أبحاث

هل يمكن الوثوق بشهادة شاهد العيان في غياب امكانية استجوابه؟ – Patricia Michael

هل يمكن الوثوق بشهادة شاهد العيان في غياب امكانية استجوابه؟ – Patricia Michael

هل يمكن الوثوق بشهادة شاهد العيان في غياب امكانية استجوابه؟ - Patricia Michael
هل يمكن الوثوق بشهادة شاهد العيان في غياب امكانية استجوابه؟ – Patricia Michael

دراسة نقدية في تقييم الشهادات التاريخية وموثوقيتها بين مناهج البحث الأكاديمي ومعايير القضاء الحديث.

🔴المقدمة

تُعَدّ شهادات شهود العيان من المصادر الأساسية في إعادة بناء الوقائع التاريخية، إلا أن غياب إمكانية استجواب هؤلاء الشهود في العصر الحديث يطرح تساؤلات حول مدى موثوقية هذه الشهادات، خاصةً عندما تُستخدم كدليل في الدراسات الأكاديمية والقضائية. تستعرض هذه الدراسة النقدية الفروق الجوهرية بين معايير تقييم الشهادات في البحث التاريخي ومعايير الاستجواب في القضاء الحديث، مع التركيز على أهمية اعتماد منهجيات البحث العلمي الرصين في تحليل الوثائق التاريخية. كما تناقش الدراسة كيف يمكن الجمع بين الدقة الأكاديمية والإنصاف المنهجي لتقييم مصداقية الشهادات التاريخية، مع إبراز دور السياقات الزمنية والثقافية في هذا التقييم.

كثيرًا ما يُثار سؤال جوهري عند دراسة النصوص التاريخية والدينية القديمة، خاصّة تلك التي تُوثّق أحداثًا محوريّة: كيف يمكن الوثوق بشهادة لم يَعُد ممكنًا استجواب صاحبها؟ وهل تظل هذه الشهادة مُعتبرة إذا تعذّر إخضاعها للفحص القضائي المباشر؟

يُثير هذا السؤال إشكالًا بالغ الأهمية، لا سيَّما عند تقييم الوثائق التاريخيّة والدينيّة القديمة. تكْمُن اهمية هذا الطَّرح في تسليطه الضوء على الفرق الجوهري بين معايير الإثبات القانونية المعتمدة في المحاكم، وبين منهجيات التقييم المتَّبعة في الدراسات التاريخية والروايات الكتابية.

وتزداد إشكالية هذا الطَّرح، لأنه يُستخدَم أحيانًا – عن قصد أو غير قصد – كأداة لنزع المصداقية عن روايات الأناجيل، بذريعة غياب إمكانية إخضاع الشهود الأصليين للفحص القضائي المباشر. غير أن هذه الدعوى، على الرغم مما قد تُوحي به من انسجام ظاهري مع المبادئ القضائية، فإنها ترتكز على أسس منهجيّة هشّة عند مقارنتها بالمفاهيم المعتمدة في مجال البحث التاريخي، لا سيّما من حيث عدم ملاءمة تطبيق الفحص القضائي، وفق قواعد المحاكم الحديثة، على مثل هذه الشهادات في هذا السياق.

فمبدأ استجواب الشهود (Cross-Examination) يُعدّ من الركائز الجوهرية في الأنظمة القانونية الحديثة، إذ يكفل للمدعى عليه الحق في اختبار مصداقية الشهود ومراجعة دقّة أقوالهم امام المحكمة. ولا شك أن هذا المبدأ يُعتبر من أبرز الضمانات القانونية لحماية حقوق المتهمين. ولكن، حين يُنتزع هذا المعيار من سياقه القضائي الصارم ويُطبَّق خارج نطاقه القانوني، وخاصة في ميدان دراسة الوثائق التاريخية، فإنّه يُثير إشكالات منهجيّة عميقة، تزداد حدّتها عندما يُطبَّق بصورة حرفية على نصوص دينية وأدبية ذات طابع سَرْدي، كما هو الحال مع الأناجيل، ممّا يُفضي في النهاية إلى قراءة متعسّفة تفتقر إلى الموضوعية والمنهجية.

