كل الأشياء توجد (كولوسى 1: 17). فهو ليس كائناً خارج الأشياء التي جاءت إلى الوجود بواسطته. فكل المخلوقات ليست غريبة عنه. هو بالطبيعة في كل شئ وبالتالي كل من يخطئ ويجدف على الابن يخطئ ويجدف على الآب والروح القدس. ولو كان حميم الميلاد الثاني قد أعطى باسم الروح القدس فقط لكان من المعقول أن نقول أن الذي عمد إذا أخطأ بعد المعمودية يخطئ ضد الروح القدس وحده. ولكن لأن المعمودية تعطي باسم الآب والابن والروح القدس فكل معمد يقبل المعمودية باسم الثالوث وبذلك يصبح واضحاً أن كل من يجدف بعد المعمودية قد جدف على الثالوث الأقدس، وهذا هو التعليم الحقيقي الذي يجب أن نقبله.

ولو كان هؤلاء الذين تحدث معهم الرب أعني الفريسيين قد قبلوا حميم الميلاد الثاني وحصلوا على نعمة الروح القدس، لكان التفسير السابق لكل من أورجينوس وثيئوغنوستس مقبولاً. لأن الرب لم يكن يتكلم مع أناس ارتدوا وجدفوا على الروح القدس، لأننا إذا تذكرنا، لم يكن هؤلاء الناس أي الفريسيين معمدين، بل حتى معمودية يوحنا احتقروها ورفضوها (متى 21: 15- 27). فكيف يمكن اتهامهم بالتجديف على الروح القدس وهم لم يحصلوا عليه بعد؟ ولذلك لم ينطق الرب بهذه الكلمات لكي يعلم عن الخطية بعد المعمودية، كما أنه لم يكن كذلك يهدد بعقوبة أولئك الذين سيخطئون في المستقبل بعد المعمودية، بل قال هذه الكلمات بطريقة مباشرة وصريحة ضد الفريسيين لأنهم أذنبوا فعلاً وسقطوا في هذا التجديف الفظيع. لقد أتهمهم الرب بطريقة واضحة بالتجديف وهم لم يقبلوا المعمودية. فأن هذه الكلمات ليست موجهة ضد الذين يخطئون بعد المعمودية، خصوصاً وأن الرب لم يكن يشتكيهم بخطايا عامة ولكن بالتجديف بالذات وهناك فرق بين الذي يخطئ ويتعدى الناموس والذي بسبب عدم تقواه يجدف على الله نفسه.

وقبل ذلك أتهم الرب الفريسيين بخطايا أخرى مثل محبة المال التي من أجلها أبطلوا الوصية الخاصة بالوالدين، ورفضوا كلمات الأنبياء وجعلوا بيت الله بيت تجارة، وفي كل هذا أنتهرهم المخلص لكي يتوبوا. أما عندما قالوا أنه ببعلزبول يخرج الشياطين، لم يقل لهم ببساطة أنهم يخطئون بل أنهم يجدفون بصورة شنيعة تستوجب العقاب وتجعل المغفرة مستحيلة لأنهم تمادوا إلى حيث لا حدود لخطئهم.    

 

( 13 )

وزيادة على ذلك، لو كانت هذه الكلمات موجهة ضد الذين يخطئون بعد المعمودية وهؤلاء لا مغفرة لهم فكيف أظهر الرسول محبة نحو التائب في كنيسة كورنثوس؟ (2كورنثوس 2: 8). وماذا عن الغلاطيين الذين أرتدوا (غلاطية 4: 9) والذين تألم الرسول لكي يولدوا ويتكون فيهم المسيح مرة ثانية؟ (غلاطية 4: 19). أو عندما يقول أنهم كملوا في الروح مرة ثانية. وكيف نلوم نوفاتوس الذي يمنع التوبة ونعترض على قوله بأن الذين يخطئون بعد المعمودية لا مغفرة لهم طالما أن هذه الكلمات الإنجيلية تؤيد تعليم نوفاتوس وهي موجهة إلى الذين يخطئون بعد المعمودية. وحتى كلمات الرسالة إلى العبرانيين (عبرانيين 6: 4 – 6) لا تمنع توبة الخطاة بل تشير إلى أن معمودية الكنيسة الجامعة تعطي مرة واحدة ولا يمكن أن تتكرر ويجب أن نلاحظ أنه للعبرانيين بالذات كتب الرسول هذه الكلمات لأنه خاف عليهم من التظاهر بالتوبة وأنهم بسبب تمسكهم الشديد بالناموس الموسوى وشريعة التطهير سيظنون أنه توجد فرصة لمعموديات يومية متكررة كما في (مرقس 7: 3- 4). ولذلك يشجعهم على التوبة ويعلن أن التجديد في المعمودية هو تجديد فريد لا يعاد. وفي رسالة أخرى يقول “إيمان واحد، معمودية واحدة” (أفسس 4: 5). وهو لا يقول أنه من المستحيل أن يتوب الساقط بل من المستحيل أن نصنع نحن تجديداً لأنفسنا بالتوبة والفرق كبير، لأن من يتوب يكف عن الخطية ولكن أثار جروحه تظل ظاهرة بعكس من يعتمد يخلع العتيق ويتجدد (كولوسى 3: 9- 10) بل ويولد مرة ثانية بنعمة الروح القدس (يوحنا 3: 3).

 

( 14 )

وعندما أفكر في هذه الأشياء أجد في الكلمات السابقة عمقاً عظيماً ولذلك بعد أن صليت بلجاجة للرب الذي جلس عند البئر (يوحنا 4: 6) ومشى على المياه (متى 14: 25) أعود إلى تدبير الخلاص الذي تم راجياً أن أكون قادراً على أن أملأ دلوي من معاني الكلمات الإنجيلية التي نبحثها.

كل الكتب الإنجيلية وبالذات يوحنا تخبرنا عن التدبير الإلهي “الكلمة صار جسداً وسكن فينا” (يوحنا 1: 14) وبولس عندما يكتب: “الذي إذ كان في صورة الله لم يحسب مساواته لله اختلاساً بل أخلى ذاته وأخذ صورة عبد وصار في شبه الناس” (فيلبي 2: 6- 8). ولأنه الإله الذي أخلى ذاته وصار إنساناً، أقام الموتى وشفى المرضى، وبكلمته حول الماء خمراً…… وهذه كلها أعمال ليست من قدرة البشر. ولكنه جاع وعطش وتألم لأنه أخذ جسداً وكل أعمال الجسد ليست من صفات اللاهوت. كإله قال “أنا في الآب، والآب فيَّ” (يوحنا 14: 11) ولأنه أخذ جسداً حقاً وبكل يقين، انتهر اليهود قائلاً “لماذا تطلبون أن تقتلوني وأنا إنسان قد أخبركم بالحق الذي سمعه من الآب” (يوحنا 8: 40). ورغم كونه إلهاً إلا أنه لم يقم بهذا المعجزات مرة واحدة لأنه تجسد وكان عليه أن يواجه الاحتياجات والظروف المرتبطة بحياته كإنسان. لكن لم تكن أعمال الجسد تتم بدون اللاهوت أو أعمال اللاهوت تتم بدون الجسد بل على العكس كل أعماله صنعها الرب الواحد، الذي أكمل كل شئ في سر نعمته. وعلى سبيل المثال، بصق على الأرض كما يبصق كل الناس. لكن لعابه وحده كان فيه قوة إلهية لأنه وبه به البصر لعيني المولود الأعمى (يوحنا 9: 6). ورغم أنه الإله إلا أنه تكلم بلغة بشرية وقال “أنا والآب واحد” (يوحنا 10: 30). وبإرادته منح الشفاء (متى 8: 3). ولكن عندما مد يده الإنسانية. أقام حماة سمعان بطرس من الحمى (مرقس 1: 31) وبنفس اليد أقام من الموت أبنة رئيس المجمع (مرقس 5: 4).

 

( 15 )

وقد أخطأ الهراطقة كل حسب مقدار جهله. البعض منهم نسب كل ما حدث من الرب لجسده (أي كإنسان) وتعاموا عن القول الإلهي “في البدء كان الكلمة” (يوحنا 1: 1). والبعض نسب ما حدث إلى لاهوته فقط، ولم يفهموا القول “الكلمة صار جسداً” (يوحنا 1: 14). لكن المؤمن الذي يتبع تعليم الرسل يعرف غنى الرب ومحبته للبشر. وعندما يرى أعماله العجيبة الإلهية يمجد الرب الذي ظهر في الجسد. وعندما يرى أعمال الجسد يتعجب ويرى فيها القوة الإلهية التي تعمل…… هذا هو  إيمان الكنيسة، ولذلك إذا ثبت البعض عيونهم على الجانب الإنساني في حياة الرب وشاهدوه يختبر الجوع والتعب والألم يتحدثون عنه بدون تقوى كمن يتحدث عن إنسان فقط، فيخطئون بذلك خطية عظيمة. وبلا شك أن لم يتأخروا  في التوبة يمكنهم الحصول على المغفرة لأن ضعفهم الإنساني هو عذر لهم. وحتى الرسول يمنحهم المغفرة وبطريقة ما يمد يده إليهم لأنهم بالحق يقول “وبدون جدل، عظيم هو سر التقوى الله ظهر في الجسد” (1تيموثاوس 3: 16). وعندما يرى البعض أعمال اللاهوت يترددون في الاعتراف بإنسانيته وهذا خطأ بالغ ويتوهمون عندما يقرأون أن الرب يأكل ويتألم أنه خيال، هؤلاء إذا لم يتأخروا في التوبة سيغفر لهم يسوع لأنهم لا يفهمون أعماله الفائقة التي أتمها في الجسد. وإذا فحصنا جهل هؤلاء وأولئك أي الذين يخطئون ولهم معرفة بالناموس مثل الفريسيين أو الذين يستسلمون للجنون وينكرون وجود الكلمة في الجسد، أو يذهبون إلى أبعد من هذا عندما ينسبون أعمال اللاهوت إلى الشيطان وجنوده. فأنه من العدل أن تكون عقوبة عدم تقواهم هي عدم المغفرة لأنهم اعتبروا الشيطان مثل الله وحسبوا أن من هو بالحقيقة الله، لا شئ في أعماله يدل على ألوهيته، بل أنه الشيطان يستخدم أعوانه.

