أبحاث

الخلفية اليهودية – مختصر تاريخ الكنيسة القرن الأول ج1

الخلفية اليهودية - مختصر تاريخ الكنيسة القرن الأول ج1

الخلفية اليهودية – مختصر تاريخ الكنيسة القرن الأول ج1

 

الخلفية اليهودية - مختصر تاريخ الكنيسة القرن الأول ج1
الخلفية اليهودية – مختصر تاريخ الكنيسة القرن الأول ج1

 

الخلفية اليهوديّة
المسيحيون الأوائل كانوا يهودًا. ولا يوجد ما يفرق بينهم وبين أقرانهم سوى الإيمان بأن يسوع الناصري هو المسيا المنتظر مشتهى الأمم وقد جاء الآن. وسلَّموا أن بمجيئه تحقق كلّ شيء ويجب أن يضاف إلى إعلانات الله السابقة لشعبه، دون أن يعني هذا انفصال عن العهد القديم الذي قطعه الله مع إبراهيم ويتمثل في الختان، أو عن الناموس الذي أعطي لموسى على جبل سيناء.

إن كان هناك شيئًا جديدًا قد حدث فهو من عمل الله الواحد نفسه خالق الكون، رب التاريخ، إله إبراهيم واسحق ويعقوب والاثني عشر سبطًا. كلامه إلى شعبه في العهد الجديد يجب أن يكون متسقًا مع كلامه في الماضي على فم الأنبياء.

وبسبب هذا الشعور العميق بالاستمرارية للعهد القديم، ظلت العديد من الممارسات الطقسية والأفكار والعادات اليهودية باقية وممتزجة مع الفكر المسيحي. فقد آمن اليهود بفكرة سبق الاختيار، لأن الرب سبق واختار إسرائيل ليكون هو الشعب المختار، والغير ملوث بالمعتقدات والتأثيرات الوثنية. ولكن مع وجود هاتين الخاصيتين اللتين هما:

(1) العناية التي خصَّه الرب بها دون الاعتماد على أية ميزة أو استحقاق في هذا الشعب المختار، بل بفضل سيادة الله المطلقة ومشيئته غير المدركة.

(2) دعوة إسرائيل ليقوم بعمل الكهنوت نيابة عن كلّ البشرية. متمسكين بناموسهم بشدة، مؤمنين بأن الرب أعطاه لموسى على جبل سيناء.

لذا تبنى اليهود موقفًا معاديًا ضد كلّ الديانات الوثنية واعتبروها من أعمال الأرواح الشريرة. وفي المجتمع اليونا-روماني كانوا منغلقين على أنفسهم مما عرضهم ذلك إلى الشك والارتياب وفي بعض الأحيان العداء والأذى. كانوا يرفضون المشاركة في الممارسات الرومانية، على الرغم من أنهم يقدمون الذبائح بصفة يومية في هيكلهم بأورشليم على اسم الإمبراطور، وكانوا يفتتحون جلسات مجمع السنهدريم بقولهم:

[باسم الرب وعلى شرف الإمبراطور.]

وكان ما يميزهم عن الناس في مجتمعاتهم هو علامة الختان وما عرف عنهم عن عدم أكل لحم الخنزير وباقي الأطعمة غير الطاهرة. ففي القرن الثاني قبل الميلاد فضَّل المكابيون الموت على أكل الخنزير. ولا يمكن أيضًا لليهود أن يأكلوا مع الأمميين أو يقبلوا أي اعتراف بأي إله وثني في المحافل أو المناسبات الرسمية.

السلطة المحتلة وحالة الفقر الموجودة في فلسطين أدت إلى نزوح جماعي لليهود لكل أنحاء العالم القديم، وسموا ’يهود الشتات‘. لذا يمكن أن تجد تجمعات يهودية في أي مكان من كاديز (في أسبانيا) إلى كريميا (في أوكرانيا).

في روما وحدها كان يوجد إحدى عشر أو اثني عشر مجمعًا وذلك في القرن الأول الميلادي. وفي الإسكندرية كانوا يمثلون جزءً كبيرًا من المجتمع هناك وبلغ عددهم مليونًا وذلك في الإسكندرية وكل أرض مصر[1]، وكانوا دائمًا على صلة بالسلطات المحلية، على الرغم من أن عزلتهم الاجتماعية منعتهم من أن يكونوا أداة ضغط جماهيري.