⚫ في كتابه (Divinity of Doubt: The God Question) الصادر عام 2011، وجّه المدّعي العام الأمريكي الشهير فنسنت بوجليوسي (Vincent Bugliosi) مجموعة من الاعتراضات تجاه التوجُّهات الإيمانية والإلحادية على حدٍّ سواء. من أبرز تلك الاعتراضات تشكيكه في أهليّة شهادات شهود العيان الواردة في الأناجيل، معتبراً أنها لا تصلح كأدلّة موثوقة، ومبرراً ذلك بعدم إمكانية إخضاع أصحابها اليوم لعملية الاستجواب القضائي المباشر كما تقتضي الأنظمة القانونية الحديثة؛ إذ يرى أن الأناجيل لا تفي بمعايير الإثبات القضائية المعتمدة في المحاكم الجنائية، وبالأخص مبدأ استجواب الشهود حضوريا، والذي يُعد شرطًا أساسيًا لقبول الشهادة كدليل مُعْتبر، وهو ما دفعه إلى الطعن في موثوقية هذه الشهادات من منظور قانوني وقضائي.

وأضاف بوجليوسي (Vincent Bugliosi) انَّ القاعدة العامة في الأنظمة القضائية الحديثة تفترض – مع استثناءات نادرة وتقييدات صارمة – ضرورة حضور الشاهد شخصيّاً الى المحكمة للإدلاء بشهادته، ليتسنّى للمتهم ممارسة حقه في استجواب الشاهد (Cross-examination). ويهدف هذا الاجراء القانوني إلى تقصّي احتمالات أي تحيُّز مُحتمل أو تبايُن في الأقوال، ويعدّ من الضمانات الجوهريّة لحماية حقوق المتهمين وضمان نزاهة الاجراءات القضائية.

استنادًا إلى هذا الإطار القانوني الذي يشترط – كما يوضّح بوجليوسي – حضور الشاهد شخصيًا لإتاحة إمكانية استجوابه، يرى بوجليوسي (Vincent Bugliosi) أن تعذّر استدعاء كُتّاب الأناجيل اليوم واستجوابهم يُسقِط عن رواياتهم صفة الشهادة القانونية المقبولة. وبناءً على هذا التصوُّر، لا يجوز – في نظره – الاستناد إلى تلك الروايات لإثبات الادعاءات المسيحية المتعلقة بالأحداث التي وقعت في القرن الأول الميلادي. ووفق هذا المنطق، تُعتبر شهاداتهم، بحسب رأيه، مفتقرة إلى الحد الأدنى من الموثوقية المعترف بها في أي سياق قضائي معاصر.

بعد استعراض ما طرحه بوجليوسي من افكار وافتراضات تشكّك في شهادات شهود العيان، لا بد من التأكيد على أن هذه الافتراضات تنطوي على إسقاطٍ غير دقيق لمبدأ قانوني على سياقٍ مغاير، إذ يؤدي الخَلْط المنهجي بين متطلبات الإثبات في القضايا الجنائية وبين معايير التحقُّق في البحث التاريخي إلى استنتاجات غير موضوعية. فثمّة اختلاف جوهري بين ما تقتضيه المحاكم الجنائية من قواعد إجرائية لحماية المتهم، وبين المناهج والأدوات التي يعتمدها المؤرخون في تقييم الوثائق والروايات التاريخية ذات الطابع السَّرْدي أو الأدبي.

في النظام الجنائي، تُطبّق معايير دقيقة بالغة الصرامة لقبول الشهادات، من أبرزها اشتراط وجود شهود عيان أحياء يمكن استجوابهم أمام المحكمة، وذلك بهدف تمكين المتهم من تفنيد الأدلة والشهادات المُقدَّمة ضده. هذه المعايير تقوم أساسًا على حماية حقوق المتهم، حيث يُفضَّل في كثير من الحالات تطبيق مبدأ “الشك يُفسَّر لصالح المتهم” مقابل السعي الى تحقيق العدالة العقابية الكاملة، تفاديًا لاحتمال إدانة بريء. وتُجسِّد هذه الحماية الصارمة حرص النظام القضائي على تجنّب الظلم، ولو كان ذلك على حساب الوصول إلى الحقيقة الكاملة.