 

( 16 )

وإلى هذا الدرجة السفلى من عدم التقوى انحدر اليهود في ذلك الزمان وبالذات الفريسيون منهم. ورغم أن الرب كان يقوم بأعمال الآب علانية، فهو أقام الموتى ومنح النظر للعميان وجعل العرج يمشون وفتح آذان الصم وجعل الخرس يتكلمون معلناً أن الخليقة العاقلة وغير العاقلة خاضعة له لأنه هو الذي أمر الريح ومشى على البحر، والجموع عاينت هذا وامتلأت بالدهشة ومجدت الله، إلا أن الفريسيين قالوا أن هذه أعمال بعلزبول، ومن فرط جنونهم لم يخجلوا من أن يعطوا للشيطان قوة الله. وأمام هذا أعلن الرب بالحق أن تجديفهم بلا مغفرة، لأنهم عثروا في كل ما يختص بإنسانيته وكان لهم في المسيح كإنسان، رأي شرير، وإذ قالوا “أليس هذا ابن النجار” (متى 13: 55) وكيف يفهم الكتب وهو لم يدرسها (يوحنا 7: 15)، وما هي المعجزات التي “تعملها لنؤمن بك” (يو 6: 30) و “لينزل عن صليبه الآن لنرى ونؤمن” (متى  27: 42). وقد احتمل الرب كل هذا، وسمى الإنجيل مثل هذه الأقوال بالتجديف على ابن الإنسان، وتألم الرب من قساوة قلوبهم (مرقس 3: 5) وقال لو كنتم تعلمون ما هو سلامكم (لوقا 19: 42). وغفر الرب لبطرس عندما تكلمت معه الجارية عن يسوع كإنسان وأجاب بطرس بطريقة لا تختلف عن رأي الجارية وكلامها، ولكن الرب غفر له عندما بكى بدموع. أما عندما سقط الفريسيون إلى أدنى من كل هذا وتفوهوا بما هو أشر من كل ما سبق، حتى أنهم قالوا أن أعمال الله هي أعمال بعلزبول لم يحتملهم لأنهم جدفوا على روحه بقولهم أن من يعمل هذه الأعمال ليس الله ولكنه بعلزبول. ولهذا السبب استحقوا عقوبة أبدية. وفي الحقيقة أن جرأتهم زادت عن الحد وعندما رأوا ترتيب العالم والعناية به نسبوا  الخلق إلى بعلزبول، حتى أن الشمس صارت بحسب قولهم تحت سلطان الشيطان وأصبح الشيطان هو الذي يحرك النجوم في السماء، لأن كل أعمال الآب كخالق، عملها يسوع فإذا قالوا أن أعمال يسوع هي أعمال بعلزبول، فكيف إذن يفهمون القول الإلهي “في البدء خلق الله السموات والأرض” (تكوين 1: 1) ولكن مثل هذا الجنون ليس غريباً عنهم لأن آباءهم أظهروا نفس الطباع، فبعد خروجهم من مصر صنعوا العجل الذهبي في البرية ونسبوا إليه المعجزات والبركات التي أخذوها من الله وقالوا “هذه آلهتك يا إسرائيل التي أخرجتك من أرض مصر” (خروج 32: 4) وبسبب هذا التجديف الذي أرتكبه أولئك المجانين تم فناء الكل في البرية وأعلن الله أنه في يوم افتقاده “سوف يجلب شرهم عليهم” (خروج 32: 34). وعندما اشتكوا من انعدام الخبز والماء اهتم بهم تماماً مثل المرضعة برضيعها، ولكنهم زادوا الشكوى إلى الحد الذي وصفه الروح القدس في المزامير “أبدلوا مجده بصورة العجل الذي يأكل الحشيش” (مزمور 105: 20). وعندما اجترأوا على ارتكاب مثل هذا العمل الذي لا مغفرة له ضربهم الرب كما يقول الكتاب بسبب العجل الذي سبكه هارون (خروج 32: 35).

 

( 17 )

وتصرف الفريسيون بنفس الوقاحة ولذلك أخذوا من الرب عقوبة مماثلة بل هي عقوبة مثل عقوبة بعلزبول نفسه الذي تحدثوا عنه، كي يحترقوا معه بنار أبدية.

ولم يكن الرب يقصد بما قاله في الإنجيل أن يقارن بين التجديف الموجه ضده والتجديف الموجه للروح القدس ولا أشار ولو من بعيد أو بطريق غير مباشر إلى أن الروح القدس أسمى منه ولا لأن التجديف على الروح أخطر، نطق الرب بهذه الكلمات – حاشا – لأنه علم من قبل أن كل ما هو للآب فهو للابن، وأن الروح يأخذ من الابن وبذلك يمجد الابن (يوحنا 16: 14- 15). والروح لا يعطي الابن بل الابن هو الذي يعطي الروح وقد أعطاه لتلاميذه وبهم لم يؤمنون به بواسطتهم. ولم يكن الرب يقارن نفسه بالروح عندما قال هذه الكلمات، كما أنها لا تعني أن الروح أسمى من الرب، فهذا سوء فهم لكلمات المخلص. والتجديف بنوعيه موجه بالضرورة للروح القدس. والنوع الأول من التجديف محتمل أما النوع الثاني فهو خطير. وقد أرتكب الفريسيون نوعي التجديف لأنهم رأوه إنساناً فأهانوه بقولهم “من أين له هذه الحكمة” (متى 13: 54). وقولهم: أنت لم تبلغ بعد من العمر ثلاثين سنة فكيف رأيت إبراهيم (يوحنا 8: 57). ورغم أنهم رأوا أعمال الآب فيه إلا أنهم لم يرضوا بألوهيته. وبدلاً من هذا قالوا أن بعلزبول فيه، وأن هذه الأعمال هي أعمال بعلزبول، وبذلك أصبح تجديفهم بنوعية موجه ضده. والنوع الأول أقل خطورة بسبب العذر الواضح وهو إنسانيته، أما النوع الثاني فهو أكثر خطورة لأنه إهانة موجهة إلى ألوهيته. ومثل هذا التجديف الخطير هو الذي استدعى عقوبة عدم المغفرة. ومن الواضح أن الرب كان يشجع التلاميذ عندما قال لهم “إذا كانوا قد دعوا رب البيت بعلزبول” (متى 10: 25) وأكد هنا أنه رب البيت الذي جدف عليه اليهود.

 

( 18 )

أما اليهود فعندما قالوا عنه “بعلزبول” لم يهينوا أحداً سوى الرب يسوع وهذا واضح من التعبير نفسه. لأن كلمة “الروح” في نص الإنجيل “أما التجديف على الروح” (مت 12: 31) تشير إلى الرب نفسه. وكل هذا القول يقصد به نفسه. لأن “رب البيت” يراد به المسيح أي رب الكون كله. وأنا أرجوك أن لا تتضايق من هذا التكرار فهو لازم إذا كنا نحرص على الوصول إلى المعنى الدقيق للنص ولذلك سأعود إلى ما ذكرته سابقاً أن الجوع والتعب والنوم والإهانات كلها خاصة بناسوته، أما الأعمال الباهرة التي كان يقوم بها الرب، فلم تكن أعمال إنسان بل أعمال الله. لذلك إذا ما شاهد بعض الناس الأشياء الخاصة بالإنسان مثل الجوع………… الخ، وأهانوا الرب لأنه حسب ظنهم مجرد إنسان فقد حسبوا مستحقين لعقوبة أقل من عقوبة أولئك الذين ينسبون أعمال الله للشيطان. لأن هؤلاء لا يكتفون بإلقاء الأشياء المقدسة للكلاب (متى 7: 6)، بل يجعلون الله مساوياً للشيطان ويدعون النور ظلمة (أشعياء 5: 20). لذلك سجل مرقس أن تجديف اليهود بلا مغفرة، “وأما من جدف على الروح القدس فلن يغفر له بل هو مستحق دينونة أبدية، لأنهم قالوا أن به روحاً نجساً” (مرقس 3: 29- 30).

