آبائيات

صعود الباكورة – يوحنا ذهبي الفم

صعود الباكورة – يوحنا ذهبي الفم

صعود الباكورة - يوحنا ذهبي الفم
صعود الباكورة – يوحنا ذهبي الفم
 

هذا العيد أيها الأحباء يتجاوز العقل الإنساني وهو لائق بكرم الله الذي صنعه، فاليوم قد تصالح الله مع الجنس البشرى. اليوم أُبطلت العداوة القديمة وانتهت الحرب طويلة الأمد. اليوم حل سلام عجيب لم نكن نحلم به قبلاً. فمن كان يتصور أن يتصالح الله مع الإنسان؟ لا لأن الله قد أبغض الإنسان ولكن لأن العبد كان غير مبالٍ، لا لأن السيد كان قاسٍ لكن لأن العبد كان منكرًا للجميل.

أتريد أن تعرف كيف أغضبنا إلهنا الصالح مُحب البشر؟ لأنه يجب أن تعرف سبب عداوتنا السابقة، حتى عندما ترى تكريمه لنا، ونحن أعداء ومقاومين له، تتعجب وتندهش من محبته للبشر وعنايته بهم. وأيضاً لكيلا تظن أن هذا التغيير قد صار بإمكاناتنا وقدراتنا. وما دمت قد عرفت هذه الحقيقة ومقدار نعمته، فعليك ألاّ تتوقف عن تقديم الشكر له لعطاياه الكثيرة، والوفيرة والغنية.

أتريد أن تعرف كيف أغضبنا إلهنا محب البشر، الحنان، الصالح هذا الذي يدبر كل شيء من أجل خلاصنا؟ أقول لقد فكر يوماً في إبادة كل الجنس البشرى وقد بلغ منه الغضب علينا حتى عزم أن يهلكنا مع النساء والأولاد والحيوانات المتوحشة والأليفة وكل الأرض. أتريد أن تسمع هذا الحكم النهائي؟ يقول الرب ” أمحو عن وجه الأرض الإنسان الذي خلقته. الإنسان مع بهائم ودبابات وطيور السماء “. (تكوين ٧:٦).

ولكن لكي تعلم انه لم يُبغض الطبيعة الإنسانية وأنه عدل عن الشر، فإن ذاك الذي قال أمحو عن وجه الأرض الإنسان الذي خلقته يقول ” هو وقت لكل إنسان أن يقترب مني”. فلو كان قد أبغض الإنسان لكان يرفض الحوار معه. لكن الآن تراه لا يريد أن يصنع ما هدد به، لكي يبرر العبد ويخبره عن أسباب الدمار الذي من الممكن أن يحدث، لا لكي يعرفها فقط بل لكي يُخبر بها الآخرين فيجعلهم أكثر تعقلاً وأكثر تدبراً.

لكن نحن الذين لم نكن مستحقين أن نسود على الأرض، صعدنا اليوم إلى ملكوت الله اجتزنا السموات، وتلامسنا مع عرش الله. الجنس الذي بسببه حرس الشاروبيم الفردوس، يجلس اليوم أعلى من الشاروبيم. لكن كيف حدث هذا الأمر المدهش؟ كيف ونحن الخطاة غير المستحقين للأرض وفقدنا السيادة عليها نُرفع إلى هذا السمو العظيم؟ كيف أُبطلت الحرب؟ كيف توقف الغضب؟

هذا هو السمو وهذه هي العظمة، أن الذي غضب منا، هو هو الذي دعانا، ولسنا نحن الذين ترجيناه. وهكذا صار السلام ” إًذا نسعى كسفراء عن المسيح كأن الله يعظ بنا. نطلب عن المسيح تصالحوا مع الله” (٢كو ٢٠:٥) وماذا يعنى هذا؟ الذي غضب هو الذي يدعو؟ نعم لأنه كأب مُحب للبشر يدعو. وانتبه ماذا حدث، الوسيط الذي يدعونا هو ابن الله، لا إنسان ولا ملاك ولا رئيس ملائكة ولا أي أحد آخر من خدامه. وماذا يصنع الوسيط؟ الوسيط يتدخل بين طرفين متخاصمين لا يريدون أن يتصالحوا، وذلك بهدف إنهاء الخصام. هكذا صنع المسيح.

