آبائياتإلحادالردود على الشبهات

لماذا خلقنا الله؟ – أمجد بشارة

لماذا خلقنا الله؟ - أمجد بشارة

لماذا خلقنا الله؟ – أمجد بشارة

لماذا خلقنا الله؟ - أمجد بشارة
لماذا خلقنا الله؟ – أمجد بشارة

لماذا خلقنا الله ؟ في حياتنا اليومية تتبادر دوماً إلى أذهاننا أسئلة عن أصل الأشياء وأصل الانسان: مَن صنع هذا الشيء وما هو مصنوع؟ من أين أتى هذا الانسان؟ مَن هم ذووه؟ أين وُلد وأين تعلَّم؟ من خلال ماضي الانسان نحاول أن نكتشف حاضره. وللتعمّق في معرفة ذواتنا نحاول أن نتذكّر نحن أيضاً تاريخنا الماضي وحياتنا السالفة.
لا يكتفي الايمان بتلك العودة في الزمن إلى ماضي الأشياء وماضي الانسان، بل يحاول اكتشاف الأصل اللازمني لجميع الكائنات، أي علّة وجودها ومبدأ كيانها.

كل انسان يختبر حدود وجوده في المكان والزمان، ولا سيمَا في أوقات الضيق والمرض والضعف والموت. من خلال تلك الخبرة يكتشف المؤمن أن الكائن المحدود لا يمكن أن يكون هو أصل ذاته. عندئذٍ ينفتح الكائن المطلق ويرى فيه أصل كل كيان وكل وجود. ويدرك إذّاك ان حياته هي نعمة أُعطيت له من قبل الله.
هذا ما تؤمن به مختلف الديانات وتعبّرعنه في عقيدة الخلق. وتلك العقيدة ليست نظرية علميّة تهدف إلى تفسير الطريقة التي خلق الله بها الكون، بل تعبير عن إيمان الانسان بعلاقته بالله أصل كيانه وعلّة وجوده[1] . 

 

أولاً : الخلق يُعرف من خلال التجسد :

كان تنازل الله الواضح و اعلانه عن ذاته في يسوع المسيح ابنه الحبيب – الذي به خُلِقت كل الاشياء – هو المنطلق الذي من خلاله تأمل الاباء في الاصل المُحير للكون كواقع حقيقي خارج عن الله . و كان خلق العالم من العدم  و استمرار وجوده ، يُفهم علي انه نابع من – و قائم علي – محبة الله غير المحدوده ، هذه المحبه التي هي الله ذاته منذ الازل كآب و إبن و روح قدس , و هي التي يريد ان يشرك خليقته فيها . فالخلق مثله مثل الفداء ، كان عملاً من اعمال نعمة الله المحضه التي تعلو علي الشرح ، و التي ظهرت في ابنه المتجسد[2] .

 كما قال القديس اثناسيوس : أن الكون المخلوق ، بدون الابن الكلمه  ، لا يعتبر في ذاته كافياً ليجعل الله معروفاً لنا . و لكن التأمل الصحيح في الكون إنما يكون في اللوغوس و من خلاله ، إذ هو انشأ الكون و اعطاه نظامه المنطقي ، و فيه ( أي في الكلمه )  يتماسك الكون بثبات معاً[3] .

 

ثانياً : الخلق شركه :

لتفسير كيفية خلق العالم وخلق الانسان، تستخدم الرواية الأولى من سفر التكوين عبارة “وقال الله…”. وتعود تلك العبارة عشر مرات في النص مذكرة بوصايا الله العشر. فكلمة الله في الوصايا تمنح الانسان الخلاص والحياة، وكلمة الله في الخلق تمنح الانسان الوجود والكيان. وكل كلمة وقول علاقة حوار بين أشخاص. فالانسان الذي أتى إلى الوجود بكلمة من الله، إنما هو في صميم كيانه علاقة حوار مع الله، والحوار يفترض الحرية، فالخلق إذاً ليس استعباداً للانسان ولا احتقاراً لكيانه ولا امتهاناً لكرامته.

لقد رفض ماركس وجود الله الخالق لأنه اعتبر ان مثل هذا الوجود ينقص من قيمة الانسان. ولكن ماركس لم يفهم معنى الخلق الصحيح، وما رفضه لله الخالق إلا رفض لصورة خاطئة عن الله الخالق. فبالخلق يعطي الله الانسان الوجود، إلا أن عطاءه هذا ليس عطاء سيّد لعبد ولا عطاء محسن لمستجدي، بل عطاء صديق لصديقه وأب لابنه وحبيب لحبيبه. “ان الله محبة”، والخلق هو أول أعماله التي بها أظهر محبته. يبقى أن يفتح الانسان قلبه لتلك المحبة، لتكون حياته وكلها جواباً على محبته تعالى له. [4]