والرجل الأعمى منذ ولادته عندما أبصر، شهد بأنه لم يسمع من قبل أن أحداً فتح عيني مولود أعمى، ولذلك قال “إذا لم يكن هذا الإنسان من الله لا يستطيع أن يفعل شيئاً” (يوحنا 9: 32- 33) . حتى الجموع نفسها عندما امتلأت من الإعجاب بما فعله الرب قالت “أن هذه ليست أعمال من فيه شيطان هل يقدر شيطان أن يفتح أعين العميان” (يوحنا 10: 21). أما هؤلاء الذين امتلأوا من معرفة الناموس، أي الفريسيون وهم الذين يلبسون العصائب العريضة (متى 23: 5)، ومزهوون بمعرفتهم بالناموس أكثر من باقي الناس (يوحنا 9: 24- 29)، كان من المفروض عليهم بسبب هذه المعرفة أن يخجلوا ولكن كما هو مكتوب عنهم أنهم “تعساء لأنهم ذبحوا للشيطان وليس لله” (تثنية 32: 17). وعندما قالوا أن بالرب شيطاناً وأن أعمال الله هي أعمال الشيطان لم يكن لديهم أي أسباب مقنعة تدفعهم إلى هذا الاعتقاد. والدافع الحقيقي لمثل هذا التجديف هو رغبتهم في أن ينكروا أن الذي يعمل هذه الأعمال هو الإله ابن الله. وبالحقيقة لقد أكل أمامهم وشاهدوا جسده وتأكدوا أنه إنسان فكان لديهم فرصة لأن يقتنعوا من أعماله أن الآب فيه وأنه في الآب. أما لماذا لم يقتنعوا؟ فلأنهم لم يشاءوا.

وفي الحقيقة لقد سكن بعلزبول في الفريسيين. وكان بعلزبول هو الذي يتكلم فيهم. ولذلك قالوا عن المسيح أنه مجرد إنسان، بسبب ناسوته، دون الاعتراف به إلهاً بسبب أعماله التي هي أعمال الله. ولكن بهذه السقطة ألّهوا (بتشديد اللام) بعلزبول الذي سكن فيهم، والذي في النهاية سوف يعاقبون معه في النار إلى الأبد.

 

( 19 )

ودراستنا للنص توضح لنا أنه يعني نوعي التجديف اللذين أشرنا إليهما سابقاً. ذلك أن المخلص أشار إلى نفسه عندما قال “ابن الإنسان” ولكنه كان يعني أيضاً نفسه عندما تحدث عن “الروح”. والاسم الأول “ابن الإنسان” يوضح تجسده، والاسم الثاني “الروح” يوضح طبيعته الروحية غير المادية ولاهوته. وفي الواقع أن الخطية التي يمكن غفرانها هي العثرة الناتجة عن رؤية ناسوته، أي ما يتعلق به كابن الإنسان، ولكنه أوضح أن التجديف الذي لا يمكن مغفرته هو التجديف على “الروح” أي على الطبيعة الإلهية.

وقد لاحظت أن التعبير “الروح” جاء بالمعنى الذي نتحدث عنه في إنجيل القديس يوحنا عندما كان الرب يتحدث عن تقديم جسده. ولما رأى أن كثيرين عثروا بسبب ما ذكره عن جسده، قال لهم “هل هذا يعثركم؟ وماذا ستفعلون عندما تشاهدون ابن الإنسان صاعداً إلى حيث كان سابقاً؟ الروح هو الذي يحيي أما الجسد فلا يفيد شيئاً. الكلام الذي أكلمكم به هو روح وحياة” (يوحنا 6: 62- 63) وقد تحدث الرب هنا عن “الجسد والروح” وكما هو واضح كان يتحدث عن نفسه. وميز بين الجسد والروح لكي يتمكن الذين سمعوه من الإيمان بما يرون أي بجسده، وكذلك الإيمان بغير المنظور أي الروح أو لاهوته لكي يؤمنوا أن ما يتكلم عنه ليس الجسديات بل الروحيات.

ولنسأل كم عدد البشر الذين يمكن أن يقدم لهم جسده المادي؟ وماذا عنه كغذاء للعالم كله؟ لهذا السبب تحدث عن صعود ابن الإنسان إلى السماء لكي يبعد عن أفكارهم كل التصورات المادية عن جسده، ولكي يفهموا جيداً بدون أي تصورات مادية أن جسده الذي يتكلم عنه هو طعام سمائي يأتي من فوق كغذاء روحي يعطيه هو بنفسه. وحقاً قال “الكلام الذي أكلمكم به روح وحياة” (يوحنا 6: 63) أي أن ما أعلنه، وما سيعطيه لخلاص العالم هو جسده، ولكن هذا الجسد عينه بما فيه من دم سوف يعطي لكم بواسطتي روحياً وكطعام وبطريقة روحية سوف يوزع على كل واحد منكم لكي يصبح عربون القيامة والحياة الأبدية.

واستعمال كلمة “روح” جاء بنفس المعني في حديث الرب مع السامرية عندما وجه فكرها إلى المعنى الروحي ورفع نظرها إلى الأمر غير المادية بقوله لها “الله روح” (يوحنا 4: 24)، لكي يستقر في قلبها الفهم الصحيح عن الله، أنه ليس من طبيعة مادية محصورة في مكان بل أنه روح. وهذا ما يعنيه كلام التعليم الذي يقول عندما يتأمل الكلمة وقد تجسد: “روح الإيمان هو المسيح الرب”. وحتى لا يعثر أحد ما بالشكل الخارجي الملموس ويظن أن الرب هو مجرد إنسان، جاءت كلمة “الروح” لتؤكد أن الذي في الجسد هو الله.

 

( 20 )

وهكذا يبدو لنا شيئان ظاهران تماماً. الأول هو حالة من يرى الرب في الجسد ويعتبره مجرد إنسان ويقول بعدم إيمان “من أين الحكمة لهذا الإنسان” (متى 13: 54). وكل من يتكلم بهذا يخطئ بدون شك ويجدف على ابن الإنسان والثاني يرى أعماله التي تتم بالروح القدس ويقول أن صانع هذه الأعمال ليس الله ولا ابن الله وينسب هذه الأعمال لبعلزبول، مثل هذا ينكر لاهوته، وهذا ما يظهر واضحاً عدة مرات في الإنجيل لا سيما في النص الذي نشرحه.

ومرة أخرى، نكرر، عندما يوصف الرب بأنه “ابن الإنسان” فهو نفسه يستخدم هذا اللقب لتأكيد بشريته، ولكن عندما يتحدث عن الروح أي الروح القدس الذي به يصنع كل هذه الأعمال والذي هو (الروح) أيضاً فيه، يقول بعد إتمام أعماله الباهرة: “إذا كنتم لا تؤمنون بي فعلى الأقل آمنوا بالأعمال التي أعملها لكي تعرفوا أنني في الآب والآب فيَّ” (يوحنا 10: 38).

أما عن موضوع موته عنا بالجسد، عندما صعد إلى أورشليم (متى 20: 18) لهذه الغاية، فقد قال لتلاميذه “ناموا الآن واستريحوا لأن الساعة قد أتت وابن الإنسان سوف يسلم لأيدي الخطاة” (متى 20: 45). وحقاً أن أعماله تجعل أي إنسان يؤمن أنه بالحقيقة الله، ولكن موته يؤكد أيضاً أنه بالحقيقة تجسد. ولهذا السبب قال أن الذي سيسلم لأيدي الناس الخطاة هو ابن الإنسان، لأن الكلمة غير مائت  ولا يمكن لمسه بل هو في جوهره الحياة نفسها. ولكن عندما لم يؤمن الفريسيون، بأعمال الرب ولا بالأعمال التي كان أبناؤهم يقومون بها، وبخهم الرب بلطف بهذه الكلمات (متى 12: 27- 28). وإشارته هنا إلى “الروح” أو “روح الله” لا تعني أنه أقل من الروح أو أن الروح هو الذي كان يعمل هذه الأعمال بواسطته ولكن لكي يوضح أنه كلمة الله الذي يعمل كل هذه الأعمال بالروح ولكي يعرف سامعوه أنهم عندما ينسبون هذه الأعمال لبعلزبول، بينما هي أعمال الروح فأنهم يهينون الذي يعطي الروح أي الابن. وحقاً لقد أعلن في نص الإنجيل (متى 12: 27) أنهم قد نزلوا إلى أسفل الدرجات وأنهم بمعرفة يجدفون، وليس بسبب الجهل بل هم يجدفون رغم أنهم يعرفون أن الأعمال التي يعملها هي أعمال الله، ولكن هؤلاء المجانين نسبوا هذه لبعلزبول، وأنها تمت بواسطة روح نجس.

 

 

( 21 )

وكيف يستطيع أناس لهم مثل هذه الوقاحة أن ينتقدوا الوثنيين الذين يصنعون الأصنام ويدعونها آلهة؟ حقاً أن جنون الفريسيين مثل جنون الوثنيين. كلاهما يفعل ذات الشيء وأن كان الذي فعله الفريسيون أكثر خطورة، لأنهم بعد أن أخذوا الناموس الذي يحذرهم من عبادة الآلهة الغريبة يتجرأون ويحتقرون الله عندما يخالفون الناموس.