العبادة اليهوديّة وتأثيرها على المسيحيّة
اليهود في كلّ مكان كانوا يرفضون الاختلاط بالسكان الوثنيين بل ينغلقون على أنفسهم لممارسة طقوسهم فكانوا يجتمعون كلّ سبت لتلاوة المزامير وقراءة التوراة يتبعها عظة تفسيرية ثم الصلاة. والمستخدم لكتاب الصلوات اليومية (كالأجبية) هو وريث أصيل لهذه الطريقة في العبادة[2].

وبالرغم من تشتتهم في أماكن بعيدة إلا انهم كانوا يحتفظون بمشاعر الانتماء إلى أرض آبائهم من خلال الحج إليها سنويًا وإرسال ضريبة سنوية للاهتمام بالهيكل. وأحيانًا يسبب نقل العملات من مقاطعة يكون فيها عدد اليهود كبير إلى أورشليم مشكلة لدى الرومانيون المسئولين عن الأموال، إلا أنهم في هذه الأمور كما في غيرها يتركوا اليهود ليتصرفوا كما يشاؤوا طالما أن هذا من مبادئ الدين الأساسية.

في المقابل وعلى الرغم من أن الختان ممنوع على اليونانيين والرومانيين إلا أن هناك العديد ممن انجذبوا لفكرة الإله الواحد، وأخلاق اليهود السامية وأقدمية -إن لم يكن أسلوب-أسفارهم المقدسة، دون تبني المنهج النسكي فيما عدا بعض الشيع المنحرفة[3].[4]

فقد نادت اليهودية بالطهارة والترابط الأسري، وكانوا يساعدون بعضهم البعض، يزورن المرضى، يدفنون الموتى، يستضيفون الغرباء، يتصدقون على الفقراء. حول العديد من هذه المجامع التي في الشتات تجمع عدد من الأمميين المتعبدين ودعوا ’خائفي الله‘ (الاسم كان يطلق على أي عضو صالح في المجمع).

الأممي عليه أن يخضع للختان ثم للمعمودية كما هو شائع بالأكثر ليمكنه أن يكون دخيلًا، لكن هذا الأمر كان نادرًا بين يهود الشتات المتأثرين بالثقافة الهيللينية البعيدون عن السلطات (اليهودية) المتزمتة في فلسطين، ويقبلون الأمميين كدخلاء دون إلزام بالختان كضرورة للخلاص.

ومن هذه الجماعات الأممية (الدخلاء) جاء أول من قبلوا الكرازة بالمسيحية من غير أهل الختان. وكانوا فعلًا ثمرة صالحة ليس فقط لأنهم متلقنين الوصايا الأخلاقية بل لأنهم أيضًا متعلمين الكتب المقدسة اليهودية.

الدين اليهودي كان دين يعتمد على كتابه المقدس بصورة أساسية تختلف عن أي دين آخر. إعادة تكوين المجتمع اليهودي مرة أخرى بعد العودة من السبي البابلي اعتمدت في الأساس على ناموس موسى.

لقد توقف الله عن الكلام مع شعبه بصورة مباشرة ولم يعد هناك أنبياء. وإعلانه أصبح مقتصرًا على المكتوب، ويحتاج إلى من يشرحه كالكتبة وشيوخ الشعب. لذلك تم إرفاق شرح للمدارس الرابية مع النصوص الأصلية (الذي أسماه الرب تقليد الشيوخ، وقد أدت هذه التقاليد إلى نزاع حاد بين الكنيسة والمجمع في القرن الأول).

 

الترجمة السبعينية
ولما دعت الحاجة إلى ترجمة الكتاب المقدس إلى اليوناني لليهود الذين هم خارج فلسطين، ظهرت عدة ترجمات منها السبعينية أي الترجمة التي قام بها السبعون شيخًا والتي صارت هي النسخة المعتمدة لدى كنائس الأمم الأولى. تمت الترجمة في الإسكندرية في القرن الثالث قبل الميلاد وتحت رعاية الملك بطليموس فيلادلفيوس ملك مصر كما يخبرنا التاريخ.

بالنسبة ليهود الإسكندرية أحاطوا هذه الترجمة بهالة من القداسة، وعملوا احتفالًا سنويًا طقسيًا تذكارًا لها، وترددت بعض القصص المعجزية عنها. مما هو جدير بالذكر أن بطليموس انتدب إثنين وسبعون شيخًا وأتموها في إثنين وسبعون يومًا. فيلو الفيلسوف اليهودي آمن بأن هذه الترجمة حازت على معونة إلهية. إن قصة الإثنين والسبعون شيخًا مؤكدةـ وعدت الترجمة السبعينية نسخة موحي بها ولها سلطة لم تنالها أي ترجمة أخرى.

