أبحاث
أخر الأخبار

اللغة المجازية في الكتاب المقدس بحث موسع

اللغة المجازية في الكتاب المقدس – بحث موسع

اللغة المجازية في الكتاب المقدس - بحث موسع
اللغة المجازية في الكتاب المقدس – بحث موسع

اللغة المجازية في الكتاب المقدس – بحث موسع

المبدأ الإرشادي: تعرف على اللغة المجازية وحدد معناها الحرفي

حيث أن الكتاب المقدس قد كتبه بشر، فلا بد أن يتم التعامل معه مثل أية معلومات بشرية أخرى عند تحديد المعنى الذي قصده المؤلف. وقد قمنا بدراسة إرشادات مشتقة من ذلك المبدأ، وتلك الإرشادات هي التي تمكن الدارس الجاد من تحديد المعنى المباشر والحرفي للغة. ومع ذلك فهناك الكثير من الأساليب اللغوية الأخرى في الكتاب المقدس، غير التعبيرات الحرفية.

فبالإضافة إلى الأقسام التاريخية والتعليمية، يحوي الكتاب المقدس الشعر، والمسرحية، وأقوال الحكمة، والاستعارات والتشبيهات، والأمثال، وهذه أساليب شائعة ومشتركة في جميع اللغات البشرية. والكتاب المقدس، حيث أنه كتاب كتبه بشر، مليء بمثل هذه الأساليب الأدبية.

إلا أنه توجد إرشادات لفهم معاني التعبيرات الخاصة، كما توجد إرشادات لفهم التعبيرات الحرفية المباشرة. ولذلك فإن التفسير ينحرف عندما يساء فهم الأسلوب اللغوي، وبالتالي يتم التعامل معه بطريقة غير سليمة لذلك فمن المهم للغاية أن نتعرف على أسلوب اللغة في مقطع معين، وأن نقوم بتفسيره باستخدام الإرشادات المناسبة لفهم هذه النوع المحدد من الأساليب.

وعلى الرغم من أن الكتاب المقدس يحوي كل أنواع الأساليب الأدبية، فإننا سندرس فقط تلك الأساليب التي لها أهمية رئيسية في فهم المعنى. أولاً، سنقوم بدراسة الأنواع المتنوعة من اللغة المجازية. وحيث أن معظم العهد القديم تمت كتابته بصياغة شعرية، والكثير من تعاليم المسيح مكتوبة في صيغة أمثال، فسوف ندرس الشعر العبري والأمثال باعتبارهما صيغتين أدبيتين منفصلتين.

فهم التعبيرات المجازية

تشير التعبيرات المجازية إلى أية كلمات يتم استخدامها بمعنى آخر غير المعنى الشائع والحرفي. فعندما نستخدم كلمة كلب للإشارة إلى إنسان (مثلاً في فيلبي 3: 2)، فإنه لا يقصد بها تعريف الحيوان بالمعنى العادي أو الحرفي. وأيضاً تعبير “فلست أظن أن العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة” (يوحنا 21: 25)، لا يقصد به أبداً تقديراً علمياً لمساحة العالم الموجدة.

الكتاب المقدس مليء بهذا النوع من التعبيرات المجازية، ومثل هذه الصور غير الحرفية تعد واحدة من أعظم مشاكل التفسير. وهكذا فإن تعاملنا مع التعبيرات المجازية باعتبارها تعبيرات حرفية، والعكس، أي تعاملنا مع التعبيرات الحرفية باعتبارها مجازية، يشكل اثنين من أكبر المعوقات لفهم معنى الكتاب المقدس. بل الأكثر من ذلك، حتى عندما يتم التعرف على المقطع باعتباره مجازي فعلاً، يمكن الخطأ في فهم معناه من خلال استخدام مبادئ أو إرشادات غير مناسبة لتفسير المقطع. إننا سنقوم أولاً بدراسة أسباب استخدام اللغة المجازية، ثم سنقوم بعدها بدراسة الإرشادات الضرورية لفهم معاني المقاطع غير الحرفية.

أسباب استخدام اللغة المجازية

لماذا يستخدم الكتاب المقدس لغة مجازية من الأساس؟ ألن يكون التواصل أكثر سهولة ووضوحاً لو كان الإعلان كله قد تمت كتابته بلغة حرفية مباشرة؟ توجد عدة أسباب لاستخدام اللغة المجازية في الكتاب المقدس:

تستخدم اللغة المجازية كثيراً لأن كل لغة بشرية تحوي تعبيرات غير حرفية.

يعبر سي إس لويس عن هذا الأمر بقوله:

في كثير من الأحيان عندما نتحدث عن شيء لا يتم استيعابه بالحواس الخمسة، فإننا نستخدم كلمات تشير إحدى معانيها إلى أشياء أو أفعال مجازية. فعندما يقول إنسان ما أنه يفهم فكرة معينة، فإنه يستخدم الفعل “يفهم” (grasp بالإنجليزية، التي تعني حرفياً الإمساك بشيء في اليد، ولكنه بالتأكيد لا يعني أن عقله له يدان يمسك بهما الفكرة).

وهكذا، فلكي يتجنب كلمة “grasp”، يمكنه أن يغير الصياغة فيقول، “I see”، (حرفياً بمعنى أنا أرى) ولكنه مرة أخرى لا يعني أن شيئاً محدد قد ظهر في مجال رؤيته، بل أنه قد فهم، ولذلك فقد يجرب صيغة ثالثة فيقول، “I follow you” (حرفياً بمعنى أنا أتبعك)، وبهذا أيضاً هو لا يقصد أنه يمشي خلفك في الطريق، ولكنه يقصد أنه يفهم، جميعنا معتادون على هذه الظواهر اللغوية، والتي يطلق عليها علماء النحو “الاستعارات”.

لكن هناك خطأ بالغ في أن نفكر أن الاستعارة هي أمر اختياري، قد يستخدمه الشعراء والمؤلفون في أعمالهم كنوع من الزخرفة، بينما الأشخاص العاديون يمكنهم أن يستغنوا عنه أثناء حديثهم. فالحقيقة هي أننا لو أردنا أن نتحدث عن أية أمور لا يتم فهمها بالحواس، فإننا نكون مجبرين على استخدام اللغة استعارياً أو مجازياً. إن الكتب الخاصة بعلم النفس أو بالاقتصاد أو بالسياسة، تستخدم تعبيرات مجازية باستمرار مثلها مثل الكتب الشعرية أو التعبدية. فلا توجد طريقة أخرى للكلام… فكل كلام عن أمور تفوق الحواس لا بد وأن يكون استعارياً ومجازياً في المقام الأول.