و قال القديس ايرنيئوس انه علي الرغم من ان الله مكتفٍ ذاتياً تماماً في الشركه الداخليه التي لكيانه[5] ، إلا انه لا يريد ان يكون وجوده هو لذاته فقط ، بل بتلقائية و حريه قد احضر العالم إلي الوجود من العدم و أعطاه تكاملاً خاصاً به ، و وضع فيه كائنات مخلوقه عاقله يمكنه ان يهبها من نعمه و يشركها معه في شركة الحب الخاصه به . و مع ان الله متعال بصوره فائقه إلا انه ليس بمعزل عن خليقته ، بل هو حاضر و عامل فيها بلا عائق ، كما انه يتدخل شخصياً بعنايته الالهيه في احداث العالم و في شئون خليقته من البشر[6] .

و يقول الاب تادرس يعقوب مالطي : لم يخلق الله الإنسان لكي يستعرض عظمته وأمجاده، ولا لكي يضيف إلى الطغمات السمائية طغمة من الأرضيين تتعبد له. فهو ليس في حاجةٍ إلى من يمجده أو يخدمه أو يتعبد له. خلق الله الإنسان من التراب، ووهبه نسمة من فيه ليحتضنه بالحب، ويقدم له شركة معه في الأمجاد السماوية. أوجده ليرتفع به إلى الخلود في أمجادٍ لا يُعبر عنها، وهي أمجاد حبه الفائق له.

الإيمان بالله، سواء خلال الناموس الطبيعي، أو التأمل في الطبيعة والمخلوقات المنظورة، أو الناموس الموسوي، أو الإعلانات الإلهية عبر العصور، غايته أن يختبر الإنسان حب الله، ويتذوق عذوبة اهتمامه به، وقد بلغ تلك القمة بالإعلان عن سرّ الثالوث القدوس، هذا الإعلان الذي غايته التمتع بالحب الإلهي[7] .

 

ثالثاً : الخلق نتاج صلاح الله و نعمته :

 

يقول القديس يوحنا ذهبي الفم : و لماذا الخلق ؟ من فيض صلاحه خلقك[8] .

 

كان تنازل الله الواضح و اعلانه عن ذاته في يسوع المسيح ابنه الحبيب – الذي به خُلِقت كل الاشياء – هو المنطلق الذي من خلاله تأمل الاباء في الاصل المُحير للكون كواقع حقيقي خارج عن الله . و كان خلق العالم من العدم  و استمرار وجوده ، يُفهم علي انه نابع من – و قائم علي – محبة الله غير المحدوده ، هذه المحبه التي هي الله ذاته منذ الازل كآب و إبن و روح قدس , و هي التي يريد ان يشرك خليقته فيها . فالخلق مثله مثل الفداء ، كان عملاً من اعمال نعمة الله المحضه التي تعلو علي الشرح ، و التي ظهرت في ابنه المتجسد[9] .

و كان القديس ايرينيئوس قد وجه الانتباه الي تعليم افلاطون الذي في رده علي سؤال : لماذا خلق الله العالم ؟ قد اشار الي صلاح الله الذي بلا حسد ، و الذي بدلاً من ان يحتفظ بصلاحه لنفسه ، كون العالم لكي يعكس من خلاله صلاحه و نظامه الخاص[10] . فكان يجب أن يُسكب الصلاح وينتشر خارج ذاته، لكى يكثر الذين ينالون من إحسانه بحسب رأي القديس غريغوريوس النيزنزي[11] .

و يقول يوحنا الدمشقي : إذ كان الله صالحا و فائق الصلاح , لم يكتف بمشاهدته ذاته , بل ارتضي بدافع فائق من صلاحه أن يكون من يحسن اليهم و يشركهم بصلاحه , فأخرج الكل من العدم الي الوجود و خلق ما يري و ما لا يري , جاعلا الانسان مركبا من منظور و غير منظور . انه تعالي قد خلق بفكره , و فكره اضحي عملا بمؤازرة كلمته , و كمل بالروح[12] .

 

رابعاً : الخلق ابداع مثل إبداع الفنان :

 

بقولنا ان الله خالق نؤكد أنه فنّان ومبدع وشاعر. فلفظة “خلَق” في اليونانية تعني “أبدع الشعر”. فانه قد أبدع الكون كما يبدع الشاعر الشعر.
إلهنا ليس ساحراً يقوم بأعمال سحر وبراعة. انه شاعر يخلق الحياة ويبدع الجمال. انه شاعر ينير كل ما يلمسه بالمجد والبهاء. الشاعر يخلق ما هو نفسه عليه….. الله هو الشاعر الأسمى. لا بدّ لنا لمعرفة شاعر من درس شعره وأعماله. العالِم والفنّان والباحث هم الدارسون لشعر الله. وحصيلة درسهم تنهّدات أعجاب ورهبة أمام روعة عمله.

