آبائيات

أقوال الأنبا أنطونيوس الكبير أبو الرهبان مع سيرة حياته

أقوال الأنبا أنطونيوس الكبير وقصته - أبو الرهبان

أقوال الأنبا أنطونيوس الكبير أبو الرهبان مع سيرة حياته

المحتوى

أقوال الأنبا أنطونيوس الكبير أبو الرهبان مع سيرة حياته
أقوال الأنبا أنطونيوس الكبير أبو الرهبان مع سيرة حياته

 

أقوال الأنبا أنطونيوس عن مخافة الله

4- قال القديس أنطونيوس: “رأس الحكمة مخافة الله. كما أن الضوء إذا دخل في بيتٍ مظلمٍ طرد ظلمته وأناره، هكذا خوف الله إذا دخل قلب الإنسان طرد عنه الجهل وعلَّمه كل الفضائل والحِكَمْ([10]).

5- سأل أخ أنبا أنطونيوس قائلاً: “ماذا أعمل لكي أجد رحمة الله ”؟ فقال له الشيخ: “احفظ هذا الذي أوصيك به: أينما ذهبتَ اجعل الله أمام عينيك دائمًا، وكل ما تفعله فلتكن لك عنه شهادة من الكتب المقدسة، وأي مكان تسكن فيه لا تنتقل منه سريعًا. احفظ هذه الأمور الثلاثة وأنت تخلص ”([11]).

6- قال القديس أنطونيوس: “ليكن خوف الله بين أعينكم دائمًا، واذكروا مَنْ يُميت ويُحيي، وابغضوا العالم وكل ما فيه من نياح (أي راحة) الجسد، وموتوا عن هذه الحياة الفانية لتحيوا بالله. اُذكروا ما وعدتم به الله فإنه يطلبه منكم في يوم الدينونة. جوعوا، اعطشوا، اسهروا، تعرّوا، نوحوا، ابكوا، تنهّدوا، إنّوا في قلوبكم. اختبروا أنفسكم هل أنتم مستحقون لله؟ تهاونوا بالجسد لتحيا نفوسكم ”([12]).

7- قال أنبا أنطونيوس: “أنطوني لا يخاف الله ”. فقال له تلميذه: “ما هذه الكلمة الصعبة يا أبتاه ”؟ قال: “نعم يا ابني لأنِّي أحبه، والحب يطرد الخوف من الله ” (1يو4: 18)([13]).

8- اعتاد أنبا أنطونيوس أن يقول: “يأتي وقت على بني البشر يصيرون فيه مجانين، وسيتركون عنهم مخافة الله، وعندما يرون إنسانًا ليس مجنونًا مثلهم يهاجمونه قائلين: أنت مجنون أبله، لأنه ليس مثلهم ”([14]).

 

(4) قوانين ووصايا من أقوال القديس أنبا أنطونيوس لأولاده الرهبان بدير النقلون([15]) لما سألوه عن ذلك، بسلامٍ من الرب، آمين.

9- قال: أنا أقول قوانين بما يقوله الرب على فمي للذين يحبون أن يُلقوا بذواتهم تحت هذا الحمل الثقيل الذي هو الرهبنة. يجب أن يسمعوا هذه الوصايا، والذي يحلّ واحدةً منها يُدعى حقيرًا في ملكوت السموات:-

أول كل شيء صلِّ بلا ملل، واشكر الله في كل ما يأتي عليك، ومتى قمتَ باكرًا في كل يوم فاسأل عن المرضى الذين عندك، وصُم إلى التاسعة في كل يوم ما خلا السبت والأحد، ومتى جاءت الساعة التاسعة فلا تمضِ إلى مسكن أحدٍ من الإخوة، ومتى جلستَ لتأكل فصلِّ أولاً قبل الأكل وكذلك بعده، واجعل صلاتك وقراءتك دائمة.