فأي شخص يتحدث عن أمور لا يمكن رؤيتها أو لمسها أو سماعها، من المحتم أن يتحدث عنها كما لو كان يمكن رؤيتها أو لمسها أو سماعها (مثلاً، لا بد أن نتحدث عن العقد النفسية والاكتئاب، كما لو كانت رغبات يمكن حقاً ربطها في حزم أو “عقد”، ودفعها للوراء في اللاوعي؛ كما نتحدث عن “النمو” و”التطور” كما لو كانت المؤسسات يمكنها حقاً أن تنمو مثل الأشجار أو تتفتح مثل الأزهار؛ ونتحدث عن الطاقة باعتبارها “تُطلق” كما لو كانت حيواناً يُطلق من قفصه).[1]

وهكذا فإن كل اللغات البشرية تمتلئ بتعبيرات غير حرفية، ولكن اللغات الشرقية على وجه الخصوص تمتلئ بالاستعارات والتشبيهات. وحيث أن تلك اللغات غريبة عنا، فهذا من شأنه أن يجعلنا نجتهد أكثر لفهم المعنى الذي كان في ذهن المؤلف بالضبط فهناك حاجز البعد اللغوي والثقافي، وهناك حاجز التعبيرات المجازية كذلك. فكر مثلاً في محنة شخص أجنبي يسعى لفهم الكلمة الإنجليزية “hang”. من السهل القيام بالتعريف الحرفي للكلمة (يعلق أو يشنق……)، لكن نرى كيف سيفكر، عندما يسمع، كشخص غريب عن اللغة الإنجليزية، تعبيرات مثل “hang-ups”، أو “hang loose”، أو “hangover”، أو “hang out”، أو “hang on”، أو “hang in”؟

غالباً ما تستخدم التعبيرات المجازية لتأكيد أمر ما. فعندما يقول يسوع في لوقا 13: 32، “قولوا لهذا الثعلب”، فإن هذا التعبير هو أكثر قوة مما لو كان قد قال “قولوا للملك”. وبالمثل قوله، “من لا يبغض أباه وأمه” هو تعبير أقوى من “لا بد أن تحبني أكثر مما تحب أباك وأمك”. فالتعبيرات المجازية تحدث انطباعات أقوى.

التعبيرات المجازية يمكن استخدامها لتحفيز الشخص نحو القيام بفعل معين. فتعبير “ها أنذا واقف على الباب وأقرع”، يحدث تأثيراً عاطفياً أكبر بكثير من تأثير مجرد القول ببساطة، “إنني منتظر استجابتك” ففي الشرق، حيث العشاء معاً هو ختم الصداقة، يكون التأثير العاطفي كبيراً لمعنى الوقوف في الخارج في انتظار الدعوة للدخول. ولذلك فإن التعبيرات المجازية تكون قوية في تحفيز الشخص على الاستجابة والقيام بفعل معين.

كما أن التعبيرات المجازية قد تساعد على التذكر. إن تعبيرات مثل “لا تخف سراجك تحت المكيال”؛ أو “لا تدفن وزنتك”؛ أو “إنه كالسامري الصالح”؛ أو “إنها ملح الأرض”، جميع هذه التعبيرات الشائعة في اللغة الإنجليزية المستخدمة اليوم، تثبت أن اللغة المجازية تشدد على معنى معين بطريقة لا يسهل نسيانها. بل أنها قد تصبح جزءًا من اللغة كما في الأمثلة التي ذكرناها.

التعبيرات المجازية تكون مؤثرة في التفسير والشرح. عندما قال السيد المسيح “أنا هو خبز الحياة” (يوحنا 6: 48)، كان يوضح حقيقة أساسية خاصة بعلاقته مع الأشخاص الذين ينتمون له، فهو يشبع ويغذي. “يشبه ملكوت السماوات خميرة” (متى 13: 33) يثير هذا التعبير في الحال معنى النمو التدريجي والثابت الذي يتخلل الكل. وعندما نعرف أن المسيحي هو جندي أو فلاح، فإن هذا التشبيه التوضيحي يساعدنا على فهم مسؤولياتنا. وهكذا فإن التعبيرات المجازية شديدة الفعالية في توضيح وتفسير الحق الروحي.

التعبيرات المجازية مفيدة في التوضيح. فالأمر المعتاد يمكن أن يستخدم لتوضيح الأمر غير المعتاد أو غير المألوف. وهذا الأمر مفيد وضروري بصفة خاصة عندما يكون من اللازم أن يتم تبسيط حق الله غير المحدود بما يكفي لأن يفهمه الإنسان محدود الفهم. فعندما نتحدث عن الله كزوج أو كأب فإن هذا يأتي لمجال فهمنا المحدود للغاية بالحقائق الأساسية عن العلاقة التي يرغب الله أن يشاركها معنا.

فكيف يمكن لله غير المحدود والذي ليس له كيان مادي، أن يشرح لنا عملية خلق كائن محدود ومادي، وقيامه مع ذلك بخلق هذا الكائن على صورة وطبيعة الله نفسه؟ لذلك قال الله أنه “نفخ في أنف آدم نسمة حياة” (تكوين 2: 7). بذلك نجد أن التعبيرات المجازية تكون مفيدة في التوضيح، وفي جعل الحقائق الروحية وغير المحدودة متاحة ومفهومة للبشر المحدودين.

فالحقيقة هي أنه، كما أشار سي إس لويس من قبل، كلما أراد المؤلف أن يتحدث عن أمور غير مدركة بالحواس، فإنه قد يكون مجبراً على استخدام تعبيرات غير حرفية. فبعض الحقائق المجردة لا يمكن توصيلها إلا باستخدام نماذج ملموسة ومادية – فنحن نحتاج إلى أمثلة يمكننا أن نراها لكي نفهم ما هو غير مرئي.

كما يمكن استخدام التعبيرات المجازية كنوع من الشفرة. ففي حالة أمثال السيد المسيح، يخبرنا أن الأمثال تم اختبارها كوسيلة لجعل الأمور غامضة عن عمد:

“فتقدم التلاميذ وقالوا له “لماذا تكلمهم بأمثال”. فأجاب وقال لهم “لأنه قد أعطي لكم أن تعرفوا أسرار ملكوت السماوات، أما لأولئك فلم يعط. فإن من له سيعطى ويزاد، وأما من ليس له فالذي عند سيؤخذ منه. من أجل هذا أكلمهم بأمثال لأنهم مبصرين لا يبصرون وسامعين لا يسمعون ولا يفهمون فقد تمت فيهم نبوة إشعياء القائلة: تسمعون سمعاً ولا تفهمون ومبصرين تبصرون ولا تنظرون لأن قلب هذا الشعب قد غلظ وآذانهم قد ثقل سماعها.

