الردود على الشبهات

شرح ايات في التجسد .. ضد الاريوسيين

 

 

                                                    مقدمه

لشرح آيات من الأناجيل

عن التجسُّد

          1ـ انظر إنهم لا يملّون من تكرار كلمات الكفر، بل إذ قد تقّسوا مثل فرعون فإنهم حينما يستمعون إلى ما يشير إلى صفات المخلّص البشريّة ويرونه مدوّنًا في الأناجيل أن الابن هو إله كامل مثل الآب، فإنهم يتناسون تمامًا مثل بولس الساموسطى[1]، وبوقاحة لسان يجعجعون قائلين: [ كيف يمكن أن يكون الابن من الآب بالطبيعة، ويكون واحدًا معه في الجوهر؟ وهو الذي يقول “دفع إليّ كل سلطان” (مت18:28) و ” الآب لا يدين أحدًا بل قد أعطى كل الدينونة للابن ” (يو22:5)، ” الآب يحب الابن وقد دفع كل شئ في يده، الذي يؤمن بالابن له حياة أبدية ” (يو35:3). وأيضًا ” كل شئ قد دفع إليّ من أبي. وليس أحد يعرف مَن هو الآب إلاّ الابن ومَن أراد الابن أن يعلن له ” (لو2:10)، وأيضًا ” كل ما يعطني الآب فإليّ يقبل ” (يو37:6) ]. إنهم يعلّقون على هذه الآيات ويقولون: [ لو كان الابن كما تقولون، ابنًا بالطبيعة، لما كان في احتياج أن يأخذ، بل كل شئ يكون له بالطبيعة كابن، أو كيف يكون هو القوّة الطبيعية والحقيقية للآب وهو في وقت الآلام قال ” الآن نفسي قد اضطربت وماذا أقول؟ أيها الآب نجني من هذه الساعة ولكن لأجل هذا أتيت إلى هذه الساعة أيها الآب مجّد اسمك فجاء صوت من السماء مجدت وأمجد أيضًا ” (يو27:12ـ28). وأيضًا قال كلمات مشابهة في مرّة أخرى ” يا أبتاه إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس ” (مت39:26) وعندما قال يسوع هذا اضطرب بالروح وشهد وقال ” الحق الحق أقول لكم إن واحدًا منكم سيسلمني ” (يو21:13). وبالإضافة إلى كل هذا، يتساءل هؤلاء الأغبياء قائلين: لو كان هو القوّة لما كان قد ضَعُفَ، بل لكان قد أعطى قوّة لآخرين بالأحرى، ويضيفون قائلين لو كان هو حكمة الآب الحقيقية والذاتية، فلماذا كُتِب عنه: ” وكان يسوع ينمو في الحكمة والقامة والنعمة عند الله والناس ” (لو52:2). وبالمثل عندما جاء إلى نواحي قيصرية فيلبس سأل التلاميذ ” ماذا يقول الناس إني أنا ” (مت13:16). وأيضًا حينما جاء إلى بيت عنيا سأل عن لعازر ” أين دفن ” (انظر يو18:11). وأيضًا قال لتلاميذه ” كم رغيفًا عندكم ” (مر38:6). ويقولون: كيف إذًا يكون هو الحكمة وهو ينمو في الحكمة، وكان يجهل الأمور التي كان يسأل عنها الآخرين؟ ويقولون أيضًا: كيف يمكن أن يكون هو كلمة الآب الذاتي الذي بدونه لم يكن الآب أبدًا والذي به يخلق الآب كل الأشياء كما تعتقدون أنتم، وهو الذي قال على الصليب ” إلهي إلهي لماذا تركتني ” (مت46:27). وقبل ذلك صلى قائلاً “ مجد اسمك ” (يو28:12) وأيضًا ” مجدني أنت أيها الآب بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم ” (يو5:17). واعتاد أن يصلي في البراري وأوصى تلاميذه أن يصلوا لئلا يدخلوا في تجربة، بل وقال لهم ” الروح نشيط أما الجسد فضعيف ” (مت41:26). وأيضًا ” أما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد ولا الملائكة ولا الابن” (مر32:13).

