عام

الله روح، والروح القدس هو الله

الله روح، والروح القدس هو الله

الله روح، والروح القدس هو الله
الله روح، والروح القدس هو الله

تعبير الله “روح”، يشير إلى ماهية الله في جوهره الأزلي

كانت العبارات المتضمَّنة في قانون الإيمان عن الروح القدس تخبرنا عن أمرين رئيسيين في وقت واحد: أولاً أن الله في صميم طبيعته هو روح، وثانيًا أن الروح القدس مع الآب والابن لهم نفس الجوهر الأزلي الواحد للاهوت[1].

وفي الكتب المقدسة وكتابات آباء الكنيسة كانت كلمة “روح” تُستخدم في كثير من الأحيان للتعبير بصورة مطلقة عن الله، خاصة من جهة طبيعته غير المحدودة، والفائقة الإدراك، وغير المنظورة، وغير المادية وغير المتغيرة، وذلك بالمقارنة بطبيعة المخلوقات الإعتمادية والزائلة والمحدودة[2].

فكلمة “روح” تُعبِّر عن ماهية الله في ذاته في الكمال اللانهائي الذي لجوهره القدوس، كما أنها تُخبر أيضًا عن ماهية الله في حريته غير المحدودة تجاه كل شيء آخر عداه: سواء في أن يخلق هذا الشيء من العدم، أو في أن يحفظه في علاقة معه[3].

وحين يذكر الإنجيل بحسب القديس يوحنا أن “الله روح”[4]، فإن المعنى المطلق لكلمة “روح” يشير ببساطة إلى اللاهوت بدون تمييز للأقانيم وهو ينطبق هنا بالتساوي على الآب والابن والروح القدس[5]. وكما يقول القديس إبيفانيوس: “الله روح، روح يفوق كل روح، ونور يفوق كل نور[6]“.

إذن، فعندما يقال أحيانًا عن المسيح ابن الله إنه “روح” فالمقصود هنا ليس مقارنته بالروح القدس، بل مجرد التأكيد على طبيعته الإلهية[7]. وهذا هو ما جعل القديس غريغوريوس النزينزي يستطيع أن يتحدث عن مسح الابن المتجسد بالروح، على أن هذه المسحة هي “بواسطة لاهوته[8]“.

 

كيف يميِّز الكتاب المقدس بين كون الله “روح” وبين “الروح القدس”

إن استخدام كلمة “روح” بمعناها المطلق مع الآب والابن والروح القدس، لا يجب أن تُفهم على أنها تلغي التمايز بين أقانيم (ποστάσεις) الآب والابن والروح القدس، لأن كلمة “روح” إنما المقصود بها التأكيد على طبيعة الجوهر (οσία) الواحد الذي للاهوت، والذي للأقانيم الثلاثة على السواء[9].

وقد أوضح القديس أثناسيوس للأسقف سرابيون أنه عندما يشير الكتاب المقدس إلى الروح القدس مميزًا إياه عن الآب والابن، نجد أن كلمة “روح” تأتي دائمًا معرَّفة أو مضافة إلى إضافات محددة مثل “روح الله” أو “روح الآب” أو “روح الابن” أو “الروح” أو “الروح القدس”[10]، وذلك بطريقة لا تشير إلى وجود أي انفصال قط بين أقانيم الآب والابن والروح القدس لا في الجوهر ولا في الفعل، لأن الثالوث القدوس المبارك هو أساسًا واحد بغير انقسام[11].

 

“الله روح” ولذلك يجب علينا أن نعرفه بطريقة روحية

وتوضح الكنيسة في اعترافها بالإيمان، مكانة الروح القدس بكونه في تلازم وتواجد (احتواء) متبادل مع الآب والابن في اللاهوت الواحد غير المنقسم[12]. وقد أكدت على إيمانها بأن الله في طبيعته الأزلية هو روح[13]، ولذلك يجب علينا أن نعرفه ونفكر فيه بطريقة روحية تقوية وبدون استخدام للصور (التشبيهات) المادية التي لا تليق بالله[14].

وإذ تختلف طبيعة الله بصورة فائقة تمامًا عن طبيعة المخلوقات، وحيث إن الله لا يمكن مقارنته أبدًا بأي شيء نعرفه، فلذلك لا يليق بنا أن نسأل أسئلة بشرية عن اللاهوت، فالله يمكن أن نعرفه، ولكن ليس من (خلال أمور) خارجًا عنه، بل فقط من “ما هو” الله في داخل ذاته[15].