فقط بعد أن اعتمدها المسيحيون انقلب عليها اليهود، وصاروا يستخدمون ترجمات أكثر حرفية منها. حتّى أن بعض الرابيين كان يهاجم اليهودية الهيللينية كما يهاجم المسيحيين ويرفض ترجمة الكتاب المقدس إلى اليونانية معتبرًا أن ترجمة الكتاب المقدس إلى اليونانية خطية تعادل خطية عبادة العجل الذهبي.

الكنيسة الأولى
من البدء وفي صميم يقين الكنيسة الوحدة مع إسرائيل واستمرارية معاملات الله في الماضي مع ما عمله في يسوع الناصري وعمله أيضًا في أتباعه في الحاضر.

في إنجيل متى يظهر يسوع أنه موسى الجديد المنحاز إلى شعبه عندما كان في مصر، وتعاليمه الأخلاقية التي تتماشى مع أسمى التعاليم اليهودية. الرب ما جاء لينقض بل ليكمل ومهمة المسيحيين هي جعل أقرانهم من اليهود يتعرفون على مسيح الرب -المسيَّا -الذي أسلمه رؤسائهم بجهل ليقتل في عهد بيلاطس البنطي الحاكم الروماني. وأقامه الله من الأموات معلنًا إياه المسيح والرب، المسيا المنتظر.

والاعتراض بأن الأنبياء قالوا إن المسيا سوف يأتي بالقوة والمجد وليس بالضعف والصلب. كان الرد بأن المسيح تألم كما العبد المتألم في نبوة أشعياء، وكان ذلك فداءً عنا، وبموته صنع عهدًا جديدًا بين الله والناس، كما تنبأ أرميا النبي (أر31:31-34).

في البداية ظهرت المسيحية على أنها شيعة من شيع اليهودية التي كان من المعتاد وجود اختلافات مذهبية بينها وبين بعض. فاليهودية ليست مذهبًا واحدًا. هناك فرق بين الفريسيين والصدوقيين يصل إلى حد الخلاف الحاد.

الفريسيين: كانوا أكثر المذاهب حرصًا على التدين الحرفي والحفاظ على نمط الحياة اليهودية في وجه التأثير الهيلليني والسلطة الرومانية؛ وكانوا متمسكين ليس بالناموس الموسوي فحسب بل بتقاليد الشيوخ وتفسيرهم للناموس.

أما الصدوقيين: الذين كانوا من الطبقة الأرستقراطية الحاكمة، تمسكوا فقط بناموس موسى ولم يرتبطوا بالتقليد ورفضوا أن يصدقوا القيامة من الأموات[5] كعقيدة ذكرت فقط في أسفار مثل سفر دانيال الذي كتب بعد موسى بمدة طويلة لذلك فهو في نظرهم فاقد للمصداقية.

هذا الخلاف الذي بين الفريسيين والصدوقيين حول عقيدة القيامة مكَّن بولس الرسول في وقت لاحق من أن ينجو بنفسه من مأزق (أع6:23-10). بالرغم من أن صفة العنف التصقت بالفريسيين كما جاء في إنجيل متى 23 إلا أن عدد كبير منهم ومن ضمنهم القديس بولس الفريسي الشهير صاروا مسيحيين.

بالإضافة إلى الفريسيين والصدوقيين توجد جماعة أخرى وربما جماعات مرتبطة ببعضها البعض يطلق عليهم:

’الأسينيين‘. بليني الكبير وفيلو ويوسيفيوس أعطوا وصفًا لأسلوب حياتهم والأخير كان على اتصال مباشر بهم. لقد كونوا مجتمعًا مستقلًا تمامًا وكان تجمعهم الرئيسي على الساحل الغربي للبحر الميت، بالرغم من وجود بعض المنتسبين لهم في مواضع أخرى من اليهودية.

ومن المحتمل ولكن ليس أكيدًا أن الأسينيين كانوا ضمن الجماعة التي كانت تستعمل المخطوطات التي اكتشفت في وادي قمران لقربه من الشاطئ الغربي للبحر الميت. هذه الجماعة رفضت الذبائح والكهنوت الرسمي والعبادة التي تمارس في هيكل أورشليم، وتطلعوا إلى البطل الذي أسس هذه الجماعة ’معلم البر‘ الذي هجم عليه الكهنة الأشرار المتسلطين على إسرائيل.