 

          وبالإضافة إلى هذا فإن هؤلاء التعساء يدّعون أيضًا ويقولون:   [ لو كان الابن بحسب رأيكم هو موجود أزليًا مع الله لما كان قد جهل ذلك اليوم بل لكان قد عرفه باعتباره أنه هو الكلمة، ولما كان قد تركه ذلك الذي هو كائن معه، ولما كان قد سأل أن ينال المجد طالما أن له هذا المجد مع الآب، ولما كان قد سأل أين ينال المجد طالما أن له هذا المجد مع الآب، ولما كان قد صلى على الإطلاق إذ أن الكلمة ليس في احتياج إلى أى شئ، ولكن حيث إنه مخلوق وواحد من الموجودات لذلك تكلّم هكذا وكان محتاجًا إلى ما لم يكن عنده، لأنه معروف عن المخلوقات أنها تسأل الأشياء التي لا تملكها، وتحتاج إليها ].

 

          2ـ هذه هى الأشياء التي يدّعي بها الجاحدون في أحاديثهم ويتكلّمون بها، ولكن طالما هم يفكرون هكذا فكان يمكنهم أن يسألوا بجرأة أكثر قائلين [ ” لماذا صار الكلمة جسدًا على الإطلاق “؟ ويمكن أن يضيفوا أيضًا ” كيف يمكن وهو الله، أن يصير إنسانًا “؟ ] أو [ كيف يمكن لمن لا جسد له أن يلبس جسدًا؟ أو يمكن أن يتكلّموا بطريقة يهودية أكثر من قيافا ويسألون عمومًا، لماذا يجعل المسيح نفسه إلهًا وهو إنسان؟ ] لأن أقوالاً مثل هذه وغيرها قد قالها اليهود وتذّمروا عليه. والآن فإن الآريوسيين حينما يقرأونها هم أيضًا لا يؤمنون، وقد سقطوا في التجاديف، والآن فمن يمتحن أقوال هؤلاء وأولئك فبالتأكيد سيجد أن كليهما يتفقان في عدم الإيمان ويتساويان في كفرهما وفي جرأتهما ضدنا ويشتركان معًا في محاربتهما لنا، لأن اليهود يقولون  ” كيف يمكن وهو إنسان أن يكون إلهًا “؟ (انظر يو33:10). أما الآريوسيون فيقولون [ لو كان إلهًا حقيقيًا من إله، فكيف يمكن أن يصير إنسانًا؟ ] واليهود عثروا عندئذٍ واستهزءوا قائلين ” لو كان ابن الله، لما كان قد قبل الصليب “؟ والآريوسيون يتفقون مع اليهود ويهاجموننا ويقولون: [ كيف تتجاسرون أن تقولوا إن الذي هو الكلمة الذاتي من جوهر الآب، هو الذي أخذ جسدًا، واحتمل كل هذا ]؟ وأيضًا، فبينما حاول اليهود أن يقتلوا الرب لأنه قال إن الله أبوه، وجعل نفسه معادلاً لله، وإنه يعمل الأعمال التي يعملها الآب؛ فإن الآريوسيين أيضًا ليس فقط تعلّموا أن ينكروا أن الكلمة مساوي لله وأن الله هو الآب الطبيعي للكلمة، بل هم أيضًا يحاولون أن يقتلوا مَن يؤمنون بهذا. وبينما يقول اليهود ” أليس هذا هو يسوع ابن يوسف الذي نحن عارفون بأبيه وأمه “؟ (يو42:6) فكيف يقول إذًا ” قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن ” (يو58:8) و ” أني نزلت من السماء “؟ (يو42:6)، فالآريوسيون بدورهم يجيبون بنفس الأقوال ويقولون: [ كيف يمكن أن الذي ينام ويبكي ويطلب أن يعرف كإنسان، يكون هو الكلمة أو هو الله ]؟ ولهذا فالفريقان فقدا صوابهما وأنكرا أزلية الكلمة وألوهيته متعلّلين بتلك الصفات البشريّة التي نسبها المخلّص لنفسه بسبب الجسد الذي لبسه.