الله كان غاضباً منا ونحن تجاهلنا محبته للبشر، لكن عندما توسط المسيح فقد صالح الاثنين. وكيف توسط؟ بأن قبل العقوبة التي وضعت علينا وأحتمل هذه العقوبة واحتمل إهانات البشر. أتريد أن تعرف كيف احتمل المسيح هذين الأمرين؟ اسمع ماذا يقول الرسول بولس “المسيح افتدانا من لعنة الناموس إذ صار لعنة لأجلنا لأنه مكتوب ملعون كل من علق على خشبة ” (غلاطية ١٣:٣). أرأيت كيف قبل العقوبة التي وضعت علينا من السموات؟ ولاحظ كيف احتمل الإهانات التي وجهها له البشر ” تعييرات معييرك وقعت عليه”. (مزامير ٩:٦٩)

أرأيت كيف أبطل العداوة القديمة؟ كيف أحب الجميع حتى الموت وجعل العدو والخصم يصعد إلى السماء ويصير بالقرب من عرش الله؟ أساس كل هذه الخيرات هو هذا اليوم الذي نحتفل به ” عيد الصعود”، لأن فيه صعدت باكورة طبيعتنا الإنسانية إلى الله.

مثلما يحدث في الحقول المنثورة بالقمح، عندما يأخذ المرء قليل من السنابل ويصنع حزمة ويُقدمها لله فهو يبارك بهذه الحزمة كل الحقل. وهذا ما صنعه المسيح، بهذا الجسد وهذه التقدمة الفريدة، إذ بارك كل الجنس البشرى. لكن لماذا لم يصعد كل الجنس البشرى إلى السماء؟ لأنه لا تكون تقدمة لو أن المرء قدم كل المحصول، لكن التقدمة الحقيقية هي أن يُقدم المرء جزء من المحصول وبهذه التقدمة يتبارك المحصول كله.

لكن قد يقول قائل إن أول مخلوق كان يجب أن يكون هو التقدمة، لأنه هو البداية. لكنى أقول هذه ليست بداية أيها المحبوب، فلو قدمنا أول الثمر فقد يكون فاسداً أو مريضاً. ولذلك يجب أن نُقدم الثمر المتميز. لأن الثمر الأول كان مسئولاً عن الخطية ولهذا لم يُقدم ذاته على الرغم من أنه ُ خلق أولاً. لكن المسيح كان بلا خطية ولهذا قدم ذاته على الرغم من أنه بحسب الزمن قد ولد فيما بعد. هذا يعنى بداية.

ولكن تعرف أن الثمر الأول ليس هو التقدمة المتميزة، وأن التقدمة الحقيقية هي الثمر الفائق والنوع الجيد الذي نضج كما ينبغي، سأدلل لك على ذلك من الكتاب المقدس “ومتى دخلتم الأرض وغرستم كل شجرة للطعام تحسبون ثمرها غُرلتها. ثلاث سنين تكون لكم غلفاء. لا يؤكل منها وفي السنة الرابعة يكون كل ثمرها قدساً لتمجيد الرب وفي السنة الخامسة تأكلون ثمرها. لتزيد لكم غلتها. أنا الرب إلهكم” (لا ٢٣:١٩ ٢٥).

إذن لو كان أول ثمر هو الثمر المتميز، بمعنى الثمر الذي صار أول عام لكان هذا هو الذي يجب أن يُقدم للرب. لكن يقول ثلاثة أعوام لا يكون الثمر ناضجاً بل تتركه لأن الشجرة غير صالحة ولأن الثمرة مريضة، وغير ناضجة. السنة الرابعة يقول إن الثمر سيكون مناسباً للرب. وانتبه لحكمة المشرع. لا يتركه يأكل لكيلا يذوق الثمر قبل الرب. ولا يسمح له أن يقدمه، لكيلا يقدمه لله قبل أوانه. لكن يقول أتركه لأنه هو أول ثمر، ولا تقدمه لأنه غير لائق بأن يُقدَّم لله.

