تفسير العهد الجديد

تفسير رسالة رومية 15 الأصحاح الخامس عشر – القمص تادرس يعقوب ملطي

تفسير رسالة رومية 15 الأصحاح الخامس عشر - القمص تادرس يعقوب ملطي

تفسير رسالة رومية 15 الأصحاح الخامس عشر – القمص تادرس يعقوب ملطي

تفسير رسالة رومية 15 الأصحاح الخامس عشر - القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير رسالة رومية 15 الأصحاح الخامس عشر – القمص تادرس يعقوب ملطي

تفسير رسالة رومية 15 الأصحاح الخامس عشر – القمص تادرس يعقوب ملطي

الأصحاح الخامس عشر

المؤمن والضعفاء

 

“سرّ المسيح” عند الرسول بولس هو انفتاح باب الإيمان للعالم كله، لتتمتّع جميع الشعوب بخلاص المسيح المجّاني. وقد جاءت هذه الرسالة في مجملها تُعلن هذا السرّ، فتتحدث عن عمومية الخلاص. والآن يقدّم لنا الرسول هذا الأصحاح العملي متناغمًا مع فكر الرسالة كلها، ألا وهو التزام الكنيسة ككل وكل عضو فيها بانفتاح القلب نحو خلاص الجميع، محتملين الضعفاء، مهتمّين بالأمم أيّا كان ماضيهم، يسندون الرسول بصلواتهم ليحقّق في حياته وكرازته إعلان هذا السرّ، بالرغم من مقاومة بعض اليهود المتعصبين له:

  1. احتمال الضعفاء 1-7.
  2. اتساع القلب للأمم 8-13.
  3. مساندته في خدمة الأمم 1421.
  4. شوقه لخدمتهم في روما 2224.
  5. فهمه لعطاء الأمم 25-28.
  6. جهادهم معه بالصلوات 2930.
  7. مقاومة غير المؤمنين له 3132.
  8. خاتمة 33.

1. احتمال الضعفاء

“فيجب علينا نحن الأقوياء أن نحتمل أضعاف الضعفاء

ولا نرضي أنفسنا،

فليُرضِ كل واحدٍ منّّا قريبه للخير لأجل البنيان،

لأن المسيح أيضًا لم يرضي نفسه،

بل كما هو مكتوب تعييرات معيّريك وقعت عليّ” [13].

هذا هو “سرّ المسيح” أن كلمة الله أعلن قوته بنزوله إلينا يحمل ضعفنا لكي يرفعنا إلى كمال قوّته وبهائه ومجده؛ فالمؤمن إذ يحمل فيه “سرّ المسيح” أو فكره إنما يُدرك القوّة الحقيقية باحتماله بالحب ضعفات الضعفاء، مهتمًا بخير قريبه لأجل بنيانه، ولا يطلب ما هو لذاته. هذا العمل ليس من عنده، إنما هو عمل المسيح الساكن فيه، والذي يشتاق إلى خلاص الكل.

ويلاحظ في هذه الوصيّة الرسولية تجاه الضعفاء الآتي:

أولاً: يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم:[انظر كيف يثير اهتمامهم بمديحه لهم لا بدعوتهم أقوياء فحسب وإنما بضمهم إليه كأقوياء…”فيجب علينا نحن الأقوياء[1]]

هذا هو منهج الرسول بولس في كل كرازته وفي كل رسائله، قبل أن يوصي ويشجّع، وقبل أن يكشف الجراحات يُعلن الأمور الصالحة والفاضلة فيهم؛ فعِوض أن يوبّخهم هنا لأنهم يحتقرون الضعفاء ويستخفّون بالأمم، يُعلن لهم أنهم بالمسيح أقوياء فيُلزمهم أن يمارسوا عمل المسيح، الفاتح أحضانه لكل ضعيف وكل أممي بالحب لا بالإدانة!

هذا وحديث الرسول يُعلن أن في الكنيسة يوجد على الدوام أقوياء وأيضًا ضعفاء، وكما يقول القدّيس أغسطينوس: [لا توجد الكنيسة بدونهما[2]]. إذ يحتمل الأقوياء الضعفاء، فيتزكّون على عظيم محبتهم، ويمتثّل الضعفاء بالأقوياء دون حسدٍ فينمون على الدوام.