 

          3 ـ إذًا طالما أن هذا الضلال هو يهودي، ويوصف هكذا نسبة إلى يهوذا الخائن، فدعهم إذًا يعترفون صراحةً أنهم تلاميذ قيافا وهيرودس، بدلاً من أن يُلبِسوا اليهودية اسم المسيحية، ولينكروا تمامًا كما سبق أن قلنا حضور المخلّص في الجسد. لأن هذا الإنكار أقرب إلى بدعتهم. أو إن كانوا يخافون أن يختتنوا ويتهوّدوا علنًا بسبب خضوعهم للملك قسطنطيوس، ولأجل أولئك الذين خُدِعوا منهم، إذًا فدعهم لا يقولون ما يقوله اليهود، لأنهم إن تخلّوا عن الاسم فيلزمهم عن حق أن يرفضوا العقيدة المرتبطة بالاسم. لأننا نحن مسيحيون. أيها الآريوسيون ـ نعم نحن مسيحيون ونحن نتميّز بأننا نعرف جيدًا ما تقوله الأناجيل عن المخلّص ونحن لا نرجمه مع اليهود عندما نسمع عن ألوهيته وأزليته، كما أننا لا نعثر معكم، في الكلمات المتواضعة التي قالها من أجلنا كإنسان. إذًا فإن أردتم أن تصيروا مسيحيين فارفضوا جنون آريوس، وآذانكم التي تلوثت بكلمات التجديف طهّروها بكلمات التقوى، عالمين أنه بمجرد توقفكم عن أن تكونوا آريوسيين فإنكم ستكفون أيضًا عن خبث اليهود المعاصرين. وعندئذٍ سيشرق عليكم نور الحق ويخرجكم من الظلمة،ولن تعودوا عندئذٍ تعيّروننا باعتقادنا بوجود اثنين أزليين. بل ستعترفون أنتم أنفسكم أن الرب هو ابن الله، الحقيقي بالطبيعة وليس مجرد أنه أزلي، بل وتعترفون أنه كائن في الآب، ومع الآب أزليًا لأن هناك موجودات تسمى أزلية، وهو صانعها لأنه مكتوب في المزمور 7:23س ” ارفعوا أيها الرؤساء أبوابكم، وارتفعي أيتها الأبواب الدهرية “، فمن الواضح أن هذه الأبواب (الدهرية = الأزلية) قد صُنِعَت بواسطته. ولكن إن كان هو خالق حتى الأشياء الدهرية فمَن منا يمكنه عندئذٍ أن يشك في أنه هو سابق على تلك الأشياء الدهرية؟ وبالتالي يتبرهن أنه الرب، ليس من كونه أزليًا فقط بل ولكونه ابن الله. وكإبن هو غير منفصل عن الآب ولم يكن هناك زمن ما لم يكن فيه موجودًا، بل كان كائنًا على الدوام، ولأنه صورة الآب وشعاعه، فَلَهُ أزليّة الآب.

 

          والآن فما قلناه أعلاه باختصار يكفي لكي يبرهن على سوء فهمهم للآيات التي تعلّلوا بها وأن ما يتعلّلون به الآن من الأناجيل يعطونه بالتأكيد تفسيرًا غير صحيح، ويمكننا أن نرى هذا بسهولة إذا وضعنا أمامنا كهدف ذلك الإيمان الذي نمسك به نحن المسيحيون وأن نستخدمه كقاعدة كما يعلّمنا الرسول في قراءة الكتب الموحى بها (انظر 2تيمو16:3). لأن أعداء المسيح بسبب جهلهم لهذا الهدف، قد ضّلوا عن طريق الحق، واصطدموا بحجر الصدمة (انظر رو33:9)، معتقدين في أمور لا ينبغي أن يؤمنوا بها.

 

          4ـ والآن فإن هدف الكتاب المقدس وميزته الخاصة كما قلنا مرارًا هو أنه يحوي إعلانًا مزدوجًا عن المخلّص: أى أنه كان دائمًا إلهًا وأنه الابن إذ هو كلمة الآب وشعاعه وحكمته، ثم بعد ذلك اتخّذ من أجلنا جسدًا من العذراء مريم والدة الإله، وصار إنسانًا. وهذا الهدف نجده في كل الكتب الموحى بها، كما قال الرب نفسه ” فتشوا الكتب، وهى تشهد لي ” (يو39:5). ولكن لكي لا أُكثرْ في الكتابة بجمع كل الآيات عن هذا الموضوع فسوف أكتفي بذكْرْ عيّنة من هذه الآيات. فأولاً، يقول يوحنا ” في البدء كان الكلمة. والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله. هذا كان في البدء عند الله، كل شئ به كان وبغيره لم يكن شئ مما كان ” (يو1:1ـ3). وبعد ذلك يقول ” والكلمة صار جسدًا، وحلّ بيننا، ورأينا مجده، مجدًا كما لوحيد من الآب ” (يو14:1). ثم يكتب بولس ” الذي إذ كان في صورة الله، لم يحسب خلسة أن يكون مساويًا لله، لكنه أخلى نفسه آخذًا صورة عبد صائرًا في شبه الناس وإذ وجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب ” (في6:2ـ8).

