أبحاثآبائيات

رسائل القديس أنطونيوس ج1

رسائل القديس أنطونيوس ج1

رسائل القديس أنطونيوس ج1

رسائل القديس أنطونيوس
رسائل القديس أنطونيوس

مؤسسة القديس أنطونيوس – مركز دراسات الآباء

رسائل القديس أنطونيوس

ترجمة بيت التكريس لخدمة الكرازة

مقدمة

ملامح من حياة الأنبا أنطونيوس (251-356)

          ولد أنطونيوس حسب رواية المؤرخ الكنسي سوزمين سنة 251م في كوما Coma الآن “قمن العروس” قرب بوش – محافظة بني سويف – (سوزمين تاريخ الكنيسة 1: 13) – وقد سجل القديس اثناسيوس الكثير عن هذا الرجل الذي وصفه بأنه “مؤسس الرهبنة” وانسان نال “الحكمة الالهية” (حياة انطونيوس بقلم اثناسيوس: 72). ولم يتعلم انطونيوس علوم الدنيا، بل لقد سجلت المصادر التاريخية الموثوق منها انه لم يكن يعرف القراءة والكتابة. وقد أراد البعض أغاظته بأنه لا يعرف شيئاً عن الآداب والعلوم، فأجاب على هذه الإغاظة بقوله “حسناً ماذا تقولون؟ أيهما سبق الآخر: العقل ام الحروف؟ وأيهما هو السبب في وجود الآخر: العقل هو السبب في وجود الحروف أم الحروف هي السبب في وجود العقل؟ وعندما اعترف هؤلاء بأن العقل هو السبب في وجود الحروف وان العقل هو الذي اخترعها. أجاب انطونيوس “من له عقل صحيح ليس له احتياج إلى الحروف” (حياة انطونيوس: 72 – سقراط، تاريخ الكنيسة 4: 23). ولم يكن انطونيوس عاطل العقل فقد سأله أحد الفلاسفة: “أيها الأب كيف يمكنك الصمود في هذه الحياة الصعبة وأنت قد حُرمت من تعزيات الكتب؟” أجاب انطونيوس “ان كتابي ايها الفيلسوف هو الكون ولذلك أنا استطيع أن أقرأ لغة الله في أي وقت أشاء” (سقراط 4: 23). وهذه الإجابة ليست بسيطة ولا تنم عن سذاجة وجهل وانما تؤكد أن المعرفة الروحية لا تحتاج إلى علوم الفلسفة والطب والزراعة والصيدلة.. الخ. وانما تحتاج إلى القلب والعقل اليقظ الذي يرغب في معرفة الله. وعندما يتحول الكون والطبيعة إلى كتاب يقرأ فيه الإنسان لغة الله فإن هذا الإنسان لا يحيا في فراغ الجهل الذي خاف منه هذا الفيلسوف وانما في ملء معرفة حكمة الله. ويكفي أن القديس اثناسيوس سجل هذه الملاحظة الدقيقة عنه “لقد نال انطونيوس شهرة واسعة – ليس بسبب الحكمة العالمية وليس بسبب فن أتقنه وإنما بسبب خدمته لله” (حياة أنطونيوس: 93).

          في مقدمة السيرة يذكر القديس اثناسيوس أن انطونيوس ولد من أسرة غنية مسيحية وانه بعد وفاة والديه بستة أشهر أي أن عمره كان حوالي 18 سنة – دخل إلى الكنيسة وسمع قول الرب المشهور “إن أردت أن تكون كاملاً فاذهب وبع كل مالك وتعال اتبعني” وقد علق أحد الآباء على هذه الحادثة بقوله “ان انطونيوس لم يسمع هذه الكلمات من المسيح في الجسد وانما سمعها من قارئ في الكنيسة فذهب إلى منزله فوراً، وقرر أن يعمل ما فيها ولذلك لا يجب أن نتمنى أن نكون معاصرين لابن الله وهو في الجسد بيننا وانما علينا أن نكون معاصرين عمله في النفس وان نختبر ما في كلماته من حق ليس بالجدل العقيم بل بطريق الطاعة الشاق”. وهكذا اختبر انطونيوس وكان اختباره برهان على صدق مواعيد الإنجيل. والاختبار هو طريق واضح لفهم الانجيل وتذوقه. وليس لدى الإنسان سوى هذا الطريق الواحد الذي يؤدي إلى أسرار الله.

          ولأن كل الطرق الأخرى فاشلة، فشل كثيرون من العباقرة والعلماء في سلوك الطريق الضيق.

          ولم يكن انطونيوس وحده في طريق الله لأنه عندما أراد أن يبيع قسماً من أملاكه ويبقي على جزء لأخته تذكر القول الإلهي “لا تفكروا في الغد”. وعندما استراح لقول الرب ترك أخته في رعاية سيدة مسيحية قديسة ووزع كل أمواله (سوزمين 1: 13). وهنا نلمح بشكل أساسي أن وجود القديسين في هذه الدنيا هو أحد الوسائل الأساسية التي تساعدنا على تذوق أسرار الله واختبار طاعته لأن ما قدمته هذه المرأة القديسة من عناية بأخت انطونيوس كانت دون شك أحد عوامل الاستقرار ولكن انطونيوس كان شجاعاً في تنفيذ الوصية بشكل لم يجعله يتردد أو يخاف.