وهكذا، وللمرة الثانية، أثارت عقيدة الروح القدس قضية معرفية كان قد أثارها الأريوسيون في بداية القرن الرابع عندما نادوا بمبدأ: أن ما لا نستطيع أن ندركه كبشر لا يمكن أن يكون موجودًا[16]. أي إنهم تصوَّروا أن حدود إدراكهم هي نفس حدود الحقيقة، ومن ثم وضعوا شروطًا لفهمهم لله ولإدراكهم للإعلان الإلهي[17].

ولكن كان واضحًا تمامًا لدى لاهوتيّ نيقية، أن أنماط التفكير هذه تتحطم من نفسها أمام ربوبية الروح القدس الفائقة الإدراك، مما يعني أن الله يمكن فقط معرفته بواسطة ذاته[18]، فسيادة الله في إعلانه عن ذاته هي بلا أي قيدٍ أو شرط[19].

 

المعرفة الصحيحة للروح القدس لا تكون من خلال أعماله (في الخليقة)، ولكن من واقع علاقاته الأزلية في داخل جوهر الثالوث

لقد صار واضحًا أنه بدون الروح القدس لا تستقيم عقيدتنا في الله كإيمان صحيح ومتكامل[20]، كما أن تضمين عقيدة الروح القدس في داخل عقيدة الله المثلث الأقانيم، أصبح يعني أنه لا ينبغي علينا أن نعرفه (أي الروح القدس) من خلال بعض العلاقات الخارجية، وإنما من خلال علاقته الداخلية الفريدة مع الآب (والابن)[21].

ونُذكِّر القارئ هنا أنه بالنسبة للقديس أثناسيوس، لم تكن الطريقة الصحيحة والخاشعة لكي نعرف الله (الآب) هي من خلال أعمال الخلق التي هي أمور “خارجة عن الله” بل من خلال ابنه الأزلي، لأننا عندئذ نعرفه وفقًا “لما هو” بالحقيقة في ذاته ووفقًا لطبيعته الإلهية بكونه آبًا[22].

وعلى نفس النمط، فإن المعرفة الصحيحة والخاشعة للروح القدس لا تبدأ من مظاهر وأعمال الروح في الخليقة والتي هي أمور “خارجة عن الله”، بل من واقع كون الروح القدس في جوهر اللاهوت الأزلي كروح الآب وروح الابن، أي من واقع علاقاته الداخلية في اللاهوت[23].

وقد ذهب القديس إبيفانيوس بمدخل معرفة الله هذا، إلى أبعد من ذلك إذ قال: وكما أننا نعرف الآب والابن، فقط من داخل العلاقة المتبادلة بينهما في الوجود وفي المعرفة، وكما أن هذه المعرفة يعلنها لنا الله بذاته من خلال الروح القدس، فكذلك نحن يمكننا أن نعرف روح الآب وروح الابن، فقط عندما يسكن فينا ويدخلنا في الشركة مع الثالوث القدوس.

أي إن مدخلنا لعقيدة الروح القدس يجب أن تكون من خلال علاقاته الداخلية “الأقنومية” في جوهر الله المثلث الأقانيم[24]. وهنا نجد أن التركيز كان بلا شك على حقيقة الروح القدس الموضوعية*، لأنه حتى عندما نشترك في روح الله من خلال سكناه فينا، فإن هذا الأمر في عمقه متأصل في السكنى المتبادلة (التواجد والاحتواء المتبادل) التي للآب والابن والروح القدس في الثالوث.

ويعبِّر عن ذلك القديس أثناسيوس بقوله: “إن وجودنا في الآب ليس منا، بل من الروح القدس الذي في داخلنا والذي يسكن فينا … إذن فالروح هو الذي في الله وليس نحن بذواتنا[25]“. فبالنسبة لنا، أن نكون في الروح أو أن الروح ساكن فينا فهذا معناه أننا جُعلنا شركاء مع الله ذاته[26]. ولم يغب عن آباء نيقية أبدًا، أن الروح يسكن فينا بكونه يفوق تمامًا كل الوجود المخلوق؛ ولذا رأوا أن الروح يسكن فيهم بمعنى سكناهم هم في الله. “الروح القدس يُشتَرَك فيه، ولكنه لا يَشتَرِك هو (في أحد)[27] “.

 

حضور الروح القدس، هو الحضور الفعلي المباشر لله ذاته

وإذا نظرنا إلى الروح القدس من هذا المدخل، أي من خلال علاقته الداخلية في الثالوث، سوف نتيقن أن حضوره هو حضور الله معنا في كامل حقيقة جوهره وحياته الإلهية أي إن حضور الروح القدس معنا يكون هو الحضور الفعلي المباشر لله الكلي القداسة ضابط الكل، في مجده وقوته وجلاله الفائق، وفي ألوهيته وقداسته المطلقة.

