أقدم دليل في العهد الجديد على ألوهية السيد المسيح – مايكل ج. كروجر Michael J. Kruger – ترجمة Patricia Michael
دليل في العهد الجديد على ألوهية السيد المسيح
أقدم دليل في العهد الجديد على ألوهية السيد المسيح – مايكل ج. كروجر Michael J. Kruger – ترجمة Patricia Michael

في القرن الأول الميلادي، نسمع عن أحد أبرز الرِّجال الذين وُجِدوا في التّاريخ. قبل ولادته، قيل لأمّه إنه لن يكون كسائر البشر، بل سيحمل طبيعة إلهيّة أي انه سيكون له صفات الهيّة تختلف عن باقي البشر. وعندما بلغ أشُدَّه، طافَ يُبَشِّر برسالته ويصنع المعجِزات: شفى المرضى، طَرَد الأرواح الشّرّيرة، وأقام الموتى.
وكان يحيط به جَمْعٌ من التّلاميذ الذين اعتبروه ابن الله. وفي نهاية المطاف، أثارت أعماله انتباه السُّلطات، فاعتُقِل، وقُدِّم للمحاكمة، وأُعدِم. غير أنّ أتباعه قالوا فيما بعد إنه حيٌّ، وجالسٌ في السماويّات. وكان اسم ذلك الرجل Apollonius of Tyana (أبولونيوس التِّياني)، نسبةً إلى مدينة (Tyana)، وهي مدينة قديمة تقع في منطقة كابادوكيا بجنوب آسيا الصغرى.
يسوع كواحدٍ من بين العديد من “الآلهة”
وكما هو متوقَّع، سارع الباحثون إلى الاستشهاد بأبولونيوس كدليل على أنَّ العالم اليوناني-الروماني القديم كان يَزْخَر بأشخاص يُنظر إليهم بوصفهم
ذوي مكانةٍ شبه إلهيّة ضمن سياقاتٍ معينة. وهذا لا يعني، بطبيعة الحال، أنهم كانوا يُعتَبرون بأنهم “الله” خالق الكوْن الأزلي والمتسامي، بل يُقصد أنه كان يُنظَر إليهم كشخصيّاتٍ استثنائيّة حَظِيَت بمكانةٍ شبهِ إلهيّة، كما هو حال العديد من “الآلهة” في العالم القديم.
وقد تمَّ تطبيق هذا الإطار التفسيري لاحقًا على السيد المسيح بشكل ما، إذ يُقال انّ أتباعه في مراحله الأولى، على الأقل، لم يكونوا ينظرون إليه باعتباره الإله الأعلى المتسامي للكوْن، بل رأوه إنسانًا عاديًّا رُفِع إلى نوعٍ من المكانة الإلهيّة التي لا تختلف كثيرًا عن تلك التي نُسِبَت إلى أبولونيوس.
ألوهيّة السيد المسيح وإنجيل يوحنا
يُفنِّد المسيحي التقليدي هذا الادّعاء بالإشارة إلى المواضع العديدة التي يُعلن فيها يسوع صراحةً ليس فقط عن ألوهيّته، بل كوْنِه هو ذاته إله العهد القديم.
من أبرز هذه النصوص:
«فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ». (يوحنا 1:1)
ويمكن إضافة نصوص أخرى مثل:
(يوحنا 8: 25)
“فَقَالُوا لَهُ: «مَنْ أَنْتَ؟» فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «أَنَا مِنَ الْبَدْءِ مَا أُكَلِّمُكُمْ أَيْضًا بِهِ”.
(يوحنا 10: 30)
“أَنَا وَالآبُ وَاحِدٌ”.
ولكن هل هذا يَحْسِم الجَدَل؟ ليس تمامًا.
للباحثين المعاصرين ردّ على هذا النوع من الاستدلال. فهم يقرّون بأن إنجيل يوحنّا يُقدّم يسوع بوصفه إلهًا كاملًا، لكنّه كان آخر الأناجيل تدوينًا، وقد كُتب – على الأرجح – في تسعينيّات القرن الأوّل الميلادي. وبحلول ذلك الوقت، كانت النظرة إلى مكانة يسوع الإلهيّة قد نَمَت وتوسّعت وتطوّرت. أمّا عند الرجوع إلى أقدم الأناجيل – إنجيل مرقس، الذي كُتب في سبعينيّات القرن الأوّل فإننا – بحسب رؤية هؤلاء الباحثين– نجده يقدّم يسوع بصورة تُبرِز إنسانيّته وتُركّز على جوانبه البشريّة، بحيث يبدو انساناً عاديّاً تمامًا.