غير أن هذا الإطار القضائي، وإن كان مُبرّرًا ومشروعًا في نطاقه، لا يَصْلُح كمعيار عام لتقييم الكتابات التاريخية ومصداقيتها، لأن النصوص التاريخية والدينية ذات الطابع الأدبي، تخضع لمناهج تقييم تختلف عن تلك المُعتمَدة في المحاكم. ومثال على ذلك الأناجيل التي بطبيعتها الأدبية والتاريخية، لا تندرج ضمن حقل الشهادات القضائية بالمعنى القانوني. وبالتالي، لا يجوز إخضاعها لمعايير الإثبات القانونية المُطبَّقة في المحاكم، إذ يؤدي تطبيق هذه المعايير عليها حرفيًا إلى نتائج غير منطقية، تتمثل في استبعاد غالبية مصادر المعرفة التاريخية التي نعتمد عليها لفهم الماضي.

ففرض معايير المحاكم الجنائية على الوثائق التاريخية والدينية، بما فيها الاناجيل، يؤدي إلى إقصاء كمّ هائل من الأدلة ويعيق قدرتنا على إعادة بناء السَرْديّة التاريخية. ولهذا، فإن المعايير القضائية بطبيعتها أشد صرامة مما يتطلّبه البحث التاريخي النقدي.

إن ذلك يُسلِّط الضوء على الخطأ الكامن في التوسُّع بتطبيق معيار قانوني دقيق على مجال بحثي مختلف في طبيعته وغايته ومنهجه. فالمعيار القانوني ليس سوى أداة إجرائية وُضعت لحماية المتهمين من الإدانة الجائرة، ولم يُصمَّم قط ليكون وسيلة لفهم التاريخ أو تفسير النصوص الدينية.

ولو طُبّق هذا المعيار الجنائي الصارم، الخاص بالمحاكمات الحديثة، على السجلات التاريخية، لانتهينا إلى نتيجة عَبَثيْة مفادها أنه لا يمكن الوثوق بأي رواية تاريخية ما لم يكن لدينا شهود عيان أحياء يمكن استجوابهم أمام القضاء. وبذلك، فإنَّ الإصرار على اعتماد شرط “الشاهد الحي القابل للاستجواب” كمعيار لقبول الشهادة، يُفضي عمليًا إلى تقويض المعرفة التاريخية من جذورها، ويشكّل تعسُّفًا منهجيًا يؤدي إلى استبعاد الغالبية العظمى من السجلات التي تشكّل مصادرنا الأساسية لفهم الماضي.

ويكفي ان نتصوّر تبعات هذا المعيار عندما نُسقطه على أمثلة ملموسة من التاريخ لندرك مدى عَبَثيَّته ونتائجه غير المعقولة، اذ سيصبح من المتعذّر تصديق أي حدث من أحداث التاريخ. فهل يُعقَل – على سبيل المثال – أن نرفض شهادات هيرودوت أو ثيوسيديديس بشأن الحروب القديمة، أو نشكّك في مصداقية بطليموس أو يوليوس قيصر، لمجرّد عدم وجودهم على قيد الحياة للمثول أمام المحاكم للاستجواب، أو لتقديم توضيحات بشأن كتاباتهم والدفاع عن صحتها؟ بل إن هذا المعيار القضائي، لو وُضع قيد التطبيق بشكل مُطلق، سيطال أيضاً روايات التاريخ المعاصر، بما في ذلك ما سجّلته شخصيات موثوقة مثل كوري تين بوم (Corrie Ten Boom) وغيرها من الشخصيات المرموقة، مما يجعل موثوقية كافة المصادر التاريخية مهدّدة بالشك والرفض.

