أبحاث

معنى الألم – تأمل على خطى المزامير 1 – الأب نادر ميشيل

معنى الألم – تأمل على خطى المزامير 1 – الأب نادر ميشيل

معنى الألم - تأمل على خطى المزامير 1 - الأب نادر ميشيل
معنى الألم – تأمل على خطى المزامير 1 – الأب نادر ميشيل

معنى الألم – تأمل على خطى المزامير 1 – الأب نادر ميشيل

إقرأ أيضاً:

يَختبر الأَلَم كلُّ إنسان، أصغيراً كان أم كبيراً، غنياً أم فقيراً، مثقَّفاً أم غير متعلّم. فمَن منّا لم يعرف الألم ومَن منّا لم يقابل أشخاصاً يتألَّمون. وأمام الألم يطرح الإنسان عدّة أسئلة تبقى بلا جواب واضح: لماذا الألم؟ مَن هو الله؟ وأين هو في حياتي؟…

 وغالباً ما يعجز الناس عن فهم معنى ما يصيبهم من ألم، ويغرقون في مشاعر الحزن والغضب واليأس. وكثيراً ما نكتشف أمام الإنسان المتألِّم خوفنا من مواجهته وقلّة حيلتنا وخجلنا أيضاً. فنهرب منه ونحن بالقرب منه، لأنّنا نشعر أنّ الكلمات تفقد جدواها ومعناها، أو تتحوّل إلى ثرثرة تسعى إلى تناسي الأسئلة التي يطرحها الألم علينا ونتعثّر في الردّ عليها. فيكون حالنا وحال مَن يتألَّم، إمَّا البكم، وإمَّا الثرثرة.

ولكن هل نبقى صامتين أمام الألم، وهل نجازف بالكلام وأن نخاطر بالبحث عن معنى لحياتنا، لأنّ الألم جزء من حالتنا الإنسانيّة، والحديث عنه يُعدّ محاولة للفهم، إن كان ذلك ممكناً. ويمثّل الكلام محاولة للخروج منه وتعدّي البكم الذي أصاب الإنسان من جرّائه، وبالتالي يمثّل الكلام سعي الإنسان لاسترجاع مبادرة الحياة التي اهتزّت تحت وطأة الألم. الكلام عن الألم، أي ما نحاول أن نقوم به في هذه الصفحات، هو محاولة للتقدّم على طريق البحث عن معنى للحياة عندما يعلن الألم عن العبث واللا معنى.

 ولكن يبقى الحديث عن الألم مهمًة صعبة وحسّاسة. إنّها مهمّة صعبة لأنّ كلّ تحليل وكلّ حديث لا يفيان بحقّ الإنسان المتألِّم، ولا بعظمته التي تظهر من خلال ضعفه عندما يحطّمه الألم ويطحنه. وهي مهمّة حسّاسة لأنّنا عندما نتحدّث عن الألم فنحن نتحدّث عن أشخاص متألّمين يستوجبون الاحترام العميق لشخصهم والتقدير الكبير لمشاعرهم، وقد نتلعثم فلا نجد الكلمات المناسبة تماماً للتعبير عن الاحترام والتقدير لكلّ مَن يمرّ بخبرة الألم. وقد تتحوّل كلماتنا، في أحيان ليست بقليلة، إلى حضور صامت بجانب مَن يتألَّم.

سيصحبنا الكتاب المقدّس في مسعانا للتحدّث عن الألم، وفي تحسّسنا الطريق نحو النور. فنسأل المزامير كيف تصوّر الإنسان المتألُّم، وسفر أيّوب كيف يجيب عن السؤال الذي يطرحه الإنسان عن سبب الألم وعن معنى الحياة والجود، ونستعرض مع يسوع في الإنجيل موقف الله من الألم والإنسان المتألُّم. وفي كلّ مرحلة سنستعين أيضاً بالدراسات الفلسفيّة والنفسيّة عن الألم وآثاره في الإنسان، ونتطرّق إلى الأحاديث اللاهوتيّة والروحيّة عن الألم، مبيّنين طرق تناولها هذا الموضوع وكيفيّة ردّها على التساؤلات التي يطرحها الألم.

