آبائيات

الإنسان الجديد عند القديس مقاريوس د. نصحي عبد الشهيد

الإنسان الجديد عند القديس مقاريوس د. نصحي عبد الشهيد

المحتوى

الإنسان الجديد عند القديس مقاريوس د. نصحي عبد الشهيد
الإنسان الجديد عند القديس مقاريوس د. نصحي عبد الشهيد

الإنسان الجديد عند القديس مقاريوس د. نصحي عبد الشهيد

أولاً: التعليم عن الإنسان الجديد والخليقة الجديدة فى العهد الجديد:

أ ـ نجد أن التعليم عن الخليقة الجديدة والإنسان الجديد أو الحياة الجديدة، أولاً فى حديث رب المجد يسوع نفسه مع نيقوديموس فى يوحنا: ” إن كان أحد لا يولد من فوق (أو ثانيةً) لا يقدر أن يرى ملكوت الله“، ” إن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله“. كما نجده فى كلام إنجيل القديس يوحنا عن الذين يؤمنون بالمسيح ويقبلوه أنهم ” أعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد الله” (يوحنا1)، فهؤلاء وُلِدوا من الله وليس من دم ولا من مشيئة جسد أو رجل بل من الله.

ب ـ نجد حديثًا كثيرًا عن الإنسان الجديد أو الخليقة الجديدة فى المسيح، عند القديس بولس الرسول، فى كل رسائله تقريبًا: نكتفى ببعضها:

اعتمدنا لموت المسيح حتى كما أُقيم المسيح.. هكذا نسلك نحن.. فى جدة الحياة” (رو:6و4)، ” إن كان أحد فى المسيح فهو خليقة جديدة هوذا الكل قد صار جديدًا” (2كو17:5)، ” فى المسيح لا ينفع شئ آخر (لا ختان ولا غرلة) بل الخليقة الجديدة” (غلا15:6)، ” المسيح هو سلامنا الذى جعل الاثنين واحدًا) (أى اليهود والأمم) وأبطل العداوة بينهما بذبيحته لكى يخلق الاثنين فى نفسه إنسانًا واحدًا جديدًا” (أف14:2و15)

الحياة فى المسيح والسلوك فيه هو أننا تعلّمنا أن نخلع… الإنسان العتيق الفاسد… ” وتتجددوا بروح ذهنكم وتلبسوا الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله فى البر وقداسة الحق” (انظر أف20:4ـ24)، ” إذ تخلعون الإنسان العتيق.. والبسوا الإنسان الجديد، الذى يتجدد للمعرفة حسب صورة خالقه… بل المسيح هو الكل فى الكل” (انظر كو8:3ـ11).

+ خلع الإنسان العتيق ولبس الجديد يتم بعمل الروح القدس بالدفن والقيامة مع المسيح فى المعمودية (انظر رو3:6و4) والجديد الذى نلبسه بالمعمودية هو “المسيح فينا”، ” كلكم الذى اعتمدتم بالمسيح قد لبستم المسيح” (غلا7:3)، وبلبس المسيح نصير أبناء الله، أى بالمعمودية والإيمان (انظر غلا6:3)، ” وبمقتضى رحمته خلّصنا بغُسل الميلاد الثانى وتجديد الروح القدس…” (انظر تى3:3ـ7).

وهذا الإنسان الجديد ـ أو الحياة الجديدة ـ الموهوب لنا هو نعمة، يحتاج إلى إماتة الأعضاء النفسية المرتبطة بأهواء النفس والجسد كالطمع والنجاسة والغضب والخبث والتجديف .. وخلع هذه العادات العتيقة من فكرنا وقلوبنا ومشاعرنا، وإلى لبس الجديد باستمرار (انظر كو8:3ـ11) أى تواضع المسيح ورأفته ولطفه ووداعته وصفحه، وإلى لبس المحبة ورباط الكمال… (انظر كو12:3ـ15).

وهكذا إذا لبسنا المسيح فى المعمودية نحتاج أن نواصل لبس المسيح بإيماننا وإرادتنا وتوبتنا والتصاقنا به فى الصلاة:

فلنخلع أعمال الظلمة ونلبس أسلحة النور.. بل البسوا الرب يسوع المسيح ولا تصنعوا تدبيرًا للجسد لأجل الشهوات” (انظر رو11:14ـ14).