وغمضوا عيونهم لئلا يبصروا بعيونهم ويسمعوا بآذانهم ويفهموا بقلوبهم ويرجعوا فأشفيهم. ولكن طوبى لعيونكم لأنها تبصر ولآذانكم لأنها تسمع فإني الحق أقول لكم أن أنبياء وأبراراً كثيرين اشتهوا أن يروا ما أنتم ترون ولم يروا. وأن يسمعوا ما أنتم تسمعون ولم يسمعوا” (متى 13: 10-17).

وهكذا تستخدم اللغة المجازية أحياناً “كلغة شفرة”. فهي تعطي نوراً للأشخاص الطائعين، وتعتيماً للأشخاص غير الطائعين. لا يعتبر هذا فقط نوع من الدينونة بسبب عدم الطاعة، بل أنه في الحقيقة لخيرهم هم شخصياً، لئلا يجلب لهم المزيد من النور مزيداً من المسؤولية وبالتالي مزيداً من الدينونة. وبذلك تستخدم التعبيرات المجازية في بعض الأحيان للتعتيم والغموض.

إلا أن هناك سبب آخر لاستخدام التعبيرات الغامضة المبهمة. ففي بعض الأحيان يتم عرض النبوات بصورة مبهمة لكي تظل خفية حتى وقت اتمامها. وسوف نقوم بدراسة هذا الأمر بتفصيل أكثر عندما نقوم بالحديث عن إرشادات فهم النبوات. ومع ذلك فإننا نجد مثالاً واضحاً لهذا الأمر في كلمات السيد المسيح لليهود:

“أجاب يسوع وقال لهم: انقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة أيام أقيمه. فقال اليهود في ست وأربعين سنة بني هذا الهيكل، أفأنت في ثلاثة أيام تقيمه. وأما هو فكان يقول عن هيكل جسده، فلما قام من الأموات تذكر تلاميذه أنه قال هذا فآمنوا بالكتاب والكلام الذي قاله يسوع” (يوحنا 2: 19-22).

هناك عدة أسباب إذاً تدعو لاستخدام التعبيرات المجازية في الكتاب المقدس، ومسؤوليتنا هي أن ندرس باجتهاد حتى نستطيع أن نتعامل مع هذا النوع من الأساليب بطريقة صحيحة.

اللغة المجازية في الكتاب المقدس بحث موسع
اللغة المجازية في الكتاب المقدس بحث موسع

إرشادات تفسير اللغة المجازية

إن الهدف من دراسة اللغة المجازية في الكتاب المقدس هو نفس الهدف من دراسة اللغة الحرفية: أي أن نميز المعنى الذي قصده المؤلف، وأن نطبقه في حياتنا. لكن في حالة اللغة المجازية، توجد خطوة سابقة، وهي أننا يجب أولاً أن نتيقن من أن التعبيرات مجازية وليست حرفية، ثم نقوم بعد ذلك بالتعرف على أسلوب أو نوع اللغة المجازية. فبعد أن نتوصل إلى أن معنى المقطع غير حرفي، نكون مستعدين للتفسير والتطبيق. بكلمات أخرى، هناك خطوة وسطية ضرورية في حالة المقطع المجازي: وهي التوصل إلى حقيقة أنه مجازي وتحديد نوع التشبيه الذي يستخدم فيه.

التعرف على اللغة المجازية

هناك مبدآن إرشاديان يساعدانك في التعرف على اللغة المجازية

المبدأ الإرشادي الأول.

إن لغة الكتاب المقدس، مثل لغة الصحف اليومية أو أية لغة بشرية عادية، يجب أن يتم تفسيرها بمعناها الحرفي، إلا إذا كان هناك سبب من ثلاثة أسباب ملزمة لاعتبارها غير حرفية:

1 – لو كان من الواضح أن العبارة ستكون غير معقولة، أو غير منطقية، أو غريبة ومبهمة إذا تم التعامل معها باعتبارها حرفية، فإن الفرضية هي أن تكون استعارة أو تشبيهاً. مثال لذلك، “أنا هو الباب” و”أنتم ملح الأرض”، فهذان التعبيران من الواضح أنهما غير معقولين إذا تم التعامل معهما حرفياً.

2 – السياق نفسه قد يشير إلى أن اللغة مجازية. فعندما يؤخذ بمفرده، قد يكون التعبير أو العبارة إما مجازية أو حرفية، ولكن في السياق نفسه يشير المؤلف إلى أنه لا يقصد أن يؤخذ المعنى حرفياً. فعندما قال بولس، “وإن كنت قد كتبت إليكم فليس لأجل المذنب” (2كو 7: 12)، فإن السياق المباشر وسياق الحدث بأكمله يمتد إلى الأصحاحات الأولى، كما يمتد بعده إلى الأصحاحات التالية في رسالة كورنثوس الثانية، مما يظهر بوضوح أنه كان يبالغ لإيقاع تأثير معين. فقد كتب الكثير جداً لأجل الشخص الذي ارتكب الخطأ وتحدث عدة مرات عن هذا الأمر بوضوح شديد. فماذا كان يعني هنا؟ لقد كان يعني، “أنني لم أكتب فقط لغرض خلاص الشخص الذي ارتكب الخطأ”.

3 – إن كان هناك تناقض مع أمر أكثر وضوحاً وبقاء وتأكيداً في الكتاب المقدس، فمن المشروع أن نسأل ما إذا كنا سنتعامل مع هذا المقطع بصورة حرفية أم لا. فمثلاً أن يبغض المرء أباه وأمه (لوقا 14: 26) فهذا يتعارض مع كل من العهدين القديم والجديد في تعليمهما الواضح والقوي والثابت بأن الإنسان يجب أن يحب والديه ويكرمهما. لذلك فليس فقط من المسموح، بل من الضروري أن نبحث عن معنى مجازي هنا. يعتمد هذا المبدأ الإرشادي فعلياً ليس على الاستخدام العادي للغة البشرية، بل على حقيقة أن الكتاب المقدس هو أيضاً كتاب فوق طبيعي. وسوف نتعامل مع هذا الأمر بتفصيل أكثر عندما ندرس العلاقة بين التعاليم المتنوعة في الكتاب المقدس

ورغم أنه أمر سليم أن نبحث عن فهم أصيل غير حرفي، فإن الدارس يجب عليه ألا يقحم معنى مجازياً على اللغة. بعض المقاطع المعينة الحرفية يتم اعتبارها مجازية بواسطة الأشخاص الذين يؤمنون بالكتاب المقدس ويحاولون أن يجدوا تناسقاً بين جميع تعاليمه. فقد يحاولون بذلك أن يجعلوا مقطعاً صعباً يتسق مع مقاطع أخرى حرفية واضحة ومع التعاليم السائدة والواضحة في الكتاب المقدس، كما أوضحنا ذلك للتو.