 

          ويمكن لأي إنسان أن يبتدئ بهذه الآيات ويجتاز خلال كل الكتاب وسوف يرى كيف أن الآب قال في البدء ” ليكن نور” (تك3:1)، و     ” ليكن جلد” (تك6:1) و “ لنعمل الإنسان” (تك26:1)، ولكن في ملء الأزمنة أرسل ابنه إلى العالم، ” لا لكي يدين العالم بل ليخلّص به العالم ” (يو17:3). وكما كُتب ” ها العذراء تحبل، وتلد ابنًا ويدعون اسمه عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا ” (مت23:1).

 

          5ـ إذًا فمَن يقرأ الكتاب المقدس، سيعرف هذه الآيات من كُتْبْ العهد القديم، ومن الأناجيل أيضًا وسيُدرِك أن الرب صار إنسانًا، لأن الكتاب يقول ” الكلمة صار جسدًا وحلّ بيننا ” (يو14:1). والكلمة صار إنسانًا، ولم يأت إلى داخل إنسان، لأن هذا ضروري أن نعرفه، لئلا يضل هؤلاء الناس عديمي التقوى ومن ثَمَ يخدعون الآخرين بهذا الضلال ظانين أنه كما اعتاد الكلمة أن يأتي إلى القديسين في العهد القديم، هكذا يأتي الآن أيضًا في إنسان ويقدّسه ويظهر بواسطته كما أَظهَرَ نفسه في السابقين، لأنه لو كان الأمر كذلك، وأنه ظهر فقط في إنسان، لما كان هذا أمرًا غريبًا، ولما تعجب أولئك الذين رآوه قائلين “من أين هو”؟ (انظر يو9:19) و” وأنت إنسان تجعل نفسك إلهًا ” (يو33:10) لأنهم قد اعتادوا على مجيء كلمة الله إلى الأنبياء من الكلمات التي تقول ” صارت كلمة الرب ” إلى هذا أو ذاك من الأنبياء. ولكن الآن، حيث إن كلمة الله، الذي به كان كل شئ، قبل أن يصير ابن الإنسان، ووضع نفسه، آخذًا صورة عبد، لذلك صار صليب المسيح لليهود عثرة أما لنا نحن، فالمسيح هو قوة الله وحكمة الله (انظر 1كو24:1).

 

          لأنه كما قال يوحنا “الكلمة صار جسدًا”. فمن عادة الكتاب أن يدعو الإنسان بلفظة جسد، كما يقول بيوئيل النبي ” أسكب روحي على كل جسد ” (يوئيل 4:3) وكما قال دانيال إلى أستياجيس ” لست أعبد الأصنام المصنوعة بالأيدي بل الإله الحيّ الذي خلق السماء والأرض، وله سلطان على كل جسد ” (تتمة دانيال 5). فكل من دانيال ويوئيل يدعو جنس البشر جسدًا.

 

          6ـ ومنذ القديم صار هذا مع كل واحد من القديسين لكي يقدّس أولئك الذين يقبلونه بأمانة، ولكن حينما وُلد أولئك الأنبياء، لم يَقُل عندئذٍ أنه الكلمة صار جسدًا، ولا حينما تألموا قيل أنه هو نفسه قد تألم. ولكن حينما جاء بيننا من مريم العذراء في نهاية الأزمنة لأجل إبطال الخطية، لأنه هكذا سُّر الآب أن يرسل ابنه الذاتي ” مولودًا من امرأة مولودًا تحت الناموس ” (غلا4:4)؛ عندئذٍ قيل إنه أخذ جسدًا وصار إنسانًا، وبهذا الجسد تألّم لأجلنا كما يقول بطرس ” فإذ قد تألم المسيح لأجلنا بالجسد ” (1بط1:4)، لكي يقبل الكّل ويؤمنوا أنه كان إلهًا على الدوام، وقد قدّس أولئك الذين أتى إليهم، ورتّب كل الأشياء حسب مشيئة الآب، وفيما بعد صار لأجلنا إنسانًا، وكما يقول الرسول       ” اللاهوت حلّ في الجسد ” (كو9:2)، وهذا يساوي القول ” إنه هو الله، له جسده الخاص به، وقد صار إنسانًا لأجلنا مستخدمًا هذا الجسد كأداة.