وفي رسالته إلى سرابيون، يتحدث القديس أثناسيوس عن التقوى (εσέβεια) والخشوع (ελάβεια) الذي يهبهما لنا الروح القدس، حيث نجده يتعجب أمام حقيقة أن الله بإرساله روحه القدوس لنا، لم يعطنا مجرد شيء من ذاته بل ذاته بالفعل، ففي الرب المُحيي (الروح القدس المُعطى لنا)، الله ذاته يكون هو محتوى عطيته.

ويقول القديس أثناسيوس: “عندما نُعطى الروح القدس (إذ يقول المخلِّص”اقبلوا الروح القدس”[28]) فإن الله يصبح فينا، ولهذا كتب يوحنا “إن أحب بعضنا بعضًا، فالله يسكن فينا.. بهذا نعرف أننا نسكن فيه وهو فينا، لأنه قد أعطانا من روحه”[29]، ولكن عندما يكون الله فينا، فالابن أيضًا يكون فينا، لأن الابن نفسه قال: “أنا والآب نأتي ونصنع عنده منزلاً”[30]، وأيضًا بما أن الابن هو الحياة لأنه يقول”أنا هو الحياة”[31] فإننا نُحيَّ بالروح[32]“. وهكذا فإن الحاضر فينا ليس هو مجرد قوته أو عمله الإلهي، بل هو الله ذاته الخالق ضابط الكل في حقيقته الفائقة الإدراك.

ولذلك كان ديديموس واضحاً في اعتراضه على التفريق بين أعمال الله (أو طاقاته) وبين الفعل المباشر لجوهره*، والذي أشار إليه القديس باسيليوس[33]، لأن مثل هذا التفريق من شأنه أن يهدم فهمنا الصحيح لحضور الله الحقيقي فينا بروحه القدوس[34].

ولم ينس لاهوتيّو نيقية كلمة الرب يسوع التي ظل صداها يدوي في الكنيسة الأولى، بأن كل مَن تكلَّم (بسوء) على ابن الإنسان يُغفر له، أما من جدَّف على الروح القدس فلا يُغفر له[35]. وكان لهذا النص أثره في تأييد الكنيسة في توقيرها وعبادتها وسجودها للروح القدس، بكونه بالحقيقة الله في (كامل) ألوهيته وجلاله غير المحدود وفي قداسته المطلقة وربوبيته ومجده الأسنى.

وحيث إن الروح القدس له ذات الجوهر الواحد مع الآب والابن، فيحق له السجود والتمجيد مع الآب والابن والاعتراف بأنه الله[36]. وهنا نجد أن الكنيسة وهي تسبح تسبحة الثلاثة تقديسات التي في الليتورجيا، والمقدَّمة للآب والابن والروح القدس، وتترنم بها على الأرض إنما هي تردد ما يسبح به الملائكة والسيرافيم بغير انقطاع حول العرش في السماء[37].

وهنا نطرح ملاحظتين هامتين ينبغي الانتباه لهما بالنسبة لهذا المدخل في عقيدة الروح القدس:

في الروح القدس يظل سر الله محفوظًا، لأنه حاضر بيننا بنمط أقنومه الشفاف والخفي*

الملاحظة الأولى، هي أنه في الروح القدس، يظل سر الله الذي لا يُنطق به محفوظًا، لأنه في حين نحن في الروح القدس نتقابل مع الله ونوجد في حضوره، إلاّ أن الروح القدس يبقى غير مدرَك بالعقل ولا يمكن معرفته في ذاته[38].

والروح القدس هو “روح” ليس فقط في جوهره (οσία) والذي هو أمر مشترك بينه وبين الآب والابن ولكن أيضًا في أقنومه (πόστασις) المتمايز أو نمط كيانه الشخصي (personal mode of being) بكونه “الروح”، لأنه إذ يُدعى “الروح القدس” فهو يتمايز عن نمط الكيان الأقنومي (الشخصي) الذي لكل من الآب والابن، في حين أنه واحد معهما تمامًا في ذات الجوهر (μοούσιος)[39].

والروح القدس هو “روح من روح، لأن الله (الآب) ذاته هو روح (Πνεμα κ Πνεματος, Πνεμα γρ  Θεός)[40] “.