لا تتحدث مع صبي ولا طفل ولا تعاشره بالجملة ولا تجعله راهبًا، ولا تقبل إليك شابًا صغيرًا قبل لباس الإسكيم لئلاّ يصالح العدو الشيطان، ولا ترقد على حصيرةٍ واحدة مع الأصغر منك، واحفظ ساعات الصلوات ولا تُبطل واحدةً منها لئلاّ تعطي الجواب عنها، ولا تشدّ على المريض في مأكولٍ ولا تؤخِّره عنه فتعكِّر نفسه المذلولة. إذا جاء إليك أخٌ بعد زمان فافرح به لكي يشكر الله ويشكرك.

لا تخالط علمانيًا بالجملة ولا تُظهر نفسك مثل الفريسي الذي صنع أموره بالرياء. لا تقرِّب إليك امرأة ولا تدعها تدخل مسكنك فالغضب يسير خلفها، ولا تعُد تنظر أهلك الجسدانيين ولا تعطي لهم وجهك ليبصروه، ولا تذهب عندهم، ولا تُبقي لك أكثر من حاجتك، ولا تدفع أكثر من قوّتك، بل ادفع الصدقة لضعفاء الدير. صلِّ صلاتك في الليل قبل أن تذهب إلى الكنيسة، ولا تأكل مع أحدٍ يجسر عليك([16])، وإذا حدث شكٌّ من أجل شاب لم يلبس الإسكيم بعد فلا تُلبسه وأخرِجه من الدير([17]).

 

أقوال الأنبا أنطونيوس عن حروب الشياطين

10- قيل عن القديس أنطونيوس: إنه لما دخل البرية الداخلية نظر إليه الشياطين وانزعجوا واجتمعوا عليه وقالوا له: “يا صبي العمر والعقل، كيف جسرت ودخلت إلى بلادنا، لأننا ما رأينا ههنا آدميًا سواك ”؟! وابتدأوا يحاربونه كلهم، فقال لهم: “يا أقوياء، ماذا تريدون مني أنا الضعيف المسكين؟ وما هو قدري حتى تجتمعوا كلكم عليَّ وأنا تراب ووسخ ولا شيء ، وضعيف عن قتال أحد أصاغركم ”؟ وكان يُلقي بذاته على الأرض ويصرخ ويقول: “يا ربي أعنِّي وقوِّ ضعفي، ارحمني يا رب فإنِّي التجأتُ إليك، يا رب لا تتخلَّ عني، ولا يقوَ عليَّ هؤلاء الذين يحسبون أنِّي شيء، يا رب أنت تعلم أنني ضعيف عن مقاومة أحد أصاغر هؤلاء”. وكان الشياطين متى سمعوا هذه الصلاة المملوءة حياةً واتضاعًا يهربون منه ولا يقدرون على الدنوِّ إليه.

ومرةً جمع الأركون (= “أرخون ” أي رئيس الشياطين) كل آلات اللهو والطرب واللذات والتنعُّم والنساء وسائر أنواع الزنى ولذّاته، أمّا هو فكان يغمض عينيه ويقول: “عجبًا منكم! كيف تجعلون لي مقدارًا وتحتالون على سقوطي وأنا أضعف من مقاومة أحد أصاغركم؟ ابعدوا عن ضعفي أنا المسكين التراب والرماد”. وكانت الأفكار تسقط عنه بمعونة الرب، والشياطين تحترق من كثرة اتضاعه.

وفي عدة مرات كانوا يُحضرون له جميع أنواع التخويف والانزعاج والتهويل والعذاب، فكان يصرخ إلى الله باتضاع ويقول: “أنقذني يا رب بمعونتك ولا تبعد عن ضعفي ”. ففي الحال كانت الشياطين تهرب منه.

وفي مراتٍ كثيرةٍ كانوا يهجمون عليه ويضربونه ضربًا مؤلماً. وأقام هكذا ثلاثين سنة حتى نظر الرب يسوع المسيح إلى كثرة صبره واحتماله وكسر عنه شدَّة الأعداء. صلاته تكون معنا آمين([18]).