 

          وبناء على هذا فقد قيل عن خواص الجسد أنها خاصة به حيث إنه كان في الجسد، وذلك مثل أن يجوع، وأن يعطش، وأن يتألم، وأن يتعب، وما شابهها من الأمور المختصّة بالجسد، بينما من الناحية الأخرى فإن الأعمال الخاصة بالكلمة ذاته مثل إقامة الموتى، وإعادة البصر إلى العميان، وشفاء المرأة نازفة الدم، قد فعلها بواسطة جسده، والكلمة حمل ضعفات الجسد كما لو كانت له، لأن الجسد كان جسده، والجسد خَدَم أعمال اللاهوت، لأن اللاهوت كان في الجسد ولأن الجسد كان جسد الله. وحسنًا قال النبي “حملها” (إش4:53، مت17:8) ولم يقل إنه ” شفى ضعفاتنا ” لئلا إذ تكون هذه الضعفات خارج جسده هو، وهو يشفيها فقط ـ كما كان يفعل دائمًا فإنه يترك البشر خاضعين للموت، ولكنه حمل ضعفاتنا، وحمل هو نفسه خطايانا، لكي يتضّح أنه قد صار إنسانًا لأجلنا، وأن الجسد الذي حَمَل الضعفات، هو جسده الخاص، وبينما هو نفسه لم يصبه ضرر أبدًا   ” بحمله خطايانا في جسده على الخشبة ” كما قال بطرس (1بط24:2) فإننا نحن البشر قد افتدينا من أوجاعنا وامتلأنا ببر الكلمة.

 

          7ـ وتبعًا لذلك فعندما تألّم الجسد، لم يكن الكلمة خارجًا عنه، ولهذا السبب يقال إن الآلام خاصة بالكلمة، وعندما عمل أعمال الآب لاهوتيًا، لم يكن الجسد خارجًا عنه، لكن الرب عمل هذه الأعمال في هذا الجسد نفسه، لهذا فحينما صار إنسانًا، قال ” إن كنت لست أعمل أعمال أبي فلا تؤمنوا بي ولكن إن كنت أعمل فإن لم تؤمنوا بي فآمنوا بالأعمال لكي تعرفوا وتؤمنوا أن الآب فيّ وانأ فيه ” (يو37:10ـ38). ولذلك فحينما كان هناك احتياج لإقامة حماة بطرس التي كانت مريضة بالحمى، فإنه مدّ يده إليها بشريًا ولكنه أوقف المرض إلهيًا (انظر مت14:8). وفي حالة الإنسان المولود أعمى فإن تَفْل البصاق كان من الجسد ولكن فتّح عين الأعمى بالطين إلهيًا. وفي حالة لعازر، فلكونه إنسانًا فقد دعاه بصوته البشري ولكونه في نفس الوقت إلهًا فقد أقامه من الأموات. وهذه الأمور حدثت هكذا وظهرت هكذا لأنه كان قد اتخّذ لنفسه جسدًا حقيقيًا وليس خياليًا[2]، ولذا كان يليق بالرب بأخذِه جسدًا بشريًا أن يكون لهذا الجسد كل الخواص التي للجسد، حتى كما نقول إن الجسد كان جسده هكذا أيضًا نقول إن آلام الجسد كانت خاصة به أى بالكلمة رغم أنها لم تمسه بحسب لاهوته. فلو كان الجسد هو جسد خاص بآخر غيره لكانت الآلام قد نُسِبَت لهذا الآخر أيضًا، ولكن إن كان الجسد هو جسد الكلمةلأن الكلمة صار جسدًا ” (يو14:1) فبالضرورة إذًا أن تُنسَب آلام الجسد أيضًا للذي له هذا الجسد[3]. والذي تنسب له هذه الآلام مثل المحاكمة، والجلد والعطش والصلب، والموت وضعفات الجسد الأخرى، فلابد أن تنسب له بالأحرى النصرة والنعمة.