ومن ناحية أخرى، يوجد أشخاص لا يؤمنون بالكتاب المقدس، والذين يتعاملون مع العبارات الحرفية باعتبارها مجازية. فالخلق، والأرواح النجسة، والقيامة، ومجيء المسيح الثاني، هي أمور غير مقبولة بالنسبة لأولئك الذين يعتنقون افتراضات عقلانية مسبقة. لذلك فإنهم ينظرون إلى هذه التعاليم باعتبارها مجازية أو خرافية، لكي يتجنبوا الاعتراف بما هو فوق طبيعي. وهكذا فإن افتراضات الشخص المسبقة بشأن الكتاب المقدس هي التي تثير الأسئلة بشأن ما إذا كان مقطع معين سيتم التعامل معه حرفياً أم مجازياً.

بوضع هذه الاستثناءات في الاعتبار، لا يزال يجب على المرء أن يتذكر أن القاعدة الأساسية هي أن نتعامل مع كل مقطع في الكتاب المقدس باعتباره حرفياً. فالأسباب الملزمة فقط هي التي تجعل الكلمات مجازية.

المبدأ الإرشادي الثاني.

إن وجهة نظر المؤلف والمتلقي الأصلي، وليس فهمنا الخاص، هو الذي يجب أن يتحكم في فهمنا لما هو من السليم أن يكون حرفياً أو مجازياً. فقد نعتقد أنه من المناسب أن نستخدم الحمل أو الأسد لتعريف شيء يختص بيسوع المسيح، ولكننا نرفض استخدام لفظ اللص أو الجثة لتصويره. لكن الأمر لا يعتمد علينا في أن نقيم مدى ملائمة تشبيهات معينة من غيرها.

ولكننا لا بد أن نقيم اللغة في ضوء ما كان يقصده المؤلف. فعندما يتم مقارنة الناس بالخراف أو الغنم مثلاً، فلن يفيدنا أن ندرس عن رعاة الغنم وسلوك الغنم في أيامنا الحالية لكي نحدد ما كان في ذهن المؤلف. فغنم الوقت الحالي قد تلقي بالضوء فقط على احتمالات للمعنى، ولكن الطريقة التي كان ينظر بها المؤلف ومعاصروه للغنم هي التي يجب أن تحدد وجه المقارنة.

فالحقيقة هي أن المؤلف قد يقوم بتغيير وجه المقارنة في المقطع الواحد نفسه. فالآية. “كلنا كغنم ضللنا” (إش 53: 6) تستخدم مقارنة مختلفة عن غيرها في نفس المقطع، “كنعجة صامتة أمام جازيها” (ع7). فمن الواضح أن المؤلف كان في ذهنه شيء مختلف في استخدامه لهاتين المقارنتين.

أخبرنا المسيح أننا ملح الأرض، لذلك فإننا غير أحرار في اختيار ما نفضل أن يكون عليه وجه المقارنة الذي كان يقصده. فلا بد لنا أن نجتهد لكي نميز وجه المقارنة الذي كان يقصده. سمعت ذات مرة عظة مدهشة ذكرت فيها عدة سمات مميزة للملح في هذا التشبيه، لحث المسيحيين نحو التصرف بطريقة كتابية أكثر. قال الواعظ أن الملح كان يستخدم لحفظ السمك الذي تم صيده في الجليل أثناء نقله إلى أورشليم لحفظه من الفساد، كما أن الملح يعطي طعماً ونكهة للمجتمع عديم الطعم.

وفي العهد القديم كانت هناك تقدمة الملح، والتي تشير إلى أن الله هو إله العهد، وأنه إله آمين. وبالتالي، فإن الشهادة بالحياة المعجزية والحياة المتغيرة، هي أعظم دليل على وجود الله. الأكثر من ذلك، فإن الملح لا يجب أن يكون معزولاً في قالب بل أن ينتشر في كل مكان، فيفقد فرديته وعزلته. وأخيراً فإن الملح تأثيره يفوق حجمه بكثير.

فهل من المشروع أن نقوم بكل أوجه المقارنة هذه، ونحن متأكدون أن يسوع كان في ذهنه كل هذه النقاط عندما قال، “أنتم ملح الأرض؟ كلا، وهذا لأن أول مهمة للمفسر هي أن يميز ما كان في ذهن المؤلف من وجه المقارنة، وليس ما يمليه علينا اختبارنا الشخصي في ثقافة أخرى أو تفكيرنا وابتكارنا الخاص. فالمبدأ الإرشادي هو هذا: إن قصد المؤلف يجب أن يتحكم في فهمنا لما يعنيه.

اللغة المجازية في الكتاب المقدس بحث موسع
اللغة المجازية في الكتاب المقدس بحث موسع

التعرف على أنواع الاستعارات

من المهم قبل أن نقوم بتفسير تعبير مجازي أن نحدد نوع الاستعارة التي تم استخدامها. في كثير من الأحيان يكون هذا التحديد نفسه هو مفتاح تفسير المعنى، كما سنرى.

لقد حدد التحليل الأدبي عدداً كبيراً من الاستعارات المختلفة المميزة. في إحدى المطبوعات المخصصة للاستخدام بواسطة مترجمي الكتاب المقدس، تم تحديد ثمانية وعشرين نوعاً من الاستعارات، بما فيها عدد من الأنواع الغريبة غير المألوفة. لكننا بدلاً من أن نحاول تعريف كل أنواع الاستعارات في دراستنا هذه، فإننا سنركز على عدد قليل يستخدم كثيراً وله أهمية عظيمة في فهم الكتاب المقدس.