أرأيت أن أول ثمر ليس هو الثمر المتميز؟ هذه الأمور نقولها من نحو الجسد الإنساني الذي قدمه المسيح للآب. قدّم للآب التقدمة المتميزة المختارة عن الجنس البشرى كله. وكم ابتهج الآب بهذه التقدمة. لأن ذاك الذي قدمها مستحق، لأن التقدمة كانت غير دنسة واستقبلها الأب ووضعها بالقرب منه، وقال له ” أجلس عن يميني” (مز ١:١١٠) وإلى أي طبيعة قال الله أجلس عن يميني؟ قالها إلى ذاك الذي سمع قبلاً: “أنت تراب وإلى التراب تعود ” (تكوين ١٩:٣).

ألم يكن كافياً إذن أنه صعد أعلى من السموات؟ ألم تكن هذه الكرامة فائقة وتتجاوز كل تقدير؟ لقد تجاوز الملائكة ورؤساء الملائكة والشاروبيم وصعد أعلى من السيرافيم وصعد أعلى من كل القوات السمائية حتى إلى يمين عرش الله. ألا ترى المسافة من الأرض إلى السماء؟ أو بالحري فلنبدأ من أسفل – ألا ترى عظم المسافة من الجحيم إلى الأرض ومن الأرض إلى السماء ومن السماء إلى السماء العليا ومن أعلى سماء إلى الملائكة إلى القوات العلوية ثم إلى عرش الله نفسه؟

لقد جاز الرب بطبيعتنا كل هذه المسافة ورفعها إلى ذلك العلو. لاحظ أين كنت موجوداً وإلى أي مكان صعدت. لا يوجد مكان أسفل من المكان الذي نزل إليه الإنسان ولا يوجد مكان أعلى وأسمى من المكان الذي أصعده إليه المسيح مرة أخرى. هذه الأمور أعلنها القديس بولس قائلاً “الذي نزل هو الذي صعد أيضًا فوق جميع السموات لكي يملأ الكل”(أف ٩:٤) وصعد فوق جميع السموات. تأمل من الذي صعد وأي طبيعة صعدت وما حال هذه الطبيعة قبل صعودها. إني أنظر إلى الوضع الضعيف للجنس البشرى ثم أنظر إلى مقدار الكرامة التي أعطاها لنا الله محب البشر.

لقد كنا طينًا وتراباً ولا ذنب لنا في ذلك، فهذا راجع لسبب ملازم لضعف طبيعتنا. تصرفنا وسلكنا بصورة أكثر غباء من الحيوانات غير العاقلة “صار الإنسان مثل الحيوانات غير العاقلة وشبيهاً لها ” (مز ١٣:٤٨ س). ولكي يشار إليه بأنه شبيهه بالحيوانات، فهذا يعنى أنه أسوأ منها. لأن الحيوان بحسب طبيعته ليس له عقل وفهم ومن الطبيعى أن يبقى في حالة عدم الإدراك وعدم الفهم، لكن حين ننزلق نحن الذين كرمنا الله بالعقل إلى حالة عدم الفهم، فهذا يعنى أننا أخطأنا بإرادتنا الحرة.

وعليه عندما تسمع أن الإنسان صار شبيهاً بالحيوانات، لا تظن أنه قالها للتدليل على أننا صرنا مساويين لها في عدم الفهم، ولكنه أراد أن يدلل على أننا صرنا أسوأ منها. وبالحقيقة صرنا أسوأ وأكثر بلادة من الحيوانات. لا لأننا بشر انزلقنا إلى هذا المستوى ولكن لأننا وصلنا إلى أكثر درجات الجحود. وهذا ما أعلنه أشعياء النبى قائلاً ” الثور يعرف قانيه والحمار يعرف معلف صاحبه. أما إسرائيل لا يعرف. شعبي لا يفهم ” (إش ٣:١)، لكن لا نفشل ” لأنه حيث كثرت الخطية ازدادت النعمة جداً” (رو ٢٠:٥).