وفي حين أن الآب والابن يُعلنان لنا، كل في أقنومه (πόστασις) المتمايز لأننا في الروح القدس نُعطَى أن نشترك في معرفة الآب للابن وفي معرفة الابن للآب إلاّ أن الروح القدس لا يُعرف مباشرةً في أقنومه الخاص لأنه يبقى محتجبًا وراء ما يقدِّمه من إعلان فعليّ عن الآب والابن[41]. وهو روح الحق غير المنظور المُرسل من الآب باسم الابن، وليس باسمه الشخصي بكونه الروح القدس، ولذلك فهو لا يتكلَّم من نفسه بل كل ما يسمع يُخبر به[42].

والروح القدس لا يُظهِر لنا ذاته، ولذلك لا يستطيع العالم أن يقبله أو يعرفه[43]. وهو يُظهِر لنا وجه الآب في الابن، ووجه الابن في الآب، ومن هنا يمكن القول عن الروح القدس أنه هو “وجه الآب” من جهة أنه يجعل وجه الآب يُرى في الابن[44]. وبينما في الله هناك ثلاثة أقانيم، إلاّ أنه توجد هيئة (εδος) واحدة (للاهوت) تنبع من الآب وتتألق وتشع في الابن وتصير ظاهرة ومدرَكة من خلال الروح القدس[45].

والروح القدس بنمط وجوده الأقنومي كروح من روح، فإنه يُخفي نفسه عنا، وراء الآب في الابن، ووراء الابن في الآب، ولذا فنحن لا نعرفه وجهًا لوجه في أقنومه (πόστασις) الذاتي[46]. وبالروح القدس، الكلمة صار جسدًا وحلّ بيننا ولكنه لم يكن هو الكلمة، وبالروح القدس تجسد ابن الله ولكن الروح لم يجسِّد نفسه بيننا. إنه هو الروح الواحد الذي فيه يوصِّل الآب ذاته لنا من خلال ابنه، وفيه أيضًا نصل إلى الآب بواسطة الابن.

والروح القدس هو النور غير المنظور الذي في بهائه نرى نور الله (الآب) ظاهرًا في يسوع المسيح، وهو نفسه يُعرف فقط في كونه هو الذي يضيء (لنا) وجه الله الآب في وجه يسوع المسيح[47]. والروح القدس حاضر بالحقيقة بأقنومه بيننا، ولكن بنمط كيانه الشفاف والخفي[48]، وبما إنه واحد في ذات الجوهر مع الآب والابن فإنه (وهو فينا) يلقي بنوره الأزلي على (وجه) الآب في الابن وعلى (وجه) الابن في الآب، ولذا يقول القديس باسيليوس: “إن ذهننا الذي استنار بالروح، ينظر إلى الابن وفيه (أي في الابن)، كما في صورة يرى الآب[49]“.

وبهذه الطريقة، فإن الله “الآب والابن والروح القدس” الثالوث غير المنقسم، يضيء علينا من خلال الروح القدس بنوره المثلث، ويقول القديس أثناسيوس: “وعندما يكون الروح القدس فينا، فالكلمة الذي يعطي الروح يكون فينا أيضًا، وفي الكلمة يكون الآب. وهذا يتفق مع ما قيل “وإليه نأتي (أنا والآب) وعنده نصنع منزلاً”. لأنه حيثما يكون النور فهناك يكون الشعاع أيضًا، وحيثما يكون الشعاع فهناك أيضًا يكون فعله ونعمته الخافقة[50]“.

ونجد نفس المعنى عند القديس غريغوريوس النزينزي؛ إذ يقول: “بمجرد أن أفكر في الواحد، أجدني مستنيرًا ببهاء الثلاثة، وبمجرد أن أميِّز بينهم، أجدني عائدًا إلى الواحد. عندما أفكر في أحد الثلاثة (أقانيم) أفكر فيه بكونه الكل، وتمتلئ رؤيتي، وأجد أن ما فكرت فيه أكثره قد هرب مني، ولا أستطيع أن أدرك مقدار عظمة ذلك الواحد حتى ما أنسب عظمة أخرى للأقنومين الآخرين.

وعندما أتأمل في الثلاثة أقانيم معًا، لا أرى إلاّ منيرًا واحدًا لا يمكن تقسيمه أو قياس نوره غير المنقسم[51]“. إذن، فأقانيم الثالوث القدوس الثلاثة ينبغي علينا أن نعرفهم ونسمع لهم ونسجد لهم ونمجدهم بكونهم واحد تماماً[52].

وهكذا من خلال نمط وجوده الأقنومي الذي لا يُعبَّر عنه، يجعلنا الروح القدس نتقابل مع عظمة الله المطلقة التي لا توصف، لأننا فيه (أي في الروح) نتلامس مباشرةً مع الكليّ القداسة ضابط الكل الذي تتوقف أمامه في خشوع وسجود كل أشكال الفكر والكلام. ونستشهد هنا أيضًا بقول القديس أثناسيوس في رسائله لسرابيون: “إلى هذا الحد تبلغ المعرفة البشرية. وعندئذ يبسط الشاروبيم أجنحتهم للتغطية[53]“.