استعارات المقارنة. معظم الاستعارات الشائعة في التعبيرات المجازية في الكتاب المقدس هي استعارات مقارنة. وهي قد تتكوم إما من مقارنة بسيطة أو مركبة، كما في الأمثال أو التشبيهات. وقد تستخدم المقارنة في مناسبة واحدة، أو تستخدم كمقارنة دائمة، كما في استخدام الرمز. كما أن الرموز النبوية، التي تسمى نماذج، هي أساسية في فهم الكثير من أجزاء الكتاب المقدس. وسوف نقوم بذكر الأقسام التصنيفية الرئيسية للمقارنة كل على حدة، ولكن نوع اللغة المجازية الذي نشرحه في هذا القسم هو أساساً نوع المقارنة.

التشبيه. وهو استعارة مقارنة شائعة، حيث يتم فيها المقارنة بوضوح بين شيئين مختلفين عن بعضهما البعض. وكمثال على ذلك الآية “كلنا كغنم ضللنا” (إش 53: 6). ومن ناحية أخرى، ففي الاستعارة، قد تكون المقارنة متضمنة فقط، مثال على ذلك قول المرنم: “إننا…. غنم مرعاه” (مز 100: 3). ببساطة فإن التشبيهات والاستعارات هي تعبيرات تظهر أوجه الشبه بين شيئين أو فكرتين تكونان، في أغلب الأحيان، مختلفتين.

عند فحص تشبيهات المقارنة، علينا أن نتذكر أنه في المعتاد يكون هناك وجه شبه واحد فقط في المقارنة هو المقصود. فالمقارنة محدودة، ولا يُسمح للقارئ بأن يرتجل أو يقرر أي وجه للمقارنة يفضله أكثر أو يجده متفقاً مع هيكل عقيدته أو مع محتوى عظته. وكما أشرنا من قبل، في تشبيه الناس بالملح، فإن السؤال هو، ما الأمر الذي كان في ذهن يسوع وسامعيه، وليس ما يمكن لخيالنا الخصب أن يحدده من معان إضافية.

لذلك فإن لم نأخذ حذرنا، لن يصبح الكتاب المقدس بعد ذلك سلطة مستقلة، تحكم على أفكارنا، ولكن السلطة عندها ستصبح في يدنا نحن المفسرين، فنبني عقائد غير سليمة على فهم خاطئ للتعبير الاستعاري الكتابي.

هناك نوع آخر من تشبيهات المقارنة وهي التصوير التمثيلي – بأن نأخذ شيئاً ما لكي يمثل شيئاً آخر، ومثال على ذلك، الرموز. وغالباً ما يمثل الشيء المادي شيئاً آخر غير ملموس. فالنحاس في الكتاب المقدس يرمز إلى الدينونة. والرمز عبارة عن مقارنة ضمنية (استعارة)، لكنها ع خاص من الاستعارات. فهي تكون أكثر عمومية ورمزية.

وتشيع التعبيرات الرمزية في الكتاب المقدس، كما في اللغات الأخرى، لكن حيث أن الكتاب المقدس له أصل إلهي أيضاً، يوجد به قدر كبير من الرموز النبوية. والمصطلح الفني للرمز النبوي هو النموذج أو المثال. الرمز والنموذج هما أمران شديدا الأهمية لفهم الكتاب المقدس، لذلك فإننا سندرسهما بتوسع أكثر فيما بعد. لكن لكي نأخذ فكرة عامة عن الأنواع المختلفة لتشبيهات المقارنة، فإننا سنقوم بعرضها هنا كالآتي:

الرسم الموجود على الصفحة التالية يوضح العلاقة بين الأنواع المختلفة لتشبيهات المقارنة.

استعارة الربط. تختلف تشبيهات الربط عن تشبيهات المقارنة كالآتي: ففي تشبيهات المقارنة يتم المقارنة بين شيئين مختلفين، بينما في استعارة الربط، يتم استخدام اسم شيء أو فكرة ما لشيء أو لفكرة أخرى مرتبطة بها. ويطلق على هذا الترابط metonomy. لقد أعطانا المسيح مثالاً لهذا النوع من التشبيهات عندما قال: “ومن حلف بالسماء فقد حلف بعرش الله وبالجالس عليه”. (متى 23: 22).

كان على الفريسي ألا ينطق باسم الله باطلاً، فكان الفريسي يستخدم تشبيه الربط لكي يتجنب هذه الضرورة، لكن المسيح منع هذا الأمر، مشيراً إلى أن التعبير باستعارة الربط يعني نفس الشيء أو المفهوم الذي ترمز إليه.

اللغة المجازية في الكتاب المقدس بحث موسع
اللغة المجازية في الكتاب المقدس بحث موسع

 

بالمثل، “وخرج إليه جميع كورة اليهودية وأهل أورشليم واعتمدوا جميعهم منه (من يوحنا)”. فإن هذه الآية لا تعني أن المدينة كلها تحركت حرفياً، بل أن الناس الذين كانوا يعيشون في المدينة، والذين ارتبطوا باسم “أورشليم”، خرجوا لكي يعتمدوا من يوحنا.

في بعض الأحيان يتم الحديث عن استعارة الربط، والتي فيها يتم الحديث عن جزء من شيء كما لو كان الشيء كله؛ أو يمكن أن يشير الشيء بأكمله إلى جزء فقط من شيء آخر. فكثيراً ما يشير “الناموس” إلى العهد القديم بأكمله. كيف يمكن ذلك؟ إن وصايا الناموس قد تم إعطاؤها بواسطة موسى، الذي كتب أول خمسة أسفار من العهد القديم (التوراة).

ولذلك فإن كلاً من موسى والناموس مرتبطان بالتوراة، وكثيراً ما يتم استبدالهما أو “اختزالهما” في هذا الجزء من الكتاب المقدس. والتوراة بدورها ترتبط في بعض الأحيان بالعهد القديم كله، كما ترتبط بالجزء الأول منه، لذلك فإن “الناموس” كاستعارة ربط أصبح يتم استخدامه إما للإشارة إلى التوراة أو إلى العهد القديم بأكمله. لذلك فإن السياق هو الذي يجب أن يحدد أي منهما هو المقصود.

الاستعارة التشخيصية. في كثير من الأحيان يستعير الكتاب المقدس صفة بشرية وينسبها إلى الله، أو يأخذ صفة بشرية وينسبها لشيء لكي يصنع تجسيداً للصفة. فعندما نقول إن الله “مد ذراعه” وأن “الأشجار تصفق بالأيادي” أو أن “الجبال تقفز”، يمكننا أن نطلق على مثل هذه التشبيهات استعارات تشخيصية.