ولكن بعد هذا التجديف ماذا سيفعلون عندما يسمعون أشعياء النبي وهو يخبر عن علامات مجيء المسيح مثل رد البصر للعميان، ومشى العرج، ونطق الخرس، وأقامة الموتى، وشفاء البرص، وفتح آذان الصم؟ من هو صانع كل هذه المعجزات؟ إذا قالوا الله الآب فأنهم يدينون أنفسهم بعدم قبول الرب لأن ما رآه النبي وأخبر عنه هو ما يفعله الرب يسوع عندما كان على الأرض في الجسد. ولكن إذا أصيبوا بالعمى وقالوا هذه الأعمال هي أعمال بعلزبول فأنهم ينحدرون شيئاً فشيئاً إلى عدم التقوى، خصوصاً عندما يقرأون “من الذي أعطى النطق للإنسان ومن الذي خلق الصم والخرس والذين لهم عيون والعميان” (خروج 4: 11)، ونصوص أخرى مشابهة، وربما قادهم جنونهم إلى الإدعاء بأنه حتى هذه الكلمات نفسها هي كلمات بعلزبول، وهذا هو التطور الحتمي لفكرهم، لأنهم إذا نسبوا إليه نعمة البصر فأنه ينسبون إليه أسباب العمى أيضاً حيث أن كلمات الكتاب المقدس يؤكد أن الذي قام بالخلق هو الذي قام بالمعجزات وأنه هو صاحب كل النصوص. وبالتالي سيصلون إلى نتيجة رهيبة وهي أن خالق الطبيعة البشرية هو بعلزبول لأن من صفات الخالق أن يكون له سلطان على خليقته. وهذا يؤكده موسى” في البدء خلق الله السموات والأرض…… وخلق الإنسان على صورته” (تكوين 1: 1؛ 27) ودانيال أعلن لداريوس “أنا لا أعبد أصناماً مصنوعة بيد الإنسان بل الله الحي الذي خلق السماء والأرض والذي له سلطان على كل جسد” (تتمة سفر دانيال: 5). وإذا غيروا فكرهم وتصوروا أن ضعفات الجسد مثل العمى والعرج هي عقوبة من الخالق بينما الشفاء وعمل الرحمة هو من بعلزبول فأن مجرد مناقشة هذا الرأي هو الجنون بعينه. وطريقة تفكير هؤلاء الناس هي طريقة المجانين والسكارى وعديمي التقوى لأنهم أصبحوا ينسبون ما هو حسن أي معجزات الرحمة لبعلزبول وليس لله. ومثل هؤلاء الناس لا توبخهم ضمائرهم عندما يغيرون تعاليم الكتب المقدسة طالما أنهم يصلون إلى غايتهم وهي إنكار مجيء المسيح.

 

( 22 )

وكان من الأفضل لهؤلاء الناس الأشرار الامتناع عن إهانة المسيح “كابن الإنسان” بسبب أن له جسداً بشرياً أو الاعتراف به كإله حقيقي بسبب معجزاته، ولكنهم فعلوا العكس تماماً، لأنهم عندما أدركوا أنه إنسان احتقروه، وعندما عاينوا معجزاته الإلهية أنكروا لاهوته ونسبوا هذه المعجزات للشيطان. وظنوا أنهم بمثل هذه الوقاحة وهذا التجديف سيهربون من دينونة الكلمة الذي أهانوه. ولتتذكروا أن العرافين والمنجمين وسحرة فرعون عندما حاولوا تقليد معجزات موسى عجزوا وانسحبوا معلنين أن هذه هي إصبع الله (خروج 8: 19). وبينما أبصر الفريسيون والكتبة يد الله وهي تعمل بل عاينوا معجزات أكثر وأعظم قام بها المخلص، قالوا أن الذي فعل كل هذه المعجزات هو بعلزبول، مع أن بعلزبول هو إله السحرة الذين اعترفوا بأنهم عاجزون عن القيام بأي عمل خارق وحتى أقل من أعمال موسى، فمن ذا الذي يمكنه أن يقبل إهانة الفريسيين أو فسادهم الذي سبق الأنبياء وأدانوه؟

وإذا قارنا بين خطية الفريسيين وذنوب أهل سدوم يصبح أهل سدوم بالنسبة إلى الفريسيين أبراراً. بل لقد زادوا في جهلهم أكثر من الوثنيين وغباوة سحرة فرعون ولا مثيل لهم في جرمهم إلا الآريوسيين لأنهم معاً سقطوا في نفس الفساد. لأن اليهود عندما رأوا أعمال الآب التي يقم بها الابن نسبوها لبعلزبول، والآريوسيون عندما رأوا نفس الأعمال نسبوها لمخلوق، لأنهم قالوا أن الابن خلق من لا شئ، وأنه مر وقت لم يكن فيه الابن كائناً، والفريسيون تذمروا عندما رأوا الرب في الجسد وقالوا “لماذا وأنت إنسان تجعل نفسك إلهاً” (يوحنا 10: 33) وهؤلاء الآريوسيون أعداء المسيح عندما رأوه ينام ثم يتألم جدفوا عليه بهذه الكلمات “الذي يعاني من كل هذه الآلام لا يمكن أن يكون الإله الحقيقي ولا من ذات جوهر الآب”.

وأخيراً أن كل من يريد أن يفحص جنون الجماعة الأولى أو الثانية سوف يرى أنهم في النهاية سوف يستقرون في وادي الظلام (تكوين 14: 8).

 

( 23 )

ولهذا السبب أعلن المخلص أنه بالنسبة للجماعتين، توجد عقوبة واحدة لهذه الجريمة الواحدة وهي عدم المغفرة “أما الذي يجدف على الروح القدس فلا مغفرة له لا في هذا الدهر ولا في الدهر الآتي” (متى 12: 32). وهذا صواب تماماً لأن الذي ينكر الابن، لا يجد من يسرع لمصالحته مع الآب. وأي حياة أو راحة ستبقى لمثل هذا الإنسان الذي يرفض ذاك الذي قال “أنا هو الحياة” (يوحنا 14: 6) و “تعالوا إلىَّ يا جميع المتعبين وثقيلي الأحمال وأنا أريحكم” (متى 11: 28). فإذا كانت هذه هي عقوبة المجدفين وهي عقوبة كل من يعتنق عقيدتهم في المسيح، فأنه من المؤكد أن الذين يعبدون الرب في الجسد وفي الروح ولا ينكرون أنه ابن الله وأنه تجسد بل يؤمنون في وقت واحد أنه “في البدء كان الكلمة والكلمة صار جسداً” (يوحنا 1: 1، 14) سوف يملكون مع المسيح إلى الأبد في السماء حسب مواعيد ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح الذي قال “يذهب هؤلاء إلى عذاب أبدي والأبرار إلى حياة أبدية” (متى 25: 64).

 

لقد كتبت هذا الشرح المختصر حسبما تعلمت، أما بالنسبة لك، فأرجو أن تقبل هذا الشرح ليس كتعليم كامل وتام في ذاته بل كبداية تحتاج إلى أن تكملها معتمداً على نصوص الأناجيل والمزامير. وأربط حزمة الحق، حتى عندما  يراك الناس وأنت تحملها يقولون “بالفرح حاملين أغمارهم” (مزمور 125: 6). ليكن لنا هذا الفرح في يسو المسيح ربنا الذي به وله مع الآب والروح القدس المجد والقوة والملك في دهر الدهور. آمين.

 

 

ملاحظات الرسالة الأولى
  • ليس فقط أحد المخلوقات“: يرى القديس أثناسيوس أن انحراف “التروبيكيين” من جهة الروح القدس هو انحراف مزدوج.

أولاً: هم يدعون الروح القدس مخلوقاً من ناحية.

ثانياً: يقولون أن الروح مختلف عن الملائكة في الرتبة فقط وليس في الطبيعة. 

( 2 ) “بسبب وحدة الكلمة مع الآب“: هذا الجزء من الرسالة الأولى يعتبر مقدمة للفصول من 19- 31 ونجد فيها ثلاث نقاط من تعليم القديس أثناسيوس وهي:

1- أن الروح له نفس الوحدة مع الابن مثل الوحدة التي للابن مع الآب.

ورغم أن العلاقتين هما من نفس النوع ولكن كل منهما تمثل علاقة خاصة. فالروح ليس أبناً مثل الابن بالنسبة للآب (انظر فصول 15، 16 من الرسالة الأولى). والروح هو في الابن كما أن الابن هو في الآب (انظر فصل 19 من الرسالة الأولى).

2- وتبعاً لذلك فألوهية الروح القدس متعلقة بألوهية الابن، بالضرورة وكل كلام عن مخلوقيه الروح يعني بالضرورة أن الابن مخلوق (فضل 21 من الرسالة الأولى).

3- حيث أن الكتاب المقدس والتقليد يعلنان أن اللاهوت قائم في ثالوث، فالقول بأن الروح مخلوق لا يحفظ وحدة اله وكماله سليمتين ويجعل المعمودية بلا فاعلية. (انظر فصول 28- 31 من الرسالة الأولى).

( 3 ) ” الثيئولوجيا” هي الكلمة اليونانية التي تعني الكلام عن الله.

( 4 ) لأنهم – حسب توهمهم الخاص – يعتبرون الروح القدس هو أحد المخلوقات.

( 5 ) “ينبثق من الآب” . الكلمة اليونانية المترجمة ينبثق مكونة من مقطعين ek, porevo   والأداة  ek   تعني يخرج من، وتشير إلى الأصل. و edporevo   كلها تعني ينبثق من. وهنا يستعمل القديس أثناسيوس الفعل اليوناني المستعمل في الإنجيل حسب (يوحنا 15: 26) “روح الحق الذي من عند الآب” ينبثق” . ونفس الكلمة استعملها قانون الإيمان النيقي القسطنطيني عن الروح القدس “الرب المحي المنبثق من الآب” والقديس أثناسيوس هنا عندما يتحدث عن علاقة الروح القدس بالآب يقول أنه ينبثق (أو يأخذ وجوده) منه، ولكنه عندما يتحدث عن علاقة الروح بالابن لم يقل أنه ينبثق منه بل قال عنه “الذي بسبب أنه روح الابن، أعطى بواسطته للتلاميذ، ولجميع الذين آمنوا به”.