 

1- سفر المزامير: ما الألم؟

يشهد سفر المزامير على صلاة الأجيال المتتابعة وإيمانها بالله الخالق والمخلّص. ونجد فيها صدى لصرخة الإنسان المتألِّم، على المستوى الفرديّ:

«استمع يا ربً لصلاتي وأصغ إلى صراخي ولا تسكت عن دموعي فإنّي عندك ضيف وكجميع آبائي مُقيم» (39/13).

ونجد صدى أيضاً لألم الجماعة:

«ولكنّك نبذتنا وأخزيتنا ولم تعد تخرج وجيوشنا تردّنا من وجه المُضايق على أعقابنا ومبغضونا يسلِبون على هواهم» (44/10-11).

عندما يصيب الألم الإنسان في كيانه الجسدّي، تتأثّر حياته كلّها ووجوده أمام الله وحضوره للآخرين. وأيّاً كان سبب الألم، إن نتج من عمل الإنسان نفسه أو من جرّاء الآخرين، إن كان بسبب مرض عضويّ أو بسبب جرح نفسيّ أو روحيّ، فهو إصابة في الصميم لحياة الإنسان تدفعه إلى الصراخ إلى الله القادر أن يخلّصه ويعيده إلى الحياة. فمن ناحية، يلمس الألم الجسمانيّ عمق الإنسان.

ومن ناحية أخرى، يظهر الألم المعنويّ والروحيّ، في جسد الإنسان. الإنسان كيان واحد، جسديّ وروحيّ في آن واحد، لا فصل بينهما، بل اتّحاد وثيق. فنسمع في المزمور: «آثامي جاوزَت رأسي وثقُلت كحمل أثقل من طاقتي. جروحي أنتنت وفاحت من جرّاء حماقتي. انحنيت جداً وتحدّبت وبالحداد طوال النهار مَشيت. امتلأت كَليتاي التهاباً ولا صحّة في جسدي. وهَنتُ جداً وانسَحقتُ ومن زئير قلبي زَمجَرتُ» (38/5-9).

ويصيب الألم في الوقت نفسه العلاقة بالله وبالآخرين، لأنّ البعدَين متَّصلان ومرتبطان الواحد بالآخر، فما ينال من علاقة الإنسان بالآخرين يؤثّر في صلاته وموقفه من الله: «أيُّها السَّيِّد، بُغيتي كُلُّها أمامك وتنَهّدي لا يَخفى علَيكَ يَخفق قَلبي وقُوَّتي تُفارقُني وحتَّى نُورُ عَينَيّ لم يَبقَ معي. ووقف أحبَّائي ورِفاقي متنحّين عن ضربتي ووقَف بعيداً أقاربي» (38/10-11).

«جميع مبغضيَّ عليّ يتهامسون والشرَّ لي يُضمرون، مرض خبيث سرى فيه، أمّا وقد اضّجع فلن يقوم وحتّى صديقي الحميم الذي اتّكلت عليه فأكل خبزي هو رفع عليّ عقبه» (41/8-10).

وأصعب ألم هو اختبار غياب الربّ والاشتياق إليه في وسط ليل القلب والحواسّ: «كما يشتاق الأيّل إلى مجاري المياه كذلك تشتاق نفسي إليك يا الله، ظمئت نفسي إليك يا الله، إلى الإله الحيّ، متى آتي وأحضر أمام الله؟ قد كان لي دمعي خبزاً نهاراً وليلاً إذ قيل لي طول يومي: أين إلهك» (42/2-4).

ونسمع في المزمور 22 أبلغ تعبير عن ألم الإنسان وعن صرخته إلى الله، وهو المزمور الذي صلاّه يسوع على الصليب، وقد ذكر الإنجيل على لسان يسوع الآيات الأولى منه (متّى 27/46، مر 15/34): «إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟ هيهات أن تخلّصني كلمات زئيري إلهي، في النهار أدعو فلا تجيب وفي الليل لا سكينة لي».

«أمّا أنا فدودة لا إنسان، عار عند البشريّة ورذالة في الشعب جميع الذين يرونني يسخرون بي ويفغرون الشفاه ويهزّون الرؤوس إلى الربّ سلّم أمره فلينجّه ولأنّه يحبّه فلينقذه».

«مثل الماء انسكبتُ وتفككت جميع عظامي، مثل الشمع صار قلبي وذاب في وسط أحشائي».