من ناحية، هذا النوع من الربط يكون مقارنة ضمنية، ويمكن معاملته باعتباره استعارة مقارنة، كما وصفناها من قبل. ومع ذلك، توجد فائدة في فصل هذا النوع المحدد من الاستعارة عن غيره، عند تفسير مقاطع معينة من الكتاب المقدس. فعلى سبيل المثال، نجد في الأصحاحات الأولى من سفر الأمثال أنه يتم الحديث عن الحكمة كما لو كانت إنساناً. فهل هذا يجعل القسم بأكمله يتحدث عن المسيح، كما يعتقد البعض؟

وماذا كان قصد المؤلف من تشخيص الحكمة؟ فكر أيضاً في الطريقة التي يتحدث بها الكتاب المقدس عن الله مستخدماً صفات مادية بشرية. فسر سي إس لويس هذا الأمر توضيحياً كالآتي:

الله هو الحقيقة الأساسية أو الفعلية، وهو مصدر كل الحقائق الأخرى، لذلك فيجب ألا يتم التفكير فيه بأي حال من الأحوال باعتباره حقيقة عمومية بلا ملامح. فإنه لو كان الله موجوداً من الأساس، فسيكون هو الأكثر واقعية من أي شيء آخر، والأكثر تفرداً وشخصية، “منظم بمنتهى الدقة والوضوح”. فهو لا يمكن وصفه، لي لكونه غير محدد، لكن لأنه شديد التحديد بالنسبة لغموض اللغة الذي لا يمكن تجنبه. لذلك فإن الكلمات المادية وغير الشخصية مضللة، لأنها تفترض أنه يفتقر إلى نوع من الواقعية التي نمتلكها نحن. لذلك فمن الأسلم أن ندعوه “ما وراء المادي، أو ما وراء الشخصي”.

فالجسد والشخصية كما نعرفهما هما السلبيات الحقيقية – فهما ما يتبقى من الكيان الإيجابي عندما يتم تخفيفه بما يكفي لكي يظهر في هيئة مؤقته أو محددة. بل وحتى الجنس يجب أن ننظر إليه باعتباره تحول إلى مفتاح ثانوي لذلك الفرح الخلاق في الله، والذي لا يتوقف ولا يمكن مقاومته. إن الأشياء التي نقولها عن الله، نحوياً، هي “استعارية”: ولكن بمعنى أعمق، سنجد أن طاقاتنا المادية والنفسية هي التي تعتبر مجرد “استعارات” للحياة الحقيقية التي هي الله. لذلك يمكننا أن نقول إن البنوة الإلهية هي المجسم الخالص، الذي تعتبر بجانبه البنوة البشرية مجرد تمثيل بياني على مسطح.[2]

الحقيقة أن “كل، أو معظم اللغة المستخدمة في الكتاب المقدس للإشارة إلى الله هي استعارية (الاستثناء المحتمل الوحيد هو كلمة “قدوس”)”[3]. لذلك فلكي نفسر الاستعارات الخاصة بالله، من الضروري أن نميز وجه المقارنة المقصود بواسطة الكاتب، وليس أن نفرض وجه مقارنة نشعر أنه “فهماً جديداً”. فعندما “نفخ” الله في هيئة آدم التي بلا حياة مثلاً، ما الذي فعله حقاً؟ كم من المهم أن نميز ما هو المقصود بتلك الاستعارة التشخيصية، وبذلك النسب المحدد للصفات البشرية إلى الله! إن تقرير معنى هذا الأمر يؤثر على لاهوت الخلق بأكمله.

الاستعارة الوهمية. هناك الكثير من العبارات في الكتاب المقدس ستكون غير حقيقية لو فسرناها حرفياً. فعلى سبيل المثال، السخرية هي تعبير يقول فيه الكاتب عكس ما يعنيه في الحقيقة. كما أن المبالغة لأجل خلق انطباع معين هو أمر شائع في الكتاب المقدس (يشتق من الكلمة اليونانية hyperbole). فقد كان بولس يتحدث بسخرية أو تهكم عندما قال، “سامحوني بهذا الظلم” (2كور 12: 13). إذ يتضح من السياق أنه لم يكن يعتبر صنعه للخيام لكسب العيش شيئاً خاطئاً أخلاقياً، بل قد كان يقول عكس الحقيقة لكي يخجل أهل كورنثوس ويحثهم على التوبة. كل من بولس وأنبياء العهد القديم استخدموا أسلوب السخرية والتهكم. لذلك يجب التعرف على هذه الصور باعتبارها وهمية، وإلا سيتم فهم وبناء المعنى بصورة خاطئة.

عندما يشير الكاتب مثلاً إلى أنه “خرج إليه جميع كورة اليهودية وأهل أورشليم واعتمدوا جميعهم منه”، قد لا يكون الأمر ذا أهمية كبيرة أن نتأكد ما إذا كان كل فرد في أورشليم قد خرج بالفعل إلى البرية لكي يعتمد من يوحنا المعمدان. لكن، عندما يقول الكتاب المقدس، “أن كل من يؤمن بالمسيح سوف يخلص”، يكون من الأهمية العظمى أن نكتشف ما إذا كانت هذه العبارة حرفية أم مجازية.

أما أسلوب المبالغة فهو شائع في كل اللغات، لكنه بين الشعوب السامية، وبالتالي في الكتاب المقدس يكون شديد الانتشار. بل يبدو أنه يأتي غالباً من أسلوب تفكير أساسي. يقتبس جي بي كيرد من تي إل لورنس، الذي كان يعيش وسط العرب خلال الحرب العالمية الأولى، ما يلي:

لم يكن لدى الساميين “نصف درجة نغمة” في تسجيلهم للرؤية. بل كانوا أناساً ذوي ألوان أساسية، أو بالأحرى، يفكرون إما بالأبيض أو بالأسود، ويرون العالم محدداً بخطوط دائماً. كانوا شعباً عقائدياً، يحتقرون الشك، الذي هو تاج تفكيرنا الحديث. لم يفهموا صعوبات الميتافيزيقا الخاصة بنا، أو تساؤلاتنا الاستبطانية. بل كانون يعرفون فقط أن هناك الحق والكذب، الإيمان والكفر، بدون أن يكون لديهم حاشية الظلال الأدق للمعاني.[4]

وإننا إذ نقترب من الكتاب المقدس، لا بد أن نكون على حذر دائم من احتمالية وجود المبالغة، وألا نتعامل مع هذه الصور البلاغية باعتبارها عبارات حرفية تذكر حقائق.