وهنا، لا ينبغي أن نقلّل من شأن مدى إقناع هذا المنطق لكثيرين. ففي العام الماضي، ألقيتُ محاضرة في جامعة برينستون “Princeton University” عن “الأناجيل المفقودة”، وكان هذا من أكثر الاعتراضات التي سمعتها شيوعًا.
اليهوديّة في القرن الأوّل وإله العهد القديم
كيف يمكن الإجابة على هذا السؤال؟ هل يوجد دليل في العهد الجديد يسبق إنجيل يوحنّا يُؤكِّد أن السيّد المسيح لم يُنظَر إليه كمجرّد شخص ذو مكانة شبه إلهيّة، بل باعتباره إله العهد القديم ذاته؟
حسنًا، يعتمد الأمر على الكيفيّة التي كان اليهود الاوائل ينظرون بها إلى إله العهد القديم. ما هي السِّمات المُميّزة التي اعتبرها اليهودي المؤمن بوحدانيّة الله ضروريّة لوصْف إله العهد القديم؟ وبعبارةٍ أُخرى، ما هي الخَصائص التي يجب أن يتحلّى بها الله ليكون الإله الأسمى للكوْن؟
الإجابة واضحة ومن السَّهل العُثور عليها. تُظهِر أقدم مصادرنا أن اليهود في القرن الأول، المؤمنين بوحدانيّة الله، كانوا يَصِفُونَ إله العهد القديم بطريقتين رئيسيتين:
أوّلًا: إله العهد القديم هو الإله الوحيد المُستحقّ العبادة.
وبالتالي إله الكتاب المقدّس هو الإله الحقيقي الوحيد، ولذلك هو الوحيد الذي يجب ان تقدَّم له العبادة.
ثانيًا: إله العهد القديم هو خالق كلّ الأشياء.
بالنسبة لليهودي، هناك فئتان فقط لا غير من الكائنات: الخالق، والمخلوق. وإله الكتاب المقدّس هو الذي خَلَق كلّ الاشياء، وهو في جَوهَره غير مخلوق.
وبناءً عليه نتساءل: هل لدينا نُصوصًا مسيحيّة مُبكّرة تَسبق إنجيل يوحنّا، تَشهد وتُؤكِّد أن الرَّب يسوع كان يتّصف بهاتَين الصِّفتَين معاً، وأنّه وحده المُستحَقّ للعبادة، وأنّه خالق كلّ الاشياء؟
الجواب: نعم. وهذه المصادر ليست أقدم من إنجيل يوحنّا فَحَسْب، بل وأقدم أيضًا من إنجيل مرقس. بل إنّ لهذه المصادر جُذورًا تَمتدّ إلى ما قبل أيّ كِتاباتٍ أُخرى في العهد الجديد بحوزتنا.
بولس الرسول وألوهيّة السيد المسيح
لفهم معتقدات المسيحيّين الأوائل حوْل الوهيّة السيد المسيح، ننتقل إلى بولس الطرسوسي. ولماذا بولس؟
يشرح لاري هورتادو (Larry Hurtado) ذلك على أفضل وجه قائلاً:
“المسيحيّة البولسيّة تُعدُّ أقدم شكل من أشكال الحركة المسيحيّة التي نمْلُك وصولا مباشرا اليها من مصادر أوليّة لا جدال فيها.”(Hurtado, Lord Jesus Christ, p. 85)
وكما سنرى، لم يؤمن بولس الرسول بأن يسوع هو إله بشكل هامشيّ او مجرّد كائن شبه الهي،بل اعتبره هو ذاته إله إسرائيل، ربُّ الكون الأزليّ، خالق الكوْن، الموجود قبل كل شيء.