ثانيًا: بقوله “لأن المسيح لم يُرضِ نفسه، بل كما هو مكتوب: تعييرات معيّريك وقعت عليّ” يودّ أن يُعلن لهم بطريقة غير مباشرة، إنهم إن كانوا أقوياء، إنما لأن السيد المسيح حمل ضعفهم، فتعييراتهم وقعت عليه، إذ حمل عار خطاياهم ليُقيمهم أقوياء بعد الضعف. وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [هل أنتم أقوياء؟ رُدّوا هذا لله الذي جعلكم هكذا، وذلك إن رأيتم ضعف المرضى بحق. فإننا نحن كنّا ضعفاء أيضًا، وبالنعمة صرنا أقوياء. لنعمل أيضًا بالنسبة بالضعفاء (أي نسندهم بالنعمة[3]).]

ثالثًا: إن كنّا بالنعمة الإلهية نلنا القوّة في المسيح يسوع، يليق بنا ترجمة هذه القوّة عمليًا، وكما يقول الرسول: “فليُرضِ كل واحد منّا قريبه للخير لأجل البنيان” [2]. في هذا يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [هل أنت قوي؟ ليختبر الضعيف قوّتك. ليأت وليعرف قوّتك، إرضه. لم يقل “إرضه” هكذا بطريقة مجرّدة وإنما “لخيره“، وليس فقط “لخيره” مجرّدة، لئلاّ يقول الشخص المتقدّم: انظر ها أنا أسحبه لخيره! إنما يضيف الرسول: “لأجل البنيان“… هذا التصرّف يلزم أن يفعله “كل واحد”[4].]

هذه هي “القوّة” الحقيقية في المسيح يسوع، أن ننزل إلى الضعيف مع مسيحنا لنحمله على منكبي الحب، ونرتفع معه لنحيا معًا سالكين الحياة الصالحة لبنيان نفوسنا ونفوسهم، أو لبنيان العالم كله في الرب. بهذا نرضي الآخرين للخير للبنيان، مقدّمين لا أموالنا وطاقاتنا لخدمتهم، وإنما أيضًا نقدّم قلوبنا ومشاعرنا وأحاسيسنا، نشاركهم آلامهم وأتعابهم وضيقاتهم.

رابعًا :   يقدّم لنا الرسول بولس السيد المسيح مثلاً نقتدي به، إذ لم يُرضِ نفسه بل من أجلنا حمل تعييراتنا التي كنّا نستحقها ليهبنا برّه. هذه هي عادة الرسول أنه يقدّم لنا السيد المسيح في كل شيء مثلاً.

يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [إذ كان (الرسول) يتحدّث عن الصدقة، قدّم لنا المسيح (مثلا): فإنكم تعرفون نعمة ربنا يسوع المسيح أنه من أجلكم افتقر وهو غني (2 كو 8: 9). وإذ كان يحث على المحبّة حثّنا به قائلاً: كما أحبّنا المسيح (أف 5: 25). وعندما نصحنا على احتمال الخزي والمخاطر قدّمه ملجأ لنا: من أجل السرور الموضوع أمامه احتمل الصليب مستهينًا بالخزي (عب 12: 2). هكذا في هذه العبارة (رو 15: 3) يفعل ذات الشيء، موضّحًا أن النبي سبق فأعلن عن ذلك قديمًا، بقوله: “تعييرات معيّريك وقعت عليّ (مز 69: 9). لماذا لم يقل: “أخلى نفسه” (في 2: 7)؟ لأنه لم يرد أن يشر فقط إلى تأنّسه، وإنما أيضًا إلى إساءة معاملته واتهامه بواسطة كثيرين، والنظر إليه كضعيف. فقد قيل: إن كنتَ ابن الله فانزل عن الصليب” (مت 27: 40)، وأيضا: “خلَّص آخرين وأمّا نفسه فما يقدر أن يخلِّصها (مت 27: 40)… وهنا أيضًا يظهر إن المسيح لم يُعيَّر وحده وإنما الآب أيضًا، إذ يقول تعييرات معيّريك وقعت عليّ. فما يقوله تقريبًا هو هذا: ما يحدث الآن ليس بالأمر الجديد أو الغريب، فإنهم في العهد القديم اعتادوا أن يعيِّروا (الآب)، وهاهم الآن ثائرون على ابنه. لكن هذه الأمور كُتبت لكي نتمثّل بهما[5].]

