سؤال وجواب

ما هي الانحرافات الفكرية التي نتجت عن الحركة العقلانية؟ وما هي مراحل المرجعية الثلاث التي مرَّ بها الإنسان؟

 120- ما هي الانحرافات الفكرية التي نتجت عن الحركة العقلانية؟ وما هي مراحل المرجعية الثلاث التي مرَّ بها الإنسان؟

ج:

كان من نتائج حركة التنوير (الحركة العقلانية) كثرة الانحرافات الفكرية، لدرجة أن البعض أنكروا الثالوث القدوس مكتفين بوحدانية الله ونشأ ” مذهب الموحدين ” Untarians وأعتقد البعض بوحدة الوجود أي أن الله كائن في كل شيء، وكل شيء هو الله، وأنكر البعض الوحي الإلهي، وقال البعض بوجود أخطاء علمية وتاريخية وجغرافية في الكتاب المقدَّس يجب الإقرار بها، وأنكر البعض المعجزات التي جاء ذكرها في الكتاب المقدَّس، وأنكر البعض الأمور الميتافيزيقية (ما وراء الطبيعة) مثل الملائكة والشياطين والقيامة والخلود والملكوت والعذاب الأبدي، وهاجم البعض العهد القديم، وتطاول البعض على إله العهد القديم، ونادى البعض بفصل الأخلاق عن الدين، فالتعاطف والتسامح وعمل الخير ونشر السلام الأمور التي هي محل اهتمام الكنيسة صارت محور اهتمام الفلسفة، وصار التركيز على فلسفة النزعة الإنسانية التي تهتم بالإنسان وتعتبره أنه هو مركز كل الدراسات، وبلغ تأثير الفلسفة العقلانية في أمريكا أن الذين صاغوا الدستور الأمريكي كان معظمهم ممن يعتقدون بالتأليه الطبيعي، وعندما دارت المناقشات حامية بين أعضاء الكونجرس طلب الرئيس ” بنيامين فرنكلين ” أن يقفوا للصلاة طلبًا للإرشاد الإلهي، فرفضوا ملقين اعتمادهم الأول والأخير على العقل.

وقد قسم الدارسون المرجعية (أي أن يكون للإنسان مرجع يرجع إليه في حياته وسلوكياته) إلى ثلاث مراحل:

مرحلة التدين الأخلاقي – مرحلة الحداثة – مرحلة ما بعد الحداثة

1- مرحلة التدين الأخلاقي:

وارتبطت هذه المرحلة بعصر الزراعة، وكان المرجع فيها هو الله والكتاب المقدَّس كلمة الله، واتسمت هذه المرحلة بالإيمان بقوة وعظمة الله التي تأتي بالأمطار، فتفيض الأنهار، وتنمو النباتات، وتحيا الطيور والحيوانات، فالله هو يمثل الحقيقة المطلقة Absolute Reality رغم انحرافات الوثنية، وانحرافات الكنيسة الكاثوليكية في القرون الوسطى، ومع كل هذا فإن الله ظل هو الحقيقة المطلقة.

2- مرحلة الحداثة Modernism:

وقد دُعيت بمرحلة التنوير أو الحركة العقلانية، وقد ارتبطت هذه المرحلة بعصر الصناعة، واتسمت هذه المرحلة بتعظيم العقل البشري الذي استطاع أن يكتشف كروية الأرض، ويصنع الماكينات مصنَّع السيارة والقطار والطيارة والمدفع، وأقام المصانع، فصار العقل الإنساني هو المرجع الأول والأخير، وأصبح الإنسان يقبل ما يقبله العقل، ويرفض ما يرفضه، ويقول الدكتور القس صموئيل رزفي ” كما ظهرت الحداثة حيث أُستخدم العلم في تفسير النصوص القديمة فما يسانده العلم فهو صحيح، وما لا يسانده العلم فهو غير صحيح”(1) وتغافل الإنسان أن الله هو الذي خلق العقل، وتغافل الإنسان أيضًا أن الاكتشافات العلمية قد جاءت بومضة glimpese من فوق أنارت العقل البشري، فطالما رأى الإنسان الثمار تسقط من الأشجار، ولكن في ومضة أكتشف نيوتن في سقوط الثمرة لأسفل قانون الجاذبية الأرضية، وبينما كان نيوتن يكتشف قوانين الطبيعة قال ” كنت كطفل صغير يلهو على شاطئ محيط ضخم ” كما قال أينشتاين ” كلما ازددت علمًا ازددت إحساسًا بالجهالة”، وتغافل الإنسان أن العلم السليم يتوافق مع الإيمان السليم، وأن هناك علاقة بين العقل والإيمان، فالعقل يشبه العين المجردة. أما الإيمان فهو التلسكوب الذي يرى الإنسان به ما لا يراه بالعين المجردة، وما أجمل قول القديس أغسطينوس ” أنا أُؤمن لكي أتعقل ” فبالإيمان يستنير العقل ” بالإيمان نفهم أن العالمين أُتقنت بكلمة الله” (عب 11: 3).

