آبائياتأبحاث

الأيقونات في الكنيسة وعند القديس يوحنا الدمشقي خاصة

الأيقونات في تعليم الكنيسة وعند القديس يوحنا الدمشقي خاصة

الأيقونات في الكنيسة وعند القديس يوحنا الدمشقي خاصة

تعليم الكنيسة عن الأيقونات وعند القديس يوحنا الدمشقى خاصة [1] بروفيسور خرستوس كريكونيس

الأيقونات في الكنيسة وعند القديس يوحنا الدمشقي خاصة
الأيقونات في الكنيسة وعند القديس يوحنا الدمشقي خاصة

الأيقونات في تعليم الكنيسة وعند القديس يوحنا الدمشقي خاصة

أولاً: الكتاب المقدس والتقليد المقدس مصادر لاستخدام التكريم للأيقونات المقدسة

[صفة من أهم صفات] التعريف بالكنيسة الأرثوذكسية هي صفة [الاستخدام] وتكريم الأيقونات المقدسة [للإله الإنسان] يسوع المسيح، لأمه مريم والدة الإله، ولكل قديسى الكنيسة وشهدائها.

 

وكما أن وجود كنيسة أرثوذكسية بدون أيقونات مقدسة أمر غير معقول كذلك نفس الأمر يسرى على بيوت المسيحيين الأرثوذكس الأتقياء. وذلك لأن كل المسيحيين الأرثوذكس يوجهون صلواتهم، وطلباتهم، وتضرعاتهم، وكذلك تشكراتهم وتسبيحهم إلى الإله الواحد الحقيقي، أمام الأيقونات المقدسة.

 

واجب كل مسيحي أرثوذكسي هو التكريم، والتقبيل للأيقونات المقدسة لكل القديسين، كما تقرر ذلك في المجمع المسكوني السابع 787م[2]. هذا الواجب يعنى أن ملء كنيسة المسيح يعترف بقداسة الشخصيات والأحداث المصورة في كل أيقونة، ويكرم روحانيتهم بطريقة أرثوذكسية أي كيف كرسوا حياتهم للمسيح، ويحترم ويقدر كل ما كابدوه أثناء وجودهم على الأرض من أجل مجد الله.

 

لهذه الأسباب، يأخذ دائمًا التكريم والتقبيل للأيقونات المقدسة مكانة أساسية في الهياكل المقدسة، وفي أعياد القديسين والاحتفالات الدينية، وفي بداية ونهاية القداس الإلهي، وفى كل الصلوات المقدسة. كما أن وجود الأيقونات المقدسة في أماكن الصلاة والعبادة يعطى لهذه الأماكن خاصية القداسة وذلك للإيمان بالحضور السري للإله الحقيقي الواحد في الثالوث مع كل قديسيه فيها.

 

يخبرنا القديس باسيليوس الكبير أن استخدام الأيقونات المقدسة يرجع إلى أزمنة الرسل. مع ملاحظة أن وجود وتكريم الأيقونات المقدسة لشخص يسوع المسيح، ولوالدة الإله مريم، في العصور الرسولية كان محدودًا جدًا[3]. [ونفس الأب (باسيليوس) لتجنب] أي ربط خاطئ للأيقونات بالأوثان ـ يركز على أن كل تكريم للأيقونات المقدسة “إنما يعود إلى الأصل” أي أن إكرام الأيقونة يعود إلى من تمثله في الأصل.

 

هذه الصياغة المتميزة لروح التقليد الكنسي الطويل المدى صارت البداية الأساسية للتعليم بوضع (أو بتكريس) الأيقونات في الكنائس وفى المنازل. وبقدر ما كان باسيليوس الكبير، كذلك كان الآباء الكبار للكنيسة المعاصرين له أمثال غريغوريوس اللاهوتي، وغريغوريوس النيسي، ويوحنا فم الذهب وغيرهم من أكثر المدافعون عن رسم الأيقونات في الكنائس، وبمناظر لقديسي الإيمان وشهدائه ويحثون على احترامهم ومدحهم كما فعل هؤلاء الآباء ومدحوهم في عظات أعيادهم. إن عظات الأعياد هذه توضح لنا الخاصية السابقة للأيقونات (أي أن كل إكرام للأيقونة يعود إلى من تمثله) وفى نفس الوقت تكشف لنا عن عمق المعنى اللاهوتي لهذا الفن الأرثوذكسي.