 

          لهذا السبب إذ كان ضروريًا وملائمًا أن لا تُنسب مثل هذه الآلام لآخر بل للرب، حتى تكون النعمة أيضًا منه ولا نصير نحن عابدين لآخر، بل تكون عبادتنا لله حقًا، لأننا لا ندعو مخلوقًا من المخلوقات، ولا إنسانًا عاديًا، بل ندعو الابن الحقيقي والذي هو الله حسب طبيعته، الذي صار إنسانًا وهو في نفس الوقت الرب والإله المخلّص.

 

          8ـ فمَنْ الذي لا يُعجَب بهذا الكلام؟ أو مَن هو الذي لا يوافق أن هذا الأمر هو إلهي بالحقيقة؟[4] لأنه لو كانت أعمال ألوهية الكلمة لم تحدث بالجسد، لما كان الإنسان قد تأله[5]، وأيضًا لو أن الضعفات الخاصة بالجسد لم تنسب للكلمة، لما كان الإنسان قد تحرّر منها تمامًا. وحتى لو أنها كانت قد توقّفت لفترة قليلة كما قلت سابقًا[6] لظلّت الخطية وظلّ الفساد باقيان في الإنسان، كما كان الحال مع الجنس البشري قبل التجسد. ولهذا فهناك أمثلة لكثيرين قد تقدّسوا وتطهّروا من كل خطية مثل إرميا الذي تقدّس من الرحم (انظر إر5:1) ويوحنا الذي وهو لا يزال جنينًا في البطن ارتكض بابتهاج عند سماع صوت مريم والدة الإله (انظر يو44:1). ومع ذلك فقد ” ملك الموت من آدم إلى موسى، وذلك على الذين لم يخطئوا على شبه تعدي آدم ” (رو14:5)، وهكذا ظلّ البشر مائتين وقابلين للفساد كما كانوا، ومعرّضين للأوجاع الخاصة بطبيعتهم، أما الآن فإذ صار الكلمة إنسانًا وجعل الأمور الخاصة بالجسد خاصة به، فلم تَعُد تلك الأمور تمسك بالجسد بسبب الكلمة الذي قد جاء في الجسد، فقد انهزمت الأوجاع بواسطته ومنذ ذلك الحين فصاعدًا لم يبقَ الناس بعد خطاة وأمواتًا بحسب أوجاعهم بل قد قاموا بقوة الكلمة، وصاروا غير مائتين وغير فاسدين وأقوياء دائمًا. ومن هنا أيضًا فبينما وُلِدَ الجسد من مريم والدة الإله، فإن الكلمة نفسه يقال إنه قد وُلِد، وهو الذي يعطي بداية الوجود للكائنات الأخرى، لكي ينقل بداية تكويننا إلى نفسه، ولكي لا نرجع فيما بعد كمجرد تراب إلى تراب، ولكن بارتباطنا بالكلمة الذي من السماء، فإننا نُحمَل إلى السموات بواسطته. لذلك فإنه بطريقة مماثلة قد نقل إلى نفسه أوجاع الجسد الأخرى لكي يكون لنا شركة في الحياة الأبدية ـ ليس كبشر فيما بعد ـ بل أيضًا لأننا قد صرنا خاصين بالكلمة.

 

          لأننا لم نَعُد نموت بحسب بدايتنا الأولى في آدم، بل بسبب أن بدايتنا وكل ضعفات الجسد قد انتقلت إلى الكلمة، فنحن نقوم من الأرض، إذ أن لعنة الخطية قد أُبطلت بسبب ذاك الذي هو كائن فينا، والذي قد صار لعنة لأجلنا. وكما أننا نحن جميعًا من الأرض وفي آدم نموت هكذا نحن إذ نُولَد من فوق من الماء والروح فإننا في المسيح نُحيا جميعًا. فلا يعود الجسد فيما بعد أرضيًا بل يكتسب قوّة بسبب كلمة الله، الذي لأجلنا صار جسدًا.