          وقد سلك انطونيوس طريقه الشاق فكان أول من ارتاد البراري وجعل الحياة النسكية تمتاز بسكنى الصحراء لأن الذين سبقوه كانوا يعيشون قرب الأماكن الآهلة أي المدن والقرى ولكنه سكن قلعة قديمة قرب قمن العروس مدة عشرين عاماً ولكنه وجد نفسه مضطراً للخروج من هذه العزلة في عام 311م. وعندما أثار مكسيميانوس الاضطهاد على الكنيسة والذي استشهد فيه القديس بطرس خاتم الشهداء اضطر انطونيوس إلى الذهاب إلى الاسكندرية لكي يشدد من عزيمة المؤمنين وهو ما يؤكد أن عزلة وتوحد انطونيوس لم يقطعا محبة الكنيسة والاهتمام بالأيمان من قلبه مطلقاً. وقد كانت نتيجة هذه الرحلة هي التوغل بشكل أعمق في البرية فعاد من الاسكندرية إلى البحر الأحمر إلى البقعة الكائن فيها ديره الآن. وقام بزراعة جزء صغير من الأرض لكي يقيت نفسه.

          واضطر انطونيوس إلى العودة مرة ثانية إلى الاسكندرية في سنة 335م يطلب البابا اثناسيوس الرسولي لكي يقاوم معه البدعة الأريوسية وظل في الاسكندرية مدة غير معروفة عاد بعدها إلى الصحراء حيث ظل فيها إلى أن رقد في الرب سنة 356م بعد أن قضى على هذه الأرض 105 عاماً.

الرسائل:

          يذكر البابا اثناسيوس في كتاب “حياة انطونيوس” أن القديس انطونيوس تلقى الكثير من الرسائل من الأباطرة قسطنطين – قسطنطينوس – قنسطنس، وانه لم يهتم بهذه الرسائل. وقال للرهبان “لا تتعجبوا إذا كان الامبراطور يكتب لنا فهو انسان مثلنا وجدير بكم أن تتعجبوا بالحري من أن الله قد كتب الناموس للإنسانية ثم بعد ذلك كلمنا في ابنه الوحيد”. وبعد ذلك يذكر القديس اثناسيوس أن انطونيوس كتب بعد ذلك إلى هؤلاء الأباطرة “يوصيهم أن يعبدوا المسيح وأعطاهم وصايا خلاصية بأن لا يهتموا بمجد هذا العالم وانما أن يتذكروا دائماً الدينونة الآتية وان يعرفوا أن المسيح وحده هو الملك الأبدي والحقيقي. وقد توسل إليهم ايضاً أن يكونوا أكثر انسانية وان يهتموا بالعدل وان يهتموا بالفقراء” (حياة انطونيوس: 81). وتسجل هذه السطور ليس فقط رسائل انطونيوس التي كتبها لعظام عصره بل تعطي لمحة عن شخصية المتوحد الذي يطلب من الحاكم أن يكون عادلاً وان يهتم بالفقراء مما ينفي عن انطونيوس تهمة “المانوية” التي لصقها به بعض مفكري الغرب.

الرسائل السبع:

          احتفظت لنا الوثائق القديمة بسبعة رسائل للقديس انطونيوس بالقبطية والسريانية واليونانية. وهي أقدم إشارة جاءت في كتاب “مشاهير الرجال” لجيروم: “كتب انطونيوس الراهب الذي سجل اثناسيوس – أسقف الاسكندرية – حياته، سبعة رسائل بالقبطية إلى عدة أديرة وهي رسائل رسولية في منهجها وأسلوبها وقد تُرجمت إلى اليونانية. وأهم هذه الرسائل، الرسالة إلى الذين في ارسينوي (فقرة 88). وبالتالي حصر جيروم عدد الرسائل وذكر أهمها وهي الرسالة إلى ارسينوي – أي منطقة الفيوم – (الرسالة السادسة). وقد وصلنا النص القبطي الأصلي ليس لكل الرسائل السبعة بل بداية الخامسة ونهاية السادسة وكل السابعة وبذلك تكون الترجمة اليونانية والسريانية ثم الأرمنية هي النص الكامل الوحيد. وقد وصلتنا الرسائل السبع مضافاً اليها ثلاثة عشر رسالة أخرى باللغة العربية. ويقف علماء كتابات الآباء موقف الشك من باقي الرسائل ويتمسكون فقط بما ذكره جيروم أي الرسائل السبع فقط، وان كان من الواضح أن العالم الكاثوليكي كواستن Quasten لا يرفض أن باقي الرسائل – أي الثلاثة عشر رسالة – من وضع أحد تلاميذ انطونيوس وهو الأنبا أموناس، وتظهر فيها ايضاً روح انطونيوس وافكاره.

الطبعات الهامة للرسائل السبع والترجمات:

          تُعد الترجمة اللاتينية في مجموعة الآباء باليونانية طبعة Migne هي أهم طبعة يستخدمها علماء الرهبنة من الأجانب (مجلد 40: 977-1000) وبعدها الترجمة السريانية ثم الأرمنية مع ما تبقى من النصوص القبطية.

          أما الترجمات الحديثة فقد كانت أهم الترجمات والدراسات للعالم الكاثوليكي L. Bouyer في كتابه المعروف باسم “حياة انطونيوس” دراسة للحياة الروحية الرهبانية وقد صدر عام 1950م. ثم جاءت الترجمة الانجليزية مع مقدمة مختصرة للعالم الانجليكاني الذي كرس حياته لدراسة الرهبنة Fr. Derwas Chitty الأب درواس شيتي والتي صدرت عام 1975م بأكسفورد بانجلترا وهي أول مرة تظهر فيها الرسائل السبع بالانجليزية.

وهذه الترجمة العربية للرسائل السبع:

          هي عن الترجمة الانجليزية للأب درواس شيتي Fr. Derwas Chitty وقد تمت مقارنتها في كثير من المواضع بالترجمة العربية القديمة المترجمة عن القبطية، والمطبوعة بمطبعة التوفيق بالفجالة بالقاهرة 1899م بعنوان “روضة النفوس في رسائل القديس انطونيوس” وذلك من أجل الوصول إلى أفضل القراءات قدر المستطاع.