( 6 ) ترجمت في ترجمة دار الكتاب المقدس وفي الترجمة السبعينية بالإنجليزية وفي ترجمات أخرى بكلمة “الريح”.

( 7 ) ويقصد بها في هذا الموضع، الابن.

( 8 ) هو أستاذ مصري علم أولاً في الإسكندرية، ولكنه كغيره من الهراطقة، وسع مجال تعليمه فذهب إلى روما حيث أسس هناك مدرسة وذلك قبل عام 150م. ولما حرم من الكنيسة أنشأ جماعة خاصة مستقلة، وقد ألف عدة كتب، وله عدة رسائل وأناشيد، ولكن القليل غير المهم هو الذي بقى، وهو أحد الهراطقة الغنوسين المشهورين.

( 9 ) “الله بالكلمة، في الروح” واضح هنا أن القديس أثناسيوس يرى في (أشعياء 63: 14) إشارة للأقانيم الثلاثة في الله، وإلى نزول الروح القدس من الابن بمشيئة الآب.

( 10 ) يذكر القديس أثناسيوس أن عمل الملائكة بالنسبة للمؤمنين لا يقتصر على حراستهم والعناية بهم، ولكنهم أيضاً يلاحظونهم ويراقبون أعمالهم.

( 11 ) يشير أوريجينوس في كتابه  المبادئ “أن كل مؤمن حتى أصغر واحد يتولى حراسته ملاك وهو ممن قيل عنهم إنهم ينظرون وجه الآب الذي في السموات” (De Prin II, X, 7  ).

( 12 ) تدخل حجة أثناسيوس ابتداء من هنا مرحلة جديدة: فبعد أن أنهى أثناسيوس على البراهين التي يستند عليها “التروبيكيوين” في فهمهم للآيات، يتحول أثناسيوس لمواجهة معارضة مبنية على سوء فم العلاقات داخل اللاهوت. ويكرس لهذا الغرض الفصول من 15 إلى 21 من هذه الرسالة والتي تشكل قلب هذا البحث بالترتيب التالي:

أ-ففي فصل 15 يقدم المعارضة.

ب-وفي فصل 16 ينقد المعارضة ويبين أنها تناقض نفسها من الداخل لأنها مبنية على فهم خاطئ عن الأبوة في الله.

ج-في فصلي 17، 18 ينقد المعارضة لأنها تصور جنوني.

د-وفي الفصول الثلاثة الأخيرة من 19- 21 يقدم الخطوط التي ينبغي أن يبني عليها التعليم الصحيح عن الثالوث.

( 13) “الوحيد” هي في الأصل اليوناني “Monogenes  ” وتعني الوحيد أو الفريد، وأيضاً تعني “الوليد الوحيد” وبهذا المعنى يرى “ديديموس الإسكندري” أنها وحدها تكفي لتمييز الابن عن الروح القدس (De Trin II, 447 c  ).

( 14 ) “صورة كلية للكامل وهو إشعاعه“: انظر المقالة الثانية ضد الآريوسيين حيث يقول القديس أثناسيوس. “هو كإشعاع النور مولود كامل من كامل ولهذا فهو اله كما أنه صورة الله” (ضد الآريوسيين 2: 35 ترجمة الأستاذ صموئيل كامل، والدكتور نصحي عبد الشهيد نشر مركز دراسات الآباء يناير 1984). والقديس أثناسيوس هنا يصحح بواسطة “مفهوم الصورة”، سوء استخدام الآريوسيين لتطبيق التوالد في عالم البشر على بنوة المسيح الإلهية. وتكرار استعماله لألفاظ: “الكلى…… وكامل” يشير إلى تكامل وكمال وعدم تجزؤ الطبيعة الإلهية في مقابل الانقسام والتجزؤ في طبيعة البشر. فيؤكد أن الابن ليس صورة منعكسة من الآب أو منبعثة بل هو الصورة الكاملة لكل ما هو الله في جوهره. 

وكما أن استعمال لفظ “Olos   يستبعد معنى التجزؤ والنقص، هكذا فإن لفظ  eilon ” تتضمن وحدة الابن مع الآب ووجوده في الآب. ويقول القديس أثناسيوس في مقالته الأولى ضد الآريوسيين “أن أعداء الله هؤلاء إنما يخترعون تشنيعات وافتراءات إذ أنهم لكي لا يعترفوا بأن الابن هو صورة الآب، فأنهم يتصورون صفات جسدية وأرضية فيما يخص الآب ذاته، ناسبين إليه التقسيمات والتوالد والحمل” (ضد الآريوسيين 1: 20 ترجمة الأستاذ صموئيل كامل والدكتور نصحي عبد الشهيد يناير 1984).

(15) “يدعى (الابن) اشعاعاً“، أي نور يشع نوراً، أي أن الابن نور مشع من الآب، وهكذا نفهم نص قانون الإيمان “نور من نور”. بعكس فهم “إشعاع” بمعنى نور مقتبس من نور آخر مثلما يأخذ السراج نوره من سراج آخر فيكون تعبيراً عن الانقسام والتجزئة في عالم المخلوقات، والتي لا وجود لها في طبيعة الله الثالوث.

(16) “نرى في الابن، الروح الذي به نستنير“. يوضح القديس أثناسيوس هنا أننا يمكن أن نرى الروح في الابن، وهذا ما يذكره صراحة في الرسالة الأولى عندما يقول: “وكما أن الابن، الكلمة الحي، هو واحد، هكذا فإن القوة الحيوية والعطية التي بها يقدس ويضئ ينبغي أن تكون واحدة كاملة وتامة” (رسالة 1: 20). ويقول أيضاً: “أنه حيث يكون النور فهناك الشعاع أيضاً، وحيث يكون الشعاع فهناك أيضاً فاعليته ونعمته المضيئة” (رسالة 1: 30). ومع تأكيد القديس أثناسيوس على وحدة الروح والابن، فأنه يهتم أن يؤكد أيضاً تميز الأقانيم كما يبدو في كلماته في الفصل 28 من هذه الرسالة إذ يقول: “الآب بالكلمة في الروح القدس يعمل كل الأشياء …… وهكذا يكرز بإله واحد في الكنيسة” “الذي على الكل وبالكل وفي الكل” (أف 4: 6). “على الكل” كآب وكبدء وكينبوع، و “بالكل” أي بالكلمة، “وفي الكل” أي في الروح القدس. هو ثالوث ليس فقط بالاسم وصيغة الكلام بل بالحق والوجود الفعلي. لأنه كما أن الآب هو الكائن الذي يكون، هكذا أيضاً الكلمة هو الكائن والإله على الكل. والروح القدس ليس بدون وجود حقيقي بل هو يوجد وله كيان فعلي. وليس بأقل من هؤلاء الثلاثة تعتقد الكنيسة الجامعة لئلا تنزلق إلى أفكار اليهود المعاصرين الرديئة وإلى أفكار سابيليوس، كما أنها لا تعتقد بأكثر من ثلاثة لئلا تتدحرج إلى تعدد الإلهة عند اليونانيين (رسالة 1: 28).

(17) “نصير أبناء” انظر Contr. Ar. III 19   المقالة الثالثة ضد الآريوسيين للقديس أثناسيوس، وديديموس على الثالوث. Didymus de Trin II 748c ، حيث “نصير أبناء” ، “نصير إلهة” يقال أنها عمل الروح. وهذا التعبيران يعبران عن فكرة واحدة، والقديس أثناسيوس عموماً يفضل تعبير “نصير إلهة”.

(18) “صورته الخاصة”: لقد سبق أثناسيوس واستعمل هذا التشبيه عن الابن. وهو الآن يستعمله عن الروح، ويضيف مجموعة من الآيات المماثلة ليبين كيف أن رسم الابن يوجد كما في الروح. واستعمال التشبيه هو أقدم من أثناسيوس، لأن غريغوريوس العجائبي في: “اعترافه” يتحدث عن الروح على أنه صورة الابن، بل في الحقيقة ربما يرجع هذا التشبيه إلى ايريناوس، انظر Hare. IV. Viii. 4 ، ونجد أن ديديموس يأخذ هذا التشبيه في كتابه عن الثالوث de Trin II 504 B  وانظر أيضاً Ps. Basil Adv-Eun. V 724c, etc.. واستمرار استعمال هذا التشبيه يتضح من ظهور في كتابات يوحنا الدمشقي (القرن الثامن) “كتاب في الإيمان الأرثوذكسي De Fid. Orth.  “. ونلاحظ أن ما يقوله أثناسيوس هنا يكمل ويؤيد الحقيقة التي سبق أن ذكرها في القسم السابق أن الروح يمكن أن يرى في الابن.

(19) كما أن وحدة الطاقة (القوة energia ) تستلزم وحدة الجوهر، لذلك فلو أن هناك انقساماً في الجوهر حسب تصور التروبيكيين فهذا يستلزم تعدد الطاقات (القدرات). ويجد أثناسيوس في هذه الحقيقة تعليلاً لتعليمه اللاهوتي عن النعمة الإلهية الواحدة للثالوث الواحد.