دعونا نتأمل في مثاليْن فقط من كتابات بولس الرسول التي كتبها في خمسينيّات القرن الأول:
المثال الأول: (1كو 8: 5-6)
“لأَنَّهُ وَإِنْ وُجِدَ مَا يُسَمَّى آلِهَةً، سِوَاءٌ كَانَ فِي السَّمَاءِ أَوْ عَلَى الأَرْضِ، كَمَا يُوجَدُ آلِهَةٌ كَثِيرُونَ وَأَرْبَابٌ كَثِيرُونَ. لكِنْ لَنَا إِلهٌ وَاحِدٌ: الآبُ الَّذِي مِنْهُ جَمِيعُ الأَشْيَاءِ، وَنَحْنُ لَهُ. وَرَبٌّ وَاحِدٌ: يَسُوعُ الْمَسِيحُ، الَّذِي بِهِ جَمِيعُ الأَشْيَاءِ، وَنَحْنُ بِهِ.”
في صميم هذا النص الوارد في سياق حديث بولس الرسول حول مسألة تناول الطعام المقدَّم كذبيحة للأوثان في المُجتمع الروماني الوثني، يَكْمُن حرص بولس الرسول على التأكيد بشدّة على مفهوم الوحدانية، لا سيَّما وأن هذه المسألة مرتبطة بعبادة آلهة أخرى. إذ يؤكّد بولس انّه لا يوجد سوى إله واحد، خالق كل الاشياء، يستحق أن تُقدّم له العبادة، خلافًا للآلهة الزائفة في العبادات الوثنية.
في الواقع، من المتعارَف عليه بين كثير من الباحثين وعلى نطاق واسع، أنّ بولس يستند هنا بوضوح إلى جوهر العقيدة اليهودية التي تؤمن بالوحدانية، والمتمثلّة في “الشِّماع”(shema) في (سفر التثنية 6: 4) «اِسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ: الرَّبُّ إِلٰهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ».
لكن الجدير بالملاحظة، أن بولس يُدْرٍج يسوع المسيح ضمن مفهوم “الشِّماع”(shema)، مستخدمًا نفس الكلمة (“رَبٌّ” أي “كيريُوس” Κύριος”) التي كانت في الاصل تُستخدم للدلالة على اسم يهوه (יהוה). بولس هنا لا يُضيف يسوع إلى جوهر الله كما لو كان هناك إلهان، بل يعتبر انّ يسوع هو نفسه يهوه في الجوْهر الإلهي.
وتأكيداً على ايمانه بألوهية السيد المسيح في هذا النص، يَنسِب بولس الرسول إلى يسوع فِعْل الخَلْق ذاته الذي ينسبه إلى إله العهد القديم فيقول:
“لكِنْ لَنَا إِلهٌ وَاحِدٌ: الآبُ الَّذِي مِنْهُ جَمِيعُ الأَشْيَاءِ، وَنَحْنُ لَهُ. وَرَبٌّ وَاحِدٌ: يَسُوعُ الْمَسِيحُ، الَّذِي بِهِ جَمِيعُ الأَشْيَاءِ، وَنَحْنُ بِهِ.” (1 كو 8: 6)، وعليه، فإنّ يسوع ليس مخلوقًا، بل هو الخالق ذاته.
وهكذا يخلص باوكهام (Bauckham) الباحث وعالم اللاهوت إلى القول:
“لا يمكن تصوُّر وجود كريستولوجيا أعلى من تلك التي يعرضها بولس الرسول في (1 كورنثوس 8: 6 )، وهذه الكريستولوجيا العالية (High Christology) هي الطابع المشترك لكل لاهوت العهد الجديد” (Bauckham, 2008: 30).
المثال الثاني: (فيلبي 2: 6 -11)
يُعَدّ هذا النص من أعمق وأوضح الإعلانات اللاهوتية في العهد الجديد التي تعكس ما يُعرف بالكريستولوجيا العالية (High Christology)، أي الإيمان بألوهية المسيح. فبولس لا يكتفي فيه بالتأكيد على الوجود السابق للمسيح وتجسُّده، بل يقدّمه كالمستحق للمجد الإلهي ذاته.
“الَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اللهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلًا للهِ. لكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِرًا فِي شِبْهِ النَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي الْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ. لِذلِكَ رَفَّعَهُ اللهُ أَيْضًا، وَأَعْطَاهُ اسْمًا فَوْقَ كُلِّ اسْمٍ لِكَيْ تَجْثُوَ بِاسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي السَّمَاءِ وَمَنْ عَلَى الأَرْضِ وَمَنْ تَحْتَ الأَرْضِ، وَيَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أَنَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ هُوَ رَبٌّ لِمَجْدِ اللهِ الآبِ.”