«وأنت يا رّب، لا تتباعد يا قوّتي، أسرع إلى نصرتي من السيف أنقذ نفسي ومن يد الكلب وحيدتي، من شِدق الأسد ومن قرون الثور خلّصني» (22/2-3، 7-9، 15، 20-22).

نحن والمزامير

في هذه المزامير نجد صدى لما نختبره كلّ يوم من ألم جسمانيّ تسبّبه الأمراض الخطيرة أو المزمنة، الإصابات العابرة أو الإعاقات المستديمة، متاعب الشيخوخة وأوجاعها. وقد تفوق الآلام النفسيّة الألم الجسمانيّ، مثل المخاوف والوساوس والاكتئاب، وجروح الذاكرة والإحساس بالفشل في الزواج، في الدرس، في العمل أو في الحياة الرهبانيّة.

ومن أسباب الألم النفسيّ أيضاً الشعور بعدم الأهميّة والتخوّف من المستقبل والتهديدات المختلفة، وكذلك التمزّق العائليّ والفراق عن الأهل والأحبّاء، وإحساس فرد أو جماعة من الناس بالظلم والطغيان، مثل استغلال شعب وحرمانه من حقوقه وتهميش فئات من المجتمع. ولا نغفل الآلام التي يسبّبها الشعور بالوحدة وعدم الأمانة الزوجية والخيانة والإنكار والموت عامّة والموت المفاجئ خاصةً. والألم الروحيّ صعب ومرّ للغاية، كاختبار غياب الربّ بالأخصّ بعد فترة تعزية ونور، فتضيع المعالم وتهتز الثوابت ويختفي الطريق، ويشعر الإنسان وكأنّ الله خدعه فأتى به إلى مكان قفر وتركه وسط الليل بعد أن لمس قلبه بمحبّة وجذبه بلطف. ويؤلم الإنسان أيضاً المرور بتجربة صعبة تحمل معها الشك واليأس والإحباط، كما تؤلم الخطيئة والتواطؤ معها.

آثار الألم في الإنسان

نبين في الفقرات القادمة بعض آثار الألم في الإنسان، ونحلّل بعض مظاهره، ولكن بالطبع ليس كل متألِّم يمرّ بهذه المشاعر كلها، ولا يحياها كل شخص بالقوة نفسها. لكننا نحاول من خلال عرضنا الدخول في فهم متعمّق وصادق لما يمرّ به الإنسان من مشاعر وأحاسيس. على أيّ حال، تتعدّد أسباب الألم، ويختلف رد فعل شخص عن شخص آخر، ولكن، في النهاية، الألم هو دائماً قوة محطِّمة ومدمِّرة للإنسان جسدياً، معنوياً، وروحياً.

  • الشعور بالغربة:

في كل هذه التجارب، يشعر الإنسان بالألم كشيء غريب عنه، كعدوان خارجي. يعطي الألم إحساساً بالغربة تشوّه الإنسان حتى إنّه لم يعد يتعرّف إلى نفسه، صار غريباً لنفسه: «لا أعرف مَن أنا ولم أعد أفهم ما يحدث لي، لم أعد الإنسان الذي كنت من قبل، تغيّرتُ وتغيّرت حياتي». يشعر الإنسان بنوع من نزيف الحياة يوماً بعد يوم، كأنّ الألم يستهلك حيويته ويمتّص طاقته، وكأنّه ماضٍ إلى الضياع والفقدان بكل ما تحمله هذه المشاعر من ألم ولا معنى. صار المتألم غريباً لنفسه، فأصبح غريباً للآخرين أيضاً، لأنه تبدّل شكله وطبعه وضعفت قدراته وإمكاناته. ويقود الشعور بالغربة إلى الخجل من الذات، لأن الإنسان يحسّ تحت وطأة الألم أنه صار مختلفاً عن الآخرين وغريباً عن سائر الناس.