أقوال الأنبا أنطونيوس الكبير أبو الرهبان مع سيرة حياته
أقوال الأنبا أنطونيوس الكبير أبو الرهبان مع سيرة حياته

11- ويصف القديس أثناسيوس حروب الشيطان على أنبا أنطونيوس هكذا:-

لم يُطِق الشيطان أن يرى مثل هذا الثبات في شاب، ففي البداية حاول أن يُبعده عن النسك، هامسًا في أذنيه بذكريات ثروته والعناية بأخته، ومطالب الأقارب ومحبة المال والمجد، وملذات الطعام وسائر تنعُّمات الحياة، وأخيرًا صعوبة الفضيلة وما تتطلّبه من عناء، ثم صوّر أمامه أيضًا ضعف الجسد وطول الوقت، وبالاختصار أثار ذهنه كثيرًا محاولاً أن يُثنيه عن عزمه الثابت.

ولكنّ العدو عندما رأى نفسه ضعيفًا أمام عزم أنطونيوس، وغُلِب على أمره بسبب إيمانه العظيم وتجندل بسبب صلواته المستمرة، اعتمد أخيرًا على أسلحته التي في “عضل بطنه ”([19]) والتي يفتخر بها لأنها هي شراكه الأولى للشبان. وهاجم الشاب وأزعجه ليلاً وضايقه نهارًا، فعندما يعرض عليه الأفكار الشريرة يصدَّها بالصلوات، وعندما يصوِّب إليه سهام الشهوة يحمرُّ خجلاً ويحصِّن جسده بالإيمان والصلاة والصوم.

وفي إحدى الليالي اتخذ الشيطان شكل امرأةٍ وقلَّد كل حركاتها لإغواء أنطونيوس، أما هو فإذ امتلأ عقله بالمسيح، وإذ فكَّر في روحانية النفس أطفأ جمر خداع العدو. وحاول العدو أن يجذبه بنشوة الملذات، أما هو فإذ امتلأ غضبًا وحزنًا حوَّل تفكيره إلى تهديد الله (للإنسان) بالنار والدود الذي لا يموت، فجاز التجربة دون أن يُمسَّ بأذى.

كل هذا أخزى عدوَّه، لأنه إذ كان يعتبر نفسه كإله هزأ به شابٌ، وذاك الذي افتخر على اللحم والدم اضطر أن يهرب أمام إنسان في الجسد، لأن الرب كان يعمل مع أنطونيوس، الرب الذي من أجلنا أخذ جسدًا ووهب الجسد نُصرةً على إبليس حتى يستطيع كل من يحارب بإخلاصٍ أن يقول: »لستُ أنا بل نعمة الله التي معي«. (1كو 15: 10)

وأخيرًا لما عجز التنين عن غلبة أنطونيوس، ووجد نفسه أنه قد طُرد تمامًا من قلبه، صرَّ على أسنانه، كما هو مكتوبٌ، وخرج عن شكله وظهر لأنطونيوس كولدٍ أسود متخذًا شكلاً منظورًا يتفق مع لون عقله. وإذ تظاهر بالتذلُّل أمامه لم يشأ أن يُلحّ عليه بأفكار فيما بعد، لأنه لما تنكَّر هُزِم أمامه.

وأخيرًا تكلم بصوتٍ بشريٍّ وقال: “لقد خدعتُ كثيرين، وطرحتُ كثيرين، ولكنني برهنتُ على ضعفي إذ هاجمتُك وهاجمتُ كل جهودك وأتعابك كما هاجمتُ كثيرين غيرك ”. فسأله أنطونيوس: “مَنْ أنت يا من تتكلم هكذا معي ”؟ أجاب بصوتٍ أسيفٍ: “أنا صديق الزنى، وقد التحفتُ بالإغراءات التي تدفع الشبان إلى الزنى، وأنا أدعى روح الشهوة. كم خدعتُ كثيرين ممن أرادوا أن يعيشوا بالاحتشام! وما اكثر العفيفين الذين أقنعتهم بإغراءتي!؟ أنا الذي من أجلي يوبِّخ النبي أولئك الذين سقطوا قائلاً: »روح الزنى قد أضّلكم« (هو4: 12)، لأنهم بي قد أعثِروا. أنا الذي ضايقتك كثيرًا وغُلِبتُ منك كثيرًا”!