والأخطر من ذلك، أن تطبيق هذا المعيار خارج سياقه القانوني لا يؤدي فقط إلى تقويض التاريخ الأكاديمي، بل ينسف أيضًا الذاكرة الإنسانية ذاتها. إذ أن جانبًا كبيرًا مما نعرفه عن عائلاتنا وماضينا القريب قد وصل الينا من خلال روايات شهود لم يعودوا على قيد الحياة، ولا يمكن إخضاعهم اليوم لأي نمط من أنماط الاستجواب القضائي. فإذا أُقْصِيَت هذه الشهادات لمجرد غياب أصحابها، فإننا لا نفقد الماضي فحسب، بل نفقد وسائل الوصول إليه أيضًا.

إن المعيار القانوني، بوصفه أداة إجرائية تهدف إلى حماية حقوق المتهم، لا يَصلُح أن يُتّخذ مقياسًا في ميدان الدراسات والأبحاث الدينية والتاريخية. فلو اعتُمد مبدأ “الشاهد الحي القابل للاستجواب” كمعيار عام لإثبات الوقائع الماضية، لما تبقّى لدينا تاريخ يمكن الوثوق به او الاستناد اليه. بل إن اعتماد هذا المنهج في التفكير من شأنه أن يُفْضي إلى حالة من الشك المنهجي الشامل، تعجز في ظلّها معظم العلوم الإنسانية عن أداء دوْرها المعرفي، إذ تقوم هذه العلوم بطبيعتها على تحليل روايات ونصوص تعود إلى شهود لم يَعُد حضورهم ممكنًا.

ولعل المفارقة اللافتة هنا أن فنسنت بوجليوسي (Vincent Bugliosi) نفسه كان طرفًا في واحدة من أبرز القضايا القانونية في التاريخ الأمريكي الحديث، وهي محاكمة تشارلز مانسون عام 1970 (Charles Manson murder trial). فقد ترأس بوجليوسي فريق الادّعاء الذي تمكّن من إدانة مانسون، زعيم طائفة دينية متطرفة تورطت في سلسلة جرائم وحشية في أواخر الستينيات، من بينها مقتل “شارون تيت” (Sharon Tate) وعدد من الضحايا الآخرين.

وقد استند الادّعاء في هذه القضية إلى شهادة شاهد عيان بارز، “ليندا كاسابيان” (Linda Kasabian)، إحدى أعضاء الطائفة التي لم تشارك مباشرة في أعمال القتل، وكانت شهادتها حاسمة في إثبات الإدانة.

لكن، إذا افترضنا أننا نعيش بعد مرور مئة عام على المحاكمة، فهل سيكون من المنطقي رفض شهادة كاسابيان لمجرّد عدم قدرتنا آنذاك على استجوابها؟ وهل يجوز التشكيك في سجلاّت المحكمة بدعوى احتمال تعرضها للتحريف أو الإهمال؟ كيف يمكننا حينها التأكد من أن استجواب الشهود جرى وفق الأصول، أو أن تفاصيل جوهرية لم تُهمَل خلال سَيْر المحاكمة؟

من المؤكد أن أحدًا من شهود أو أطراف القضية الأصلية لن يكون على قيد الحياة حينذاك لتوضيح أي غموض، ومع ذلك لا نشكّك في صحّة مَحاضِر المحكمة أو صدق الشهادات، طالما أن النظام القانوني قد دوّن شهاداتهم وصادَق عليها ضمن إطار اجرائي مطابق للمعايير القانونية في حينه.

وفي هذا السياق، تبرز إشكاليّة منهجية مهمّة، تتمثّل في الافتراض القائل بأن الشهادات تفقد موثوقيّتها لمجرّد غياب أصحابها. غير أنّ هذا الافتراض لا ينسجم حتى مع الواقع القانوني ذاته، إذ تُعدّ الوثائق القانونية الرسمية، المدوّنة والموقّعة، موضع ثقة ما دامت قد جُمعت وفقًا لضوابط قانونية معترف بها ضمن سياقها الزمني. ولذلك، لو طبّق بوجليوسي على سجلاّت محاكمته الشهيرة ذاتها نفس المعيار الذي يدعو إلى اعتماده في تقييم روايات الأناجيل، لأدّى ذلك إلى تقويض شرعيّة ما أنجزه هو نفسه داخل قاعة المحكمة. وهذا يُوضّح لنا عملياً، مدى خطورة إسقاط معيار قانوني دقيق، مصُمّم خصيصًا لبيئة قضائية، على مجالات لا تنتمي إليه ولا تتناسب مع طبيعته، كالدراسات التاريخية أو النصوص الدينية.