الأسئلة التي تهدف إلى تأكيد حقيقة ما (أسئلة التقرير). يطلق على هذه الأسئلة البلاغية، التي تكون فيها الإجابات واضحة بالنسبة للسامعين. فكر مثلاً في الآيات التالية:

“إن كان الله معنا فمن علينا؟” (رو 8: 31)

ألعل الجميع رسل؟” (1كور 12: 29)

“وكيف يسمعون بلا كارز؟” (رو 10: 14)

إن الإجابات على تلك الأسئلة معروفة ولا شك فيها، ولكن المؤلف يصيغ هذه الحقائق في شك أسئلة لكي يزيد من وقعها على المتلقي. بل ولا بد أن يتم التعامل معها باعتبارها توكيدات أقوى للحقائق المقصود طرحها. فإن كان الله معنا، فلا يمكن لأي شخص أن يكون علينا. وبالتأكيد ليس جميع المؤمنين رسلاً، ولا الجميع أنبياء أو معلمين ولا الجميع يتكلمون بألسنة. ولا بد أن يكون هناك مبشر لكي يسمع الناس كلمة الله. هذه هي التوكيدات المتضمنة، والمقاطع نفسها يجب التعامل معها بهذه الطريقة.

التعبيرات الاصطلاحية. توجد العديد من التعبيرات التشبيهية والاصطلاحية الأخرى. فعلى سبيل المثال، يمكن للمؤلف أن يستخدم الحذف، بأن يحذف كلمة أو كلمات من الجملة كان يمكن أن تكملها (خر 32: 32)، أو الألغاز (قض 14: 14)، أو القصص الخرافية (قض 9: 8-15)، أو الكناية. لكننا لن نتعامل مع كل ذلك بتوسع لأن عددها ليس كثيراً، وعادة ما يكون كل من التعبير المجازي وتفسيرها واضح للغاية.

إلا أن واحداً من الأمثلة غير الواضحة تماماً، هو تعبير، “حسن للرجل ألا يمس امرأة” (1كور 7: 1). بحسب سياق المقطع والاستخدام الاصطلاحي في هذا الزمن، يجب أن يتم التعامل مع هذا التعبير باعتباره كناية عن العلاقات الجنسية، وفي ذلك المقطع، عن الزواج كان أن مصطلح مثل “يكشف…. عورتها” هو تعبير أخف لوصف العلاقات الجنسية غير الأخلاقية (لا 18: 8، 12).

لا يتم فهم مثل هذه المقاطع بسهولة بدون دراسة الكلمات أو استكشاف الخلفية الثقافية. لكن في معظم الأحيان، لا تكون هذه التشبيهات كثيرة العدد كما أنه يسهل فهمها. لذلك لا بد من التعرف على نوع التشبيه قبل البدء في محاولة التفسير. في كثير من الأحيان يكون المعنى شديد الوضوح، بمجرد تحديد نوع التشبيه. ومع ذلك فهناك بعض الإرشادات الخاصة التي تفيدنا في تفسير تشبيهات معينة.

تفسير التعبيرات المجازية

لا بد أن يتم التعرف على ما يقصد المؤلف أن يشير إليه في التعبير المجازي. وأول خطوة في التفسير هي نقل التعبير المجازي إلى معناه الحرفي. فمن هن “الثيران”، و”الأسود”، و”الكلاب” الذين كانوا يحيطون بداود (مز 22: 12-13، 16)؟ بمجرد أن نفهم العناصر المجازية، يجب أن نقوم باستخدام الأدوات التفسيرية بأكملها لنقل التعبير المجازي إلى معناه الحرفي، ولتفسير المقطع بأكمله. ففي كل مرحلة، يجب استخدام جميع الإرشادات؛ فالخلفية الثقافية، ودراسة الكلمات، ودراسة السياق هي أدوات لا يمكن الاستغناء عنها لفهم اللغة المجازية.

لكن دعونا نفكر في ثلاثة إرشادات خاصة لتفسير الأنواع المعينة من التعبيرات المجازية.

1 – تشبيهات المقارنة غالباً ما تتطلب إرشادات خاصة. أكثر مبدأ إرشادي مفيد هنا هو أن نتذكر أننا عندما نقوم بعقد مقارنة بين شيئين مختلفين، تكون أوجه المقارنة محدودة للغاية. والحقيقة هي أنه عادة ما يكون في ذهن المؤلف وجه واحد للمقارنة، كما رأينا.

لذلك يجب على المفسر أن يقاوم إغراء أن يقوم بإقحام أوجه للمقارنة من خياله الخاص. بل عليه أن يقوم من خلال دراسة الكلمات، ودراسة السياق والخلفيات الثقافية والتاريخية، بتمييز وجه المقارنة الذي قصده المؤلف. أما في المقارنات المركبة، كما في الأمثال، والنماذج، تصبح هناك إرشادات أخرى ضرورية، والتي سوف ندرسها فيما بعد بتفصيل أكثر.

2 – من المهم أن نميز بين تشبيه الربط وتشبيه المقارنة. فقد تحدث داود عن “وادي ظل الموت” (مز 23: 4). فهل هذا تشبيه مقارنة أم تشبيه ربط؟ يخبرنا بعض المفسرين أن تعبير “وادي ظل الموت” كان مصطلحاً يشير إلى الخطر. المقارنة هي مع وهدة عميقة يعبر من خلالها المسافر وهو يخشى فيها على حياته. ومن ناحية أخرى، يمكن أن يتم اعتباره تشبيه ربط، حيث يتم استخدام المكان الذي يرتبط بالموت للإشارة إلى العبور المخيف في الموت. هذا هو المعنى التي يعطى للآية في العديد من الجنازات.

فأي معنى منهما هو الذي كان يقصده داود؟ بفحص السياق نجد أن داود كان يقوم بعقد مقارنة ممتدة للعلاقة بين الراعي والخراف، وعلاقة الله بداود. فالمعنى الطبيعي إذاً هو تشابه آخر بين الخروف وبين داود. فيمكن لداود أن يجتاز أي تجربة مخيفة أو مجهولة بدون خوف لأن الرب معه. وبالطبع، يمكن أن يكون الموت نفسه هو واحد من هذه التجارب، ولكن المعنى سيكون أكثر اتساعاً لو تم اعتبار هذا التعبير أنه مقارنة.