أرأيت كيف كنا أكثر غباءً من الحيوانات؟ وتريد أن تعرف أننا صرنا أقل وعياً من الطيور؟ اسمع ماذا يقول النبي “بل اللقلق في السموات يعرف ميعاده واليمامة والسنونة المزقزقة حفظتا وقت مجيهما. أما شعبى فلم يعرف قضاء الرب ” (إر ٧:٨).

إذًا ها قد حُسبنا أكثر غباء من الحيوانات والثيران والطيور. وتريد شاهد آخر على مذلتنا؟ الكتاب جعلنا تلاميذ للنمل بعدما فقدنا المنطق والعقل لأنه يقول ” اذهب إلى النملة أيها الكسلان. تأمل طُرقها وكن حكيماً” (أم ٦:٦). صرنا تلاميذ للنمل نحن الذين خُلقنا على صورة الله. ليس السبب في ذلك هو الخالق، بل نحن الذين ابتعدنا عن الله.

ولماذا أتكلم عن النمل؟ لقد صرنا أقل إحساساً من الحجارة. أتريد أن أدلل لك على هذا أيضاً؟ اسمع ماذا يقول النبى ” اسمعى خصومة الرب أيتها الجبال ويا أسس الأرض الدائمة. فإن للرب خصومة مع شعبه وهو يحاكم إسرائيل ” (ميخا ٢:٦). البشر صاروا أكثر جموداً من أسس الأرض. وأى شر أعظم من هذا عندما نكون أكثر بلادة من الحيوانات وأكثر غباء من الطيور وأقل وعياً من النمل وأقل إحساساً من الحجارة؟ ونظهر مشابهين للحيات ” لهم حمة مثل حمة الحيات” (مزامير ٤:٥٨)

وما بالى أقف عند نقص الوعي والإدراك الخاص بالحيوانات وقد دُعينا أبناء الشيطان نفسه. إذ يقول الكتاب ” أنتم من أب هو إبليس وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا (يوحنا ٤٤:٨). لكن نحن الذين بلا إحساس، الجاحدين الأغبياء، الأقل إحساساً من الحجارة، البائسين، نحن اللاشيء، عديمي الرؤية والتبصر، صرنا اليوم أعلى من كل المخلوقات.

اليوم تمتعت الملائكة بهذا الذي تمنوه منذ زمن طويل. اليوم رأى رؤساء الملائكة هذا الذي اشتهوا رؤيته منذ أمد بعيد. رأوا الإنسان مُشرقاً ببهاء في يمين من عرش الله، مشرقًا بمجد وجمال الأبدية. حقًا إن الملائكة ورؤساء الملائكة اشتهوا أن يعاينوا ذلك. ومع أن هذه الكرامة قد فاقت كرامتهم إلا أنهم ابتهجوا لهذه الخيرات التي نلناها، لأنهم تألموا عندما حلّ بنا العقاب. فعلى الرغم من أن الشاروبيم قد حرسوا الفردوس، إلا أنهم تألموا.

فكما أن الخادم عندما يجد أحد زملائه داخل السجن يلتزم بحراسته لأنه هكذا أمر السيد، إلا أنه يتألم لسجنه. هكذا الشاروبيم قد حرسوا الفردوس، إلا أنهم تألموا لطرد الإنسان منه. وإذا كان الناس يشاركون بعضهم البعض مُعاناتهم، فبالأولى لا تشك من نحو مشاركة الشاروبيم، لأن هذه القوات هي أكثر حنواً من البشر. فمن من الناس الأتقياء لا يتألم لعقاب بعض البشر حتى لو كان عقابه بعدل وحتى بعد ارتكابه أخطاء كثيرة؟ وهذا هو العجيب، فعلى الرغم من أنهم عرفوا خطايا الناس ورأوا أنهم عاندوا الله، إلا أنهم تألموا لعقابهم.