 

إن فن رسم الأيقونات يُظهر ليس فقط الجانب المعلن والجمالي للأيقونة، ولكن أيضًا الجانب السري وما هو وراء العالمي، في الحياة اليومية للكنيسة (للمؤمنين). رسم الأيقونات هو فن مشبّع بروح تعاليم الكتاب المقدس، وبالتقليد المقدس، وبقرارات المجامع المسكونية الأولى، وأساسًا بروح المحبة لدى المؤمنين لقداسة القديسين وكذلك بتقوى الرسامين. تعليم الكنيسة الأرثوذكسية عن استخدام وتكريم الأيقونات مؤسس على الكتاب المقدس وعلى التقليد الرسولي، فمن الكتاب المقدس لدينا تلك الشواهد من العهدين القديم والجديد والتي ذكرت في الحديث عن:

 

  1. خلقة الابن وكلمة الله الخالق، للإنسان “على صورته وشبهه” الإله الحقيقي الواحد في الثالوث (انظر تك26:1ـ27 و1:5). حيث في هذه الشواهد صار حديث عن خلق الإنسان رجلاً وامرأة على صورة الله وشبهه. هذه الصياغة البسيطة تظهر لنا مدى البهاء العظيم والكمال غير الموصوف للإله الواحد الموجود في كيان كل إنسان.
  2. ظهور الإله الإنسان، الابن وكلمة الله المتجسد، في شخص يسوع المسيح، كطريقة فريدة وكاملة للتعبير عن صورة الله غير المرئي ” الله لم يره أحد قط الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبَّر” (يو18:1) انظر أيضًا (يو8:14ـ9).
  3. التجديد الشامل للكيان الإنساني الذي خُلق بحسب صورة الله، والذي تشوّه بالخطية الأصلية. هذا التجديد يتم ويستمر بقوة العمل الفدائي ليسوع المسيح داخل الكنيسة ” إذًا إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة الأشياء العتيقة قد مضت هوذا الكل قد صار جديدًا ” (2كو17:5)

 

إن آباء الكنيسة الأولى فسروا باستمرار بطريقة أرثوذكسية وقدروا كل معلومة للكتاب المقدس وللتقليد مرتبطة بالأيقونات. بسبب هذا التقدير من جانب الآباء ساد استخدام الأيقونات المقدسة لشخص يسوع المسيح، ولأمه مريم والدة الإله وللقديسين، كأمر طبيعى لما تولد عند المؤمنين واجب التكريم للأيقونات، ووضعها في أماكن الصلاة والعبادة.

 

العوامل الأساسية لرسم (لتصوير) عظمة الله غير المُعبر عنها هي:

  1. إبداع الكون بطريقة فنية عظيمة جدًا.
  2. خلق الإنسان على صورة الله مثاله.
  3. تجسد ابن الله الكلمة في شخص يسوع المسيح ” الذي هو صورة الله غير المنظورة ” (كو15:1). ولكن وفقًا للكتاب المقدس وتعليم آباء الكنيسة يبقى الإله الحقيقي الواحد في الثالوث، دائمًا غير مفهوم وغير مُدرك من جهة جوهره لهذا فهو لا يوْصّف ولا يرْسّم ولا يصوّر كجوهر.

 

هذه الحقائق الثلاثة معًا تكشف لنا بطريقة مطلقة، الحكمة الكبيرة، والقدرة الكلية، والصلاح الكامل للإله الحقيقي. وخاصة في شخص يسوع المسيح الذي يصّور أساسًا محبة الله نحو الإنسان والتي هي (أي المحبة) إشعاعات الجوهر الإلهي لأن ” الله محبة ” (1يو16،8:4).