          وقد قام بهذه الترجمة بعض الإخوة والأخوات من أعضاء “التكريس البتولي” وقد اشترك الدكتور جورج حبيب بباوي معنا في مراجعة الترجمة كما كتب هذه المقدمة. ليعوض الرب كل من له تعب في هذا العمل، بكل نعمة من فيض الروح القدس الذي لا ينضب، بصلوات أبينا القديس العظيم الأنبا انطونيوس. آمين.

مقدمة الطبعة الثالثة

          صدرت الطبعة الأولى لهذه الرسائل سنة 1979م. ثم صدرت الطبعة الثانية سنة 1984م. وأصدر الطبعتين “بيت التكريس لخدمة الكرازة” والآن تقوم مؤسسة القديس انطونيوس بنشر هذه الطبعة الثالثة بعد تنقيح وتصحيحات في الطبعتين السابقتين. ولإلهنا الثالوث القدوس كل حب وسجود وتمجيد وتسبيح الآن والى الأبد. آمين.

الرسالة الأولي

(رسالة من أنطونيوس المتوحد ورئيس المتوحدين إلى الأخوة الساكنين في كل مكان)

          أولاً وقبل كل شئ أهدى سلامى إلى محبتكم في الرب !..

          أرى يا إخوة أن النفوس التي تقترب من محبة الله هي ثلاثة أنواع، سواء من الرجال أو من النساء.

          1ـ النوع الأول هم أولئك الذين دُعوا بناموس المحبة الذي في طبيعتهم، تلك المحبة التي غُرست فيهم من الصلاح الأصلي عند خلقتهم الأولي ـ وعندما جاءت إلىهم كلمة الله، لم يشكوا فيها مطلقًا. بل قبلوها وتبعوها بكل استعداد ونشاط، مثل ابراهيم أب الآباء. فلما رأي الله أنه لم يتعلم محبة الله عن طريق تعلىم البشر وإنما تعلمها من الناموس المغروس في طبيعة خلقته الأولى، ظهر الله له وقال ” أخرج من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك إلى الأرض التي سوف أريك” (تك1:12) فخرج دون أن يشك، بل كان مستعدًا لدعوته. إن ابراهيم هو نموذج لهذا النوع من الاقتراب إلى محبة الله، والذي لايزال موجودًا إلى الآن في أولئك الذين يسلكون في خطواته. إنهم يتعبون طالبين مخافة الله بالصبر والسكون ويحصلون على الحياة الحقيقية لأن نفوسهم مستعدة لأن تتبع محبة الله. هذا هو أول نوع للدعوة.

          2ـ الدعوة الثانية هي هذه: يوجد أناس يسمعون الكلمة المكتوبة وما تشهد به عن الآلام والعذابات المعدة للأشرار، والمواعيد المعدة لمن يسلكون بلياقة في مخافة الله، وبشهادة الشريعة المكتوبة تتيقظ نفوسهم وتطلب الدخول إلى الدعوة كما يشهد داود عندما يقول ” ناموس الرب طاهر يرد النفس، شهادة الرب صادقة تعطى حكمة للبسطاء (الودعاء) (مز7:19)، وفي موضع آخر يقول ” فتح كلامك يضئ عقل البسطاء ” (مز130:119). وأقوال أخرى كثيرة، لانستطيع كلها أن نذكرها الآن.

          3ـ الدعوة الثالثة هي هذه: توجد نفوس كانت سابقًا قاسية القلب مستمرة في أعمال الخطية ولكن الله الصالح في رحمته رأي أن يرسل علىهم تأديبات الآلام والضيقات حتى يتعبوا، فيستفيقون وينتبهون ويتغيرون ويتقربون من الله ويدخلون في معرفته، ويتوبون من كل قلوبهم، وهؤلاء أيضًا يبلغون إلى الحياة الحقيقية مثل أولئك الآخرين الذين تكلمنا عنهم سابقًا.

          v هذه هي طرق الاقتراب الثلاثة التي تأتى بها النفوس إلى التوبة لكي تنال نعمة ودعوة ابن الله.

الروح القدس يسهل للنفس طريق التوبة[1]:

          والآن فيما يخص أولئك الذين دخلوا بكل قلوبهم وقرروا أن يحتقروا كل شدائد الجسد وبشجاعة يقاومون الحرب التي تقوم ضدهم إلى أن ينتصروا، فإنى اعتقد، أولاً أن الروح هو الذي يوجه إلىهم الدعوة وهو يجعل الحرب هينة وسهلة بالنسبة لهم، ويجعل أعمال التوبة حلوة ويريهم كيف يجب أن يتوبوا بالجسد والنفس حتى يبلغ بهم إلى التحول الكامل إلى الله الذي خلقهم.. ويعطيهم أعمالاً بواسطتها يمكنهم أن يقمعوا النفس والجسد حتى يتطهرا ويدخلا معًا إلى ميراثهما (حياة الأبد).

الروح القدس يرشد الإنسان حتى يتطهر جسدًا وروحًا:

          أولاً، فإن الجسد يتطهر بالصوم الكثير وبالسهر وبالصلوات وبالخدمة التي تجعل الإنسان ينضبط في جسده ويقطع من نفسه كل شهوات الجسد. ويصبح روح التوبة هو مرشده في هذه الأمور، ويختبره بواسطتها لئلا يقتنصه العدو إلىه مرة ثانية.