خامسًا: إن كان ما قد كُتب في العهد القديم (مز 69: 9) أن التعييرات قد سقطت على الأب والإبن، إنما لأجل نفعنا، لكي يبعثنا ذلك على احتمال الضعفات والتعييرات حتى بالصبر مع التعزية يكون لنا رجاء إننا نتمثّل بالله نفسه محتمل الضعفاء. هذا ما أعلنه الرسول بقوله: “لأن كل ما سبق فكتب، كُتب لأجل تعليمنا، حتى بالصبر والتعزية بما في الكتب يكون لنا رجاء” [4].

غاية الكتاب المقدس أن يحثّنا على الاحتمال بصبر، ليهبنا تعزية في وسط الآلام، الأمر الذي يفتح لنا باب الرجاء. لأننا إن كنّا نتعزّى وسط آلامنا، فماذا يكون حالنا حين ننطلق من العالم بآلامه؟

سادسًا:  إذ يحثّنا الرسول بولس على احتمال ضعفات الضعفاء لخيرهم لبنيانهم، وهو يقدّم لنا السيد المسيح مثلاً حيًا في هذا العمل، بل وعاملاً فينا لتحقيق ذلك، يرفع الرسول صلاة لله كي يسندنا، قائلاً:

“وليعطكم إله الصبر والتعزية أن تهتمّوا اهتمامًا واحدًا فيما بينكم

 بحسب المسيح يسوع،

لكي تمجّدوا الله أبًا ربنا يسوع المسيح بنفسٍ واحدةٍ وفمٍ واحدٍ” [5-6].

يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [هذا ما يودّ الحب أن يفعله أن يهتم الإنسان بالآخرين كما بنفسه، ولكي يظهر أن ما يطلبه ليس حبًا مجردًا يضيف: “بحسب المسيح يسوع”. هذا ما يفعله في كل موضع، إذ يوجد نوع آخر من الحب. فإنه أي نفع للاتفاق معًا (إن لم يكن بحسب المسيح يسوع[6])؟]

هذا الحب في المسيح يسوع يمجّد الله الآب لا خلال وحدة الفم فقط أي بالكلام، وإنما وحدة الإرادة أيضًا (نفس واحدة)…

هذا الحب في المسيح يسوع واهب الوحدة هو طريق تنفيذ الوصيّة: “لذلك اقبلوا بعضكم بعضًا كما أن المسيح أيضًا قبلنا لمجد الله” [7].

2. اتساع القلب للأمم

الآن إذ يوصينا باحتمال الضعفاء خلال الحب الحقيقي، واهب الوحدة في المسيح يسوع، يقدّم لنا تطبيقًا عمليًا في حياة السيد المسيح كما في حياتنا نحن أيضًا، فبالحب ضمّ السيد المسيح أهل الخِتان والأمم معًا فيه، حاملاً ضعفات الكل، وبذات الحب يليق باليهود المتنصّرين أن يفتحوا قلبهم لإخوتهم الراجعين من الأمم لله، لتتحقق فيهم إرادة الله التي سبق فأعلنها في العهد القديم من جهة قبول الأمم للإيمان بالله.

وأقول أن يسوع المسيح قد صار خادم الخِتان،

من أجل صدق الله،

حتى يثبت مواعيد الآباء،

وأمّا الأمم فمجّدوا الله من أجل الرحمة،

كما هو مكتوب: من أجل ذلك سأحمدك في الأمم وأرتل لاسمك” [8-9].