لكننا نحتاج كذلك إلى تطبيق إرشادات أخرى. بفحص البنية النحوية للمقطع، يمكن للمرء أن يلاحظ أن داود يغير الحديث من ضمير الغائب غير الشخصي في الأعداد الأولى “في مراع خضر تربضني”، إلى الحديث بصورة شخصية بضمير المخاطب “لأنك أنت معي”، فهل هذا يعني ضمنياً التحول من تشبيه الخروف بداود إلى العلاقة الحرفية بين داود والرب؟ إن كان كذلك، فقد يكون من الأفضل اعتبار أن الوادي يشير إلى الموت، أي تشبيه ربط. فهل هذا التفسير يدعمه رمز قديم للموت، كما نرى ذلك في سفر قديم آخر من أسفار الكتاب المقدس (أي 10: 21-22)؟

لكن الجزء اللاحق من العدد ينفي مثل هذا التفسير بعودته إلى المقارنة بالخروف: “عصاك وعكازك هما يعزيانني” بمقارنة ذلك بكتابات داود الأخرى، وبفحص الخلفية الثقافية (كيف كان الناس يفكرون في الموت) تتدعم فكرة أن داود كان في ذهنه كل أنواع المخاطر، وليس الموت فقط. والأكثر من ذلك، أن الفكرة السارية في هذا المزمور بأكمله، تجعل الموت لا مكان لن في المقطع، حيث يتبعه مائدة ومسح للرأس بالزيت، وتعبير “كل أيام حياتي”، و”بيت الرب إلى مدى الأيام”.

بهذه الطريقة، نكون قد استخدمنا العديد من الإرشادات في نقل هذا التشبيه إلى معناه الحرفي. وهكذا يمكن أن يكون هذا تشبيه مقارنة، والذي فيه يواجه داود، مثل خرافه الخاصة، أكثر التجارب المرعبة في حياته بلا خوف، لأن الرب معه ليحميه منها.

3 – قم بفحص التشبيهات الوهمية. في بعض الأحيان تكون المبالغة هي تشبيه وهمي واضح. فعندما يقال أن المسيح لم يكون يكلم الناس إلا بأمثال (متى 13: 34)، فإن الكاتب كان يعني بوضوح أن الأمثال كانت هي وسيلته الرئيسية في التواصل مع الناس. ولكنه لم يكن يعني أن يسوع لم يكن يتحدث مطلقاً بطرق أخرى، لأنه حتى متى نفسه يسجل الكثير من تعاليم المسيح التي لم تكن بأمثال، مثل الموعظة على الجبل.

وعندما قال داود بشأن خطيته ضد بثشبع وأوريا، “إليك وحدك أخطأت” (مز 51: 4) كان من الواضح أنه يقصد التشيديد على أن خطيته العظمى في النهاية هي موجهة ضد الله.

لكن ليست جميع المبالغات ظاهرة وواضحة هكذا. فعندما يقول الكتاب المقدس “إلى الأبد”، فهل هذا يعني دائماً “بدون نهاية”؟ يقول الكتاب “المؤسس الأرض على قواعدها فلا تتزعزع إلى الدهر والأبد” (مز 104: 5). ومع ذلك، فمنذ مزمورين سابقين قال المرنم: “من قدم أسست الأرض والسماوات هي عمل يديك هي تبيد وأنت تبقى وكلها كثوب تبلى كرداء تغيرهن فتتغير” (مز 102: 25-26).

هذان المقطعان لا يعتبران متناقضان على الإطلاق، عندما يضع المفسر في الاعتبار أن كلمة “إلى الأبد” تعني في بعض الأحيان “بدون نهاية” ولكنها كثيراً ما تعني “لفترة زمنية طويلة”. وهكذا فإننا نستخدم أيضاً هذا التعبير مجازياً. كان الفصح والكهنوت اللاوي إلى الأبد (خر 12: 14؛ 1أخ 15: 2)، لكن عندما أصبح المسيح هو فصحنا (1كور 5: 7)، وهو كاهننا (في سفر العبرانيين)، فقد انتهت عندئذ كلمة “إلى الأبد”. وهكذا فإن “إلى الأبد” تعني عادة “بدون نهاية”، ولكن ليس في كل حالة.

يجب على المفسر أن يضع في الاعتبار دائماً أن الناس كانوا يعيشون في زمن الكتاب المقدس لم يكونوا ملتزمين بالاحتفاظ بمقياس معين في الأسلوب، بالطريقة الحديثة، وأن المبالغات لإحداث وقع وتأثير كانت أسلوباً أدبياً شائعاً. ولذلك فإن السياق وتعاليم الكتاب المقدس الأخرى هي مصادر تساعدنا في معرفة ما إذا كانت العبارة تفسر حرفياً أم تفهم كمبالغة.

ملخص

يمتلئ الكتاب المقدس بتعبيرات غير حرفية. واللغة المجازية شديدة الأهمية والقيمة للعديد من الأسباب، كما رأينا. لكن لكي نستطيع تطبيق الكتاب المقدس في حياتنا، يجب تحديد ما قصده المؤلف. وقد قمنا بدراسة الخطوات اللازمة لذلك: بتحديد ما إذا المقطع مجازياً، وتحديد نوع التشبيه، ثم استخدام الإرشادات العامة والخاصة بعد ذلك لتحديد المعنى الذي قصده المؤلف عندما اختار أن يتحدث “بلغة تصويرية”.

سنقوم فيما بعد بدراسة مبادئ تطبيق الحقائق الكتابية. ومع ذلك، فعند هذه النقطة دعونا نتذكر أن كلمة مجازي أو تشبيهي لا تعني “غير حقيقي” أو “أقل أهمية”. فاللغة المجازية تعلم أمور حقيقية ومهمة. وبعد أن يقوم المرء بتحديد المعاني الحقيقية للغة المجازية، يجب أن يقوم بتطبيقها بثقة.

مراجع مختارة لمزيد من الدراسة

– بولينجر، إثيلبيرت ويليام. Figures of Speech Used in the Bible: Ecplainned and Illustrated معاد طباعتهGrand Rapids: Baker, 1968.

– لامسا، جورج إم. Idioms in the Bible Explained. New York: Harper & Row 1985.

– تيري، ميلتون، Biblical Hermeneutics. معاد طباعته. Grand Rapids: Zondervan 1974.

[1] سي إس لويس، (New York: Macmillan, 1947) Miracles، الصفحتان 88 – 89.

[2] نفس المرجع السابق. الصفحتان 110-111.

[3] جي بي كيرد، The Language and Imagery of the Bible (Philadelphia: Westminister, 1980)، صفحة 18.

[4] نفس المرجع السابق. صفحة 110.

اللغة المجازية في الكتاب المقدس بحث موسع