(20) “وليد وحيد” (Gennyma ) لا يجد القديس أثناسيوس أية صعوبة في استعمال هذه الكلمة عن المسيح رغم أن الآريوسيين اتيوس Aetius  ويونوميوس Eunomius  يستعملونهما كمرادفة لكلمة مخلوق أو مصنوع. ويقول القديس أثناسيوس في C. Ar. III. 4  (ضد الآريوسيين 3: 4) أن طبيعة الابن هي نفسها طبيعة الآب “لأن الوليد ليس مغايراً لأنه هو صورته وكل ما هو للآب هو للابن” “لأن الشعاع هو أيضاً نور ليس ثانياً بالنسبة للشمس ولا هو نور مختلف، ولا بمجرد المشاركة فيها، بل هو وليد كامل وخاص بها. ومثل هذا الوليد هو بالضرورة نور واحد، ولا أحد  يستطيع أن يقول أنهما نوران. ولكن الشمس والشعاع هما اثنان، فنور واحد ينبعث من الشمس يضئ بشعاعها كل الأشياء.

(21) “يأخذ من الابن“: على غير ما يحاوله بعض المفسرين خطأ من الاستناد إلى هذه الآية لكي ينسبوا أصل الروح الأزلي إلى الابن مع الآب، فإننا نجد أن القديس أثناسيوس هنا يشرح هذه الآية على أنها تشير فقط إلى مجرد إرسال الروح القدس من الابن، إذ هو يقارن بين ما سمعه الابن من الآب وتكلم به في (يوحنا 8: 26)، وبين ما يسمعه الروح القدس من الابن ويتكلم به، كما يقول الرب يسوع في الفقرة التي اقتبس منها هنا القديس أثناسيوس عن علاقة الروح بالابن “لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به… لأنه يأخذ مما لي ويخبركم” (يو 16: 13، 14). وعلى ذلك فإن الآية التالية التي يقول فيها كل ما للآب فهو لي تنحصر هنا في عمل الأخبار بما يسمع، لأن الرب يكمل قائلاً: “لهذا قلت أنه يأخذ مما لي ويخبركم” (يو 16: 15).

(22) “الرتبة والطبيعة” كلمة رتبة “Taxis ” هنا ليست ترتيباً عددياً بل تعني “وضع” Rank ، فأثناسيوس لا يقصد أن الروح يأتي في الترتيب بعد الابن مثلما يأتي الابن بعد الآب بل هو يعني ببساطة أن وضع الروح مع الابن هو تماماً مثل وضع الابن مع الآب. ويستعمل القديس أثناسيوس كلمة الطبيعة “Physis ” بعد كلمة رتبة لكي يوضح أن المقصود بكلمة “رتبة” ليس مجرد وظيفة أو امتياز معين بل وحده الجوهر بين الأقانيم الثلاثة.

(23) “روح القداسة والتجديد” يرى القديس أثناسيوس أن القداسة هي الخاصية المميزة للروح، وهذا نجده أيضاً في تفسير القديس أثناسيوس ليوحنا (يو 17: 19) في المقالة الأولى ضد الآريوسيين حيث يقول: “كوني أنا كلمة الآب، فأنا نفسي أعطي الروح لذاتي، أنا الصائر إنساناً. وأنا الصائر إنساناً، فيه أقدس لكي يتقدس الجميع فيَّ، أنا الذي هو الحق (ضد الآريوسيين 1: 46 ترجمة الأستاذ صموئيل كامل والدكتور نصحي عبد الشهيد صفحة 89 مركز دراسات الآباء 1984 القاهرة). وكون القديس أثناسيوس عندما يتحدث عن الروح يضيف كلمة التجديد بعد كلمة القداسة فهذا يبين أنه لا يفصل بين القداسة وبين تجديد الطبيعة وأعادتها إلى عدم الفساد. وهذا ما يتحدث عنه أيضاً في كتابه تجسد الكلمة (فصول من 4- 10) دون أن يشير إلى الروح القدس. والقديس أثناسيوس يستعمل عبارة نصير إلهيين في تجسد الكلمة 54: 3 كمرادف للتجديد أو إعادة الطبيعة البشرية إلى عدم الفساد أو عدم الموت، كنتيجة لتجسد الكلمة. وكل هذه التعبيرات المستعملة في هذا الجزء من الرسالة تشير إلى نفس هذه العملية التي يصيغها بتعبيرات متنوعة في المناسبات المختلفة سواء نسبها إلى الكلمة أو إلى الروح، (مثال انظر فصل 24 من هذه الرسالة).

(24) “يـؤله” “Theopoieo  ” أي “يجعل إلهاً”.. نلاحظ هنا أن القديس أثناسيوس يشرح عبارة بطرس الرسول تصيروا شركاء الطبيعة الإلهية بأنها تعني التأليه. وهو يقول أن الروح القدس هو الذي يؤله البشر أي يصيرهم آلهة باشتراكهم فيه. وعلى هذا الأساس يستنتج أن الروح القدس لا يمكن أن يكون من طبيعة المخلوقات بل بالضرورة له طبيعة الله. وقد استعمل القديس أثناسيوس هذه الكلمة في مواضع كثيرة من كتاباته أهمها:

  • كتاب تجسد الكلمة فصل 54 حيث يقول “لأنه صار إنساناً لكي نصير نحن آلهة”.
  • وفي المقالة الأولى ضد الآريوسيين فقرة 39 “كان إلهاً وفيما بعد صار إنساناً لكي يؤلهنا… وكيف يحدث التأليه بدون اللوغوس …… كل الذين دعوا أبناء وآلهة قد نالوا التبني وصاروا متألهين من خلال اللوغوس”.
  • وفي المقال الثاني ضد الآريوسيين فقرة 70 يقول: “لأه ما كان للإنسان أن يتأله لو أنه أتحد بمخلوق أو لو أن الابن لم يكن إلهاً حقيقياً .. هكذا لم يكن للإنسان أن يؤله لو لم يكن الكلمة الذي صار جسداً هو ابن طبيعي حقيقي وذاتي من الآب. لهذا إذن صار الاتحاد هكذا، أن يتحد ما هو بالطبيعة بشرياً بالذي له طبيعة الألوهية ويصير خلاص الإنسان وتأليهه مؤكداً”.
  • وفي المقالة الأولى ضد الآريوسيين فقرة 9 يشرح (مز 81: 6) “أنا قلت أنكم آلهة” بأن حصول البشر على هذه النعمة هو من الآب بمشاركتهم للكلمة عن طريق الروح القدس”.

ومن الفقرات السابقة يتبين كيف أن القديس أثناسيوس ينسب عمل التأليه أحياناً إلى الكلمة وأحياناً أخرى إلى الروح القدس. وفي بعض الأحيان ينسبه إلى الكلمة عن طريق الروح القدس.

(25) يقصد القديس أثناسيوس أن الروح القدس لا يمكن أن يفقد قداسته لأنه لا ينالها عن طريق الاشتراك ولكنه يملكها جوهرياً في ذاته.

(26) يلاحظ هنا أن القديس أثناسيوس لا يفرق بين التقليد والتعليم والإيمان، بل هو يتكلم عن الثلاثة كشيء واحد حتى أنه يستعمل لها اسم الموصول المفرد وليس الجمع، وهذا يبين أهمية تقليد الكنيسة الجامعة على أنه ممتد من المسيح بواسطة الرسل حتى الآباء كما يبدو في العبارة المكملة لهذه الجملة “الذي أعطاه الرب وكرز به الرسل وحفظه الآباء”.

(27) “التكمـيـل” هو طقس المعمودية الذي يتم به الانضمام إلى الكنيسة. وأثناسيوس هنا ينسب إلى التروبيكيين ما سبق أن نسبه إلى الآريوسيين عن عدم فاعلية المعمودية عندهم بسبب عدم إيمانهم بألوهية الابن إذ يقول في المقالة الثانية ضد الآريوسيين: “أما هؤلاء الآريوسيون فأنهم يخاطرون بفقدان إتمام السر وأعني به المعمودية لأنه أن كان إتمام السر يعطي باسم الآب والابن وهم لا يقرون بأب حقيقي بسبب إنكارهم للذي هو منه الذي هو مثله في الجوهر منكرين الابن الحقيقي ويسمون لأنفسهم أبناً آخر …. إلا يكون طقس المعمودية الذي يتمونه فارغاً تماماً وعديم الجدوى إذ أن له مظهر خارجي، أما في الحقيقة فإنه ليس له شئ يعين على التقوى.. لأن الآريوسيين لا يعمدون باسم الآب والابن بل باسم خالق ومخلوق… فليس من يقول ببساطة “يارب” هو الذي يعطي المعمودية، بل هو ذلك الذي مع الاسم الذي يدعوه عنده أيضاً إيمان مستقيم.. ومع الإيمان يأتي إتمام المعمودية” (المقالة الثانية ضد الآريوسيين : 42ص 69 ترجمة الأستاذ صموئيل كامل عبد السيد، الدكتور نصحي عبد الشهيد – نشر مركز دراسات الآباء القاهرة 1987).