وهذا الإعجاب، وما يرافقه من تنهّدات، هو الطريقة الفضلى لعبادة الله والسجود له. ثم ان من يعاشر شاعراً يتشرّب شعره ويمتلئ منه. المسيحي يعيش في ألفة إله شاعر. العالِم والفنان والباحث هم اللاعبون الملهمون لألعاب الله والمرنّمون لموسيقاه وشعره. عندما نفكر بالله نفكر به دوماً كشاعر مبدع: “أومن بإله واحد، الخالق الشاعر، مبدع السماء والأرض، كل ما يرى وما لا يرى”.[13]

لقد نظم الله عدداً لا يحصى من القصائد. نظمٍ قصيدة ودعاها “السماء”، ونظم قصيدة أخرى ودعاها “الأرض”، ونظم أيضا قصائد أخرى دعاها “النجوم” و”الكواكب” و”الماء” و”الحيوان” و”الملاك” و”الشجر” و”الزهر” و”الزرع”. كل قصيدة من قصائد الله هي مصدر مفاجأة ومدعاة فرح. كل قصيدة من قصائد الله هي ينبوع مفاجآت توسّع إمكاناتنا وتملأنا إعجاباً وابتهاجاًً[14] .   

 

خامساً : الخلق عمل حب :

في التعبير عن الإيمان المسيحي بالله الخالق نجد صلة وثيقة بين الخلق وأُبوَّة الله. فالإله الذي نؤمن بأنه خلق السماء والأرض ليس الإله المتجبِّر المتسلِّط بل الله الآب. لذلك نعتبر أن الإيمان بالله الخالق هو الإيمان بأن محبة الله هي التي أوجدت الخلائق كلها، وان العالم ليس وليد صدفة بل ثمرة اختيار الله وقصده المحبّ.

لقد أوجز يوحنا الانجيلي فحوى الإيمان المسيحي بقوله: “نحن قد عرفنا المحبة التي لله فينا وآمنّا بها” (1 يو 4: 16). إنّ في أصل الكون وفي أصل الإنسان كائناً محباً من فيض محبته يعطي الوجود لجميع الكائنات.
ان الإيمان بالله الخالق هو نتيجة لقاء بين كشف الله عن ذاته وخبرة الانسان لمحبة الله. وهذا اللقاء نقرأ حكايته في الكتاب المقدّس في كلا العهدَين القديم والجديد. ففي العهد القديم اختبر اليهود محبة الله المخلّص الذي أنقذهم من عبودية مصر، وانطلاقاً من تلك الخبرة راحوا يتأملون في الإله الخالق. فالإله الذي أحبّهم وخلّصهم هو نفسه الإله الذي أحبّهم وخلقهم وخلق الكون بأسره[15] .  

 

و اوضح القديس اثناسيوس ان الله خلق كل الاشياء من العدم و انه يريد للبشرية الوجود بسبب محبته للبشر ، تلك التي اظهرها للعالم في يسوع المسيح الكلمه الذاتي المتجسد ، الذي به احضرت كل الاشياء الي الوجود و أُعطيت كياناً واقعياً . و بدلاً من ان يضن الله علي الخليقه بالوجود – كواقع خالج عن ذاته . أحضرها بحريته إلي الوجود بواعز من كرمه المحض لكي ما يغدق عليها حبه[16] .

و يقول ق. غريغوريوس النيسي ثبت لنا خلال المباحثات المنطقية أن كلمة الله (أو الحكمة أو القوة) هو خالق الطبيعة البشرية، لم يكن مُلزمًا تحت ضرورة ما لخلقة الإنسان، لكنه جاء بالإنسان إلى الوجود من أجل فرط محبته له[17]. 

 

هذا هو في النهاية المفهوم الصحيح للخلق: إن بين الخليقة والله ارتباطاً دائماً، فالكائنات كلها متعلّقة بالله تعلُّقها بمبدإ وجودها ومصدر كيانها.
ان عقيدة الخلق في الإيمان المسيحي لا تقصد تفسير كيفية وجود العالم وكيفية تكوينه. بل جلّ قصدها إظهار معنى وجود العالم والتأكيد أن هذا الوجود يستقيه من الله ينبوع كل وجود ومصدر كل كيان. واذا استطاع العلم يوماً تفسير كيفية تكوين العالم تفسيراً أكيداً ونهائياً -كل التفسيرات التي يعطيها اليوم العلم إنما هي مجرد نظريات قابلة للنقاش- فالإيمان وحده يستطيع اكتشاف العلاقة الحميمة التي تربط هذا العالم بالله.


وتلك العلاقة هي علاقة محبة، فالعالم هو فيض من محبة الله اللامتناهية وعطيّة مجانية من إله العطاء والمحبة[18]. 