وبالمسيح ننتقل من الظلمة إلى نوره العجيب لنسلك فى النور ” كنتم ظلمة وأما الآن فنور فى الرب. اسلكوا كأولاد نور” ذلك النور يثمر بالروح كل صلاح وبر وحق: ” لأن ثمر النور (الروح) هو فى كل صلاح وبر وحق” (أف8:5و9).

 

ثانيًا: التعليم عن الإنسان الجديد أو الخليقة الجديدة عند القديس مقاريوس:

1 ـ ماذا يعنى الإنسان الجديد عند القديس مقاريوس؟

أ ـ الإنسان الجديد يعنى عنده: أن نلبس يسوع المسيح فيكون فينا، [.. كل الذين خلعوا الإنسان العتيق ـ رداء مملكة الظلمة ـ قد لبسوا الإنسان الجديد السماوى ـ أى يسوع المسيح ـ بكل عضو مقابل عضو؛ عيون مقابل عيون، آذان مقابل آذان، رأس مقابل رأس ليكون الإنسان نقيًا بارتدائه الصورة السماوية] (عظة4:2)، [وينبغى أن يلبسوا الإنسان السماوى الجديد الذى هو المسيح] (عظة3:42).

ب ـ فالقديس يأخذ حقيقة لبس المسيح المذكورة عند الرسول بولس فى غلا28:3، وفى رو14:13 ” البسوا الرب يسوع“، ويمتد بها من واقع اختباره الروحى. فالذين يلبسون المسيح: [ هؤلاء ألبسهم الرب لباس ملكوت النور الذى لا يُنطق به، لباس الإيمان والرجاء والمحبة والفرح والسلام والصلاح واللطف (ثمر الروح فى غلا22:5)، وكل الملابس الأخرى الإلهية الحية التى لنور الحياة..] (عظة5:2).

واللباس ليس لباسًا خارجيًا ولكنه [هو المسيح ـ مملكة النور والصورة السماوية الذى يضيئ الآن سرًا فى النفس.. وعيون النفس فقط هى التى ترى المسيح حقًا.. حتى يأتى يوم القيامة..] (عظة5:2).

ويعلّمنا القديس مقاريوس أن المسيح يشرق بنوره داخل النفس التى تطلبه وتنتظره ليلاً ونهارًا فيكون هو لها [النور الذى يرشدها والطعام والشراب الحقيقى، الذى، هو الرب] وأن [ نطلب أن نرى الشمس الحقيقية] (عظة4:33) لأننا بدون نور المسيح فينا نكون عميان روحيًا لا نراه مضيئًا فى داخلنا، لأن يسوع جاء لكى يشفى عيوننا الداخلية من العمى فيصير إنساننا الداخلى صحيحًا معافى] (عظة4:33).

 

2 ـ والقديس مقاريوس يرى سر الإنسان الجديد مُشار إليه كظل مُسبق فى رؤيا حزقيال النبى: المُسجلة فى الإصحاح الأول من سفر حزقيال:

التى رأى فيها الشاروبيم ـ الأربع كائنات الروحانية الحية تحمل عرش الله على رؤوسها ” شبه عرش كمنظر حجر العقيق (الياقوت) الأزرق وعلى شبه العرش شبه كمنظر إنسان عليه من فوق”، “ومثل منظر النحاس البراق كمنظر نار داخله ومن حوله من حقويه إلى فوق ومن حقويه إلى تحت مثل منظر نار ولها لمعان من حولها”.

ورأى تحت الكاروبيم مثل ايدى إنسان تحت أجنحتها. وهذه الكائنات الروحانية التى رآها هى أربعة كائنات لها شبه إنسان ولكل منها أربعة أوجه: شبه وجه إنسان وشبه وجه أسد ووجه ثور ووجه نسر. ولها أجنحة وكل واحد يسير إلى وجهه (إلى الأمام). والكائنات الحية مملوءة عيونًا من كل جهة…

[ هذا منظر شبه مجد الرب” (انظر حزقيال ص1، وعظة1:1).

 

أ ـ النفس تصير كلها نورًا وعينًا وتسير إلى الأمام:

وقد كشف الروح القدس للقديس مقاريوس سر رؤيا حزقيال النبى هذه فقال إن ما رآه النبى كان حقيقيًا وأكيدًا وأن ما رآه يشير كظل مُسَّبق إلى السر المكتوم منذ الدهور والأجيال ولكنه أُظهر فى الأزمنة الأخيرة بظهور المسيح (بالتجسد).