 

ولكن هذه الحقائق الثلاث تبقى لها صفة السرّية، والتي تُشير إليها كلمات الرسول بولس ” فإننا ننظر الآن في مرآة في لغز لكن حينئذ وجهًا لوجه. الآن أعرف بعض المعرفة لكن حينئذ سأعرف كما عُرفت ” (1كو12:13).

 

إمكانية الكمال الروحي لدى المؤمنين والتقديس بفعل نعمة الله كدافع لرسم الأيقونات، بينما كل البشر يحملون صورة الله، إلا أنهم يختلفون فيما بينهم بسبب فرادة شخصية كل واحد، ونقاء (صفاء) العلاقة الشخصية للصورة مع الأصل الإلهي، وهذه العلاقة تتوقف على حرية الإرادة لدى كل إنسان وكما يحدث في حالة المرايا التي فقدت نقاوتها الطبيعية، إنها لا تستطيع أن تعكس بوضوح صورة الأشياء الموضوعة أمامها، هكذا في حالة الإنسان الضال البعيد عن الله، فإنه لا يستطيع أن يعود مرة أخرى إلى وضعه الطبيعي وعلاقته بالله، بدون مساعدة يسوع المسيح.

فالمسيح هو الذي يجدد بالحياة السريّة داخل الكنيسة، صورة الله التي تشوَّهت في هذا الإنسان. ولذا فالله الكُلّى الصلاح، بدأ بعد السقوط، أن يطبق خطته الأزلية التي هي استرجاع صورة الله التي تشوّهت في كيان كل إنسان وذلك بتجسد الأقنوم الثاني للثالوث القدوس، الابن (كلمة الله)، في شخص الإنسان الإله يسوع المسيح (انظر فيلبى7:2ـ10). وبولادته بطريقة خارقة للطبيعة ” من الروح القدس وممن مريم العذراء ” وهو الصورة الكاملة لله غير المرئي (انظر كو4:4،15:1)

الأيقونات في الكنيسة
الأيقونات في الكنيسة

هدف التجسد إذا كان تجديد صورة الله التي اسودّت وتلوثت في الإنسان بفعل الخطية، والنقل السري لإشراقة صورته الإلهية الخاصة إلى الإنسان الذي خُلق على صورته ومثاله أي إلى كيان كل إنسان وذلك بالإيمان به وبالمعمودية على اسمه، وبممارسة سر الشكر الإلهي، وبالحياة حسب المسيح. ولكن بسبب قيمة الإنسان العظيمة جدًا والتي لا تقدر بثمن إذ هو صورة الله على الأرض، لم يكن التجسد الإلهي وحده كافيًا، إذ احتاج الأمر أيضًا إلى ذبيحته الكفارية الكبرى أي إلى موته الفدائي على الصليب وذلك لأجل الاسترجاع الكامل والتام لعلاقة الإنسان مع الله.

 

فبحسب الرسول بولس، يسوع المسيح بتجسده، وبموته على الصليب وقيامته جدّد كيان الإنسان المخلوق على صورة الله. وذلك حتى تصير قوة معرفته الإلهية مرة أخرى نشطة وفعالة. وفى هذا الصدد يقول الإنجيلي يوحنا ” وهذه هي الحياة الأبدية، أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته ” (يو3:17).

 

نخلص من كل هذا أنه لكي يتحقق الكمال الروحي، والتقديس بحسب نعمة الله لقديسي كنيسة المسيح، يتطلب الأمر لاهوتيًا وأرثوذكسيًا عمل الأيقونات واستخدامها في حياة الكنيسة، وعلى الأخص في العبادة مع تكريمها. فالأيقونات تقدم لنا قديسي كنيسة المسيح كأناس متمثلين به حقيقة، وقد نجحوا أثناء حياتهم على الأرض في التشبه الكامل بالله والتمثل الحقيقي به. وهم بالتجديد المستمر داخل الكنيسة أوصلوا كيانهم الذي على صورة الله إلى المعرفة الإلهية الروحية.