موسى تألم عندما مال شعبه لعبادة العجل. ولهذا قال “. . والآن إن غفرت خطيتهم، وإلا فإمحني من كتابك الذي كتبت ” (خر ٣٢:٣٢)، ماذا يعنى هذا؟ أنك تتألم لرؤية هؤلاء الذين يعاقبون رغم عدم تقواهم. اسمع صراخ حزقيال النبي عندما رأى الملاك يهلك الناس “. . آه يا رب. هل أنت مهلك بقية إسرائيل كلها. . ” (حزقيال ٨:٩) “. وأيضًا يقول إرميا النبي ” أدبني يا رب ولكن بالحق لا بغضبك لئلا تفنيني ” (إر ٢٤:١٠). فإذا كان موسى وحزقيال وإرميا قد تألموا، فهل القوات السمائية لا تتألم لما حدث لنا؟

وأنظر إلى مقدار الفرح الذي أظهروه عندما رأوا أن الله قد تصالح معنا. فلو لم يتألموا من قبل لما كانوا يفرحون فيما بعد. أما من جهة أنهم ابتهجوا فهذا واضح مما قال المسيح ” أقول لكم إنه هكذا يكون فرح في السماء بخاطئ واحد يتوب أكثر من تسعة وتسعين باراً لا يحتاجون إلى التوبة ” (لو ٧:١٥). وإذا كانت الملائكة تفرح برؤية خاطئ واحد يتوب، فكيف لا يفرحون وهم يرون طبيعتنا كلها وهي ممثلة في بكورتها صاعدة إلى السماء.

وتستطيع أن ترى مقدار فرح القوات السمائية لتصالحنا مع الله في موضع آخر، وذلك عندما ولد بالجسد. لأنه لم يكن لينزل إلى الأرض إن لم يكن قد قيل إنه تصالح مع الإنسان. وعندما رأوا ذلك صرخوا قائلين “المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة ” (لو ١٤:٢) ولهذا مجدوا الله، لأن الأرض تمتعت بالسلام والناس بالمسرة. هؤلاء الذين كانوا قبلاً أعداء وجاحدين.

أتريد أن تعرف أنهم ابتهجوا لرؤية السيد صاعداً للسماء؟ اسمع ماذا يقول المسيح “من الآن ترون السماء مفتوحة وملائكة الله يصعدون وينزلون على ابن الإنسان ” (يو ٥١:١). لأن هذه هي عادة الذين يحبون، لا ينتظرون اللحظة المناسبة، لكنهم من فرط سعادتهم يتجاوزون الزمن. ولهذا نزلوا لأنهم استعجلوا أن يروا هذا المشهد الجديد والعجيب. أي رؤية الإنسان الذي ظهر في السماء.

ولهذا نجد الملائكة حاضرين في كل مكان: عندما ولد السيد، وعندما قام، واليوم عندما صعد إلى السموات. لأن القديس لوقا يقول ” إذا رجلان قد وقفا بهم بلباس بيض وقالا أيها الرجال الجليليون ما بالكم واقفين تنظرون إلى السماء إن يسوع هذا الذي ارتفع عنكم إلى السماء سيأتي هكذا كما رأيتموه منطلًقا إلى السماء ” (أع ١١:١)، فهم بهذا الظهور يعلنون عن فرحتهم.

وهنا أرجو أن تركزوا الانتباه بشكل خاص. لماذا قال الملائكة هذا الكلام؟ هل التلاميذ ليس لديهم أعين؟ هل لم يروا هذا الذي حدث؟ ألم يقل الإنجيلي ” ارتفع وهم ينظرون إليه “؟ إذاً فلأي سبب وقف بهم الملائكة وقالوا لهم هذا الكلام؟ قالوا هذا لسببين: لأن التلاميذ كانوا دومًا يتضايقون لفراق المسيح. ومن جهة أنهم تضايقوا اسمع ماذا قال لهم ” وأما الآن فأنا ماضي إلى الذي أرسلني وليس أحد منكم يسألني أين تمضي.

لكن لأني قلت لكم هذا ملأ الحزن قلوبكم ” (يو ٥:١٦-٦) فإن كنا نتألم لفراق أحبائنا وأقاربنا وأصدقائنا، فكيف لا يتألم التلاميذ لفراق المخلص والمعلم محب البشر الرقيق الصالح؟ كيف لا يُعانون؟ ولهذا وقف الملاكان بهم لكي يخففا الحزن الذي ملأ التلاميذ لفراق الرب وقالوا إن يسوع هذا الذي ارتفع عنكم إلى السماء سيأتي هكذا كما رأيتموه منطلًقا إلى السماء. ولكي لا يصنعوا ما صنعه إليشع الذي مزق ملابسه عندما رأى معلمه يصعد إلى السماء (٢ملوك ٢) لهذا وقف الملاكان بهم معزين لحزنهم.