 

في الروح القدس، الله يجعل نفسه مُتاحًا لأن نعرفه

الملاحظة الثانية بالنسبة لهذا المدخل في عقيدة الروح القدس، هي أنه على الرغم من أن جوهر الله الأزلي يفوق بصورة لا نهائية حدود إدراكنا إلاّ أن الله ليس مغلقًا أمامنا تمامًا، لأن الروح القدس يعني تحرك الله “نحو الخارج”، والذي فيه (أي في الروح) يجعل الله نفسه متاحًا لأن نعرفه.

وكون الله لا يُنطق به ولا يُعبَّر عنه، لا يعني أنه غير قابل للإدراك أو المعرفة[54]، لأن الله في داخله مُدرَك وقابل للمعرفة، وهذا هو أساس ومصدر معرفتنا له بواسطة يسوع المسيح الكلمة الذي صار جسدًا وفي الروح القدس. ولذا نجد أن القديس باسيليوس يتحدث عن الروح القدس بكونه “روح المعرفة”، لأنه “في ذاته، يُظهِر مجد الابن الوحيد المولود، وفي ذاته يمنح معرفة الله للعابدين المخلصين. إذن، فالطريق إلى معرفة الله يتحرك من الروح القدس الواحد بواسطة الابن الواحد إلى الآب الواحد[55]“.

وحقيقة أن الروح القدس في نمط وجوده الأقنومي وفي فعله، له ذات الجوهر الواحد (μοούσιος) مع الآب والابن إنما تؤكد لنا أن حضور الروح القدس ينقل إلينا حقيقة إعلان الله عن ذاته بالكلمة المتجسد، لأن كلمة الله وروح الله هما في تلازم وتواجد (احتواء) متبادل بغير انفصال[56]. ويقول القديس أثناسيوس: “(كل) ما يُقال من الله، يُقال بالمسيح (الابن المتجسد)، وفي الروح القدس[57]“.

وبما أن الله له فعل واحد وتحرك واحد (نحونا) للإعلان عن ذاته: من الآب بالابن في الروح القدس[58]، فإن هذا يخبرنا بأن عظمة الله التي لا يُنطق بها هي إيجابية وليست سلبية، لأن الله بجعل نفسه معروفًا بالحقيقة لنا بواسطة الابن وفي الروح القدس، قد أظهر عظمته بشكل يفوق كل ما يمكن أن نتصوره. والوحيد الذي يستطيع أن يعلن الله لنا، هو روح الله الذي يعرف ما في داخل الله “لأن الروح يفحص كل شيء حتى أعماق الله[59]“.

وبما أن الروح القدس قد أُرسل لنا من الآب باسم المسيح لكي يشهد له ولكي يرشدنا إلى كل الحق لأنه هو روح الحق، فإنه (أي الروح القدس) يعطينا وبصورة مذهلة وصولاً إلى معرفة الله وإدراكه، ولكن مع الحفاظ على السر المطلق الذي لا يُعبَّر عنه الذي لجوهره الإلهي. ويقول القديس إبيفانيوس: “وبكونه آتيًا إلينا (أي مُرسلاً) من الآب والابن*، فإنه هو وحده الذي يرشدنا إلى الحق … (وهو) معلِّم الرسل، والمصدر المنير للعقائد الإنجيلية، ومنظم الأمور المقدسة، وهو نور حقيقي من نور حقيقي[60]“.

وهكذا من خلال شركتنا مع الروح القدس، أُعطينا أن نرتفع إلى معرفة الله وفقاً لما هو في ذاته، ولكن في نفس الوقت حُفظنا من تعدي حدودنا ونحن أمام قداسة الله وجلاله ونوره الذي لا يدنى منه.

 

58 Athanasius, Con. Ar., 3.15, 24; Ad Ser., 1.11-14, 17, 22, 24-28; 3.1-5; 4.3, 6f; Ad Jov., 1.4; Ad Afr., 11.

[2] مثل ما جاء في إشعياء 3:31؛ 11:51.

[3] مثل ما جاء في مز 29:104-30.

[4] يو 24:4.

62 See Origen, De prin., I. 1-4; Eusebius, De eccl. theol., 3.5; Gregory Nyss., Ant. Con. Eun., 2.14, Jaeger, vol. 2, p. 389; Cyril of Jer., Cat., 11.5ff; 17.34; Epiphanius, Haer., 73.16-18; 74.7; Anc., 70; Didymus, De Trin., 2.5.