          وعندئذ يبدأ الروح الذي يرشده، أن يفتح عينى نفسه لكي يعطيها التوبة أيضًا لكيما تتطهر ويبدأ العقل أيضًا في التمييز بين الجسد والنفس، وذلك عندما يبدأ أن يتعلم من الروح كيف يطهرهما بالتوبة. وعندما يتعلم العقل من الروح فإنه يصبح مرشدًا لكل أعمال الجسد والنفس معلمًا إيانا كيف نطهرهما. ويفصلنا عن كل الثمار اللحمية التي اختلطت بأعضاء الجسد منذ المعصية الأولى. ويعيد كل عضو من أعضاء الجسد إلى حالته الأصلية دون أن يكون فيه أي شئ من روح الشيطان. ويصبح الجسد تحت سلطان العقل المتعلم من الروح كما يقول الرسول بولس ” أقمع جسدى واستعبده ” (1كو27:9) لأن العقل يطهره في أكله وفي شربه وفي نومه، وبكلمة واحدة فإنه يطهره في كل حركاته. حتى أنه من خلال طهارة (العقل) يتحرر الجسد حتى من الحركات الطبيعية التي فيه.

حركات الجسد الثلاث:

          واعتقد أنه توجد ثلاثة أنواع لحركة الجسد:

          1ـ توجد حركة مغروسة في الجسد بالطبيعة غُرست فيه في خلقته الأولي ولكنها لا تعمل (ما هو خاطئ) بدون إرادة النفس، وإنما عملها فقط هو أن تنبهنا إلى أنها حاضرة وموجودة، وذلك بواسطة حركة غير شهوانية في الجسد.

          2ـ وتوجد حركة أخرى وهي تحدث عندما يملأ الإنسان جسده بالطعام والشراب وتتسبب حرارة الدم المتولدة من كثرة الأطعمة في إثارة الحرب في الجسد بسبب نهمنا. ولهذا السبب يقول الرسول ” لا تشربوا الخمر الكثير ” (أف18:5) وأيضًا حذر الرب تلاميذه ” احترزوا لئلا في أي وقت تثقل قلوبكم بالشبع والسكر” (لو34:21) أو اللذة. وخاصة أولئك الذين يطلبون ملء النقاوة علىهم أن يقولوا اخضع جسدي واستعبده” (1كو27:9).

          3ـ أما الحركة الثالثة فهي من الأرواح النجسة التي تجربنا بسبب حسدها لنا وتسعى لأن تدنس هؤلاء الذين يبدأون السير في طريق النقاوة.

          والآن يا أولادي المحبوبين، إذا تسلحت النفس بالصبر، في هذه الحركات الثلاثة، وثبتت في الشهادة التي يشهد بها الروح داخل القلب فإن النفس والجسد كليهما يتطهران من هذا النوع من المرض. لكن إذا رفض القلب الشهادة التي يشهدها فيه الروح بخصوص هذه الحركات الثلاث فإن الأرواح الشريرة تتسلط علىه وتزرع في الجسد كل الشهوات وتحركها وتثير حربًا عنيفة ضده حتى تخور النفس وتمرض، فإن رجعت وصرخت طالبة الحصول على المعونة فإنها تتوب، وتطيع وصايا الروح، وتشفي، عندئذ تتعلم من الروح أن تجد راحتها في الله، وتعرف أنه هو (الله) وحده سلامها.

          هذه الأشياء قلتها لكم يا محبوبون لكي تعلموا كيف ينبغي على الإنسان أن يتوب جسدًا ونفسًا (بجسده ونفسه) ويطهرهما كليهما. فإذا ما غلب العقل في هذا النضال، فإنه حينئذ يصلي بالروح (القدس) ويبدأ في أن يطرد من الجسد شهوات النفس التي تأتى إلىها من إرادتها الخاصة. حينئذ يصير للروح القدس شركة وألفة مع العقل، لأن العقل يحفظ الوصايا التي سلمها إلىه الروح.

الروح القدس وتقديس الحواس والأعضاء:

          ويُعلّم الروح العقل كيف يشفي جراحات (شهوات) النفس وكيف تتخلص منها كلها، تلك الشهوات التي امتزجت بأعضاء الجسد، وشهوات أخرى غريبة تمامًا عن الجسد ولكنها اختلطت بالإرادة:

العينان: ويضع الروح للعينين قانونًا لكي تنظرا باستقامة ونقاوة ولكي لا يوجد فيها أي خداع.

الأذنان: وبعد ذلك يضع قاعدة للأذنين كيف تسمعا بسلام ولا تشتاقا أو تشتهيا سماع الكلام الرديء، ولا أن تسمع عن فضائح الناس بل يعلمهما كيف تبتهجان بالسمع عن الأشياء الصالحة، وعن الطريقة التي يثبت بها كل إنسان، وعن الرحمة المعطاة لكل الخليقة التي كانت مريضة فيما سبق.

اللسان: وأيضًا فإن الروح يعلم اللسان النقاوة، وذلك لأن اللسان كان مريضًا بمرض خطر، لأن المرض الذي أصاب النفس كان يعبر عنه بواسطة اللسان الذي تستخدمه النفس كأداة لها، وبهذه الطريقة أصيب اللسان بمرض خطير وجُرح جرحًا عظيمًا، وأيضًا بواسطة هذا العضو ـ اللسان ـ بنوع خاص، قد مرضت النفس. والرسول يعقوب يشهد (عن هذا الأمر) قائلاً ” إن ظن إنسان إنه دَيّن وهو لايلجم لسانه بل يخدع قلبه فديانة هذا الإنسان باطلة ” (يع26:1) وفي موضع آخر يقول ” اللسان هو عضو صغير ويدنس الجسد كله ” (يع5:3). وكثير أيضًا غير ذلك لا أستطيع أن اقتبسه كله الآن. ولكن إذا تقوى العقل بالقوة التي ينالها من الروح فإنه أولاً يتطهر ويتقدس، ويتعلم التمييز والافراز في الكلمات التي يسلمها إلى اللسان (لكي ينطقها)، لكي تكون هذه الكلمات بدون تحزب وبدون إرادة ذاتية أنانية، وهكذا يتم قول سليمان ” كل كلمات فمى بالحق ليس فيها عوج ولا إلتواء ” (أم8:8)، وفي موضع آخر يقول ” أما لسان الحكماء فشفاء ” (أم18:12) وأقوال أخرى كثيرة.