بالرغم من حسن النوايا وصدق المشاعر، سرعان ما تضعف همم الأصدقاء والمقرّبين. فيزهق مَن هم بجانب الشخص المتألم، لأن الألم مُتعب ومُرهق، ولأن الألم يخيف مَن يشاهده على وجوه الآخرين ويهدّده بإمكانية وقوع الألم نفسه عليه. ولأن التساؤلات التي يطرحها الألم صعبة ومخيفة، يصعب على الناس، حتى أقرب المقرّبين، مرافقة المتألم طويلاً. فعندما يطول الألم، لا يدري الناس عامّة ماذا يفعلون حياله وماذا يقولون للصديق المتألم، فيتوارى بعضهم عن الأنظار خجلاً أو يأساً أو تحرجاً، ويرتدّ إلى الوراء بعضهم الآخر، محاولين النسيان وتبرير الفرار. فيضيف كل هذا إلى وجع الإنسان المتألم آلام الوحدة والإحباط والتحسّر والمرارة، آلام الإحساس بالفقر والكبت والغضب.

  • الشعور بالوحدة:

يعطي الألم إحساساً بالوحدة وبالانفصال عن مظاهر الحياة الإنسانية والاجتماعية العادية. تؤدّي الغربة إلى الوحدة: «أنا وحيد أمام هذا الواقع الجديد الذي يصيبني، مَن تُراه يفهم آلامي ومداها، مَن تُراه يقدّر اضطرابي الداخليّ ومخاوفي وهواجسي؟» الإنسان المتألم هو دائماً وأساساً وحيد بالرغم من وجود الأهل والأصدقاء حوله. فبسبب الألم، ينسلّ الإنسان من نسيج الحياة الإنسانية الطبيعي والعادي، لأنه أصبح غير قادر على مجاراة نمط الحياة العادية، ولأن الألم يحاصره داخلياً ويعصره خارجياً.

وبالنسبة إلى المتألم، يشعر بالوحدة لأنه ينظر إلى الآخرين، فيجدهم في صحة جيدة، وأسرهم تسير على ما يرام، ناجحين في دروسهم وعملهم، يكملون حياتهم وأشغالهم، يلهون ويفرحون. أما هو، فيقتطعه الألم عن الحياة، وينزع عنه الفرح، ويخلع عنه الهناء. وشيئاً فشيئاً، تحت وطأة الألم، يصبح الإنسان وحيداً، وقد عانى من حوله بالإرهاق والملل والخوف من رؤيته متألماً.

  • الانغلاق على الذات:

وبعد الشعور بالغربة والوحدة، يتسلل إلى قلب المتألم الانغلاق على الذات. يصبح الألم محور التفكير، ويتحول الأنا إلى مركز الاهتمام. الإنسان في صراع مستمر مع الألم، في بحث مستمر للخروج من دوامته ومن قيوده، يجري وراء المسكنات وأدعياء الحلول السريعة ومرّوجي الإجابات الجذرية. «مَن يخلّصني من آلامي؟»، هذا هو السؤال الأساسي لمَن يتألم. وعندئذ يبدأ اهتمام المتألم بشؤون من حوله وأمورهم يقلّ ويضمر حتى يكاد أن يختفي، وتخفّ قدرته على الانتباه إلى الآخرين ومتابعة همومهم ومتاعبهم.

ولكن لننتبه هنا إلى شيء هام، وهو أن أشدّ ما في الألم من خبث وغرابة هو أنه يدفع الإنسان إلى التواطؤ معه وإلى التعايش مع الأسباب التي أدت إليه، فقد نجد إنساناً يصرخ طالباً النجاة من الألم، وفي الوقت نفسه يتعايش بأشكال مختلفة مع الوضع الجديد الذي أتى به الألم إلى حياته، فليس كل مريض يبحث بالضرورة عن الشفاء، لأن بعضهم قد وجد نوعاً من التوازن في حالة المرض، ورتّب، بوعي أو غير وعي، حياته وعلاقاته على هذا الأساس. وهكذا وجد نوعاً جديداً، وإلى حدّ كبير مريحاً، من الرضا الذي يدفعه إلى الاستسلام للوضع المؤلم.

فعلى سبيل المثال، بسبب المرض، يعطف الأقرباء عليه، ويهتّم الأصدقاء به، ويسارع الكل بتقديم العون له، بل يقبلون تجاوزاته ويغفرون له طلباته غير المعقولة. وشيئاً فشيئاً نجد هذا الشخص وقد استحبّ مرضه وارتبط به ولم يعد يرغب في الشفاء منه، حتى وإن أعرب عن العكس للآخرين. ألم نسمع يسوع يسأل الأعمى والمقعد: ماذا تريد أن أصنع لك؟ هل تريد أن تشفى؟ فليست الرغبة في الشفاء بديهية، ولا يعني دائماً طلب الخروج من دائرة الألم استعداد الشخص لأخذ الوسائل اللازمة للخروج منه. فالرغبة في الخلاص من الألم تمثل نوعاً من المغامرة تطلب من بعضهم شجاعة أكبر من تلك التي يُظهرونها في تحمّل الألم.