ويعتبر القديس مقاريوس أن السر الذى ظهر بالتجسد هو سر النفس التى ستستقبل ربها وتصير عرشًا لمجده: [ لأن النفس التى تتمتع بامتياز الاشتراك فى روح ونور الله وتتشرب بأشعة جمال مجده غير الموصوف… فإنها تصير كلها نورًا وكلها عينًا! ولا يكون فيها جزءً غير مملوء بعيون النور الروحانية. أى ليس فيها جزءً مظلمًا بل تصير بكليتها نورًا وروحًا، وتمتلئ كلها عيونًا، فلا يكون لها جزءً خلفى بل فى كل اتجاه يكون وجهها إلى الأمام بواسطة الجمال الذى يفوق التعبير الذى لمجد نور المسيح الجالس والراكب عليها] (عظة2:1).

 

ب ـ المسيح يجلس على عرش النفس ويقودها ويوجهها:

وحلول المسيح فى القلب (انظر أف17:3) الذى يبدأ بالمعمودية والإيمان،” المسيح فيكم رجاء المجد” (كو27:1)، هو فى اختبار القديس مقاريوس أساس نمو الإنسان الجديد بقوة الروح القدس، لأنه يقول إن المسيح المُشار إليه فى الرؤيا بمنظر إنسان فوق عرش الشاروبيم ” هو الذى هيأ النفس لتكون عرشًا ومسكنًا” له. ” والمسيح جلس بمجده ونوره جالس وراكب على النفس“.

هذا الإنسان الجديد الذى ” يشبع تمامًا بالجمال الذى لا يُوصف، جمال مجد نور وجه المسيح” و” كون فى شركة تامة مع الروح القدس وتنال الامتياز بأن تكون محل سكن الله وعرشًا له، فإنها تصير كلها عينًا، وكلها نورًا، وكلها وجهًا، وكلها مجدًا، وكلها روحًا، والمسيح الذى يقودها، ويرشدها، ويحملها، ويسندها ويوجهها” (انظر عظة2:1).

ويقول إن المسيح “ يمسك الزمام ويقود قوى النفس بروحه، حينما تتجه للسير إلى السماء، فهى تسير حسب قيادته وليس بحسب مشيئتها الخاصة“.. وهو يكشف للإنسان فى الداخل أسرارًا بلا حجاب (انظر عظة3:1).

 

ج ـ الحياة الجديدة فى الإنسان الباطن هى بنور الروح القدس وفعله:

فالنفس التى آمنت بالرب وأُميتت عن حياة الظلمة وأُنقذت من الخطية ونالت نور الروح القدس كحياة لها فانتقلت إلى الحياة حقًا، فإنها تصرف زمانها فيما بعد فى نفس هذه الحياة، إذ تكون ممسوكة بشدة بقوة نور اللاهوت”.. “ويكون نور الله فى داخلها وبذلك تعيش فى النور”.. (انظر عظة7:1و8)… ولأن لها “روح النور أعنى قوة الروح القدس فإنها جزء لا ينفصل عن النور” (انظر عظة6:1).

 

د ـ وهذه الحياة الجديدة بنور الروح القدس هى الحياة الأبدية (حياة الله نفسه) منذ الآن فى داخل النفس:

فالنفس لا تملك النور الإلهى بطبيعتها ـ رغم أنها مخلوقة على صورة الله…” فقد سُرّ الله بأن لا تحصل على الحياة الأبدية من طبيعته الخاصة، ولكن من لاهوته أى من روحه ومن نوره. تنال طعامًا وشرابًا روحانيًا ولباسًا سماويًا، وهذه هى حياة النفس أى الحياة الحقيقية” (عظة10:1).

[فإن لم تولد النفس الآن فى أرض الأحياء وتستمد غذاءً روحيًا منها وتنمو نموًا روحيًا أمام الرب وتكتسى من اللاهوت بحُلّل الجمال السماوى التى تفوق الوصف… فإنها لا يمكن أن تحيا من نفسها… إذ بكل أصناف طعام الروح السماوى ولباس النور السماوى، التى تأتى من الله ـ تكون حياة النفس الأبدية... وإن استندت على طبيعتها الخاصة ولم تضع ثقتها فى شئ سوى أعمالها الخاصة، ولم تنل شركة روح الله، فإنها تموت إذ أنها لم تحصل على حياة اللاهوت الأبدية الممنوحة لها] (عظة11:1).