بناءً على ذلك، فإن التعامل المنهجي مع السَّرْدِيّات التاريخيّة والدينيّة لا يقتضي تجاهُل التقييم النقدي، بل يستدعي استخدام أدوات ملائمة لطبيعة هذا الحقل المعرفي، ويشمل ذلك فحص زمن كتابة الشهادة، ومدى قربها من الحدث، وتعدّد الشهادات وتوافقها، وتماسك التفاصيل، والاتّساق الداخلي، وغياب المؤشّرات التي تدل على التزوير أو التحريف المتعمّد، إلى غير ذلك من المعايير التي يعتمدها الباحثون في تقييم المصداقية للكتابات التاريخية والدينية.

وإذا ثَبُت – من خلال هذه الوسائل – أن كتّاب الأناجيل كانوا شهود عيان، أو نقلوا عن شهود مباشرين، وأنهم سجّلوا الأحداث بأمانة ودقة وحِرْص، فإننا نمتلك حينها كل المبرّرات العقلانية للثقة بشهاداتهم، حتى وإن لم يكن بمقدورهم اليوم المثول أمام محاكم العصر الحديث.

🔴التحليل الختامي بين النقد المنهجي والاستنتاج العام

تُجمع العديد من الدراسات المعاصرة على أن معيار استجواب الشهود (cross-examination) المُعتمد في المحاكم الحديثة لا يصحّ تطبيقه حرفيًا على تقييم الروايات التاريخية، لا سيّما النصوص الدينية القديمة.

▪️في مقاله “?Can A Witness Be Trusted If He Can’t Be Cross-Examined”، يوضح (J. Warner Wallace) الفرق الجوهري بين المعايير القضائية المستخدمة في المحاكم، وبين المعايير المنهجية المتّبعة في البحث التاريخي، مؤكداً ضرورة عدم تحميل النصوص التاريخية عبء تطبيق معايير المحاكم الحديثة.

▪️وفي سياق مماثل، يشرح (Simon Greenleaf) في كتابه الكلاسيكي “The Testimony of the Evangelists” أن تقييم مصداقية الشهادة يجب أن يأخذ بعين الاعتبار الظروف التاريخية والقانونية وأساليب التوثيق والنقل المعمول بها في زمن كتابة الشهادات، بدلاً من الاقتصار على نماذج الاستجواب القضائي المباشر التي تُطبق في المحاكم الحديثة؛ إذ يعالج (Greenleaf) قضية شهادات الإنجيليين من منظور قانوني تقليدي، لكنه يفعل ذلك ضمن الإطار الزمني والمعياري لعصرهم، لا وفق الإجراءات القضائية المعاصرة.

▪️كما يُعزّز (Richard Bauckham) في كتابه “Jesus and the Eyewitnesses” أهميّة تطبيق أدوات النقد التاريخي الخاص في تحليل الأناجيل، معتبرًا إياها شهادات شهود عيان موثوقين، ويطوّر أطروحة قوية تفيد بأن هذه الروايات بُنيت على شهادات مباشرة، ممّا يجعلها جديرة بالاعتبار التاريخي الجاد.

▪️من جهته، يشدّد (Craig Blomberg) في كتابه “The Historical Reliability of the Gospels” على ضرورة تطبيق معايير تاريخية مثل التقارب الزمني وتعدُّد المصادر بدلاً من اعتماد المعايير القضائية الحديثة وفَرْض آلياتها.

▪️امّا (Gary Habermas) و(Michael Licona ) فيقدمان في كتابهما “The Case for the Resurrection of Jesus”دراسة تحليلية متعمّقة ترتكز على ما يُعرف بـ”منهجُ الحقائقِ الْحَدِّيَّةِ” (minimal facts approach)، وهو منهج يعتمد على معايير البحث التاريخي الرصين بدلاً من النماذج القضائية الصارمة، ويستند إلى وقائع مدعومة بإجماع واسع بين الباحثين، بغضّ النظر عن خلفياتهم الدينية أو الفلسفية.