يشير هذا الاقتباس بوضوح إلى (إشعياء 45: 23)، حيث يقول يهوه (יהוה) في سياقه الاصلي:
“بِذَاتِي أَقْسَمْتُ، خَرَجَ مِنْ فَمِي الصِّدْقُ كَلِمَةٌ لاَ تَرْجعُ: إِنَّهُ لِي تَجْثُو كُلُّ رُكْبَةٍ، يَحْلِفُ كُلُّ لِسَانٍ.”
في هذا السياق، يستخدم بولس نصّ (إشعياء 45: 23)، الذي يَرْد في أصله ضمن سياق يتكلّم فيه يهوه عن نفسه (יהוה)، ويطبّقه مباشرةً على السيّد المسيح. الأمر الذي يُشير إلى أن المجد الذي يُنسَب حصريًا ليهوه في العهد القديم يُنسَب بالكامل إلى السيد المسيح. ولا يُعدُّ هذا مجرّد اقتباس أو إشارة عابرة، بل يعكس رؤية بولس الرسول التي تعتبر أن المجد المنسوب ليهوه في العهد القديم يعود بالكامل إلى يسوع المسيح، مما يدل على إيمانه بأن يسوع هو يهوه (יהוה) ذاته في الجوهر الإلهي.
وقد لاحظ هورتادو (Hurtado)، أنه عند النظر الى هذا النص في (فيلبي 2: 6 – 11) كوحدة واحدة، فانه يصف عمل المسيح في تسلسل سَرْدي، يبدأ بوجوده السابق، ثم تجسُّده، ثم اتضاعه، وانتهاءً بصعوده وبعودته الى مجده الالهي السابق (Hurtado, 2003:123).
الجدير بالملاحظة أن العديد من الباحثين يَروْن في هذين النصّيْن انعكاسًا لتقليد لاهوتي مسيحي سابق لزمن تدوين رسائل بولس نفسها.
فالنص الوارد في (فيلبي 2: 6–11) يُعتبر على نطاق واسع ترنيمة مسيحيّة قديمة ذات طابع كريستولوجي، وقد استخدمها بولس الرسول في سياق هذه الرسالة.
وبالمثل، يُنظر إلى النص في (1 كورنثوس 8:5 – 6 ) بوصفه أحد أقدم الصِّيَغ العقائدية الواردة ضمن مجموعة الرسائل البولسية.
بالتالي، لا تُظهر هذه النصوص فقط أن بولس الرسول نفسه تبنّى كريستولوجيا عالية (High Christology) — أي إيمانًا واضحًا بألوهية المسيح — بل تكشف أيضًا أنّ هذا التصوُّر اللاهوتي عن المسيح يعود إلى ما قبل كتابات بولس وكان حاضرًا في أقدم مراحل الإيمان المسيحي، ربما حتى في أوائل أربعينيّات القرن الأول.
يسوع باعتباره إله العهد القديم
تنسب النصوص في (1 كورنثوس 8: 5-6) و(فيلبي 2: 6-11) إلى السيد المسيح الخاصّيتين الأساسيتين اللتين كان أيّ يهودي في القرن الأول ينسبهما إلى إله العهد القديم وهما: أنه وحده المستحقّ العبادة، وأنه خالق جميع الأشياء.
ويرجع هذان النصّان إلى خمسينيات القرن الأول الميلادي، أي قبل إنجيل يوحنا، بل وحتى قبل إنجيل مرقس ، ويرجّح انهما يعودان إلى زمن أقدم من أي مصدر مسيحي آخر متوفر لدينا في العهد الجديد.
فما معنى هذا؟
هذا يعني أن الكرستولوجيا العالية لألوهية المسيح، كما يعرضها إنجيل يوحنا، لم تكن تطورًا لاحقًا أو نتيجةً لمسارٍ تدريجي في الفكر اللاهوتي. بل من الواضح أن هذا الفهم كان حاضرًا منذ البدايات الأولى لانتشار المسيحية.
ليكون للبركة
Patricia Michael
What’s the Earliest New Testament Evidence for the Divinity of Jesus?
Michael J. Kruger