 

وحيث إن ” الشبيه بالشبيه يُعرف ” لذا تستخدم الكنيسة الأيقونات المقدسة ليسوع المسيح، ولكلية القداسة مريم، ولكل القديسين، كوسائل منظورة لتعليم التاريخ والروحانية، والخلاص. فالمؤمنين إذ ينظرون لأيقونات القديسين ويقدرون جهادهم الروحي وانتصاراتهم يتعلمون من هذه النماذج الكثير. فالقديسين هم الطبعة النقية لصورة الله.

 

والله الذي لا يمكن التقرب منه يصير من الممكن الوصول إليه بواسطة الأيقونات وذلك عن طريق القديسين المتمثلين به. الكنيسة الأرثوذكسية باستخدام الأيقونات تظهر غنى رحمة الله ونعمته لأجل خلاص الإنسان وتقديس الكون إذ تساعد (الأيقونات) البشر على التمثل الروحي بالله “فكونوا أنتم كاملين كما أن أباكم الذي في السموات هو كامل” (مت48:5).

 

ثانيًا عدم مقارنة الأوثان بالأيقونات المقدسة

 

ليس هناك أي وجه للمقارنة بين الأيقونات المقدسة والأوثان. فالأوثان هي الضلال بعينه، وليس هذا فقط، فهي لا تقلل من شأن الإله الحقيقي فقط بل وأيضًا من شأن البشر العابدين لها. لهذا كله اعتبرت عبادة الأوثان من جانب المسيحيين كاختراع من الشيطان “وأية موافقة لهيكل الله مع الأوثان فإنكم أنتم هيكل الله الحي كما قال الله. . . ” (2كو16:6).

 

إذًا المقارنة بين الأيقونات المقدسة والأوثان التي يحاول محاربي الأيقونات في كل العصور إقامتها لا يمكن أن تكون صحيحة وذلك لسببين أساسيين:

  1. أن الأيقونات المقدسة لقديسي الكنيسة هي صور لأشخاص وأحداث تاريخية حقيقية. هؤلاء الأشخاص كانوا على علاقة قداسة وشركة مباشرة بالإله الحقيقي.
  2. أن أيقونات القديسين يُقدم لها تكريم فقط وليس على أي حال من الأحوال عبادة. فالعبادة تُقدم فقط للإله الحقيقي المثلث الأقانيم.

 

تفسيرات محرّفة لآيات في العهد القديم من جانب محاربي الأيقونات:

من الملاحظ أن محاربي الأيقونات يحرفون تفسير الشواهد المتعلقة بالناموس الموسوي ويسيئون عمومًا فَهْم العهد القديم، فهم يزعمون أن الوصية “. . . لا تصنع لك تمثالاً منحوتًا ولا صورة ما، مما في السماء من فوق وما في الأرض من تحت وما في الماء من تحت الأرض لا تسجد لهن ولا تعبدهن. . . ” (خر1:20ـ6). قد حرمت استخدام الأيقونات، وبالتالي بالأكثر تكريمها. لكن العهد القديم في الحقيقة لم يحرم استخدام الأيقونات المقدسة، لأنه في ذاك الوقت لم يكن دارجًا استعمال الأيقونات لأن الله لم يُرى.