(28) “مثل الآريوسيين واليونانيين” نلاحظ أنه بينما دعا القديس أثناسيوس الآيروسيين في الفصل السابق يهوداً، فهو هنا يربطهم باليونانيين أي الوثنيين. فأن كانت الآريوسية تدعو إلى التوحيد فهي عملياً تنزل إلى الوثنية فعلى الرغم من أنها ادعت بأنها تحفظ وحدانية الله باستبعاد الابن من اللاهوت، فهي من جهة أخرى قد ربطت بينه وبين الله في النعمة والمجد أي عبدته كمخلوق أو عبدت المخلوق. وفي هذا الفصل يطبق أثناسيوس نفس الأسلوب بخصوص الروح القدس على أساس أنه مع استدعاء الروح القدس في المعمودية مع الآب والابن، ينكرون ألوهيته ويعتبرونه مخلوقاً.

(29) “الإيمان بالثالوث” يؤكد القديس أثناسيوس على أن هذا هو الإيمان الذي يجعلنا متحدين بالله والمعمودية تتبع هذا الإيمان. ونفس الأمر يؤكده كيرلس الأورشليمي (Cat. V. 6  )، وأيضاً القديس باسيليوس في كتابه عن الروح القدس يقول: “المعمودية والإيمان طريقان للخلاص لا ينفصلان، فالإيمان يكتمل خلال المعمودية، والمعمودية تتأسس خلال الإيمان، وكلاهما يتم بنفس الأسماء… فألاً يأتي الإقرار بالإيمان الذي يدخلنا إلى الخلاص، وبعد  الإقرار المعمودية التي تختم على موافقتنا” De Sp. S. 28 . وينبغي أن نلاحظ أن أثناسيوس في تعليمه عن المعمودية يشدد على الاندماج في الحياة الإلهية الذي تمنحه لنا بما لا يقل عن تشديده على غفران الخطايا.

(30) “إيمان واحد ومعمودية واحدة” (انظر C. Ar. III.16 ). يوجد عند القديس أثناسيوس علاقة واضحة ووثيقة بين الإيمان الواحد والمعمودية الواحدة والإله الواحد. فإن كانت صحة المعمودية تعتمد على صحة الإيمان الذي تعطي على أساسه، فهذا بدوره يعتمد على التماسك الداخلي للحياة الإلهية التي يوضحها وحدة الإيمان ليست فقط مجرد وحدة صيغة الاعتراف بالإيمان، بل تقتضي أيضاً وحدة ذلك الذي يتم الاعتراف به. انظر كيرلس الأورشليمي (Cat. XVI. 4 ). إذ يقول “نحن لا نكرز بثلاثة آلهة… بل بالابن الواحد مع الروح القدس نكرز بإله واحد. فالإيمان غير منقسم والعبادة غير مجزأة”.

(31) “فهو يرد كل الأشياء إلى إله واحد، الآب” يقصد القديس أثناسيوس أن المواهب الروحية المتنوعة وأنواع الخدم يمكن أن تجمع كلها معاً باعتبار أن مصدرها واحد هو “عمل الآب”. وواضح هنا أن القديس أثناسيوس يؤكد أن المقصود بعبارة إله واحد، هو الآب. فالفعل الإلهي وكذلك الحياة الإلهية ينبعان منه. وهذا هو أيضاً ما قصده القديس أثناسيوس من اقتباسه لعبارة الرسول بولس عندما قال: “ولكن الله واحد الذي يعمل الكل في الكل” (1كو 12: 6). وهذا هو اتجاه اللاهوت الشرقي عموماً الذي يرد وحدانية الثالوث إلى أقنوم الآب الذي هو الأصل وينبوع الابن والروح القدس.

(32) “متنوعاً ومجزئاً“: مواهب البركة الرسولية لا ينبغي أن تعتبر مواهب منفصلة مخصصة بالتجزئة لكل واحد من الأقانيم بمفرده. أي أن الرسول لا يقصر النعمة على المسيح أو المحبة على الآب أو الشركة على الروح القدس بحسب الصيغة الواردة في (2كو 13: 13) والتي يعلق عليها القديس أثناسيوس هنا، فإنه يحدث أحياناً أن تنسب المحبة إلى الروح القدس (غلا 5: 25). والشركة للابن (1كو 10: 16)، والنعمة لله الآب 1كو 15: 10).

(33) “يتنبئون بالروح القدس” هذا التعليم للقديس أثناسيوس يأخذه منه الآباء الذين أتوا بعده. انظر ديديموس عن الروح القدس Sp. S. 29 ، وعن الثالوث II 500 ، باسيليوس عن الروح القدس Sp. S. 37  وأمبروسيوس عن الروح القدس Sp. S. II. 130  (انظر الروح القدس الكتاب الثاني ص 130- 132 نشر بيت التكريس لخدمة الكرازة، وكيرلس الإسكندري De. Trin VII 1096 ).

(34) “تعليم القديسين” أي تعليم الكتب المقدسة. إن كلمة agioi  “القديسين” عند القديس أثناسيوس تشير عادة إلى شخصيات الكتاب المقدس أو كتبته سواء بالنسبة إلى العهد الجديد أو العهد القديم. ونجد نفس المعنى في تجسد الكلمة 57 وفي De Fug. 15 .

(35) “يحاربون الروح“. يبدو أن القديس أثناسيوس هو الذي نحت عبارة “محاربي الروح” على مثال “محاربي الكلمة” والتي بدورها ربما تكون على مثال “محاربي الله” التي وردت في سفر الأعمال (5: 39؛ 23: 9).

ملاحظات الرسـالة الثانية

1- “الآريوسيون” إن الرسالة الثانية بأكملها مخصصة لإعادة عرض التعليم الصحيح ضد الآريوسية. فالقديس أثناسيوس يوضح في رسالة 3: 1 أن التعليم الصحيح عن الروح القدس لا يمكن أن ينبع إلا من تعليم صحيح عن الابن. والفصول التالية في هذه الرسالة الثانية لها نقط  اتصال وثيقة مع كتابات أثناسيوس الأخرى ضد الآريوسية وخاصة كتاب De Dec   وكتاب de. Syn  والمقالات الثلاث ضد الآريوسيين C. Ar. I- III.  وبالإضافة إلى ذلك فإن الحجج هنا متصلة بتلك التي في الرسالة الأولى. وهكذا فهو يوضح في (فصلي 3- 4) أن الابن لا يمكن أن يكون مخلوقاً لأن له كل ما يخص الآب، وبنفس الطريقة يتكلم في الرسالة الأولى (22- 27) عن علاقة الروح القدس بالابن فيقول: “وإن كان الابن بسبب أنه من الآب هو خاص بجوهر الآب، فينبغي أن الروح الذي هو من الله يكون بالجوهر خاصاً بالابن” (1: 25).

وأنه لأمر مثير للاهتمام أن تعبير (Omoousios  هوموأوسيوس من نفس الجوهر) يبرز بوضوح في هذه الرسالة وكذلك التفسير الذي يعطيه له والذي له نقط اتصال وثيقة بشرحه له في كتاب De. Syn. 41- 53 .

وأخيراً فهذه الرسالة متأثرة في صياغتها بالذين وجهت إليهم وهم رعاة كنيسة الإسكندرية إجمالاً، وأيضاً بتطور سمات الآريوسية المعاصرة لزمن كتابة الرسالة.

ثم أن الرسالة توضح أيضاً وحدة الجوهر الإلهي بين الآب والابن، على أن التأكيد يوضح أساساً “وجود أقنومين متساويين”. وبهذا فإن أثناسيوس يكون قد مهد لتعليم الآباء الكبادوكيين عن الثالوث، ويساعد على تفسيره.

2- “الحكمة والشعاع والكلمة” هذه هي التسميات الأساسية التي على ضوئها نعرف ماذا يعني حقيقة الاسمان: “الآب” و “الابن” حينما يطلقان على الله. فالآريوسيون لكي يساووا بين “المولود” (Gennyma ) و “المخلوق” (Ktisma )، كان لابد أن ينكروا أن الابن هو الكلمة أو الحكمة بمعناهما الأصيل، بل ينسبونهما فقط إلى الله من الخارج دون أن يكون لهما صلة حقيقية بالابن على الإطلاق. أي أن الابن ليس هو كلمة الله وحكمته على الحقيقة، إذ يقول آريوس فيما يذكر أثناسيوس (أن هنا حكمتان : الأولى لها قوامها الذاتي وموجودة مع الله، أما الابن فقد جاء من خلال هذه الحكمة الأولى، وقد سمى الحكمة والكلمة بسبب اشتراكه فقط في هذه الحكمة الأولى لأنه يقول: أن “الحكمة” جاء إلى الوجود بواسطة الحكمة بمشيئة الله الحكيم. وهذا يقول أيضاً: أنه توجد كلمة أخرى في الله غير الابن.. وأيضاً أن الابن قد سمى كلمة وأبنا بسبب مشاركته للكلمة حسب النعمة) (المقالة الأولى : 5ص 17، 18 في الترجمة العربية وانظر أيضاً المقالة الأولى 21، 28).

3- “الينبوع جاف” لاشك أن أثناسيوس يقصد بلفظتي (Asophos ) بدون حكمة و (Alogos ) “بدون كلمة” المعنى المزدوج، ليس فقط أن الله “بدون حكمة” أو “بدون كلمة”، بل يكون الله في هذه الحالة “غير حكيم” و “غير عاقل، في كيانه وجوهره. ولذلك فإن أثناسيوس في مقاله ضد الآريوسيين 1: 14 يتهم الآريوسيين بأنهم ينسبون لله “عدم العقل” (Alogia ) (انظر المقالة الأولى الترجمة العربية ص 34).