حركات إلىدين: وبعد ذلك يشفي الروح إلىدين التي كانت تتحرك بطريقة مضطربة ـ متبعة إرادة العقل، أما الآن فإن الروح يعلم العقل كيف يطهرهما لكي يعمل ويشتغل بهما في عمل الرحمة وفي الصلاة وبذلك تتم الكلمة التي قيلت عنهما ” ليكن رفع يدى كذبيحة مسائية ” (مز12:141) وفي موضع آخر ” أما أيدى المجتهدين فتغنى ” (أم4:10).

البطن (الأكل والشرب): وبعد ذلك يطهر الروح البطن في أكلها وفي شربها لأنه طالما أن رغبات النفس نشيطة فيها، فإنها لاتشبع في نهمها إلى الطعام والشراب، وبهذه الطريقة فإن الشياطين يقومون بهجومهم على النفس. وعن هذا تكلم الروح في داود قائلاً ” مستكبر العين ومنتفخ القلب لا آكل معه ” (مز5:100 س) وكل الذين يطلبون الطهارة في هذا الأمر فإن الروح القدس يضع لهم قواعد للتطهير، وهي الأكل باعتدال بما يكفي لأجل قوة الجسد، وبدون تلذذ شهواني، وبهذا يتم قول بولس ” فإن كنتم تأكلون أو تشربون أو تفعلون شيئًا فافعلوا كل شئ لمجد الله” (1كو31:10).

الأفكار الجنسية: وأما عن الأفكار الجنسية التي تتحرك من الجزء أسفل البطن، فإن العقل يتعلم بالروح كيف يميز بين الحركات الثلاثة التي تكلمنا عنها سابقًا ويثابر في تطهير هذه الأعضاء حسب ما يعينه الروح ويقويه، حتى أن كل الحركات تنطفئ بقوة الروح الذي يصنع سلامًا في كل الجسد ويقطع منه كل الشهوات. وهذا ما يقوله القديس بولس ” فأميتوا أعضاءكم التي على الأرض الزنا النجاسة الهوى الشهوة الرديئة… إلخ “(1كو5:3).

خطوات القدمين: وبعد كل هذا يعطى القدمين أيضًا طهارتهما. لأنهما قبلاً لم تكن خطواتهما مستقيمة بحسب إرادة الله، أما الآن فإذ قد صار العقل موحدًا تحت سلطان الروح، فإنه (العقل) يطهر القدمين لكي تسيرا حسب إرادته لتذهبا وتخدما في الأعمال الصالحة.

النتيجة تغيير وتجلي الجسد: وبذلك يتغير الجسد كله ويتجدد ويصبح تحت سلطان الروح. وأعتقد أنه عندما يتطهر كل الجسد ويأخذ ملء الروح فإنه بذلك يكون قد نال بعض النصيب من ذلك الجسد الروحاني العتيد أن يكون في قيامة الأبرار.

          هذا قد قلته عن أمراض النفس التي اختلطت بأعضاء الطبيعة الجسدية التي فيها تتحرك النفس وتعمل، وهكذا تصبح النفس مرشدًا للأرواح النجسة التي تأتى وتعمل في أعضاء الجسد. ولكنني قد قلت أيضًا أن النفس لها شهوات أخرى مختلفة عن شهوات الجسد، وهذه هي التي سنوضحها الآن.

شهوات النفس:

          الكبرياء، الذي هو مرض خاص بالنفس، ولا علاقة له بالجسد، وكذلك الافتخار والحسد، والكراهية والغضب والتراخي وغيرها. ولكن إذا سلّمت النفس ذاتها لله بكل قلبها فإن الله يرحمها، ويسلّمها إلى روح التوبة الذي يشهد لها عن كل خطية، لكي لا تقترب منها مرة أخرى، ويكشف للنفس عن أولئك الذين يحاربونها ويحاولون أن يمنعوها من الانفصال عن الخطايا باذلين كل جهدهم لكي لا تثبت (النفس) في التوبة، ولكن إذا احتملت النفس واطاعت الروح الذي يرشدها للتوبة فإن الخالق يتحنن بسرعة على تعب توبتها وإذ يرى أتعاب الجسد: في الصلاة الكثيرة والصوم والتضرع وتعلم كلمات الله، وفي جحد العالم وفي الاتضاع والدموع والثبات في الانسحاق، عند ذلك فإن الله الرحيم إذ يرى تعبها وخضوعها، يتحنن علىها ويخلصها (يحررها).

الرسالة الثانية

          إخوتي الأعزاء المبجلين، أنا أنطونيوس أحييكم في الرب.