فالعهد القديم حرّم نهائيًا صناعة أي شبيه أو مثال للإله، لأنه إذ هو وحده الإله الحقيقي، يبقى دائمًا غير مُدرك وغير موصوف ولا يوجد له بالتالي شبيه أو مثال لا في السماء من فوق ولا في الأرض من تحت ولا في الماء من تحت الأرض، وذلك حتى يحمى شعب الله من عبادة الأوثان. بل وأكثر من هذا لدينا في العهد القديم حقائق وأحداث مصوّرة صارت هي ذاتها تشبيهات ونماذج لأحداث تمت في العهد الجديد. تشبيهات مثل هذه ونماذج هي:

  1. العليقة المشتعلة بالنار وغير المحترقة. (خر2:3) كمثال مسبق لعذراوية والدة الإله.
  2. بقاء يونان في جوف الحوت ثلاثة أيام كصورة مسبقة لقيامة يسوع المسيح (انظر يو1:2، ومت40:12).
  3. فلك نوح كصورة مسبقة للكنيسة.
  4. الناموس الموسوي كصورة مسبقة للمسيح الملك الذي له السلطان على كل شيء.

 

وبخلاف هذه التشبيهات والنماذج، لدينا أيضًا وصية الله القاطعة لموسى، أن يصنع “خيمة الشهادة” وأن يضع في داخلها، للحفظ كل ما يدل على تدخلاته المعجزي في اللحظات الصعبة جدًا في تاريخ إسرائيل لأجل بقاءه، أي أثناء خروجه من أرض مصر وبقاؤه الطويل في برية سيناء (انظر خر1:25ـ31). هذه الدلائل كانت “قسط الذهب الموضوع فيه المن، عصا هارون التي أفرخت ولوحى العهد” (انظر عب4:9ـ5).

 

ثم أوصاه أيضًا أن يصنع شاروبين من الذهب (شاروبيم المجد) وأن يضعهما فوق “خيمة الشهادة”، لكي يعبرا ويرمزا لحضور الله الدائم (انظر خر18:25ـ20، وعب5:9). هذان الشاروبان صُوّرا في شكل ملائكة، كما ظهروا من قبل لبطاركة إسرائيل مُرسَلين إليهم من قِبَل الله (انظر مثلاً تك24:3 7:16ـ11، 10:19، وعب14:1)، أي أنه صار من الممكن تصوير الملائكة، لأن هؤلاء قد ظهروا أولاً للناس.

 

هذان الشاروبان كانا موضع التكريم والعبادة أيضًا بحسب الرسالة إلى العبرانيين (1:9) “ثم العهد الأول كان له أيضًا فرائض خدمة. ” وذلك لأنها كانت ترمز وتعبّر عن الحضور الدائم لله في مركز حياة إسرائيل.

يضاف إلى كل هذا أن الله فرض أيضًا على شعبه الخاص تقديم ذبائح مادية، وعبادات إلهية، وذلك لكي يتولد في ضمير الشعب الإحساس بواجب تقديم العبادة المستمرة له (انظر خر24:20ـ26، تك1:22ـ8) ومع أن هذه الذبائح كانت مادية مثل تلك التي كان يقدمها الوثنيون إلا أنها كانت ذات قيمة روحية، لأن كل إجراءات تقديمها كانت عبارة عن ارتباط مستمر لفكر وحياة الشعب بإلهه.

 

من كل ما سبق يتضح لنا أن تعليم الكنيسة عن الأيقونات له تاريخ طويل.

 

هكذا وفقًا لآراء آباء الكنيسة الأرثوذكسية، فإن استخدام الأيقونات المقدسة وإكرامها لا ينقض أو يخالف أية وصية كتابية لله، ولا يتعارض مع نظام العبادة في العهد القديم. بل بالعكس أنشأ ازدهارًا سليمًا محببًا لتعاليم العهد القديم.

 

بتكريم الأيقونات المقدسة تكرّم بكرامة إلهية، شخصيات وأحداث وأمور قد أُعلنت مسبقًا في العهد القديم، وتحققت في العهد الجديد بتجسد الابن وكلمة الله، وصُدّق عليها فيما بعد من الكنيسة. هذه الشخصيات والأحداث تستحق الاحترام والتكريم من البشر، لأنها صارت وسائل لله وللكنيسة لتقديس العالم ولخلاصه.