 

[1]اللاهوت المسيحي و الانسان المُعاصر ج1 . المطران كيرلس سليم بسترس . ص 50

[2] الايمان بالثالوث في القرون الاولي . توماس ف تورانس . ترجمة د / عماد موريس . إصدار دار بناريون للنشر . ص 133 . basil, hex., 1.2;Gregory nyss., or. Cat., 5 ; de an . et res ., mpg 46.9bff; gregor naz., or ., 38.9; 45.5.see also athenagoras, de res ., 12-13 . Athanasius,de inc ., 1,1ff; con. Ar., 2.14, 44-65 ; 3.43,67;4.33

[3]الايمان بالثالوث في القرون الاولي . توماس ف تورانس . ترجمة د / عماد موريس . إصدار دار بناريون للنشر . ص 134 . Athanasius, con . ar  3.59-62  

[4]اللاهوت المسيحي و الانسان المُعاصر ج1 . المطران كيرلس سليم بسترس . ص 98

[5]كما يقول القديس هيلاري اسقف بواتييه ان الله في ذاته ليس منعزلاً لانه كأب و إبن و روح قدس هو في ذاته شركه ازليه للحب و الوجو الشخصي . الايمان بالثالوث في القرون الاولي . توماس ف تورانس . ترجمة د / عماد موريس . إصدار دار بناريون للنشر . ص 131 . Hilary , de syn , 37 ; de trin ., 4 . 21 ; 6 . 12 , 19 ; 7 . 3 , 8 , 39 ; 8 .52 .

[6]الايمان بالثالوث في القرون الاولي . توماس ف تورانس . ترجمة د / عماد موريس . إصدار دار بناريون للنشر . ص 131 . irenaeus , adv haer ., 2 . 47 . 2 , vol . 1 , pp 367f ; 2 . 6 . 1f , p 382 f ; 4.25 . 1f vol2 , pp. 184f; 4.34 . 1f , pp. 212ff; 4.63.1f , pp 294ff; dem., 3ff , 11f

[7]الحب الالهي . للاب تادرس يعقوب مالطي . إصدار كنيسة مارجرجس اسبورتنج . ص 353

[8]شرح الرساله إلي اهل فيلبي ( في 1 : 30 ) ترجمة أ / نشأت مرجان . إصدار دار النشر الاسقفيه . ص 77

[9]الايمان بالثالوث في القرون الاولي . توماس ف تورانس . ترجمة د / عماد موريس . إصدار دار بناريون للنشر . ص 133 . basil, hex., 1.2;Gregory nyss., or. Cat., 5 ; de an . et res ., mpg 46.9bff; gregor naz., or ., 38.9; 45.5.see also athenagoras, de res ., 12-13 . Athanasius,de inc ., 1,1ff; con. Ar., 2.14, 44-65 ; 3.43,67;4.33

[10]الايمان بالثالوث في القرون الاولي . توماس ف تورانس . ترجمة د / عماد موريس . إصدار دار بناريون للنشر . ص 132 . irenaeus , adv haer , . 3 . praef . and 41 , vol 2 pp 1ff , ; 4.25.1f,pp 184ff; 4.63 . 1 , p. 294 f; plato, timaeus, 29e-30b . cf. philo, de migr . abr., 32 .

[11]ثيوفانيا: ميلاد المسيح، ترجمة الدكتور نصحى عبد الشهيد، دكتور جورج عوض، المركز الأرثوذكسى للدراسات الابائية، يناير 2004، ص20.

[12]المائة مقالة في الايمان الارثوذكسي . ترجمه عن اليونانيه / الارشمندريت أدريانوس شكور . مترجم عن : migne . P . G  ., t . 94 , vol . 789 – 1228   . ص 89

[13]اللاهوت المسيحي و الانسان المُعاصر ج1 . المطران كيرلس سليم بسترس . ص 30

[14]اللاهوت المسيحي و الانسان المُعاصر ج1 . المطران كيرلس سليم بسترس . ص 30

[15]اللاهوت المسيحي و الانسان المعاصر . المطران كيرلس سليم بسترس . ج1 . ص 75

[16]الايمان بالثالوث في القرون الاولي . توماس ف تورانس . ترجمة د / عماد موريس . إصدار دار بناريون للنشر . ص 132 . Athanasius , con. Gent ., 41 ; de inc., 3; cf. con ar., 2.29

[17]القديس غريغوريوس النيسي . الحب الالهي .للاب تادرس يعقوب مالطي . ص  15 . Orat. Cat. 5 ترجمة الدكتورة نورا العجمي

[18]اللاهوت المسيحي و الانسان المعاصر . المطران كيرلس سليم بسترس . ج1 . ص 75

 

لماذا خلقنا الله؟ – أمجد بشارة