ماذا يقصد الرسول بهذا؟ يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم [أن إبراهيم نال وعدًا أن بنسله تتبارك جميع الأمم (تك 12: 7، 22: 18). وما حدث أن نسل إبراهيم وإن كان قد مارس الخِتان لكنه كسر الناموس وحُسب متعدّيًا فسقط بالناموس تحت اللعنة، لهذا جاء السيد المسيح خادمًا للختان، إذ أكمل الناموس ولم يكسره، حتى متى ارتفع على الصليب ينزع لعنة الناموس التي للعصيان. تألّم لكي لا يسقط الوعد المُعطَى لإبراهيم، حاملاً الغضب عن الساقطين فيتحرّروا عن العداوة والتغرّب عن الله… بهذا رفعهم السيد المسيح عن اللعنة، وأقامهم من سلطان الناموس، ليتحقّق فيهم الوعد الإلهي الذي أُعطيَ لآبائهم. هذا من جانب أهل الخِتان، أما من جانب الأمم فقد انفتح لهم أيضًا باب المراحم الإلهية لينعموا مع أهل الختان بالعمل الخلاصي جنبًا إلى جنب، فيشترك الاثنان – اليهودي والأممي – خلال نعمة الله في تقديم الحمد لله والتسبيح لاسمه، كما سبق فأنبأ المرتّل: “لذلك أحمدك يا رب في الأمم وأرنم لك” (مز 18: 49)، وما أعلنه موسى النبي: تهلّلوا أيها الأمم شعبه” (تث 32: 43)، وداود النبي: “سبحوا الرب يا كل الأمم” (مز 117: 1)، وأيضًا إشعياء النبي: “ويخرج قضيب من جزع يسّى وينبت غصن من أصوله… ويكون في ذلك اليوم أن أصل يسّى القائم راية للشعوب إيّاه تطلب الأمم (إش 11: 1، 10).]

[كل هذه المقتطفات قدمت لكي يظهر أنه يجب أن نتحد ونمجد الله، ولكي يتواضع اليهودي ولا ينتفخ على هذه الشعوب، وفي نفس الوقت يحث الأممي على التواضع إذ يظهر له أنه قد نال نعمة عظمى[7].]

إن كان الله منذ القدم قد خطّط لخلاص كل الشعوب والأمم حتى أنبأ بذلك رجال العهد القديم، فكيف يمكن لليهودي أن يغلق قلبه عن قبول أخيه الأممي معه في الإيمان، والتهليل والتسبيح لله؟

ليفتح اليهودي قلبه بالحب ليضم إلى صدره الأممي، وليفتح الأممي قلبه شاكرًا الله الذي رفعه عن ضعفه ليدخل بين صفوف المؤمنين!

إذ فتح أبواب الرجاء لليهود كما للأمم. لهذا يقدّم الرسول أشبه بصلاة أو شفاعة لدي الله ليزيدهم في هذا الرجاء بدخولهم إلى الإيمان بقوّة الروح القدس مملوئين سرورًا وسلامًا، إذ يقول: “وليملأكم إله الرجاء كل سرور وسلام في الإيمان، لتزدادوا في الرجاء، بقوّة الروح القدس” [13].

3. مساندة في خدمة الأمم

إذ تحدّث عن التزامهم كأقوياء أن يحتملوا ضعفات الضعفاء، وكيهود متنصّرين أن يقبلوا الأمم في الإيمان بفرح وسرور، أراد أن يلطّف الحديث معهم، فلا يجعل من وصيته أمرًا ثقيلاً على نفوسهم، لهذا بادر يمدحهم مظهرًا أن ما يطلبه منهم ليس بالكثير بالنسبة لقامتهم الروحيّة وإدراكهم، إذ يقول: “وأنا نفسي متيقّن من جهتكم يا إخوتي أنكم أنتم مشحونون صلاحًا، ومملؤون كل علم، قادرون أن يُنذر بعضكم بعضًا” [14].

ويلاحظ هنا رقته في الحديث من جهة الآتي:

أولاً: لم يقل أنه سمع عن صلاحهم، وإنما هو بنفسه متيقّّن من صلاحهم. ليس محتاجًا إلى آخرين يشهدون لهم أمامه. وكأنه يقول إن كنت أوصيكم أو أقسو عليكم بالانتهار لكنني متيقّن من جهتكم إنكم مشحونون صلاحًا!

ثانيًا: يُعلّق القدّيس يوحنا الذهبي الفم على تعبيره: “أنكم أنتم مشحونون صلاحًا“، بالقول: [كأنه يقول: ليس لأنكم قساة أو مبغِضون لإخوتكم لذلك أنصحكم أن تقبّلوا عمل الله ولا تهملوه أو تحطموه، فإني أعرف أنكم مشحونون صلاحًا؛ وإنما يبدو لي هنا أن أدعوكم لكمال فضيلتكم[8].]