ويعني طلب النجاة من الألم الاستعداد لمواجهة المستقبل، وهو اختبار جدّيّ للحرية، يخافه بعض الناس أكثر من الألم. فمَن عانى طويلاً من الألم قد يتعب من المواجهة وطلب النجاة المستمر، وقد ييأس من تكرار القيام والسقوط، وأخيراً قد يفقد الأمل في المستقبل والثقة في نفسه وفي الله وفي الآخرين. فإذا حلّ به الألم يخاف النهوض منه واستكمال مسيرة الحياة، مفضلاً الوضع المؤلم الحالي على أن يقع تحت الألم مرة أخرى أو أن يمر بخبرة صعبة مرة ثانية.

  • اليأس:

يقود الألم إلى طريق مسدود حيث لا رجاء ولا أمل في الذات وفي الآخرين، لا رجاء ولا أمل في الحاضر والمستقبل. يقود الألم الإنسان إلى حيث لا معنى لأي شيء، لا معنى للنجاح، للشهادات، للمال، للصداقة، للحب، للأسرة، للأولاد. يفضي الألم بالإنسان إلى حيث لا معنى للصلاة ولا جدوى منه. يؤدي الألم في نهابة المطاف إلى اليأس من الحياة، بل حتى إلى النفور منها، لأنه يحمل الإنسان على الشعور بأن لا طعم للحياة ولا قيمة لها. فعندما تتبدّد مصادر الفرح وتيبس ينابيع الرجاء، يصبح كل شيء عبثاً. الألم يحطّم ويعزل، الألم يخنق شرايين الحياة وينفث رائحة الموت. الألم هو عبث ولا معنى.

  • التساؤل الذي يطرحه الألم:

سيبقى دائماً المزمور 22، الذي ردّده يسوع على الصليب، صدى صادقاً ومعبرّاً عن كل إنسان متألم: «أنا دودة لا إنسان». بسبب شر الناس يدخل صاحب المزمور في أزمة مع الله من جرّاء الآلام التي حولته إلى دودة لا إنسان. فقد أصابت الآلام جسده وحياته ووجوده، وأصبح تساؤله هو عن نفسه، وعن الله، وعن الحياة: مَن أنا؟ هل أنا إنسان حقاً؟ ومَن هو الله الذي يقبل أن تنحلّ إنسانيّتي وأن أصير كالدودة؟ وما معنى حياتي؟ ومَن هم الناس بالنسبة إليَّ؟

  • ما الإنسان وما معنى حياته؟

يصيب الألم الإنسان في صميم وجوده وفي عمق علاقته بالله وبالآخرين، ويؤدي إلى اختلال كبير في توازن الحياة، وفي فهم الإنسان لذاته ولعلاقته مع الآخرين. ولن يكون البحث عن الحل في النبش في الماضي ومحاولته تتبّع الأسباب التي أدّت إلى الوضع الحالي. الحل هو في المستقبل: هل يمكن أن أجد معنى لحياتي بالرغم من العبث واللا معنى اللذين يدخلهما الألم في حياتي؟ معرفة الأسباب مهمة كي يتجنبها الشخص في المستقبل أو حتى يتجنبها الآخرون في حياتهم. ولكن تحديد الأسباب وحتى علاجها، إن كان ذلك ممكناً، لا يكفي للرد على التساؤل الذي يطرحه الألم. الألم يدخل اللا معنى على حياة الإنسان، ومعرفة السبب لا يعيد المعنى الذي زلزله الألم.

على سبيل المثال، لا يكفي أن تقول للمصاب بتليّف في الكبد أنه نتيجة الإصابة بالبلهارسيا أو الإفراط في الكحول حتى يخف ألمه، ولا يكفي أن نقول للزوجة الشابة التي خذلها زوجها وعذبها أنه شخصية مراهقة وغير مسئولة حتى يهدأ قلبها وتشفى من جراحها، ولا يكفي أن نقول للمصاب بأزمة ربو أنه نتيجة تلوث الجو بعادم السيارات ونفايات المصانع حتى يسترجع عافيته وثقته في الحياة. هذا الشرح لا يعيد التوازن إلى الحياة الذي أفقده الألم، ومعرفة السبب لا تجيب على السؤال الذي يطرحه الألم عن معنى الإنسان وحياته. ولا يمكن أن تتحول معرفة الأسباب إلى تبرير للألم وما يعنيه من هدم وفناء لحياة الإنسان.