63 Epiphanius, Haer., 70.5.

64 See Athenagoras, Leg., 10; Theophilus, Ad Aut., 2.10; Tertullian, Adv. Prax., 26f; Apol., 23; Adamantius, Dial., 5.11; Hilary, De Trin., 2.24, 26; 8.23f; 9.3, 14; Gregory Naz., Or., 38.13; Ep. 101; Amphilochius, ap. Theodoret, Dial., 1, MPG, 83.99.etc.

65 Gregory Naz., Or., 10.4; 30.21; see also Athanasius, Con. Ar., 1.46; 4.36; Con. Apol., 2.3.

66 Epiphanius, Anc., 73; Haer., 62.1ff; 69.53; 74.10.

67 Athanasius, Ad Ser., 1.4-7; see Cyril of Jer., Cat., 16.3; 17.4.

68 Athanasius, Ad Ser., 1.14, 20, 27f, 30f; 3.5f; 4.7; Con. Ar., 3.15, etc. Cf. Basil, Hom., 111.4-6.

69 See Hilary, De Trin., 3.1-4.

70 Eusebius, Hist. eccl., 3.5; Athanasius, Con. Ar., 2.33, 41; 3.1-6; De decr., 26; Ad Ser., 1.26; Cyril of Jer., Cat., 17.34; Basil, De Sp. St., 9.22, 25, 53; Gregory Nyss., Con. Eun., 2.14; cf. Origen. In Jn., 13.21f; Novatian, De Trin., 5ff; Tertullian, Adv. Prax., 26; Hilary, De Trin., 2.26; 3.4; 4.6.

71 Athanasius, Ad Ser., 1.17-25.

72 Athanasius, Ad Ser., 1.15, 18; 4.2-5; Con. Ar., 1.15, 20ff, 57; 2.36; Gregory Naz. Or., 30.20; 31.7; Hilary, De Trin., 2.29ff; 4.1; 5.20f.

73 Basil, Con. Eun., 2.24.

74 Hilary, De Trin., 1.13, 15, 3.1, 20, etc.

75 See Hilary, De Trin., 12.55f.

76 Thus Karl Barth in his account of the Nicene doctrine of the Spirit – C.D., 1.1, pp. 468f.

[20] يقول القديس هيلاري في كتابه عن الثالوث (29:2): “إن الروح القدس مرتبط مع الآب والابن في اعترافنا بالإيمان، ولا يمكن استبعاده من أي اعتراف سليم بالآب والابن”. انظر أيضاً:

H.B. Swete with reference to Athanasius, op. cit., p. 220.

78 Athanasius, Con. Ar., 3.3-6, 24f; Ad Ser., 1.14, 25; 3.5f; 4.3f.

79 Athanasius, De decr., 30f; Con. Ar., 1.33f.

80 Athanasius, Con. Ar., 3.15, 24f; Ad Ser., 1.25; 3.5.

81 Epiphanius, Haer., 57.4f; 62.1f, 6;74.9ff; 72.22; Anc., 5, 10f, 67f, 72, 81; cf. Didymus, De Trin., 3.37-38; Cyril of Jer., Cat., 6.6; 7.11; 16.1ff; 17.1ff.

* أي وجوده الأزلي وعلاقاته الأقنومية في جوهر الله المثلث الأقانيم، وليس مجرد نشاطه وأعماله في الخليقة. (المترجم)

82 Athanasius, Con. Ar., 3.24-25.

83 See Theol. in Reconcil., pp. 231-239.

84 Athanasius, Ad Ser., 1.27; Gregory Naz., Or., 41.9.

[28] يو 22:20

[29] يو 12:4

[30] انظر يو 23:14

[31] يو 6:14

89 Athanasius, Ad Ser., 1.19; cf. 1.20.

* ارجع إلى الفصل الرابع صفحة 195. (المترجم)

90 Basil, Ep., 234.1; cf. 235.2; 236.1ff; Con. Eun., 2.32.

[34] ولذلك نجد ديديموس الضرير يتحدث عن حضور الروح القدس الساكن فينا بكونه هو حضور الله بذاته (secundum substantiam) وليس مجرد بأفعاله (secundum substantiam): (De Sp. St., 23ff, 60f; De Trin., 2.6.7). قارن هذا مع:

Basil, Ep., 234.1-3; 235.2f; Con Eun., 1.14, 23; 2.32; De obs. se, 7, Athens ed., 54, p. 36; cf. Gregory Naz., Or., 38.7.