ثالثًا: في رقّة يحثّهم كما على اتساع القلب أكثر فأكثر بحب الآخرين حيث لا ينقصهم ملء الصلاح والمعرفة والقدرة. من جهة القلب هم صالحون لطفاء محبّون؛ من جهة الفكر لهم ملء العلم والمعرفة، ومن جهة الإمكانية قادرون. هذا كله أعطاه الجسارة ليطالبهم أكثر فأكثر! غاية في الحكمة والتشجيع!

رابعًا: يكتب القدّيس بولس إليهم بروح الأخوة المتواضعة، الأخوة التي أعطته دالة ليتجاسر فيكتب إليهم لا كمن يوصيهم بأمرٍ غريبٍ عن حياتهم، وإنما يذكرهم لينموا بالأكثر فيما يمارسونه فعلاً، إذ يقول: “ولكن بأكثر جسارة كتبت إليكم جزئيّا أيها الإخوة، كمذكّر لكم بسبب النعمة التي وُهبت لي” [15].

يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [لاحظ تواضع فكر بولس، لاحظ حكمته… أنه ينزل من كرسي السيادة هنا وهناك ليتحدّث إليهم كإخوة وأصدقاء في نفس الدرجة[9].]

خامسًا:  يُعلن الرسول أنه ملتزم بالكتابة لهم لأنه يمارس خدمته الرسولية التي أُفرز لها كرسول للأمم، فإن كانت روما عاصمة العالم الأممي في ذلك الحين فهو يشعر أنها يجب أن تكون مركز عمله. هذه هي النعمة التي وُهبت له من الله، خدمة الأمم، التي لا يتوقّف عن التمتّع بها قط.

يحسب الرسول نفسه كاهنًا يقدّم ذبيحة الحب خلال الكرازة، فإن كان ليس من سبط لاوي لكنه كاهن الله كرسول للسيد المسيح يقدّم قربان الأمم مقبولاً ومقدسًا بفعل الروح القدس، إذ يقول: “حتى أكون خادمًا ليسوع المسيح لأجل الأمم، مباشرًا لإنجيل الله ككاهنٍ، ليكون قربان الأمم مقبولاً، مقدسًا بالروح القدس” [16].

يفسّر القدّيس يوحنا الذهبي الفم هذه العبارة هكذا:

[بالنسبة لي هذا كهنوت، الذي هو الكرازة والإعلان. هذه ذبيحة أقدّمها. لا يخطِّئ أحد من الكهنة عندما يكون غيورًا على تقديم ذبيحة بلا عيب.

يقول هذا لكي يرفع أفكارهم، ويُظهر لهم أنهم ذبيحة، معتذرًا عن دوره في هذا العمل. كأنه يقول: السكّين التي لي هي إنجيلي، كلمة الكرازة. أقوم بهذا لا لأتمجّد ولا لأشتهر، وإنما لكي تكون ذبيحة الأمم مقبولة ومقدّسة بالروح القدس. بمعنى أن نفوس الذين أعلِّمهم تصير مقبولة. فإنه إذ قادني الله إلى هذا السموّ فليس في هذا تكريمي أنا قدر ما هو يخصّكم أنتم.

كيف يصيرون مقبولين؟ بالروح القدس.

فالحاجة ليس فقط إلى الإيمان، وإنما إلى طريق الحياة الروحيّة لكي نتمسّك بالروح الذي أعطى مرة للكل. فإنه لا حاجة إلى حطب أو نار أو مذبح أو سكّين بل للروح الذي فينا بالتمام.

لهذا أبذل كل وسيلة لأمنع النار من أن تنطفئ، إذ أسرّ بها… كما أن الكاهن يقف ليلهب النار هكذا أفعل أنا إذ أُثير تذكرتكم[10].]

هذا ويوضّح الرسول دوره في الخدمة بدقّة إذ يلقِّب نفسه “خادمًا” و”كاهنًا”، لكن الذي يقدّس روح الله نفسه، إذ يقول: “ليكون قربان الأمم مقبولاً مقدّسًا بالروح القدس“. يحدّثنا القدّيس باسيليوس الكبير عن دور الروح القدس، قائلاً:

[المخلوق عبد، والروح هو الذي يحرّر (رو 8: 2)؛

المخلوق محتاج إلى حياة، والروح هو واهب الحياة (يو 6: 63)؛

المخلوق يطلب التعلم، والروح هو الذي يعلم (يو 14: 26).