  • مَن هو الله؟

وإذا تساءل الإنسان عن معنى حياته فهو يتساءل في الوقت نفسه عن معطي الحياة وعن إرادته، إنه يتساءل عن الله: مَن هو الله؟ لماذا خلقني؟ ولماذا يرضى بأن أتألم؟ ما مصيري؟ هل يمكنني أن أرجوه أنا المتألم، المهدّد بالعبث والفناء؟ هل يمكنه أن يخلصني؟ هل يمكنه أن يعيدني إلى الحياة بعد أن أصابني الألم والموت؟ هل للحياة معنى؟ أم مصيرها الفناء والعبث اللذان يعلنهما الألم هل هناك قوة أكبر من الألم تساعدني على اكتشاف معنى لحياتي وسط الألم؟ هل يمكنني أن أرجو الحياة حين يلوّح الألم بالموت؟

  • هل من إجابة؟ هل من طريق؟

أسئلة تلو أسئلة تحاصر المتألم وتحطّم قلبه، دون إجابة. فالإجابة ليست تلقائيّة، بل تمر بطريق الظلمة الذي يفتحه الألم في حياة الإنسان المتألم، وإذا خرج الإنسان من البكم إلى الصراخ إلى الله، فقد دخل في طريق الخلاص. فالألم ينفي أيّ رجاء وأيّ أمل للإنسان، والشخص المتألم يقول لنفسه إنه ليس لأحد القدرة على مساعدته في الخلاص، ويعتقد أن الكل مساهم ومتواطئ في الألم الذي يصيبه، الأعداء والأصدقاء على حدٍّ سواء، والله نفسه.

«إلهي إلهي لماذا تركتني»، هي في الوقت نفسه صرخة مَن يشعر ببعد الله عنه في مصيبته، واستغاثة مَن يضع رجاءه في الله القادر على خلاصه من الألم والموت والفناء. تعني الاستغاثة بالله الإيمان بقدرته على فتح طريق أمام الحياة بعد ما أصابها الألم باليأس والفناء؛ والصراخ إلى الله هو الاعتراف بقدرته على تجديد الحياة بعد ما ذبلت واندثرت. الله الخالق هو الله المخلّص، بمعنى أنه يخلق من جديد.

وهنا أيضاً ترشدنا المزامير:

«لقد أجبتني سأُبَشّرُ إخوتي باسمِكَ وفي وسَطِ الجَماعة أُسبِّحُكَ» (22/22ب-23).

«آمنتُ سأُعاينُ صَلاحَ الرب في أرض الأحياء» (27/13).

«أقولُ لله صَخرتي: لماذا نسيتني ولماذا أسيرُ بالحداد من مُضايَقة العدو؟ عند تَرضّض عظامي عيَّرني مُضايقيَّ بقولهم لي النهار كله: أين إلهك؟ لماذا تكتئِبين يا نفسي وعَليَّ تنوحين؟ إرتَجي الله فإنّي سأعودُ وأحمدُه وهو خلاص وجهي وإلهي» (42/10-12).

إذاً قد ينفتح طريق الآلام على مستقبل يُدخل الإنسان في علاقة متجددة بالله وبالآخرين، أساسها خبرة الموت والحياة المعطاة مرة أخرى. ما كان مؤلماً، عبثاً، مميتاً، قد يصبح أساساً لحياة جديدة، مؤسسة على خبرة الخلاص الذي يعطيه الله. الإنسان المتألم قد يكتشف معنى جديداً لحياته. أقول: «قد يكتشف»، لأن ذلك التحول ليس تلقائياً أو بديهياً، بل يمر بمراحل متنوعة لا تصل بالضرورة بكل إنسان متألم إلى اكتشاف معنى لحياته ووجوده اللذين أصابتهما الآلام، وهذا ما سنراه في قرائتنا سفر «أيوب».