 

نعود ونقول إن السبب الرئيسي لمنع الله لموسى، أن يصنع الشعب مثال أو نظير لإلهه، يكمن في عدم قدرة الإنسان على أن يصوّر ويصف الله غير المرئي وغير الموصوف ـ ويوحنا الدمشقي في هذا يعلق:

[ أنه بسبب عبادة الأوثان حرّم الله التصوير (الرسم) لأنه ليس من الممكن أن يصوّر الله ][4].

وعدم إمكانية تصوير الله يعبر عن عظمة الألوهية الفائقة أمام كل الكائنات، ولهذا تجب له فقط العبادة كخالق للخليقة ومُسيطر عليها كلها.

 

الأيقونة المعروفة لدى الكنيسة للأقانيم الثلاثة للإله الواحد، أي في صورة ثلاثة ملائكة، لا تمثل مخالفة للوصية المتعلقة بمنع التصوير، ولكن تمثل استمرارية دقيقة للتعليم المسيحي الأرثوذكسي عن سر التدبير الإلهي وعن قمة التنازل لمحبة الله. وهذا الثالوث المقدس نفسه، كما يلاحظ القديس يوحنا الدمشقي قد أعلن لابرآم وذلك ” حتى لا يكون الله والخلائق غير المتجسّدة مجهولة لنا تمامًا“[5].

هكذا يُعرض (يُرسم) الثالوث القدوس في صورة ضيافة الثلاثة ملائكة من إبرآم في خيمته عند بلوطات ممرا (تك1:18ـ8). كما يُعرض (يُرسم) لكل أقنوم للثالوث بصورة مناسبة له فالله الآب ” كالقديم الأيام ” وفقًا لرؤية دانيال النبي (دا9:7ـ22)، والابن كلمة الله بشخص الإله الإنسان يسوع المسيح، والروح القدس في شكل حمامة (أنظر مت16:3، مر10:1، لو22:3، يو32:1). بالطبع هذه المناظر ليست هي صور لكيان (لجوهر) الأقانيم الثلاثة نفسه، بل هي فقط صور لبعض الإعلانات التاريخية للثالوث. وفيما يخص هذا

يقول يوحنا الدمشقي:

[ قديمًا لم يكن من المستطاع أن يصّور الله الذي لا يُرى والذي لا جسد له ولا حدّ ولا شكل؟. . . لذلك لم يكن دارجًا في العهد القديم استعمال الأيقونات، غير أنه لما صار الله ـ إنسانًا بالحقيقة لأجل خلاصنا ـ وعاش على الأرض وخالط (وعاشر) الناس ـ فإنه يمكن تصوير (رسم) هذا الذي يُرى من الله][6].

 

هذا التنازل الكبير لمحبة الله في شخص يسوع المسيح، ” الذي فيه يسكن (يحل) كل ملء اللاهوت جسديًا” (كو9:2، فى19:3)، يمتد حتى يشمل أيضًا بحسب نفس أب الكنيسة (يوحنا الدمشقي) الأيقونات المقدسة لشخص الإله الإنسان يسوع المسيح، ولوالدة الإله، ولكل القديسين. فهكذا يكتب: [غير أنه لما صار الله ـ بالحقيقة إنسانًا ـ فما أخذه من شكل ولون وثقل للجسد هذا تصوره في أيقونة.

ولسنا في ذلك مخطئين لأنه يجب علينا أن نتشوق إلى رؤية هذه الملامح. والرسول بولس يقول “أنه ننظر الآن في مرآة في لغز والأيقونة هي مرآة ولغز يتناسب مع خواص أجسادنا][7]. ويواصل الأب حديثه ويقول: [لهذا فبجرأة، فإن الله غير المرئي، يُرسّم كمرئي إذ صار مرئيًا لنا بلحم ودم كإنسان، الألوهية غير المرئية لا تصّور، ولكن يصّور الجسد المرئي لله][8].

 

إن رفض رسم صورة للقديسين وتكريم أيقوناتهم المقدسة يتساوى مع رفض السجود لشخص الإله الإنسان يسوع المسيح نفسه. طالما أن القديسين هم أناس مملوئين ” بالروح القدس “.

