أبحاث

علاقة المسيح ابن الله الكلمة المتجسد بالآب

علاقة المسيح ابن الله الكلمة المتجسد بالآب

علاقة المسيح ابن الله الكلمة المتجسد بالآب
علاقة المسيح ابن الله الكلمة المتجسد بالآب

أهمية حقيقة أن المسيح هو ابن الله الكلمة المتجسد

وكانت حقيقة أن كلاًّ من هاتين البدعتين قد تنتهي بها الأمر إلى حيث بدأت الأخرى، إنما دليل على أن كلاًّ منهما لم تبدأ بالفعل من حقيقة الإنجيل الأساسية: أن يسوع المسيح ـ المولود من مريم العذراء والذي تألم في عهد بيلاطس البنطي ـ هو الله الذي جاء بنفسه، ليكون معنا ويعلن ذاته لنا ويتحد بنا بغير انفصال من أجل خلاصنا.

ومن هنا نجد أن الإنجيل لم يقدِّم يسوع المسيح في وضع مقارنة مع الله أو مشابهة معه، ولم يتأرجح بين الاثنين كما في البدعتين المذكورتين، بل قدَّمه في كليَّة حقيقته “الإلهية الإنسانية” غير المنقسمة باعتباره الله الذي صار إنسانًا[1]. وعلى هذا الأساس، فإن يسوع المسيح يكون هو الرب والمخلِّص، وهدف الإيمان المباشر، والابن الوحيد المولود من الله، الذي بغيره لا يمكن معرفة الآب.

فإذا لم يكن يسوع المسيح هو الله لما استطاع أن يعلن الله لنا، لأننا لا نستطيع معرفة الله إلاّ من خلال الله نفسه فقط، وإذا لم يكن المسيح في نفس الوقت إنسانًا لما كان ممكنًا أن يخلِّصنا (نحن البشر)، لأنه فقط من خلال كونه واحدًا معنا يستطيع الله أن يتمِّم خلاصنا من داخل وجودنا البشري الفعلي.

وقد أكَّد أوريجينوس أن الإيمان بيسوع المسيح بكونه: الله الذي صار إنسانًا وأنه هو نفسه “الله” و “إنسان” في آنٍ واحدٍ، (الله المتأنس) هو إيمان ينتمي إلى تعليم الكتاب المقدس وقد تسلَّمناه منذ نشأة الكنيسة الأولى[2]. وقد عقَّب ر. ف. سيلرز على تعليم تلاميذ أوريجينوس الخاص بوحدة شخص (أقنوم) السيد المسيح قائلاً “من الواضح أن تلاميذ أوريجينوس ينسبون أعمال وأقوال يسوع المسيح كلها، وبدون تمييز بينها، إلى اللوغوس المتجسد ذاته ـ أي إلى الشخص الواحد الذي هو الله وإنسان في وقت واحد[3]“.

وقد تعيَّن على القديس أثناسيوس أن يردد ما جاء في كلام أوريجينوس بأن هذا الإيمان كان هو تقليد وتعليم وإيمان الكنيسة الجامعة منذ البداية، ومن هنا جاء تأكيد القديس أثناسيوس ـ في فقرة مهمة نشير إليها مرة ثانية ـ على أن آباء نيقية “لم يكتبوا ما بدا لهم أنه حسن، بل ما آمنت به الكنيسة الجامعة، ولذا فقد اعترفوا بما كانوا يؤمنون به لكي يبيِّنوا أن آراءهم ليست آراء جديدة بل هي آراء رسولية، وأن ما كتبوه لم يكن اكتشافًا من عندياتهم بل هو نفسه ما قد علَّم به الرسل[4]“.

وكان على مجمع نيقية إعادة تأكيد الحقيقة الإنجيلية الرئيسية التي تعلن أن يسوع المسيح هو ابن الله الكلمة (المتجسد)، وأن ابن الله الكلمة (المتجسد) هو يسوع المسيح، وذلك حتى يتصدى المجمع لتعاليم الأريوسية والسابيلية وكافة البدع الأخرى التي تلت ظهور الأبيونية والدوسيتية، والتي باتت تهدد سلامة إيمان الكنيسة. وقد رفضت الكنيسة المساومة في الإيمان بأن يسوع المسيح هو الله المتأنس، لأنه إذا لم يكن المسيح هو الله بالفعل فلا تكون هناك أي حقيقة إلهية في كل ما قاله أو صنعه، وأيضًا إذا لم يكن (في نفس الوقت) هو إنسانًا بالفعل فلا يكون ما صنعه الله له أية صلة خلاصية ببني البشر.