المخلوق يتقدس، والروح هو الذي يُقدس (رو 15: 26)؛

من تدعوهم ملائكة، رؤساء، قوات سمائية… هؤلاء يتقبلون التقديس خلال الروح، أمّا الروح نفسه فهو قدوس بطبيعته، لا يتقبل صلاحًا من خارجه بل الصلاح من جوهره، لهذا فيُميز بالاسم: “قدوس” (إش 6: 3).[11]]

سادسًا:  إن كان الرسول بطريق غير مباشر يقدّم نفسه مثلاً، يشعر خلال الحب الرسولي أنه كاهن يقدّم حياتهم الإيمانية تقدمة حب مقبولة لدى الله ومقدسة، يقدّمها لا لحساب نفسه بل لحسابهم، ليتمجّد الله فيهم بقبولهم، حتى يردّوا الحب بالحب، فيسندوه في خدمته للأمم بإتساع قلبهم واحتمالهم ضعفاتهم والصلاة عنهم والشهادة لله أمامهم. ربّما يتساءلون: وماذا تنتفع أنت بهذا العمل الكرازي؟ لذا يجيب، قائلاً: “فلي افتخار في المسيح يسوع من جهة ما لله، لأني لا أجسر أن أتكلم عن شيء ممّا لم يفعله المسيح بواسطتي لأجل إطاعة الأمم بالقول والفعل” [17-18].

إن كانت الخدمة لحساب الآخرين لبنيانهم روحيًا في الرب فهي أيضًا لحساب الكارز أو الخادم فيتمجّد لا بذاته وإنما بنعمة الله العاملة فيه ككارز وفيهم كمخدومين، إذ يعمل الله بروحه القدوس فيه وفيهم. وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم على لسان القدّيس بولس: [إنه يعني أنني أتمجّد لا بذاتي ولا بغيرتي وإنما بنعمة الله… انظر كيف يحاول بكل قوّة أن يظهر العمل كله لله ولا يُنسب شيئًا لنفسه. فما أنطق به أو أفعله أو أمارسه من معجزات الله هو العامل هذا كله، الروح القدس صانع الكل.[12]]

سابعًا: إذ يحثهم الرسول بولس على مساندته في خدمة الأمم بالصلاة كما بعمل المحبّة لكي يتمجّد الله فيهم يقدّم لهم نفسه مثلاً في خدمته، إنه منطلق للخدمة في غيرة بلا حدود للكرازة لا في البلاد الخاضعة لروما فحسب وإنما بين البرابرة أيضًا، لكن هذه الغيرة تلتحم بروح التواضع؛ فإن كان ينطلق من أورشليم ليخدم في كل موضع بالإنجيل حتى الليريكون[13]، لكنه وهو يخدم لا ينطلق إلى حيث انطلق رسول آخر فيدخل على تعبه وينسب الناس النجاح إليه، بل يذهب إلى حيث لم يكرز الرسل حيث الطريق غير ممهّد والجهاد أصعب.

بقوّة آيات وعجائب بقوّة روح الله،

حتى إني من أورشليم وما حولها إلى الليريكون قد أكملت التبشير بإنجيل المسيح،

ولكن كنت محترصًا أن أبشر هكذا،

ليس حيث سُمي المسيح، لئلاّ أبني على أساسٍ آخر” [19-20].

يُعلّق القدّيس يوحنا الذهبي الفم، قائلاً: [قال هذا ليظهر نفسه إنه متغرب عن المجد الباطل، وليعلمهم إنه يكتب إليهم لا حبًا في المجد أو في تكريمهم له، وإنما لإتمام خدمته، وتحقيق كمال عمله الكهنوتي كمحبٍ لخلاصهم… ها أنت تراه يجري إلى حيث العمل الأكثر والتعب الأقسى[14].]