أما السبب الثاني وهو لا يقل أهمية عن الأول فهو متضمن في عبارة “إلى السماء” لأن المسافة إلى السماء بعيدة جداً والأعين الجسدية ليس لديها القدرة أن تواصل الرؤيا حتى الأعالي. مثل الطائر الذي يطير مرتفعاً، فعلى قدر ما يرتفع إلى أعلى على قدر ما يختفي من أمام أعيننا وهذا ما حدث مع المسيح في صعوده بالجسد، فعلى قدر ارتفاعه إلى أعلى على قدر ما كان يختفي لأن ضعف عيونهم لم يمكنهم من متابعته في كل هذا الارتفاع. ولهذا وقف بهم الملاكان قائلين إنه صعد إلى السماء لكيلا يظنوا انه صعد إلى السماء كما ارتفع إيليا إلى السماء.

إيليا ارتفع إلى السماء كإنسان. لكن يسوع صعد إلى السماء لأنه إله. إيليا صعد بمركبة نارية. يسوع صعد في السحاب. لأن الله عندما أراد أن يدعو إيليا أرسل مركبة. وعندما دعى ابنه أرسل العرش الملوكي. ليس فقط العرش الملوكي ولكن عرش الأب نفسه. لأن أشعياء يقول من نحو الأب “هوذا الرب راكب على سحابة سريعة” (أشعياء ١:١٩) ” ولأن الآب يجلس على سحابة أرسل لابنه سحابة. وعندما صعد إيليا إلى السماء ترك لأليشع ردائه الجلد. وعندما صعد يسوع إلى السماء ترك لتلاميذه المواهب المتنوعة القادرة على أن تصنع لا نبياً واحداً بل آلاف مثل إليشع أمجد وأعظم منه.

فلنقف أيها الأحباء ونوجه أنظارنا نحو المجيء الثاني لأن بولس يقول “لأن الرب نفسه بهتاف بصوت رئيس الملائكة وبوق الله سوف ينزل من السماء ونحن الأحياء الباقيين سُنخطف جميعاً معهم في السحب لملاقاة الرب في الهواء ” (١تس ١٥:٤ ١٦). لكن ليس الكل. فمن جهة أننا سوف لا نُخطف جميعاً، وأن البعض سيبقى والبعض سيختطف – اسمع ماذا يقول المسيح ” حينئذ يكون اثنان في الحقل يؤخذ الواحد ويترك الآخر اثنتان تطحنان على الرحى. تؤخذ الواحدة وتترك الأخرى. ((مت ٤٠:٢٤ ٤١).

ماذا يريد أن يوضح بهذا الكلام؟ وماذا يريد أن يعلنه هذا السر الخفي؟ أراد أن يشير إلى أن من بين الفقراء والأغنياء مَن سيخلص ومنهم من سيهلك. وأن الخطاة سيتركون منتظرين عقوبتهم وأن الأبرار سيخطفون على السحاب. فكما أنه عند قدوم ملك إلى مدينة يخرج لاستقباله خارج المدينة كل القواد وأصحاب الرتب والسلطان وكل من له دالة كبيرة عنده لملاقاته والتمتع به، وأما المحكوم عليهم فيحجزون في السجون منتظرين حكم الملك. هكذا عندما يأتي الرب فكل من له دالة عنده يلاقي الرب في السحاب، لكن المدانين وكل من يشعرون بثقل الخطايا، فإنهم ينتظرون دينونتهم العادلة.