 

هـ – نور المسيح الإلهى فى حياة المؤمنين الآن وفى الدهر الآتى:

أنا هو نور العالم..” (يو12:8). ” أنا قد جئت نورًا إلى العالم..” (يو46:12). ” النور الحقيقى الذى ينير كل إنسان…” (يو9:1). ” أنتم نور العالم.. فليضيء نوركم..” (مت14:5ـ16).

فالنور الذى فى حياة القديسين هو نور اللاهوت، نور المسيح الإله المتجسد. فالمسيح صيَّر الرسل نورًا إذ قال لهم ” أنتم نور العالم“، وبعد ذلك أمرهم أن ينيروا العالم: ” فليضيء نوركم قدام الناس“، وبمعنى آخر ـ مثل السراج على المنارة ـ ” لا تخفوا الموهبة التى قبلتموها منى“، ويعلّق على قول المسيح: ” ..إن كانت عينك بسيطة فجسدك كله يكون نيّرًا..” (مت22:6و23، لو34:11) بأن النور الذى يناله الذين يكرزون من المسيح يعطونه للذين يؤمنون بواسطتهم ” بأن ينيروا قلوبهم بالنور السماوى. نور الروح الذى كانوا هم أنفسهم مستنيرين له” (انظر عظة4:1).

والنفس التى تنتمى إلى جسد المسيح.. لها حياة روح النور وهى جزء لا ينفصل عن النور (انظر عظة6:1). والنفس التى أُميتت عن حياة الظلمة ونالت نور الروح القدس كحياة لها تكون ممسوكة بشدة بقوة نور اللاهوت (انظر عظة7:1)… “ويكون نور الله فى داخلها وبذلك تعيش فى النور” وتنتقل (وهى فى الجسد) إلى مدينة نور اللاهوت وتعيش هناك…” (عظة8:1).

 

+ المسيح يضئ داخل النفس الآن ويغمر بنوره الجسد فى القيامة:

الذين لبسوا المسيح يلبسهم الرب لباس ملكوت النور، لباس الفرح والمحبة والرجاء والسلام… إلخ، وكل ملابس نور الحياة حتى كما أن الله هو محبة وفرح وسلام ولطف وصلاح، فهكذا يكون الإنسان الجديد بالنعمة.. ويسوع المسيح ـ الصورة السماوية، مملكة النور يضئ الآن سرًا داخل النفس ويملك فى نفوس القديسين ولكنه مُخفى عن عيون الناس، وعيون النفس فقط هى التى ترى المسيح حقًا حتى يأتى يوم القيامة الذى فيه، سيُغمر الجسد أيضًا بنور الرب ويتمجد به، ذلك النور المختفى الآن فى نفس الإنسان (انظر عظة 5:2).

+ مجد النور وأطعمة الروح التى سيحصل عليها المسيحيون الحقيقيون فى القيامة، تُمنح لهم منذ الآن بطريقة خفية، وسوف تظهر وتنكشف بعد ذلك على أجسادهم، لأن المجد الذى يحصل عليه القديسون الآن فى نفوسهم ـ أى فى الحياة الحاضرة ـ وهو بعينه سوف يغطى ويكسو أجسادهم العارية ويختطفهم إلى السماء فنستريح هناك مع الرب فى ملكوته جسدًا ونفسًا إلى الأبد (انظر عظة1:5).

 

و ـ الخليقة الجديدة للمسيحيين الحقيقيين فى الباطن ثم فى الخارج:

يخصص القديس مقاريوس عظة رقم 5 كلها للحديث عن خليقة المسيحيين الجديدة، كما يشير إلى هذه الخليقة الجديدة مرات عدة فى عظاته الأخرى: نذكر هنا فقط القليل من حديثه هذا

1ـ ما يميز الخليقة الجديدة عن أهل العالم هو:

+ تجديد القلب وسلامة الأفكار والمحبة للرب والشهوة السماوية له… فالمسيحيون لهم مجد وجمال وغنى سمائى يفوق الوصف والتعبير (انظر عظة5:5).

+ قلب المسيحى وعقله هو دائمًا فى المجال السماوى، فالمسيحيون الحقيقيون ينظرون الخيرات الأبدية كما فى مرآة، وذلك بسبب حصولهم على الروح القدس وشركته.. فعقلهم واهتمام نفسهم هو سلام المسيح ومحبة الروح، عن مثل هذا تكلم الرب حينما قال ” إنهم قد انتقلوا من الموت إلى الحياة” (يو24:5)، لأنهم مولودون من فوق وقد صاروا أولاد الله بالحق والفعل.. (انظر عظة4:5).