يقول القدّيس جيروم: [انظر بولس الذي كان مضطهدًا في اليهوديّة، ها هو يكرز بين الأمم. إنه يحمل صليب المسيح كغالبٍ يأسر الكل. لقد قهر العالم كله من المحيط حتى البحر الأحمر.[15]]

4. شوقه لخدمتهم في روما

كما أبرز الرسول إنه لم يكتب إليهم حبًا في مجده الذاتي بل في خلاصهم، ليبعث فيهم ذات الروح من جهة الشوق لخلاص الآخرين خاصة الضعفاء والأمميّين، الآن يؤكّد لهم أيضًا أنه منذ سنوات يشتاق إليهم لزيارتهم بدافع الحب لا المجد الزمني. يقول الرسول: “لذلك كنت أُعاق المرار الكثيرة عن المجيء إليكم، وأمّا الآن فإذ ليس لي مكان بعد في هذه الأقاليم، ولا اشتياق إلى المجيء إليكم، منذ سنين كثيرة فعندما أذهب إلى أسبانيا آتي إليكم، لأني أرجو أن أراكم في مروري، وتشيعوني إلى هناك أن تملأت أولاً منكم جزئيّا” [2224].

ويلاحظ في كلمات الرسول هذه:

أولاً: يرى القدّيس يوحنا الذهبي الفم إن الرسول أبرز محبّته الشديدة لهم بشوقه لزيارتهم منذ سنوات، وفي نفس الوقت لم يعطهم مجالاً للكبرياء، إذ أوضح إنه يلتقي بهم عابرًا بهم أثناء رحلته إلى أسبانيا. فهم موضع حبه بحق، وغيرهم كأهل أسبانيا أيضًا موضع هذا الحب عينه، حتى أن زيارته لهم ستأتي عارضًا في طريقه، لكن ليس حُبّه عارضًا. لقد أثار مشاعر محبّتهم بفيض محبّته، بقوله أنه “يمتلئ بصحبتهم” هذه هي لغة الوالدين اللذين يجتذبان أولادهما إليهما… [إنه كأب ملتهب أنجب بحق ابنًا؛ هكذا كان يحب المؤمنين[16].]

5. فهمه لعطاء الأمم

أعلن الرسول عن شوقه الشديد لزيارتهم، وقدّم عذرًا لتأجيله الزيارة إذ هو مضطر أن يذهب أولاً إلى أورشليم حاملاً معه عطاء الأمم لقدّيسي أورشليم الذين تعرّضوا لمجاعة، فقد سرّ مؤمنو مكدونية وآخائية الذين هم من أصل أممي أن يُحسبوا أهلاً لرد حب اليهود المتنصّرين في أورشليم بخدمتهم روحيًا بالحب بتقديم عطاءً ماديًا وقت عوزهم.

لأن أهل مكدونية وآخائية

استحسنوا أن يصنعوا توزيعًا للفقراء القدّيسين الذين في أورشليم،

استحسنوا ذلك وإنهم لهم مدينون،

لأنه إن كان الأمم قد اشتركوا في روحانياتهم

يجب عليهم أن يخدموهم في الجسديات أيضًا” [26-27].

أولاً: يرى القدّيس يوحنا الذهبي الفم أن حديث الرسول هنا لم يكن بقصد إثارة كنيسة روما للمساهمة في احتياجات القدّيسين في أورشليم الذين تعرضوا للمجاعة، وإلا كان قد زارهم للجمع للقديسين. إنما استغلّ هذا العطاء من جانب الكنائس التي معظم أعضائها من أصل أممي للكنيسة التي معظم أو كل أعضائها من أصل يهودي، ليُعلن دخول الكنيسة ككل في شركة حب. بهذا يثير الرسول كنيسة روما لا للعطاء المادي لكنيسة أورشليم، وإنما لانفتاح القلب لخدمة الأمم.

ثانيًا: يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [لم يقل: أذهب لأحمل العطاء، بل “لأخدم” (دياكونس[17]).] فإن كان الرسول العظيم لا يتطلّع إلى العطاء إلا كعمل روحي وخدمة وليس عملاً اجتماعيًا مجردًا، فكم بالأكثر تكون بهجته ليس حين يحمل عطاء ماديًا بل إنجيل الحق لأهل روما؟      

لقد حسبت الكنائس عطاءهم “شركة“، علامة حب داخلي ووحدة، فحمل الرسول لا أموالهم ولا تقدماتهم المادية فحسب، إنما ما هو أعظم، حمل قلوبهم المملوء حبًا وروح الوحدة الذي فيهم مع بقية الأعضاء. ولهذا السبب حسب الرسول أنه يحمل كنزًا ملوكيًا محفوظًا بختم ملكي لا يستطيع أن يسلبه لص أو تحيق به مخاطر.