▪️في المقابل يطرح (N. T. Wright) في كتابه “The Resurrection of the Son of God” رؤية فلسفية ولغوية تُبرز التمايز العميق بين متطلّبات الإثبات القانوني في المحاكم، ومعايير الفهم التاريخي، معتمداً على مثال القيامة. يُميّز Wright بوضوح بين ما يُطلب لإثبات قضية قانونية أمام المحكمة، وما يُعتبر تفسيراً عقلانياً ومقبولاً ضمن السياق التاريخي واللاهوتي، مؤكداً على ضرورة تمييز السياقات وتكييف أدوات التقييم تبعاً لها.

◼️وفي ختام دراستنا، نصل إلى نتيجة مفادها أن الموقف المنهجي السليم يقتضي عدم اعتماد المعايير والإجراءات القضائية الصارمة المعمول بها في المحاكم الجنائية كمرجع لتقييم الوثائق التاريخية والدينية، ولا سيّما في ما يتعلق بسَرديّات الأناجيل. إنّ استبعاد الشهادات القديمة ورفضها لمجرّد عدم إمكانية استجواب الشهود الأصليين أمام المحاكم المعاصرة يُعدّ تعسفًا وانحرافاً منهجياً يقوّض إمكانية الوصول الموضوعي إلى الحقيقة التاريخية، بل ويؤدي – منطقيًّا – إلى تفكيك السجلّ البشري بأكمله، بما في ذلك الأسس المعرفية التي يستند إليها النقّاد أنفسهم في تشكيل فهمهم لتاريخهم الفردي والجماعي، حيث تُعدّ شهادات شهود العيان الموثوقة من أبرز المصادر التي يعتمدها المؤرخون في إعادة بناء الوقائع التاريخية وتفسير دلالاتها الدينية والإنسانية.

إنّ المنهج العلمي المنضبط يتطلّب إخضاع الشهادات التاريخية – بما في ذلك الشهادات ذات الطابع الديني – للفحص النقدي وفق معايير البحث التاريخي، مثل التقارب الزمني من الحدث، وتعدّد المصادر، وتماسك التفاصيل، وغياب المؤشّرات الدالّة على التزوير أو التلاعب المنهجي. وبناءً على هذا المنظار النقدي، تظلّ روايات الأناجيل المتعلّقة بحياة السيد المسيح وموته وقيامته وصعوده قائمة، وتستحقّ الاعتبار كوثائق تاريخية ذات مصداقية عالية في الدراسات الأكاديمية والتاريخية الجادّة، لا سيّما وأن كتّابها إمّا كانوا شهود عيان للأحداث أو نقلوا رواياتهم عن شهود مباشرين، في إطار مجتمعي كان يحفظ التقليد الشفهي بعناية ويُخضعه للتحقّق الجماعي.

وعليه، فإنّ استبعاد هذه الشهادات لمجرّد غياب أصحابها اليوم عن المثول أمام محاكم حديثة، يُعدّ انحرافًا عن مقتضيات التقييم التاريخي الرصين، ويفتقر إلى الإنصاف المنهجي.

ليكون للبركة

Patricia Michael

Wallace, J. W. Can A Witness Be Trusted If He Can’t Be Cross-Examined? Cold Case Christianity.

Bauckham, R. (2006). Jesus and the Eyewitnesses: The Gospels as Eyewitness Testimony. Eerdmans.

Blomberg, C. (1987). The Historical Reliability of the Gospels. InterVarsity Press.

Greenleaf, S. (1846). The Testimony of the Evangelists to the Truth of the Gospel History. Baker Book House.

Habermas, G., & Licona, M. (2004). The Case for the Resurrection of Jesus. Kregel Publications.

Wright, N. T. (2003). The Resurrection of the Son of God. Fortress Press

هل يمكن الوثوق بشهادة شاهد العيان في غياب امكانية استجوابه؟ – Patricia Michael