2 ـ الروح والنور والمجد هم فى الداخل ويظهروا على الجسد من الخارج:

المسيحيون الحقيقيون بالفعل يكون لهم ثقة ويفرحون عند خروجهم من الجسد لأن لهم بيت غير مصنوع بيد، بيت ابدى، الذى هو قوة الروح الساكن فيهم، ويؤمنون أنهم سيقتنون ذلك البيت ويمتلكونه منذ الآن. لذلك فحتى إن نقض بيت خيمتنا الأرضى (انظر 2كو1:5ـ4) ـ أى بيت الجسد ـ فلا يخافون لأن لهم بيت الروح والمجد الذى لا يفسد ـ البيت السماوى ـ ذلك المجد الذى سوف يبنى بيت الجسد أيضًا ويمجده فى يوم القيامة.. كما يقول الرسول: ” سيُحيى أجسادكم المائتة بروحه الساكن فيكم” (رو8:8)، وأيضًا: ” تظهر حياة يسوع فى جسدنا المائت” (2كو11:4)، ” لكى يُبتلع المائت من الحياة” (2كو4:5) (عظة7:5).

+ ويحثنا القديس مقاريوس أن نسعى بالإيمان والصلاة والاجتهاد أن نقتنى ذلك اللباس هنا، لأن كل واحد بقدر ما يحسب أهلاً ليصير شريكًا للروح القدس بقدر ذلك يتمجد جسده فى ذلك اليوم. فكل ما خزنته النفس فى داخلها فى هذه الحياة الحاضرة، سوف يُعلن حينئذٍ وينكشف من الخارج ظاهرًا فى الجسد (انظر عظة8:5).

3 ـ فى القيامة ـ يخرج مجد الروح القدس ـ بقوة شمس البر ـ من الداخل فيكسو ويغطى أجساد القديسين ـ ذلك المجد الذى كان مختفيًا داخل نفوسهم. فإن ما يكون للإنسان الآن، سيظهر بعينه خارجًا من الداخل وينكشف فى جسده.

ـ وهكذا ستتمجد أجساد المسيحيين بواسطة النور الفائق الوصف الذى هو فيهم منذ الآن ـ وأعنى به قوة الروح القدس،… فكل جمال البهاء والبريق السماوى سوف يصير لهم من روح اللاهوت.. الذى حُسبوا أهلاً لقبوله فى هذه الحياة الحاضرة (عظة9:5).

4 ـ وفى عظتى 32 و33 يتحدث عن هذه الحقيقة أيضًا:

+ ثوب المجد الآن وفى القيامة:

المسيحيون يحصلون على الثوب السماوى ساكنًا داخل نفوسهم منذ الآن، وفى القيامة فإن هذا الثوب الذى يكسو نفوسهم منذ الآن ويمجدها، وهو الآن فى داخل قلوبهم هذا سوف يكسو أيضًا أجسادهم العارية ويمجدها عندما تقوم من القبور فتقوم مكتسية بالموهبة السماوية وبالثوب السماوى الذى يناله المسيحيون فى هذه الحياة منذ الآن (انظر عظة2:32).

+ النفوس تقوم وتتمجد أولاً ثم بعد ذلك تتمجد أجسادها معها:

الأجساد التى سبق أن أُقيمت نفوسها قبلاً وتمجدت، هذه الأجساد تتمجد أيضًا فى القيامة مع النفوس وتستنير بالنفوس التى قد استنارت وتمجدت فى هذه الحياة الحاضرة… وهم يلبسون مسكنًا من السماء ” غير مصنوع بأيدى” (2كو1:5)، وهو مجد النور الإلهى إذ قد صاروا أبناء النور… والجميع يتغيّرون إلى طبيعة القداسة الإلهية ويصيرون ذوى صلاح وخير، وآلهة، ,ابناء الله… (انظر عظة2:34).

 

ز ـ التجلى : تجلى المسيح وتجلى الإنسان:

1 ـ تحدث كثيرون من آباء الكنيسة عن تجلى المسيح ونظروا إلى النور الفائق الذى اشع من وجهه وجسده وثيابه، على أنه هو نور لاهوته، وأن هذا المجد هو إعلان مُسبَّق للمجد الذى سيظهر به فى مجيئه الثانى. وهذا النور المُشع من المسيح هو الذى يُنير فى القديسين فيمجدهم فى الداخل وبعد ذلك يمجد أجسادهم فى القيامة كما رأينا فى الأقوال السابقة للقديس مقاريوس[1].