[ أن تعمل الأيقونة للمسيح، هذا يكفى، أو لأمه والدة الإله فهذا ليس بعبث، ولكن أن تعمل أيقونة للمسيح ولا تعمل أيقونة القديس، فهذا يبيّن أنك ترفض لا أيقونة القديس ولكن ترفض تكريم القديسين][9].

 

إن التجسد الإلهي والأيقونات المقدسة هي تعبيرات لقمة تنازل الله. والقديس يوحنا الدمشقي يطلب من المؤمنين: [ارسموا إذًا تنازله الذي يعجز اللسان عن شرحه: ولادته من العذراء مريم، عماده في الأردن، تجليه على جبل تابور، آلامه، موته، معجزاته، صليب السيد، صعوده إلى السموات، لا تخف، لا تتردد، أنت تعرف الفرق في السجود، حيث إن السجود للعبادة شيء والتكريم الذي يعطى لأولئك الذين يتميّزون لمكانتهم واستحقاقهم هو شيء آخر تمامًا][10].

الأيقونات في الكنيسة
الأيقونات في الكنيسة

ثالثًا: عوامل ساعدت في دخول الأيقونات المقدسة إلى الكنائس

وفقًا لكل ما ذكرناه سابقًا هناك عوامل ساعدت على دخول الأيقونات المقدسة إلى الكنائس وفى استخدامها في العبادة لله ـ هذه العوامل بإيجاز هي:

  1. حاجة الكنيسة إلى التقديم المستمر لشخص يسوع المسيح، لوالدة الإله مريم، ولكل قديسي وشهداء الإيمان كنماذج للمؤمنين وذلك لأجل بنيانهم وتعليمهم وتشجيعهم أمام صعوبات الحياة.
  2. كون الكنيسة نفسها هي صورة لملكوت الله وهذا الأمر الذي يصير مُعاشًا عندما يجتمع المؤمنين للعبادة. ومن هنا جاءت وسادت كلمة ” كنيسة ” على كلمة هيكل، بجمع المسيح وكل قديسيه مع كل المؤمنين به.
  3. الحاجة إلى تذكير المؤمنين باستمرار بكل الأشخاص المقدسة وبالأحداث المعجزية.
  4. الرغبة عند المؤمنين في إقامة علاقة مع أبطال الإيمان.
  5. ازدهار العبادة وكثرة الاحتفالات بأعياد القديسين والتوسع في كتابة الألحان.
  6. التكريم للرفات المقدسة لشهداء الإيمان.
  7. قرارات المجامع المسكونية الثلاثة الأولى، والتي بها صار التعليم الأرثوذكسي للكنيسة الخاص برسم أيقونة الإله الإنسان يسوع المسيح، والدة الإله مريم، أمر رسمي.

 

رابعًا: أسباب تدفع إلى تكريم الأيقونات المقدسة والسجود أمامها

السبب الأول:

الحاجة إلى تركيز فكر وروح المؤمنين في القديسين الرافعين لصلواتهم وطلباتهم وأيضًا تسابيحهم وتشكراتهم. فالمؤمنين إذ يصلون أمام الأيقونات المقدسة ويتطلعون لصور القديسين التي فيها وحتى كما يقول الرسول بولس ” كما في مرآة وفى لغز” يرتاحون نفسيًا. إذ يشعرون بحضور القديسين معهم وبتوسطاتهم وتشفعاتهم من أجلهم نحو الله، وفى ثقة يستودعون لديهم طلباتهم وتضرعاتهم.

 

السبب الثاني:

الأساس هو القيمة التعليمية الكبيرة للأيقونات المقدسة الناتجة من وضعها في الكنائس ومن استخدامها في العبادة، فمن الأيقونات يتعلم كل مسيحي كم يكافئ الله والكنيسة أولئك، الذين بقوا على الأرض مؤمنين ومتمسكين به، واظهروا انهم كانوا مستحقين لموت الصليب ولعمل الفداء الذي صنعه لأجلهم. هذه المكافأة يُعبّر عنها في الأيقونات برسم أكاليل مضيئة حول رؤوس القديسين ” قد جاهدت الجهاد الحسن أكملت السعي حفظت الإيمان وأخيرًا قد وُضع لي إكليل البر. . ” (2تيمو7:4ـ8).