 

          9ـ ولكي ما نصل إلى معرفة أكثر دقة بخصوص عدم قابلية طبيعة الكلمة للتألم وبخصوص الضعفات التي نُسبت له بسبب الجسد، جيد لنا أن نستمع إلى الطوباوي بطرس لأنه شاهد موثوق فيه عن المخلّص. فهو يكتب في رسالته هكذا “ فإذ قد تألّم المسيح لأجلنا بالجسد ” (1بط1:4)، لذلك أيضًا فحينما يُقال عنه، إنه يجوع، وإنه يعطش، وإنه يتعب، وإنه لا يعرف، وإنه ينام، وإنه يبكي، وإنه يسأل، وإنه يهرب، وإنه يُولَد، وإنه يتجنّب الكأس، وعمومًا إنه يحتمل كل ما يخص الجسد، فينبغي أن يقال في كل حالة من هذه الحالات إن (المسيح) عندما يجوع ويعطش فإنه يفعل هذا بالجسد لأجلنا، وعندما يُقال إنه لم يعرف وأنه لُطِم، وأنه تعب، فإنه فعل هذه بالجسد لأجلنا، وأيضًا عندما يُقال إنه صعد وإنه قد وُلِدَ وكان ينمو فإن هذا كان بالجسد، وكذلك عندما يقال إنه خاف واختبئ فإن هذا كان بالجسد، وكذلك عندما قال ” إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس ” (مت39:26). وعندما يقال إنه ضُرِب وإنه تحمّل فإن كل هذه كانت بالجسد لأجلنا. وعلى وجه العموم فكل مثل هذه الأمور قد تحمّلها بالجسد لأجلنا. ولهذا السبب قال الرسول نفسه إن المسيح عندما تألّم، لم يتألّم بلاهوته، بل “لأجلنا بالجسد”، لكي لا تعتبر هذه الآلام خاصة بطبيعة الكلمة ذاتها، بل هى خاصة بطبيعة الجسد ذاتها. لذلك لا ينبغي أن يَعثُر أحد بسبب الأمور الإنسانية، بل بالحرى فليعرف، أن الكلمة نفسه بالطبيعة هو غير قابل للتألّم، ومع ذلك فبسبب الجسد الذي اتخذه تقال عنه هذه الأمور، حيث إنها أمور خاصة بالجسد والجسد نفسه خاص بالمخلّص، فبينما هو نفسه غير قابل للتألم بالطبيعة، ويظّل كما هو دون أن تؤذيه هذه الآلام، بل بالحرى إذ هو يوقفها ويلاشيها، فإن آلام البشر تتغيّر وتتلاشى في ذلك الذي هو غير متألم، وحينئذٍ يصير البشر أنفسهم غير متألمين وأحرارًا من هذه الأوجاع إلى الأبد كما علّم يوحنا قائلاً ” وتعلمون أن ذاك أظهر لكي يرفع خطايانا وليس فيه خطية ” (1يو5:3). ولأن الأمر هكذا فلا يعترض أحد من الهراطقة قائلاً: [ كيف يقوم الجسد وهو بالطبيعة مائت؟ وإن قام، فلماذا لا يجوع ويعطش ويتألّم ويظّل مائتًا؟ لأنه قد صار من التراب، فكيف يمكن أن تفارقه حالته الطبيعية ]؟ عندئذٍ يستطيع الجسد الآن أن يجاوب هنا الهرطوقي المقاوم ويقول: [ أنا من التراب، وبحسب الطبيعة مائت، ولكن فيما بعد قد صرت جسد الكلمة، وهو حَمَلَ أوجاعي، مع أنه هو نفسه غير متألم، هكذا صرت أنا حرًا من هذه الأوجاع ولم أعد بعد مستعبدًا لها بسبب الرب الذي قد حرّرني منها. لأنك إن كنت تعترض على تحرّري من ذلك الفساد الذي هو من طبيعتي، فانتبه أنك بهذا تعترض على أن كلمة الله قد أخذ صورة العبد الخاصة بي. لأنه كما أن الرب بلبسه الجسد قد صار إنسانًا، هكذا نحن البشر فإننا نتأله[7] بالكلمة باتحادنا به بواسطة جسده، ولهذا فنحن سنرث الحياة الأبدية ].