ونحن أيضاً سنختطف وأنا لا أحسب نفسي في عداد هؤلاء الذين سيختطفون، فأنا أعرف خطاياي ولولا خوفي من أن أُعكر فرحة هذا العيد لسكبت دموعاً مُرة لأنني تذكرت خطاياي الخاصة. ولأنني لا أريد أن أُكدر فرحة هذا العيد سأتوقف هنا عن الكلام ويكفيني أنى جددت فيكم ذكرى حية لهذا اليوم حتى أن الغنى لا يفرح لغناه ولا الفقير يحزن لفقره، بل السعيد هو ذاك المستحق للاختطاف على السحاب ولو كان أكثر الجميع فقراً، وان الإنسان الخاطئ بائس وتعس حتى ولو كان أكثر الجميع غنى. أقول هذا لكي نرثى لحالنا ما دمنا بعد خطاة ولكي يثق أولئك الذين يجاهدون من أجل الفضيلة، ولا يثقوا فقط بل يطمئنوا أيضاً.

ولا يكتفى الخطاة بالبكاء بل يجب أن يغيروا أسلوب حياتهم. لأن الإنسان الخاطئ هو قوى مادام يهجر الخبث والمكر ويتجه نحو الفضيلة وبهذا يصير مساوياً لأولئك الذين يحيون في الفضيلة منذ البدء. أما السائرين في طريق الفضيلة فليداوموا على التقوى ويزيدوا دوماً هذا الربح العظيم. أما نحن فعندما نشعر بثقل خطايانا الكثيرة فلنغير أسلوب حياتنا حتى نكتسب الفضيلة ونقتنى ثقة من سلك بالتقوى، لكي نستقبل معاً بنفس واحدة وبالإكرام الواجب ملك الملائكة ونتمتع بهذا الفرح الطوباوي بمعونة ربنا يسوع المسيح.

“ولما قال هذا ارتفع وهم ينظرون. وأخذته سحابة عن أعينهم ” (أع ٩:١)، وبالقطع كان يستطيع أن يصعد سراً، لكن كما كانت عيون التلاميذ شاهدة لقيامته، هكذا أيضاً جعلهم المسيح شهود عيان لصعوده. “وفيما هو يباركهم أنفرد عنهم وأصعد إلى السماء” (لو ٥٢:٣٤). أصعد ودخل إلى السماء “. . المسيح لم يدخل إلى أقداس مصنوعة بيد أشباه الحقيقية بل إلى السماء عينها ليظهر أمام وجه الله لأجلنا” (عب ٢٤:٩). ولم يدخل إلى السماء فقط لكنه اجتاز فوق السموات، لأن بولس يقول ” فإذ لنا رئيس كهنة عظيم قد أجتاز السموات يسوع ابن الله ” (عب ١٤:٤).

فهو قد صعد واجتاز السموات لأنه كان يملك القوة لأن يصنع هذا ولكي تكمل أقوال النبي “صعد الله بهتاف الرب بصوت الصور ” (مز ٥:٤٧). وهنا يتكلم النبي بكل وضوح – صعد الله بهتاف، ويقول أيضاً ” أرفعوا أيها الرؤساء أبوابكم وأرتفع أيتها الأبواب الدهرية فيدخل ملك المجد” (مز ٧:٢٤).

لقد دخل المسيح إلى الداخل، لم يدخل إلى هياكل مصنوعة بالأيادي بل إلى السماء عينها، حدث هنا أمران: أن الأرض اندهشت عندما استقبلت المخلص، وكما يحدث عادًة عندما نرى شخصاً غريب أن نتساءل مَن هو هذا؟ لأن المرء لا يسأل عن شخص معروف، هكذا عندما استقبلت الأرض القوة الإلهية ورأت المخلص.

وهو يأمر الرياح والبحر فيطيعانه، قالت مَن هو هذا حتى تخضع له البحار والرياح؟ وهكذا كما نادت الأرض متعجبة مَن هو هذا؟ فإن السماء رأت الابن المتجسد فاندهشت وقالت مَن هو ملك المجد هذا؟

لقد صارت الكنيسة كلها قريبة للمسيح بسبب تجسده. بولس وبطرس وكل مؤمن هو قريب للمسيح. ولهذا قال بولس ” فإذ نحن ذرية الله ” (أع ٩:١٧). وفي موضع آخر يقول ” وأما أنتم فجسد المسيح وأعضاؤه أفراداً” (١كو ٢٧:١٢). نحن نملك عربون أبديتنا وهو جسده الذي صعد إلى السماء، ثم أرسل الروح القدس لكي يمكث معنا.