 

 

 

[1] هذا ما يؤيده أيضًا سفر الأعمال حيث يذكر ان شخص يُدعي أبولوس كان يهوديًا إسكندرانيًا مُقتدرًا في الكتب (أع 18) وفيلو الفيلسوف اليهودي الشهير كان سكندري أيضًا، وهذا ما جعل المسيحيون في مصر في بواكير المسيحية كانوا من أصل يهودي من يهود الإسكندرية كما يتحدث عنهم فيلو قائلًا: “يبدوا انهم كانوا من أصل عبراني ولذلك فهم يُراعون عوادا الأقدمين (يوسابيوس القيصري، تاريخ الكنيسة، ترجمة ق/ مرقس داود، القاهرة- 1979 ص90)”.

[2] يتم عادةً ترجيح هذا الرأي من قبل العلماء لأن المسيحيين الاوائل خصصوا الساعات الثالثة والسادسة والتاسعة للصلاة، وهذه الاوقات توازي اوقات الصلاة عند اليهود. كما أن المسيحيون الاوائل في مصر اتبعوا العادات اليهودية بدقةٍ صارمة (للمزيد راجع: الأجبية أي صلوات السواعي، للقمص اثناسيوس المقاري، القاهرة- ابريل 2006، ص 60: 66).

[3] ربما هو هُنا يقصد الأسينيين وهي شيعة ليست مُنحرفة، وقد كتب عنهم بوقار كبير كلّ من يوسيفوس وبيليني الكبير وفيلو والعلامة هيبوليتس الروماني. وقد كانوا يتمسكون بحفظ الأحكام الأخلاقية حفظًا دقيقًا مُظهرين محبتهم لله بطرقٍ مُختلفةٌ، مثل الطهارة والإبتعاد عن الحلف ومحبة الفضيلة والتحرر من الاستعباد للمتلكات الأرضية وضبط النفس والتواضع، وكانوا يحيون بنظام الشركة، فطعامهم وكل ما يملكون هو ملكًا مشتركًا للجميع.

(للمزيد راجع: مخطوطات البحر الميت للمؤرخ الأنطاكي أسد رستم. وكتاب: نُساك قُمران ومخطوطاتهم للأب رافائيل البراموسي القاهرة- 2014، ص 58- 64) حتي ان الكثير من الدراسات الحديثة الآن تربط يوحنا المعمدان بطائفة الأسينيين

(see, Joseph A. Fitzmyer, The Dead Sea Scrolls and Christian Origins, Studies in the Dead Sea Scrolls and Related Literature (Grand Rapids, MI; Cambridge, U.K.: William B. Eerdmans Publishing Company, 2000)

[4]طبقًا لما قاله فيلو ويوسيفيوس المؤرخ هم شيعة الأسينيين التي استقرت على شاطئ البحر الميت وكانوا يمارسون العزلة. ولم تخبرنا مخطوطات وادي قمران عنهم أي شيء

[5] قدّم القديس كيرلس الأورشليمي ردًا على رفض الصدوقيين والسامريين لعقيدة قيامة الأموات في مقاله الثامن عشر لطالبي العماد، كما أورد أمثلة منطقية من اسفار موسي الخمسة فقط ليستنبط منها عقيدة القيامة كالتالي:

“فهل كان ممكنًا أن تتحول عصا موسى التقي إلى حيَّة، وغير ممكن أن تحيا أجساد الأتقياء وتقوم ثانيةً؟ وهل عمل هذا خلافًا للطبيعة، وهل لا يعودون هم ثانية بحسب الطبيعة؟!”

كذلك عصا هرون ولو أنها قُطفت، لكنها ازدهرت بدون رائحة الماء (أي 14: 9). ولو أنها تحت سقف أزهرت أزهارًا كما لو كانت في الحقول، ولو أنها وضعت في مواضع جافة وحملت في ليلة الزهور وأثمر النبات الذي يُسقى سنينًا عديدة، فهل قامت عصا هرون من الموت، وهرون نفسه لا يقوم؟! هل يعمل الله معجزات في الخشب ليضمن له الكهنوت، ولا يتعطف بقيامة هرون نفسه؟

تحوّلت امرأة إلى ملح على خلاف الطبيعة، وتحول جسدها إلى ملح، أفلا يرجع اللحم إلى لحم؟! هل تحولت امرأة لوط إلى عمود ملح وامرأة إبراهيم ألا تقوم ثانية؟!

بأية قوة تغيرت يد موسى النبي التي في ساعة صارت كالثلج وعادت ثانية بأمر الله؟! فهل كان أمره يحمل قوة والآن بلا قوة؟! (القديس كيرلس الأورشليمي، حياته ومقالاته لطالبي العماد، للقمص تادرس يعقوب مالطي، الأسكندرية- 2005، 18: 12، ص 270)”

 

 

الخلفية اليهودية – مختصر تاريخ الكنيسة القرن الأول ج1