ارجع أيضاً إلى مفهوم القديس أثناسيوس في (De decr., 11). وانظر كذلك:

Theol. in Reconst., pp. 210, 213f; Theol. in Reconcil., pp. 235f; and E. L. Mascall, Existence and Analogy, 1949, pp. 148ff.

 

[35] مت 31:12؛ مر 28:3؛ لو 10:12. انظر:

Athanasius, Con. Ar., 1.50; Ad Jov., 1; Ad Afr., 11; Ad Ser., 1.1f; 3.7; 3.8ff, 16ff, Athens ed., 33, p. 139f, 143ff; Basil, De Sp. St., 46, 70, 75; Hom., 111.5ff; Con. Eun., 2.33; Or., 35; Ep., 152.3; 188. 1; 251.4; Gregory Nyss., De Sp. St., Jaeger, 3.1, p. 106f; Gregory Naz., Or., 31.30; Didymus, De Trin., 2.26; 3.2.54; 3.40; De Sp. St., 1, 63; Con. Eun., Athens ed., 44, p. 259; Amphilochius, Con. Haer., 17; Ep. Syn., 4; Epiphanius, Anc., 69, 116; Haer., 54.2; 74.6, 14; Cyril of Jer., Cat., 4.16; 5.5; 16.1, 6, etc.

93 Athanasius, Ad Jov., 4; Ad Ser., 1.31; Basil, De Sp. St., 3, 26, 64, 73; Ep., 90.2; 159.2; 258.2; Gregory Naz., Or., 31.12, 28; Gregory Nyss., De Sp. St., Jaeger, 3.1., pp. 92ff, 108ff; Ep., 24; Amphilochius, MPG, 39.97B; Didymus, De Trin., 2.21f; Con. Eun., Athens ed., 44, pp. 245, 247; Epiphanius, Anc., 70, 117, 119; Haer., 70.6f; Cyril of Jer., Cat., 4.16; 16.1ff.

94 Apost. Const., 8.12; Serapion, Euch., 13, Athens ed., 43, p. 76; Basil, Lit., Athens ed., 56, p. 28f (cf. Brightman, op. cit., p. 402); De Sp. St., 38; Gregory Nyss., Con. Eun., 1.23; Athanasius, In ill. om., 6; Epiphanius, Haer., 76. Ref. Aet., 10; Anc., 9, 26, 69; Didymus, De Trin., 2.7, 19; Cyril of Jer., Cat., 23.6; Gregory Naz., Or., 34.13; 38.8 & 45.4 (Cited by John of Damascus, De fide, 3.10). Cf. also the discussion of Isaiah’s vision, 6.1ff, in Ps. Athanasius, De Trin. et Sp. St., 16 and De Inc. et Con. Ar., 10.

* بما أن الروح القدس يدعى ’الروح‘، فإنه هو ’روح‘ ليس فقط في جوهره (مثل الآب والابن) ولكن أيضًا في نمط أقنومه. ولذلك فإنه يظل مختفيًا وشفافًا ولا يُدرك في ذاته ولا نعرفه وجهًا لوجه في أقنومه الخاص، ولكننا نعرفه فقط في كونه يعطينا معرفة الآب والابن. (المترجم) 

[38] يقول القديس باسيليوس عن الروح القدس (De Sp. St., 44, 53. Cf. 22): “إن اسمه الخاص والشخصي هو ’الروح القدس‘، وهو اسم ينطبق تماماً على كل شيء غير جسدي وغير مادي وغير منقسم”.

96 Epiphanius, Haer., 73.16, 25; 74.10ff Anc., 8,72ff.

97 Epiphanius, Haer., 73.17; 74.7; Anc., 70.

98 See Didymus, De Trin., 3.36ff; Epiphanius, Anc., 6f, 10f, 67f, 73; Cyril of Jer., Cat., 16.3, 5, 13, 24.

[42] يو 16:14، 25؛ 26:15؛ 13:16. انظر:

Athanasius, Ad Ser., 1.20; 3.1; Con. Ar., 1.15; 3.44; Hilary, De Trin., 7.20; 8.20; Didymus, De Sp. St., 30-38; Cyril of Jer., Cat., 16.14; Epiphanius, Haer., 48.12; 62.4, 7; 69.18, 34;74.1,4,6,9ff; 76.4,7; Anc., 6ff, 11,73,120; Gregory Nyss., De Sp. St., Jager, 3.1, p. 108, etc.

[43] يو17:14. انظر (Cf. A.I.C. Heron, op. cit., p.56): “الروح القدس هو (مرآة) يعكس صورة المسيح بنفسه، ولكن المرآة لا تنقل أية صورة إلى ’العالم‘”.