 

          10ـ لقد وجدنا أنه من الضروري أن نبحث هذه الأمور أولاً لكي حينما نراه يعمل أو يقول ما يليق بالله بواسطة جسده، فإننا نعرف أنه يعمل هكذا لأنه هو الله، وأيضًا إذ رأيناه يتكلّم أو يتألّم إنسانيًا فإننا لا نجهل أنه باتخاذه الجسد صار إنسانًا ولذلك فهو عمل هذه الأعمال وتكلّم بهذه الكلمات. لأننا عندما نعرف ما هو خاص بكل منهما (الله والإنسان)، نرى ونفهم أن هذه الأمور التي تجري من كليهما، إنما تتم بواسطة واحد[8]، فإننا نكون مستقيمين في إيماننا، ولن نضل أبدًا. أما إن كان أحد وهو ينظر إلى الأعمال التي يعملها الكلمة إلهيًا، ينكر الجسد، أو وهو ينظر إلى تلك الأمور الخاصة بالجسد، ينكر حضور الكلمة في الجسد، أو بسبب ما هو بشري يفكر أفكارًا حقيرة عن الكلمة، مثل هذا يكون كبائع خمر يخلط الخمر بالماء[9] فيحسب الصليب عثرة أو يكون مثل اليوناني، الذي يعتبر الكرازة جهالة[10]. هذا هو إذًا ما أصاب الآريوسيين أعداء الله، لأنهم بنظرهم إلى ما هو بشري في المخلّص قد اعتبروه مخلوقًا. لذلك كان يلزمهم أيضًا عندما ينظرون الأعمال الإلهية للكلمة أن ينكروا تجسده، وبذلك فإنهم يصنفون أنفسهم مع المانويين[11]. فليتهم يتعلّمون ولو متأخرًا أن الكلمة صار جسدًا، أما نحن فإذ نحتفظ بهدف الإيمان، ندرك أن ما يسيئون تفسيره، له تفسير سليم.

 

1 بولس الساموساطي: كان أسقفًا لأنطاكية في القرن الثالث. علّم تعاليمًا خاطئة عن شخص المسيح له المجد، وقال إن الكلمة قد حلّ على طبيعة المسيح البشرية مثل حلول شخص على شخص وبالتالي فإن المسيح لا يختلف عن أي نبي آخر سوى في الدرجة وكانت تعاليمه هذه أساس لما علّم به نسطور فيما بعد ولقد أدانت ثلاث مجامع في انطاكية تعاليم الساموساطي وعزل عن كرسيه في عام 268م.

 

2 هنا يرد ق. أثناسيوس أيضًا على بدعة الخياليين التي أنكرت أن التجسد كان حقيقيًا، وعلّمت بأن الكلمة في تجسّده قد اتخذ جسدًا خياليًا. ولقد حارب ق. يوحنا هذه البدعة في رسالته الأولى 3:4.

 

3 تضع الكنيسة هذه التعاليم العقائدية الهامة أمامنا في صلوات الساعة السادسة عندما نتضرّع لله الكلمة الابن المتجسد والرب يسوع المسيح قائلين ” … اقتل أوجاعنا بآلامك المشفية المحييّة .. “.

 

4 يُلّخص ق. أثناسيوس في هذا الفصل نتائج هذا الأمر الإلهي الذي هو تجسد الابن الوحيد، وقد شرح في كتابه “تجسد الكلمة” بالتفصيل ما نالته البشرية بظهور الله الكلمة في الجسد. انظر كتاب “تجسد الكلمة” ترجمة د. جوزيف موريس فلتس، إصدار المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، الفصول 6ـ32.

 

5 انظر هامش رقم 27 ص50.

 

6 انظر المقالة الثانية ضد الآريوسيين، ترجمة أ. صموئيل كامل، ود. نصحي عبد الشهيد، إصدار مركز دراسات الآباء 1987. فقرة 65 صفحة 89، فقرة 86 صفحة 106

7 انظر هامش ص50 رقم 27

8 أى بواسطة شخص واحد، ومن هنا تتضّح هنا الأسس السليمة التي اعتمد عليها ق. كيرلس بخصوص تعليمه عن طبيعة السيد المسيح الواحدة والتي استقاها من ق. أثناسيوس الرسولي.

 

9 إش22:1.

10 1كو23:1.

11 انظر الهامش رقم 22 ص36.