          حقًا يا أحبائي في الرب، ليس مرة واحدة فقط أفتقد الرب خليقته، بل منذ تأسيس العالم، حينما يأتى أي واحد من البشر إلى خالق الكل، بواسطة شريعة عهد الله المغروسة في القلب، فإن الله يكون حاضرًا مع كل واحد من هؤلاء بصلاحه وبالنعمة، بواسطة روحه. أما في حالة تلك الخلائق العاقلة التي اضمحل فيهم عهده وماتت بصيرتهم العقلية، فصاروا غير قادرين على أن يعرفوا أنفسهم كما كانوا في حالتهم الأولي (الأصلية التي خُلقوا علىها)، عن هؤلاء أقول إنهم صاروا غير عاقلين (فقدوا الحكمة) وعبدوا المخلوق دون الخالق، لكن خالق الكل، في صلاحه العظيم افتقدنا بواسطة ناموس العهد المغروس فينا. فإن الله جوهر عديم الموت. إن كثيرين صاروا أهلاً (مستحقين) لله ونموا وتقدموا بواسطة ناموسه المغروس فيهم، وتعلموا بواسطة روحه القدوس، ونالوا روح التبني، هؤلاء صاروا قادرين على أن يعبدوا خالقهم كما يجب. وعن هؤلاء يقول بولس ” لم ينالوا المواعيد بدوننا ” (عب29:11).

محبة الله ثابتة:  

          وخالق الكل لا يتراجع عن محبته، وإنه يرغب في أن يفتقد مرضنا وحيرتنا، لذلك أقام موسى واضع الناموس، الذي أعطانا الناموس المكتوب وأسس لنا بيت الحق أو الكنيسة الجامعة التي تجعلنا واحدًا في الله، لأنه (الله) يرغب في أن نعود إلى الحالة الأصلية التي كنا علىها في البدء. وموسى بنى البيت إلاّ إنه لم يكمله بل تركه ومضى. وأيضًا مرة ثانية أقام الله جوقة من الأنبياء (الذين تكلموا) بروحه. وهم بدورهم بنوا على الأساس الذي وضعه موسى إلاّ أنهم لم يستطيعوا أن يكملوا البيت، وبدورهم تركوه أيضًا ومضوا. وكلهم إذ كانوا لابسين الروح رأوا أن الجرح عديم الشفاء، وأنه لا يوجد مخلوق يستطيع أن يشفيه، وإنما واحد فقط، وهو الابن الوحيد الذي هو عقل الآب ذاته وصورته، الذي خلق كل المخلوقات العاقلة على صورته. وهؤلاء (الأنبياء) عرفوا أن المخلص هو الطبيب العظيم ولذلك اجتمعوا معًا وقدموا صلاة لأجل أعضائهم أي لأجلنا، وصرخوا وقالوا ” ألا يوجد بلسان في جلعاد؟ أم ليس هناك طبيب؟، فلماذا لم تسترد بنت شعبي صحتها؟”(إر22:8)، حاولنا أن نشفيها فلم تُشف، لذلك فلنتركها ولنذهب بعيدًا (إر9:51).

مجئ المسيح وموته لأجلنا:

          لكن الله في محبته الفياضة والتي لا زيف فيها، جاء إلىنا، وقال بواسطة قديسيه ” يا ابن آدم هيئ لنفسك آنية أسر” (حزقيال3:12). والذي إذ كان في صورة الله لم يحسب مساواته بالله اختلاسًا، بل أخلي ذاته آخذًا صورة عبد، وأطاع حتى الموت موت الصليب، لذلك رفّعه الله أيضًا وأعطاه اسمًا فوق كل اسم لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة ممن في السماء ومن تحت الأرض، ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو رب لمجد الله الآب (فيلبى6:2ـ11). والآن يا أحبائي لتكن هذه الكلمة ظاهرة عندكم أن صلاح الآب لم يشفق على ابنه الوحيد بل أسلمه لأجل خلاصنا جميعًا (راجع رومية32:8) وهو بذل نفسه لأجل خطايانا (غلا4:1)، وذنوبنا سحقته ” وبجلداته شُفينا ” (إشعياء5:53). وبقوة كلمته جمعنا من كل الشعوب ومن أقصاء الأرض إلى أقصائها وصنع قيامة لعقولنا، وغفرانًا لخطايانا، وعلمنا إننا أعضاء بعضنا البعض.

الخلاص والتبني:

          أرجوكم أيها الاخوة افهموا هذا التدبير العظيم وهو: إنه صار مثلنا في كل شئ ماعدا الخطية (عب15:4). ويجب على كل واحد من الخلائق العاقلة التي جاء المخلص أساسًا لأجلها، أن يفحص حياته وأن يعرف عقله وأن يميز بين الخير والشر، لكي ما يتحرر (يخلص) بمجيء (يسوع) لأن كثيرين تحرروا (خلصوا) بتدبيره ودعوا (عبيد) خدام الله. إلاّ أن هذا ليس هو الكمال بعد، وإنما في وقته الخاص كان هو البر، وهو يقود إلى تبنى البنين. وقد أعلن يسوع مخلصنا أن (الرسل) كانوا قريبيين من نوال روح التبني، وإنهم (الرسل) عرفوه لأنهم تعلموا بالروح القدس، ولذلك قال ” فيما بعد لا أدعوكم عبيدًا بل أخوة وأصدقاء لأني أخبرتكم بكل ما سمعته من أبى “(يو15:15). لذلك إذ صارت لهم جرأة في عقلهم، لأنهم عرفوا نفوسهم وجوهرهم العقلي[2]، لذلك قالوا بصوت واحد أن كنا قد عرفناك حسب الجسد إلاّ إننا الآن لا نعرفك كما عرفناك (حسب الجسد) (راجع 2كورنثوس 16:5) بل نالوا روح التبني وصرخوا وقالوا ” إننا لم نأخذ روح العبودية أيضًا للخوف بل اخذنا روح التبني الذي به نصرخ ياأبا الآب ” (رو15:8) لذلك الآن نحن نعرف يا الله أنك قد اعطيتنا أن نكون أبناء وورثة لله ووارثون مع المسيح (رو17:8).