ثالثًا: يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم[18] [يدعو الرسول ما يحمله “ثمرًا” [28] لا “عطاء” لأن ما يحمله إنما هو لنفع مقدميه، وثمرهم الروحي[19].]

6. جهادهم معه بالصلوات

كان الرسول يبدو متهلّلاً من أجل ثمر الروح المعلن في كنائس الأمم التي قدمت لا عطاء ماديًا مجردًا بل ثمرًا متكاثرًا، علامة حب لإخوتهم في أورشليم. الآن يثير كنيسة روما لتساهم هي أيضًا في الخدمة لا بتقديم مال لاحتياجات القدّيسين وإنما لتقديم صلوات بجهادٍ عظيمٍ لدى الله من أجله لكي يتمّم الله رسالته فيه بالرغم من مقاومة البعض له.

والعجيب إنه قبل أن يسألهم هذا الطلب كمن هو محتاج إلى جهادهم معه في خدمة الكرازة للأمم خلال الصلوات خشي لئلاّ يحسبوا أنفسهم ليسوا أهلاً لهذا العمل، لذا يقول: “وأنا أعلم إني إذا جئت إليكم سأجيء في ملء بركة إنجيل المسيح” [29]. وكأنه يقول عندما أجيء إليكم أجدكم أهلاً للمدح بلا حدود خلال الإنجيل، من أجل فيض أعمالكم المقدّسة المستحقّة كل تطويب. هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن ما يقدّمونه من جهاد في الصلاة عنه لأجل الخدمة يأتي متناغمًا مع عمل السيد المسيح الخلاصي ومحبة الروح القدس، إذ يقول: “فأطلب إليكم أيها الإخوة بربنا يسوع المسيح وبمحبة الروح، أن تجاهدوا معي في الصلوات من أجلي إلى الله” [30]. لذا فصلواتهم حتمًا تكون مقبولة وفعّالة، لأنها حسب إرادة الله الصالحة ومحبته الفائقة.

7. مقاومة غير المؤمنين له

لا تقف خدمتهم النابعة عن اتساع قلوبهم بالحب نحو إخوتهم الذين من الأمم عند احتمال ضعفاتهم والشهادة لعمل الله الخلاصي أمامهم، وإنما أيضًا تمتد إلى الصلاة من أجل الكارزين حتى يخلّصهم الرب من مقاومة المعاندين. ويحسب الرسول نفسه أكثرهم احتياجًا للصلاة عنه من أجل شدّة المقاومة التي يجابهها، إذ يقول: “لكي أنقذ من الذين هم غير مؤمنين في اليهوديّة، ولكي تكون خدمتي لأجل أورشليم مقبولة عند القدّيسين” [31].

8. خاتمة

إذ يتحدّث عن المقاومة التي تصيبه من الأشرار، والتزام الكنائس أن تصلي من أجله، يصلي هو أيضًا من أجل الكل ليسندهم الله في جهادهم، إذ يقول: “إله السلام معكم أجمعين. آمين” [33].

[1] In Rom. hom 27.

[2] Ser. On N. T. 26: 4.

[3] In Rom. hom 27.

[4] In Rom. hom 27.

[5] In Rom. hom 27.

[6] In Rom. hom 27.

[7] In Rom. hom 28.

[8] In Rom. hom 29.

[9] In Rom. hom 29.

[10]In Rom. hom 29.

[11] Ep. 159: 2.

[12] In Rom. hom 29.  

[13] الليريكون هي إحدى ولايات المملكة الرومانية شمال غربي مكدونية.

[14] In Rom. hom 29.

[15] On Ps. hom 14.

[16] In Rom. hom 29.

[17] In Rom. hom 29.

[18] In Rom. hom 29.

[19] In Rom. hom 29.

 

تفسير رسالة رومية 15 الأصحاح الخامس عشر – القمص تادرس يعقوب ملطي