يقول القديس مقاريوس إن أجساد القديسين ستتمجد وتضئ مثل البرق كما تمجد جسد الرب حينما صعد إلى الجبل وتجلى بالمجد الإلهى وبالنور غير المحدود. فالمجد الذى كان فى داخل المسيح فاض على جسده وأضاء وبنفس هذه الطريقة يحدث فى القديسين، فإن قوة المسيح التى فى داخلهم تنسكب فى ذلك اليوم على أجسادهم من الخارج، فهم منذ الآن يشتركون فى جوهره وطبيعته فى عقولهم كما يقول: ” أنا أعطيتهم المجد الذى أعطيتنى” (يو22:17). وكما أن مصابيح كثيرة تُوقد من نار واحدة هكذا أجساد القديسين، إذ هم أعضاء المسيح فبالضرورة تصير مثل المسيح نفسه (انظر عظة38:15).

كما قال رب المجد نفسه عن المؤمنين فى ملكوت الله: “ حينئذٍ يضئ الأبرار كالشمس فى ملكوت أبيهم” (مت43:13)، وهذا ما يشير إليه يوحنا الرسول أيضًا بقوله: ” نعلم أنه إذا أُظهر (المسيح) نكون مثله لأننا سنراه كما هو (أى كما هو فى مجد لاهوته)” (1يو2:3و3).

2 ـ تجلى بعض القديسين فى الحياة الحاضرة:

حالة التجلى بنور المسيح ظهرت على وجوه بعض القديسين وهم على الأرض وأضاءت أجسادهم بالنور الإلهى. ونجد أخبار هذه الحالات من التجلى المنظور فى الدهر الحاضر فى أخبار آباء الصحراء. وتعرفنا هذه الأخبار عن تجلى بعض الآباء النُساك مثل الأنبا بموا، والقديس مقاريوس نفسه والقديسين مكسيموس ودوماديوس، والأنبا سيسوى والقديس أرسانيوس، والأنبا يوسف (قرن4و5). وفى العصر الحديث أيضًا حدثت حالات التجلى المنظور للأب سيرافيم الروسى (قرن19)، والأنبا أبرام أسقف الفيوم (قرن20).

 

ح ـ نور المسيح وحياتنا الحاضرة:

النور الإلهى الذى تجلى به المسيح على الجبل، يرينا حالة النور والمجد الذى سيُستعلن فينا عند مجيئه بالمجد العظيم ليفتدى أجسادنا ويشركها فى مجده، ” متوقعين التبنى فداء أجسادنا” (رو23:8) أى يحرر أجسادنا من الموت والاضمحلال ويشركها فى مجد الحياة الأبدية، كما تشترك الخليقة المادية مع أجسادنا فى نوال حرية مجد أولاد الله، ويصبح الكون كله شفافًا للنعمة، إذ ستُعتق الخليقة من عبودية الفساد بفعل الروح القدس (انظر رو21:8ـ23).

هذا النور الإلهى، نور مجد الله، نور الحياة الجديدة، التى ينالها المسيحى وهو فى العالم، هذه الحياة ليست من هذا العالم، ولذلك فالمسيحى ليس من العالم كما قال الرب: ” أنتم لستم من العالم.. كما أنى أنا لست من العالم” (يو19:15، 17:14)، ولكنه وهو ليس من العالم فهو يعيش فى العالم. هو يؤمن بالمسيح حقًا وينال روحه بداخله وينتظر مجيء الرب المجيد باشتياق، لأن نور المسيح المتجلى، المسيح الحي المُمجد الآن، قد أشرق فى قلبه، ولذلك يحس فى داخله بجمال مجد المسيح وهذا يقوده للاشتياق إلى يوم الاتحاد الكامل به.

والمسيحى يُعد منذ الآن للاشتراك فى هذا المجد، وهذا الإعداد يتم بتنقية القلب من الظلمة والبغضة وسائر الخطايا والأهواء، بقوة نور المسيح الذى ينقلنا من الظلمة إلى النور: ” أنا هو نور العالم من يتبعنى لا يمشى فى الظلمة بل يكون له نور الحياة” (يو12:8) ” أنا قد جئت نورًا إلى العالم حتى أن كل من يؤمن بى لا يمكث فى الظلمة” (يو46:12) كما قال الرب أيضًا: ” آمنوا بالنور لتصيروا أبناء النور” (يو36:12).