 

السبب الثالث:

هو القداسة المتنوعة للأيقونات والتي ترجع لعوامل متعددة من بينها المكانة الخاصة للأيقونات في الكنيسة وفى العبادة الإلهية، والتعليم اللاهوتي للكنيسة بأن كل تكريم للأيقونات إنما تقدم إلى من تمثله، يعود إلى المعجزات التاريخية المختلفة التي تنسب إليها.

 

وفى الواقع يمكن أن يعضد الرأي أن كل الأيقونات هي صانعة معجزات، لأن المعجزات ليست هي فقط الشفاء من الأمراض الجسدية أو منع كارثة مثلاً من الحدوث، بل أن تقوية الإيمان وإحياء الرجاء والراحة النفسية للمؤمنين هي أيضًا معجزات.

 

المؤمن وهو يصلى أمام الأيقونة يشعر بأنه يوجد في حوار مع شخص حى مع قديس الله المصوّر في الأيقونة. وبالتالي من الممكن أن تشبّه الأيقونة أيضًا بالمترجم لهذا الحوار أمام الله أو بالوسيط والشفيع لذاك الذي يقف أمامها مصليًا.

كل هذه يفسر سبب النهضة الروحية المستمرة والتقوى العميقة لدى المصلين الذين يصلون فيها إلى درجة فقد الإحساس بالمكان والزمان وإلى بدء تذوق انعكاسات أنوار الأبدية وعظمة الله عليهم، إنها لحظات تُشحن نفوسهم فيها بالقوة المقدسة ونعمة الله ويشعرون معها أنهم مفديين. وبسبب هذه القداسة للأيقونات يلجأ المؤمنون باستمرار إلى الكنائس وإلى المدن المشهورة لكي يصلوا ويطلبوا شفاعة القديسين أمام أيقوناتهم المقدسة.

 

لكل هذه الأسباب اعتبر المجمع المسكوني السابع تكريم الأيقونات المقدسة أنه ” أمر شرعي يُرضى الله، وهو من تقليد الكنيسة، وطلب صالح واحتياج لكل ملء الكنيسة” [11].

ـــــــــــــــــــــــــــــ

مراجع:

1 ترجمها عن اليونانية دياكون مجدى وهبه.

2 هذا المجمع لم تشترك فيه كنيستنا القبطية لأنه جاء بعد الانشقاق في مجمع خلقيدونية، وإن كانت قرارات المجمع من جهة الأيقونات تتوافق مع عقيدة الكنيسة القبطية وعبادتها.

3 انظر عظة عيدية ق. باسيليوس عن الشهيد Barloan، BEP,54. 163,21-30. .

4 انظر PG94, 1344-1348. .

5 Ibid.

[6] PG 94,1293.

[7] PG 94,1288, 1320.

[8] PG 94,1236,1324.

[9] PG 94,1252.

[10] PG 94,1239-1240.

11 انظر “تعليم الكنيسة الأرثوذكسية عن الأيقونات” لـ Morko Suitou ,Athens 1990 P. H-82. .

الأيقونات في الكنيسة وعند القديس يوحنا الدمشقي خاصة

مختصر تاريخ ظهور النور المقدس

عندما يحتكم الباحث إلى الشيطان – الجزء الثاني – ترتيب التجربة على الجبل ردًا على أبي عمر الباحث

رائحة المسيحيين الكريهة – هل للمسيحيين رائحة كريهة؟ الرد على احمد سبيع

انجيل توما الأبوكريفي لماذا لا نثق به؟ – ترجمة مريم سليمان

تقييم المستخدمون: 4.9 ( 3 أصوات)