3- مرحلة ما بعد الحداثة Post – modernism:

يقول الدكتور القس صموئيل رزفي ” في القرن العشرين ظهر مفهوم ما بعد الحداثة لإعطاء الحرية للعقل لكي يحكم على المسلمات ولا يتقيد بالثوابت أو المطلق”(2) فلم يعد المرجع هو الله وكتابه المقدَّس، ولم يعد المرجع هو العقل. إنما صار المرجع هو ” أسلوب الحياة ” Culture وهذه هي المرحلة الحاضرة، فأصبح لكل مجموعة أسلوبًا معينًا تقبله المجموعة وتعيش بموجبه بغض النظر عن مدى صحة هذا الأسلوب، فالشرط الوحيد هو أن لا يمس حرية الآخرين ولا يخالف القانون المدني، وبهذا انتشرت ولاسيما في بلاد الحريات المذاهب المنحرفة حتى وصلت إلى اللاهوت الأنثوي، والشذوذ الجنسي، وكهنوت المرأة، بل وصل الحد إلى عبادة الشيطان.

ودعيت هذه المرحلة بمرحلة العصر الحديث New Age Movement التي تعتقد بأن:

1- الله هو الكل All is God:

فالكون بكل ما يحتويه من إنسان وحيوان ونبات وجماد هو الله، والله هو كل شيء (وحدة الوجود).

2- الكل جيد ومقبول All is Good:

فما تراه أنت خطأ قد يراه غيرك صحيحًا، والعكس، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. فالحقيقة لم تعد مطلقة إنما صارت الحقيقة نسبية ولذلك فكل شيء، كل دين، كل عقيدة الكل جيد ومقبول. فيقول نيافة الأنبا موسى الأسقف العام للشباب عن هذه المرحلة ” أين الحقيقة؟ لا توجد حقيقة مطلقة، بل هناك Relative reality أي ” حقيقة نسبية”.. وهكذا تاه الإنسان بل حتى بعض الكنائس، حيث اعتمدوا كهنوت المرأة (مخالفة الكتاب المقدَّس والتقليد على مدى التاريخ) وقننوا الشذوذ الجنسي، والبقية تأتي. لقد تجاسر بعض الأنجليكان -بسبب غياب المرجعية- أن يتم التصويت على آيات واضحة في الكتاب المقدَّس، دستور المسيحية، فرفضوا ما قاله بولس الرسول ضد الشذوذ الجنسي، مدَّعين أن ما قاله المسيح شيء، وما قاله بولس شيء آخر، ومتناسين أن ” كل الكتاب هو مُوحى به من الله..” (تي 3: 16، 17).. من هنا تأتي حاجة الإنسان إلى المرجعية العليا ممثلة في الكتاب المقدَّس، ليس فقط كإحتياج نفسي، بل كإحتياج عملي، يستطيع أن يحكم على كل شيء، ويميز ” الأمور المتخالفة” (رو 2: 18، في 1: 10) لذلك نحتاج إلى نور الكلمة أثناء مسيرة الحياة، لنعرف كيف نختار، وكيف نميز بين الخير والشر، وبين المقبول وغير المقبول، والبنَّاء وغير البنَّاء”(3).

3- الكل واحد All is one:

فهذه الفلسفة ستجمع البشرية وتوحدها بدلًا من الأديان التي تُفرِقها(4).

وخلال هذا الفصل نود أن نتتبع بقدر الإمكان الفلسفة العقلانية منذ القرن السابع عشر وحتى الآن، وذلك من خلال عرض نماذج لشخصيات كان لها تأثيرها في تنمية هذا الاتجاه، أو في التصدي له، وخلال هذا الفصل نتعرض لتاريخ هذه الحركة كالآتي:

أولًا: الفلسفة العقلانية في القرن السابع عشر.

ثانيًا: الفلسفة العقلانية في القرن الثامن عشر.

ثالثًا: الفلسفة العقلانية في القرن التاسع عشر.

رابعًا: الفلسفة العقلانية في القرن العشرين.

خامسًا: تأثر الوسط البروتستانتي المصري بالفلسفة العقلانية ولاهوت التحرُّر.

_____

(1) تجديد الفكر الديني في المسيحية ص 20.

(2) تجديد الفكر الديني في المسيحية ص 20.

(3) مقال عن المرجعية – مجلة الكرازة في 21 أكتوبر 2005م.

(4) راجع مقال نيافة الأنبا موسى عن المرجعية بمجلة الكرازة في 21/10/2005م، وكتابنا: المذاهب الحديثة المنحرفة ص 279 – 302).

ما هي الانحرافات الفكرية التي نتجت عن الحركة العقلانية؟ وما هي مراحل المرجعية الثلاث التي مرَّ بها الإنسان؟