إن الالتصاق بالمسيح النور الحقيقى بكل القلب يحوّلنا من الداخل لنصير منيرين أى أبناء النور ولذلك يقول أيضًا أنتم نور العالم، فنورنا مأخوذ من نوره، وبنوره نضئ قدام الناس لكى يرى الناس حياة المسيح ونوره ظاهرة فى أعمالنا فيمجدوا أبانا أب النور، ” يروا أعمالكم الحسنة فيمجدوا أباكم الذى فى السموات” (مت14:6ـ16).

قال رب المجد: ” متى كانت عينك بسيطة فجسدك كله يكون نيرًا” (مت22:6). العين البسيطة على القلب البسيط الذى ينظر إلى المسيح ببساطة وحب واستقامة والقلب البسيط يعنى القلب الذى ينظر فى اتجاه واحد فقط هو الرب وحده (وليس فى اتجاهات كثيرة لأن هذه صفة العين الشريرة أى الطامعة فهذه تجعل الجسد كله مُظلمًا). ” فالحاجة إلى واحد… النصيب الصالح الذى لا يُنزع منها” (لو42:10).

وبهذا النظر الداخلى يمتلئ الإنسان بنور المسيح فى قلبه فتهرب الظلمة بكل أنواعها ويصير قلبه نقيًا يستطيع أن يرى مجد الله ساطعًا فى داخله، ” طوبى لأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله” (مت8:5).

 

ط ـ النظر إلى نور المسيح ومجده والتغيّر المستمر إلى صورة مجده:

النظر إلى مجد المسيح كما ذكرنا ينقى القلب، ويغيّر إنساننا الداخلى من مجد إلى مجد، إذ يقول الرسول بولس: ” ونحن جميعًا ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف، كما فى مرآة نتغير على تلك الصورة عينها من مجد إلى مجد كما من الرب الروح” (2كو18:3).

أى بمداومة النظر فى داخل قلوبنا، إلى المسيح المُمجد، فإننا ننظر مجد المسيح منعكسًا على مرآة قلوبنا. ” كما فى مرآة“، أى ليس عيانًا والمرآة هنا هى قلوبنا، إذ أن قلوبنا هى مرآة الله. وهذا النظر إلى المسيح فى الداخل والتفرس فى مجده غير المنظور يغيرنا من الداخل، يغيرنا إلى صورة مجده كما يقول الرسول ” نتغير إلى تلك الصورة عينها“، نتغير بأن يرسم المسيح بروحه صورة مجده فينا كما يقول الرسول ” من مجد إلى مجد كما من الرب الروح” أى أن هذا التغيير إلى صورة مجد المسيح فينا يتم بعمل الروح القدس داخلنا.

وهذا ما يقوله القديس مقاريوس:

[المسيح ـ الفنان الصالح ـ فى الذين يؤمنون به ويتطلعون إليه ويُثبّتون نظرهم فيه دائمًا،يرسم صورة الإنسان السماوى على صورته. فمن روحه ومن جوهر النور نفسه ـ النور غير الموصوف ـ يرسم صورة سماوية… فينبغى أن ننظر إليه ونتفرس فيه، ونؤمن به ونحبه، ونرذل كل شئ غيره، ونأتى أمامه لكيما يرسم صورته السماوية، ويرسلها إلى داخل نفوسنا، وهكذا إذ نلبس المسيح، فإننا ننال الحياة الأبدية ونحصل على يقين تام ـ هنا ومنذ الآن ـ وندخل إلى الراحة] (عظة 4:30).

المذيع محمود داود يُعلن إيمانه بالمسيح

المذيع محمود داود يُعلن إيمانه في الكتاب المقدس

القديسة مريم العذراء – دراسة في الكتاب المقدس

 

[1] تحدث عن التجلى آباء مشهورون: مار أفرام السريانى والقديسون باسيليوس وغريغوريوس الناطق بالإلهيات، ويوحنا ذهبى الفم، وقد وردت بعض أقوالهم عن هذا الأمر فى مقال “تجلى المسيح” بالكتاب الشهرى عدد أغسطس1981م.

الإنسان الجديد عند القديس مقاريوس د. نصحي عبد الشهيد