التوبة والدينونة:

          لكن لتكن هذه الكلمة ظاهرة لكم، يا أحبائي، إن كل من لم يتهيأ للتصحيح (التوبة) ولم يتعب بكل قوته فليعرف مثل هذا، أن مجئ المخلص يكون دينونة له، لأنه (المخلص) بالنسبة للبعض هو رائحة موت لموت وللبعض رائحة حياة لحياة (2كو16:2) لأنه ” وُضع لسقوط وقيام كثيرين في إسرائيل ولعلامة تُقاوَم ” (لو34:2).

          أرجوكم يا أحبائي باسم يسوع المسيح أن لا تهملوا خلاصكم، بل ليمزق كل واحد منكم قلبه وليس ثيابه (يوئيل13:2)، خوفًا من أن نكون قد لبسنا ثوب الرهبنة باطلاً، وإننا بذلك نقود أنفسنا إلى الدينونة. فانظروا إن الوقت الآن قريب الذي فيه سوف تُمتحن أعمال كل واحد منا. أما عن تفاصيل ما أكتبه إلىكم فيوجد كثير من الأمور التي يجب أن أكتبها لكم. لكنه مكتوب ” اعط فرصة للحكيم، فيصير أكثر حكمة ” (أم9:9).

          أحييكم جميعًا من الصغير إلى الكبير. وإله السلام ليحفظكم جميعًا. يا أحبائي آمين.

الرسالة الثالثة

معرفة النفس ومعرفة الله:

          الإنسان العاقل الذي أعد نفسه لكي يتحرر (يخلص) بظهور ربنا يسوع يعرف نفسه في جوهره العقلي، لأن الذي يعرف نفسه يعرف تدابير الخالق وكل ما يعمله وسط خلائقه.

          يا أعزاءي المحبوبين في الرب (أنتم) أعضاؤنا والورثة مع القديسين. نتوسل (لأجلكم) باسم يسوع، أن يعطيكم الله روح التمييز، لكي تدركوا وتعرفوا عظم المحبة التي في قلبى من نحوكم، وتعرفوا أنها ليست محبة جسدية بل روحية إلهية. لأنه لو أن الأمر بخصوص أسمائكم الجسدية لما كانت هناك حاجة لأن أكتب إلىكم بالمرة لأنها (هذه الأسماء) مؤقتة. لكن إذا عرف إنسان اسمه الحقيقى فسوف يرى (يعرف) أيضًا اسم الحق. ولهذا السبب أيضًا عندما كان يعقوب يصارع طوال الليل مع الملاك كان لا يزال اسمه يعقوب، لكن عندما أشرق النهار دُعىَّ اسمه إسرائيل أي “ العقل الذي يرى الله ” (تك24:32ـ30).

افتقاد الله لخلائقه دائمًا:

          وأعتقد أنكم لا تجهلون أن أعداء الفضيلة يتآمرون دائمًا ضد الحق. لهذا السبب فقد افتقد الله خلائقه ليس مرة واحدة فقط، بل من البدء كان هناك البعض مستعدين لأن يأتوا إلى خالقهم بواسطة ناموس عهده المغروس فيهم، هذا الناموس (الداخلي) الذي علمهم أن يعبدوا خالقهم باستقامة. ولكن بسبب انتشار الضعف وثقل الجسد والاهتمامات الشريرة جف وتوقف الناموس المغروس (في البشر) وضعفت حواس النفس، حتى أن البشر أصبحوا غير قادرين أن يجدوا أنفسهم على حقيقتها بحسب خلقتهم، أي كجوهر (طبيعة) عديم الموت لا يتحلل مع الجسد. ولذلك فهذا الجوهر (النفس) لم يتمكن من التحرر (الخلاص) بواسطة بره الذاتي. ولهذا السبب سكن الله معهم (البشر) حسب صلاحه بواسطة الناموس المكتوب، لكي يعلمهم (الناموس) كيف يعبدون الآب كما يجب. الله واحد، أي أنه جوهر واحد عاقل. وأنتم تفهمون هذا، يا أحبائي، إنه في كل مكان حيث لا يوجد توافق وانسجام، يحارب البشر بعضهم بعضًا ويقاضون (في المحاكم) بعضهم البعض.

مجئ المسيح للشفاء والخلاص:

          وقد رأي الخالق أن جرحهم يعظم وأنه يحتاج لرعاية طبيب ـ ويسوع نفسه هو خالقهم وهو نفسه الذي يشفيهم، ولذلك أرسل أمام وجهه السابقين. ونحن لا نخاف أن نقول إن موسى واضع الناموس هو أحد سابقيه، وإن نفس الروح الذي كان مع موسى كان يعمل أيضًا في جماعة القديسين (جوقة الأنبياء) وإنهم جميعًا صلوا لابن الله الوحيد. ويوحنا أيضًا هو أحد سابقيه ولهذا السبب فإن الناموس والأنبياء كانوا إلى مجيء يوحنا “وملكوت الله يُغصب والغاصبون يأخذونه بالقوة “(مت12:11،13). وإذ كانوا لابسين للروح رأوا أنه ولا واحد من الخليقة قادر أن يشفي هذا الجرح العظيم وإنما فقط صلاح ونعمة الله، أي ابنه الوحيد الذي أرسله ليكون مخلصًا للعالم كله، لأنه هو الطبيب العظيم الذي يستطيع أن يشفي الجرح العظيم. وطلبوا إلى الله، وهو في صلاحه ونعمته، وهو آب كل الخليقة، لم يضن بابنه لأجل خلاصنا، بل سلمه لأجلنا جميعًا ولأجل خطايانا (رو32:8). ووضع نفسه وبجلداته شُفينا (راجع فيلبى8:2 ـ إشعياء5:53). وبقوة كلمته جمعنا من كل الشعوب ومن أقصاء الأرض إلى أقصائها ورفع قلوبنا بعيدًا عن الأرض وعلمنا أننا أعضاء بعضنا البعض.