101 Thus Cyril of Alex., Thes., 34.

102 Ps. Athanasius/Basil, Con. Sab., 12. Cf. Gregory Nyss., De Trin., Jaeger, 3.1, p. 13.

103 See Gregory/Basil, Ep., 38.4.

[47] يقول القديس باسيليوس في كتابه عن الروح القدس (47): “الروح القدس هو الذي يعلن في ذاته مجد الابن الوحيد،… إذن طريق معرفتنا بالله يبدأ بالروح الواحد من خلال الابن الواحد إلى الآب الواحد”.

105 Cf. Basil, De Sp. St., 22f; 46f.

106 Basil, Ep., 236.

 انظر أيضاً ما قاله القديس باسيليوس في كتابه عن الروح القدس (64): “إنك لا تقدر أن ترى صورة الله غير المنظور إلاّ في استنارة الروح. وفي نظرنا إلى الصورة لا يمكن أن نفصل النور عن الصورة، لأنه لا بد لهذا النور الذي يسبب رؤيتنا أن يُرى هو نفسه مع الصورة التي نراها”.

107 Athanasius, Ad Ser., 1.30 & 1.19.

108 Gregory Naz., Or., 40.1 See also Or., 39.11; Ps. Gregory Naz., Ep., 243; Gregory Nyss., De Sp. St., Jaeger, 3.1, p. 108f; Epiphanius, Haer., 69.33; 70.5; 74.7f, 10; Anc., 61; Didumus, Con. Eun., Athens ed., 44, p.255f.

109 Didumus, De Trin., 2.36; and Cyril of Alex., In Jn., 15.1.

110 Athanasius, Ad Ser., 1.17.

ومن هنا كانت الصعوبة الحقيقية في صياغة عقيدة الروح القدس، لأن الروح القدس هو إله من إله ويأتينا في نمطه الأقنومي بكونه ’الروح‘ أي بالتحديد بكونه ’غير القابل للمعرفة‘ (في ذاته)! انظر أيضًا:

 ‘The Epistemological Relevance of the Spirit’, God and Rationality, pp. 165-192.

[54] يقول القديس باسيليوس في رسالته (2:235): “نحن نقر أننا نعرف عن الله ما هو قابل للمعرفة، ومع ذلك فما نعرفه يفوق بكثير قدرتنا على التعبير”.

112 Basil, De Sp. St., 47.

113 Athanasius, Ad Ser., 1.14, 19, 21, 30f; 4.4.

114 Athanasius, Ad Ser., 1.14.

115 Athanasius, Ad Ser., 1.19ff, 27f, 30f; 3.5; Didymus, De Sp. St., 34-39; De Trin., 2.1; Basil, Con. Eun., 3.4; Gregory/Basil, Ep., 189.6f; Gregory Nys., non tres dei, Jaeger, vol.3.1, pp. 47f, 55f; cf. Ex comm.. not., Jaeger, 3.1, pp. 3f; De Sp. St., Jaeger, 3.1, pp. 97-100, 105ff, 109; Gregory Naz., Or., 31.6, 16.

[59] 1كو 10:2. وكانت هذه الفقرة ذات تأثير قوي على الفكر اللاهوتي النيقي انظر:

Athanasius, In ill. om., 1; Exp. fidei, 2; Ad Ser., 1.6, 15, 22, 26; 3.1; 4.1; Basil, De Sp. St., 10, 38, 40, 50; Con. Eun., 1.14; Gregory Nyss., Con. Eun., 2, Jaeger, 1, pp. 289, 340; 3, 1, II, p. 160; Gregory Naz., Or., 28.6; 30.15; 40.9; 43.65; Amphilochius, Fr., 5; Cyril of Jer., Cat., 4.16; 6.6; 11.13; 16.23; Didymus, Con. Man., 40; De Trin., 1.9, 15; 2.2f, 5, 6.14f, 7.8; 3.37; De Sp. St., 15, 31, 40, 54f; Con. Eun., Athens ed., pp. 232, 251f, 255, 260; Epiphanius, Anc., 7, 12, 15f, 68, 117; Haer., 74.1,5, 11, 13; 76.29.

* هنا المقصود هو إرسالية الروح القدس من الاب باسم الابن وليس انبثاقه الأزلي من الآب. (المترجم)

117 Epiphanius, Anc., 73; cf. 15f; Haer., 74.10; 76.Ref. Aet., 29.

الله روح، والروح القدس هو الله

تقييم المستخدمون: 4.85 ( 2 أصوات)