وكان القديس أثناسيوس قد لخَّص هذه القضية الخاصة بالأعمال الإلهية والأعمال الإنسانية للكلمة المتجسد بقوله: “إذا أدركنا ما يخص كل منهما (أي نوعي الأعمال)، وإذا رأينا وفهمنا أن كلاهما قام بهما “واحد”، فنكون على حق في إيماننا ولن نضلَّ أبدًا. ولكن إذا نظر أحد إلى ما عُمل “إلهيًّا” بواسطة الكلمة فأنكر (حقيقة) الجسد، أو إذا نظر إلى صفات الجسد فأنكر قدوم الكلمة بالجسد أو بسبب ما هو بشري قلَّل من شأن الكلمة، فإن مثل هذا الإنسان يعد مثل تاجر الخمر اليهودي الذي يخلط الماء مع النبيذ وسوف يعتبر الصليب عارًا، أو مثل الوثني الذي يعتبر الكرازة حماقة.

وهذا ما حدث بالنسبة لأعداء الله الأريوسيين الذين نظروا إلى الصفات الإنسانية للمخلِّص فاعتبروه مخلوقًا، ونظروا إلى الأعمال الإلهية للكلمة فاضطروا إلى إنكار ميلاده بالجسد وبالتالي يُحسَبون مع أتباع ماني[5]“. فالإيمان بأن يسوع المسيح هو الله الذي صار جسدًا (إنسانًا) لأجلنا ولأجل خلاصنا، يتطلب إيمانًا أكيدًا “بألوهيته”، لأن في المسيح، الله ذاته هو الذي صار إنساناً، وكذلك يتطلب إيمانًا مساويًا “بإنسانيته” لأن في يسوع المسيح جعل الله طبيعتنا البشرية خاصة له.

أما الأريوسية فقد كانت على النقيض من ذلك، حيث خلطت بين الحق والخطأ وأذنبت ضد لب الإيمان الإنجيلي وأفسدت رسالة الإنجيل الخلاصية لأنها سقطت في كلتا البدعتين الأبيونية والدوسيتية في آنٍ واحد.

 

موقف الكنيسة في الدفاع عن علاقة الابن المتجسد بالآب

وسرعان ما أدرك البابا ألكسندروس بابا الإسكندرية التاسع عشر[6]، أن تعليم أريوس قد أظهر بما لا يدع مجالاً للشك أن الأمر الحاسم في موضوع الإيمان والخلاص، هو طبيعة العلاقة بين يسوع المسيح الابن المتجسد والله الآب. إذن كيف كان على الكنيسة النظر إلى هذه العلاقة؟ وماذا يعني الإنجيل عندما أقرن يسوع المسيح بالله في كل أعماله الخاصة بالإعلان والخلاص؟ وما الذي يجب أن يقال عن طبيعة هذه العلاقة لتفادي أي سوء فهم أو تحريف لها؟

وقد حرص آباء نيقية على الإجابة عن مثل هذه التساؤلات عندما قاموا بصياغة اعتراف الإيمان: “وبربٍ واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الآب (من جوهر الآب)، إله من إله، نور من نور، إله حق من إله حق، مولود غير مخلوق، له ذات الجوهر الواحد مع الآب (μοούσιος τ Πατρί)، الذي به كان كل شيء”. وعلاوة على ذلك ألحق الآباء بإعتراف الإيمان، قانوناً مؤداه أن الكنيسة الجامعة تحرم “كل مَن يقول إن “هناك وقت لم يكن فيه الابن كائنًا”، أو إنه “لم يكن كائنًا قبل أن يُولد”، أو إنه “أتى إلى الوجود من العدم”، أو يزعم أن ابن الله له جوهر مختلف (عن الآب)، أو أنه مخلوق، أو قابل للتغير والتبدل”.

وكان مجمع نيقية قد أخضع جميع العبارات التي وضعها للفحص الدقيق، حتى يمكنه مواجهة النقد المتواصل خلال القرن الرابع. وقد ساعد ذلك على تأكيد وتعميق إيمان وعقيدة الكنيسة، حتى أن مجمع القسطنطينية اللاحق قد أقرَّ تمامًا هذا الإيمان وأعطاه الشكل النهائي كالآتي: “وبربٍ واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الآب قبل كل الدهور، نور من نور، إله حق من إله حق، مولود غير مخلوق، له ذات الجوهر الواحد مع الآب، الذي به كان كل شيء”. ومن الملاحظ أنه لم تطرأ تعديلات ذات أهمية كبيرة في هذه العبارات عن سابقتها (التي وُضعت في نيقية)، وإنما كان التغيير الطفيف لمجرد تفادي التكرار غير الضروري[7].

وإذ بدأ آباء نيقية المقطع الثاني من قانون الإيمان بعبارة “وبربٍ واحد يسوع المسيح”، فقد أظهروا بذلك العلاقة المباشرة للرب يسوع المسيح بـ “الله الآب ضابط الكل …” الذي بدأوا به في المقطع الأول، وبالتالي بيَّنوا أنهم سواء بالنسبة ليسوع المسيح أو بالنسبة لله الآب، فإنما كانوا يشيرون إلى نفس الجوهر الواحد.