لنتحرر نحن أيضًا بمجيئه:

          أتوسل إلىكم يا أعزاءي المحبوبين في الرب، افهموا أن هذا الكتاب المقدس هو وصية الله. وإنه لأمر عظيم جدًا أن نفهم الصورة التي أخذها يسوع لأجلنا، لأنه صار في كل شئ مثلنا ماعدا الخطية (عب15:4). والآن إنه من الصواب أن نتحرر(نخلص) نحن أيضًا من كل شئ بواسطة مجيئه، حتى أنه بجهله يجعلنا حكماء وبفقره يجعلنا أغنياء، وبضعفه يقوينا، ويهب القيامة لنا كلنا، مبيدًا ذاك الذي له سلطان الموت (عب14:2). وحينئذ نكف عن أن نطلب يسوع لأجل احتياجاتنا الجسدية. إن مجيئ يسوع يساعدنا على أن نفعل كل صلاح، إلى أن نبيد تمامًا كل رذائلنا. وعند ذلك يقول يسوع لنا لا أدعوكم بعد عبيدًا بل إخوة (راجع يوحنا15:15).

          وعندما وصل الرسل إلى قبول روح التبني علمهم الروح القدس أن يعبدوا الآب كما يجب.

الخلاص والدينونة بمجيء يسوع:

أما بالنسبة لي أنا الأسير الفقير ليسوع، فإن الوقت الذي نعيشه قد تسبب في فرح ونوح وبكاء. لأن الكثير من جنسنا (الرهبان) قد لبسوا الثوب الرهباني ولكنهم أنكروا قوته. أما الذين أعدوا أنفسهم للتحرر (الخلاص) بمجئ يسوع، فهؤلاء أنا أفرح بهم.

          أما الذين يتاجرون باسم يسوع بينما هم يعملون مشيئة قلوبهم وأجسادهم، فهؤلاء أنا أنوح علىهم. أما الذين نظروا إلى طول الوقت وخارت قلوبهم وخلعوا ثوب الرهبنة وصاروا وحوشًا فإنا أبكى لأجلهم. لذلك اعلموا أن مجئ يسوع يصير دينونة عظيمة لمثل هؤلاء. لكن هل تعرفون نفوسكم يا أحبائي في الرب، لكي تعرفوا هذا أيضًا هذا الوقت، وتستعدوا بتقديم نفوسكم ذبيحة مقبولة لدى الله. وبكل يقين يا أحبائي في الرب ـ أنا أكتب لكم كأناس حكماء قادرين أن يعرفوا أنفسهم وأنتم تعرفون أن من يعرف نفسه يعرف الله وأن من يعرف الله يعرف أيضًا تدابيره التي يصنعها من أجل خلائقه.

          لتكن هذه الكلمة ظاهرة لكم، إنه لا يوجد عندي حب جسدي من ناحيتكم وإنما محبة روحية إلهية، لأن الله يتمجد في جميع قديسيه (مز8:88س). هيئوا نفوسكم طالما أن لكم من يتوسلون عنكم لله لأجل خلاصكم، لكيما يسكب الله في قلوبكم النار التي جاء يسوع لكي يلقيها على الأرض (لو49:12)، لكي تستطيعوا أن تدربوا قلوبكم وحواسكم وتعرفوا كيف تميزوا بين الخير والشر وإلىمين من الشمال والحقيقة من الوهم. إن يسوع عرف أن الشيطان يستمد قوته من الأشياء المادية الخاصة بهذا العالم، ولذلك دعى تلاميذه وقال لهم ” لا تكنزوا لأنفسكم كنوزًا على الأرض ” “ولا تهتموا للغد ” (مت19:6،34). وحقًا يا أحبائي إنكم تعرفون أنه عندما تهب ريح معتدلة يفتخر ربان السفينة (عندما يكمل الرحلة)، لكنه في وقت الرياح العاصفة المضادة يظهر كل ربان ماهر. اعرفوا إذًا من أي نوع هو هذا الوقت الذي نعيش فيه.

          أما عن تفاصيل كلمة الحرية فتوجد أمور كثير أقولها لكم. لكن اعطوا الفرصة للحكيم فيكون أكثر حكمة (أم9:9).

          أحييكم من الصغير إلى الكبير في الرب، آمين.

[1] العناوين الجانبية من وضع الترجمة العربية.

[2] الجوهر العقلى أو الجوهر الروحى ـ عبارة يكررها القديس أنطونيوس كثيرًا فى رسائله ـ وهي تعنى العقل أو القلب أو الروح، ففي اللغة القبطية نستعمل كلمة واحدة للتعبير عن العقل والقلب وليس مثل إلىونانية واللغات الأخرى فالإنسان مخلوق على صورة الله، وهذا هو كيانه الروحي أو العقلى أو القلبي أو كيانه الحقيقي، أو الحياة الداخلية، أو نفسه الحقيقية، ولذلك يتحدث القديس أنطونيوس مرات كثيرة عن أهمية معرفة النفس، وارتباطها بمعرفة الله، المعرفة بالروح، ومحبة النفس الحقيقية التي هي ضد محبة الذات والأنانية والبغضة. 

رسائل القديس أنطونيوس ج1