 

كم هي فائقة هذه العناية الإلهية. كم هو عظيم هذا الملك، عظيم في كل شيء – عظيم جداً وعجيب. كما قال النبي “أيها الرب سيدنا ما أمجد اسمك في كل الأرض حيث جعلت جلالك فوق السموات ” (مز ١:٨). ارتفع الله فوق السموات. نفس الكلمات توجد هنا – بينما التلاميذ يشخصون إليه ارتفع ” لأن الرب عليُّ مخوف ملك كبير على الأرض” (مز ٢:٤٧). عظيم هو الرب، هو أيضاً ملك عظيم “عظيم هو الرب وحميداً جداً في مدينة إلهنا جبل قدسه.

جميل الارتفاع فرح كل الأرض جبل صهيون. فرح أقاصي الشمال مدينة الملك العظيم ” (مز ١:٤٨). نبي عظيم، وكاهن عظيم، ونور عظيم، في كل شيء هو عظيم. والكتاب المقدس دائماً يذكره بإضافة كلمة العظيم، كما يقول بولس “منتظرين الرجاء المبارك وظهور مجد الله العظيم ومخلصنا يسوع المسيح ” (تي ١٣:٢).

وأيضاً يقول داود النبي ” عظيم هو الرب وحميداً جداً”. هو ملك عظيم ونبي عظيم، وعندما صنع يسوع المعجزات قال الجمع “قد قام فينا نبي عظيم وأفتقد الله شعبه ” (لو ١٦:٧). إذن فهو ليس عظيماً فقط في طبيعته الإلهية ولكنه عظيم أيضاً في طبيعته الإنسانية. ومن أين نخرج بهذه النتيجة؟ يقول بولس ” فإذ لنا رئيس كهنة عظيم قد اجتاز السموات يسوع ابن الله فلنتمسك بالإقرار ” (عب ١٤:٤).

ولأنه رئيس كهنة عظيم ونبي عظيم وملك عظيم فقد افتقد الله شعبه وأعطى نبياً عظيماً لشعب إسرائيل. هو نبي عظيم وكاهن عظيم وملك عظيم، أيضاً هو نور عظيم: “الشعب السالك في الظلمة أبصر نوراً عظيماً” (إش ٢:٩). وأيضًا يوم الرب عظيم كما يقول يوئيل النبي ” قبل أن يأتي يوم الرب العظيم المخوف ” (يؤ ٣١:٢). عظيم هو الرب وعظيمة هي أعماله.

إن عربون حياتنا الأبدية هو الآن في السماء، ما دمنا قد صعدنا مع المسيح. وأيضاً هو سيخطفنا على السحاب ما دمنا مستحقين لهذا اللقاء. إذن أيها الأحباء فلنترجى أن نوجد وسط أولئك الذين سيتقابلون معه في السحاب. وكما أن أولئك الذين يتقابلون مع الملك يُكرمون جميعهم وإن كانوا ليسوا على نفس القدر من المكانة، هكذا أيضاً سيحدث في مقابلة الرب على السحاب. ومن المؤكد أن الجميع لم يحيوا بنفس الطريقة، “لأن كل واحد سيأخذ أجرته بحسب تعبه ” (١كو ٨:٣).

وإله السلام الذي يعطى السلام، والذي يثبت السلام، ويجازى بالسلام أولئك الذين بشروا بالسلام، وأولئك الذين سمعوا وأولئك الذين عّلموا وأولئك الذين تعلّموا، حتى أنه في كل شيء مادمنا قد بدأنا بالسلام أن نكمل المسيرة بالسلام وننتهي بالسلام، وأن نمجد إله السلام الآب والابن والروح القدس، الآن وكل أوان وإلى دهر الدهور أمين.

المرجع: كتيب “صعود المسيح”، إصدار مركز دراسات الآباء بالقاهرة، نصوص آبائية رقم 54، ترجمة د. سعيد حكيم

صعود الباكورة – يوحنا ذهبي الفم

تقييم المستخدمون: 5 ( 1 أصوات)