وهكذا عبَّر الآباء عن المحتوى الحقيقي للعهد الجديد فيما يخص المسيح، هذا المحتوى الذي فيه الإيمان بالمسيح يتطابق تمامًا مع الإيمان بالله الآب. فأن تؤمن “برب واحد يسوع المسيح” هو أن تؤمن “بإله واحد الله الآب” وتعترف به إلهًا متطابقًا مع الآب.

وقد عبَّر قانون الإيمان عن هذه العلاقة الفريدة التي للمسيح مع الآب داخل وحدانية الله بهذه العبارات “ابن الله الوحيد، المولود من أبيه قبل كل الدهور .. مولود غير مخلوق”. وكان مصطلحا “ابن” و “آب” إنما يشيران إلى التمايز داخل جوهر الله الواحد، لأن الابن هو “ابن” وليس “آب”، والآب هو “آب” وليس “ابن”[8]. ولكن بما أن هناك إله واحد، فبالتالي يكون هناك فقط ابن واحد لله، الذي هو أزليًّا ابن الآب كما أن الآب هو أزليًّا أبو الابن لأنه لا يوجد فارق زمني أو من أي نوع بينهما.

وقد تم تجميع مفاد كل هذه العبارات معًا في مصطلحٍ مُركزٍ واحدٍ هو “هوموأووسيوس” *(μοούσιος) مع الآب أو “له ذات الجوهر الواحد مع الآب”[9] وذلك للتعبير عن وحدانية الجوهر بين الابن المتجسد والله الآب، وجاءت إضافة عبارة “الذي به كان كل شيء ..” للتأكيد على ارتباط الابن مع الخالق[10].

 

[1]  انظر تأكيد القديس أثناسيوس في (ضد الأريوسيين 35:4) على أن المسيح هو “إنسان وإله كامل معًا (وفي آنٍ واحد)” (ο̉́λον αυ̉τόν α̉́νθρωπόν τε καί Θεόν ο̉μου̃)، ويعتبر هذا القول هو ضد كل من البدعة الدوسيتية والبدعة الأبيونية. انظر كذلك قوله في (ضد الأريوسيين 3: 41) بإن المسيح “هو إله حقيقي في الجسد، وجسد حقيقي في الكلمة

7  Origen, De prin., 1.praef, ; 1.2.1ff; 2.6.2f, etc. Cf. Ignatius; Eph., 7.2- cited by Athanasius, De syn., 46.  

8  R. V. Sellers, Two Ancient Christologies, 1940, p.29.         

9  Athanasius, De syn., 5;see De decr., 5; Ad Ser., 1.28; Ad Afr., 1; Fest. Ep., 2.4-7, etc. Cf. also Alexander of AlexandriaEp., 1.12-13; Theodoret, Hist. eccl., 1.3.

10  Athanasius, Con. Ar., 3.35.

وقد كان يشير إلى الكتاب المقدس في: إش 22:1 (الترجمة السبعينية)، و1يو 3:4.

11  See the epistles of Alexander preserved by Theodoret, Hist. eccl., 1.3; and by Athanasius, De decr., 35; Socrates, Hist. eccl., 1.6; Gelasius, Hist. eccl., 2.3. Consult Vlasios Pheidas, ‘Alexander of Alexandria and his two Encyclical Epistles’, in Άντίδωρον Πνευματικόν, Athens, 1981. Cf. the earlier teaching of Dionysius of Alexandria discussed by Athanasius, De sent. Dion.

12  Cf. the creed cited by Epiphanius, Anc., 120.

[8]  كان هذا التمييز يتضمن رفضاً لبدعة سابليوس:

 Athanasius, De syn., 16; cf. De sent. Dion., 5ff; Con. Ar., 3.4, 36; 4.1ff; Ad Ant., 3-6, 11; Con. Ar., 4.2.

*  مصطلح ’هوموأووسيوس‘ هو صفة من مقطعين:  ’هوموس ο̉μος‘ ويعني ذات الشيء الواحد (one and the same) ، و’أوسيا ούσια‘ والذي يعني الجوهر، فيكون المعنى الكامل لمصطلح ’هوموأووسيوس  مع الآب‘: له ذات الجوهر الواحد مع الآب أو واحد مع الآب في ذات الجوهر (of one and the same being with the father). (المترجم)

14  Archbishop Methodios, ‘The Homoousion’, The IncarnationEcumenical Studies in the Nicene-Constantinopolitan Creed, 1981, p.6 (ed. By T. F. Torrance).

15  Athanasius, De decr., 7, 18f; De syn., 12, 35; Con. Ar., 1.9ff; Ad Afr., 4-9; Ad Ser., 2.2-5.

علاقة المسيح ابن الله الكلمة المتجسد بالآب