وعلى هذا الأساس فأن الآريوسيين ينزلون بالابن إلى مستوى ملكة غير شخصية في الحياة الإلهية، كما أنهم ينكرون أن يكون الله شخصاً. ولا تكون وحدانية الله مشخصة. أما في فكر أثناسيوس فهو يلتزم في شرحه لوحدانية الله بما يقول به الوحي في الكتاب المقدس. فإنكار المساواة بين الابن والآب في الجوهر يعني في الواقع نفي الشخصية بملئها عن الله. والواقع أنه لا يمكن أن نتحدث عن الله كشخص إذا أنكرنا ألوهية الابن حكمة الله وكلمته. فالله في العقيدة المسيحية هو شخص حي محب ومتكلم في يسوع المسيح. وإلغاء ألوهية الابن هو النظر إلى الله كمجرد قوة وليس شخصاً.

4- “لنا معهم نفس الجوهر.. ولنا نفس الهوية..” يرفض أثناسيوس أن يعتبر كلمة (Homios  هوميوس ) التي تعني شبه، معادلة لكلمة هومو أوسيوس (Homoousios ) التي تعني: من نفس الجوهر حتى لو أضفنا إلى كلمة “هوميوس” كلمات مقوية مثل Aparaliaktos  (= مطابق أو مماثل) أو كلمة katousian  (= حسب الجوهر). وينبغي أن نلاحظ أن أثناسيوس هنا يشرح كلمة (Taftotis ) بمعنى نفس الهوية، أي أن أي إنسان هو مثل أي إنسان آخر من حيث أن كليهما بشر. وفي كتابه de. Dec  يرفض أثناسيوس أن يرى في علاقة الآب البشري بابنه إيضاحاً كافياً لعبارة هو موأموسيوس (من نفس الجوهر). ويقول: “لأن الأجساد التي يماثل أحدها الآخر يمكن أن تنفصل متباعدة على مسافة أحدها من الآخر”. ويمكن أن نرى اعتراضاً  مماثلاً بالنسبة للتشبيه بالتضامن بين الجنس البشري المذكور هنا، لأنه على الرغم من أننا نحن البشر لنا نفس الهوية ولنا نفس الوضع في الموت والفساد، إلا أن هذا التضامن لا يصلح أن يكون توضيحاً كافياً للمساواة في الجوهر (أوموأوسيوس Omoousios ). لقد سبق للقديس أثناسيوس أنه أكد على وحدة الآب والابن وعدم انفصالهما، وهو هنا يهمه أن يؤكد على أن الآب والابن متساويان جوهرياً ومتماثلان تماماً، وهو يعرف أن هذا التساوي يتضمن في داخله وحدة الجوهر التي سبق ودافع عنها في الفصل السابق من هذه الرسالة، والتي عبر عنها في كتابه De Dec. 20 . وفي ذلك الكتاب يستعمل كلمة هوموأوسيوس لكي يوضح أن “الابن لكي يكون من الآب ينبغي أن يكون  في الآب. ولكنه هنا يختار نقطة انطلاق يهاجم بها الأونوميين (اتباع أريوس) الذين أكدوا ليس فقط انفصال الآب عن الابن بل أيضاً عدم تماثل الآب والابن.

5- إن ما يقوله أثناسيوس هنا – على عكس ما كان يقوله أرسطو يبرز الفكر المسيحي عن الإنسان، أنه لا يوجد من البشر من هو عبد بالطبيعة للآخر.

6- “وجودها له بداية” من طبيعة المخلوقات بعكس طبيعة الابن، أن توجد من العدم. وهذا ما سبق أن كتبه القديس أثناسيوس في المقالة الثانية ضد الآريوسيين حيث يقول: “المخلوقات والمصنوعات وحدها هي التي من المناسب أن يقال عنها أنها من العدم” وأنها لم تكن موجودة قبل أن تنشأ” (الترجمة العربية 2: 1 صفحة 9). وانظر أيضاً المقالة الأولى حيث يقول “أما إن كانوا يبحثون الأمر بفضول وحب استطلاع قائلين لماذا لا يخلق الله على الدوام وهو القادر أن يخلق دائماً،  فليسمعوا أنه بالرغم من أن الله له القدرة على الدوام أن يخلق إلا أنه ليس في استطاعة المخلوقات أن تكون أزلية لأن هذه المخلوقات وجدت من العدم، ولم تكن موجودة قبل أن تخلق، فكيف يمكن إذن لهذه المخلوقات التي لم تكن موجودة قبل أن تخلق، أن تكون موجودة مع الله الكائن دائماً، أما الابن فلكونه غير مخلوق بل هو من ذات جوهر الآب فإنه كائن دائماً (الترجمة العربية 1: 29 ص 60، 61).

7- “يعانون التغير” أي لأنها كائنات ليست بطبيعتها آلهة، فأنها قابلة للتغير. هذه العبارة لها أهمية خاصة إذ توضح أن أثناسيوس كان يعتبر أن الـ Theopoisis   (ثيئوبييسيس) أي “يؤله أو يجعله إلهاً”، ليس فقط نعمة خاصة بالدهر الآتي بل تبدأ منذ الآن. ويتضح هذا من أن أثناسيوس يطابق بين Hiopoisisi , Theopoisisi  (أيوبييسيس) “أي يجعله أبناً” في C. Ar. III 19.  إذ يعتبر الأخيرة (البنوة) بكل وضوح أنها ملكية نحصل عليها منذ الوقت الحاضر (انظر Ad. Episc. I ).

8- “الخواص التي له” لا يعتبر القديس أثناسيوس أن هناك خواص عرضية في الله بل كل خواصه جوهرية. فكل ما هو له فهو يكونه.

9- “الرب خلقني أول طرقه” (أم 8: 22س) عالج القديس أثناسيوس هذه الآية من سفر الأمثال التي كان يحتج بها الآريوسيين، باستفاضة في كتابه المقالة الثانية ضد الآريوسيين، حيث يفسر لفظ “خلق” على أنه يقصد به الطبيعة البشرية الخاصة بالمسيح. انظر الترجمة العربية لهذه المقالة من فصل 18 إلى فصل 72 ترجمة الأستاذ صموئيل كامل عبد السيد والدكتور نصحي عبد الشهيد. نشر مركز دراسات الآباء القاهرة 1987.

10- ” فإن كان ابنًا، فلا يدعى مخلوقاً” هذه النقطة سبق أن تحدث عنها القديس أثناسيوس في كتابه de. Dec. 3  حيث يقول “إن كان ابناً فهو غير مخلوق، وإن كان مخلوقاً فهو ليس ابناً، لأن هناك اختلافاً عظيماً بين الولادة والخلق. ولا يمكن أن يكون الابن ابناً ومخلوقاً في نفس الوقت إلا إذ اعتبر أن جوهره من الله وغريب عن اله في نفس الوقت. وكان الآريوسيون يجادلون بالقول بأنه لا يوجد اختلاف بين الولادة والخلق، إذ أن الكتب المقدسة في تصورهم تنسب كلا التعبيرين إلى الله. وأن لقب “ابن” هو حسب رأيهم متماثل تماماً مع تفسيرهم لأمثال : ، حيث يعتبرون الابن مخلوقاً. أما أثناسيوس فيؤكد أن التطابق بين الولادة والخلق هو أمر مستحيل وأن على الآريوسيين أن يختاروا بين البنوة والمخلوقية التي يستنبطونها من أمثال 8: 22.

فهو يقول “لأن المخلوقات هي أعمال الصانع من خارجه، أما المولود فليس من خارجه وليس عملاً بل هو مولود جوهر الآب الذاتي. لذا فينما “الأعمال” هي مخلوقات، إلا أن كلمة الله هو ابن وحيد الجنس”. المقالة الثانية 56 الترجمة العربية ص 90.

 

ملاحظات الرسـالة الثالثة

1- “الصلاة في الثالوث” نلاحظ أن هذا التعبير  “يصلي في الثالوث” يستند على البركة الختامية التي أعطاها الرسول بولس إلى كنيسة كورنثوس عندما قال “نعمة ربنا يسوع المسي ومحبة الله وشركة الروح القدس مع جميعكم” (2كو 13: 14). وعلى ذلك فأن الدخول في شركة الروح القدس هو في نفس الوقت هو دخول في نعمة الكلمة وفي محبة الآب. وفي ضوء هذا يمكن أن تفسر عبارة الرسول يهوذا “مصلين في الروح القدس” (يه 20). والمعنى هنا ينبغي أن يفهم في ضوء ما سبق أن ذكره القديس أثناسيوس في رسالة 1: 28، من أن الكنيسة مؤسسة ومبنية على الإيمان بالثالوث. لذلك يكون الاعتراف بالثالوث هو الذي يجعل للصلاة صفتها الخاصة ومدلولها وشرعيتها. فالعبادة الصحيحة تقوم على أساس الإيمان الصحيح الذي هو الإيمان بالثالوث.

(1) يقصد هنا الترتيب المختص بالمعمودية.

(1) أنظر تيطس 3: 10 “الرجل المبتدع بعد الإنذار مرة ومرتين أعرض عنه”.

(2) يقصد أكاكيوس وباتروفيلوس.

(3) التكميل هو طقس المعمودية (انظر رسالة 1: 29).

(1) هذه التكملة مأخوذة عن ترجمة الدكتور جورج بباوي تحت اسم “الرسالة الخامسة عن التجديف على الروح القدس” التي نشرها سنة 1976.

رسائل عن الروح القدس ج5 للقديس أثناسيوس الرسولي