أما أنطونيوس فإذ قدَّم الشكر للرب قال له بكل شجاعةٍ: “إذًا فأنت حقيرٌ جدًا، لأنك أسود القلب، وضعيف كطفلٍ، ومن الآن لن أجزع منك لأنّ »الرب معيني وأنا سأرى بأعدائي« (مز118: 7). وإذ سمع هذا ذلك الأسود هرب في الحال مرتجفًا من الكلام، ولم يجسر حتى على الاقتراب إلى الرجل([20]).

12- عندما تقدَّم أنبا أنطونيوس في السن كان وحده في الجبل الداخلي يصرف وقته في الصلاة والنسك. وحينئذٍ احتمل مصارعةً عنيفةً »ليس مع لحم ودم« (أف6: 12) كما هو مكتوبٌ، بل مع الشياطين المقاومين كما علمنا ممن زاروه، لأنهم سمعوا هناك شغبًا وأصواتًا كثيرة وقرقعة كأنها قرقعة أسلحة، وفي الليل رأوا الجبل مليئًا بالوحوش البرية، كما رأوا أنطونيوس أيضًا مجاهدًا كأنه يجاهد ضد كائناتٍ منظورةٍ، ومصلِّيًا ضدّها جاثيًا ومجاهدًا في الصلاة، وكل الذين زاروه شجَّعهم.

إنه لأمرٌ عجيبٌ أنّ شخصًا وحيدًا في بريّةٍ كهذه لم يخشَ الشياطين التي هاجمته، ولا وحشية الوحوش والزحافات، لأنها كانت كثيرة جدًا، ولكنه حقًا كما هو مكتوب: »توكل على الرب مثل جبل صهيون« (مز125: 1)، بإيمانٍ لا يتزعزع ولا يضطرب، حتى إنّ الشياطين هربت منه، ووحوش البرية سالمته كما هو مكتوب (أي5: 23).

كان إبليس، كما يقول داود النبي في المزامير (مز35: 16)، يراقب أنطونيوس ويحرِّق عليه أسنانه. أما أنطونيوس فكان متعزِّيًا بالمخلِّص، وبقيَ سالمًا من حيله ومكائده المختلفة. كان يسهر بالليل فيرسل عليه إبليس وحوشًا برّيّة، وكأنّ كل ضباع تلك البرّية تقريبًا قد خرجت من مغايرها وأحاطت به، وكان وهو في وسطها يهدِّده كلُّ واحدٍ بالعضّ. وإذ رأى حيلة العدو قال لها كلها: “إن كان لكم سلطان عليَّ فأنا مستعدٌ أن تلتهموني، أمّا إن كنتم قد أرسِلتم عليَّ من قِبَل الشياطين فلا تمكثوا بل انصرفوا لأنني عبدٌ للمسيح ”. فهربت كلها أمام تلك الكلمة وكأنها قد ضُربت بالسياط([21]).

13- روى كثيرٌ من الرهبان – باتحاد الرأي – أنّ أمورًا كثيرة تمّت على يدي أنبا أنطونيوس . فقد كان مرةً مزمعًا أن يأكل، وقام ليصلِّي نحو الساعة التاسعة فأدرك أنه اختُطف بالروح، والعجيب أنه وقف ورأى نفسه كأنه خارج جسده، وأنه اقتيد في الهواء بواسطة أشخاص معينين. وبعد ذلك وقَفَتْ في الهواء كائنات أخرى مرعبة وأرادت أن تعرقل مسيره، ولكن لما قاومها مرشدوه سألَتْ عما إذا كان هو ليس مدينًا لها، وعندما أرادت أن تلخِّص ديونه منذ ولادته أوقفهم مرشدو أنطونيوس قائلين: “لقد مسح الرب خطاياه منذ ولادته، ولكن يمكنكم أن تحاسبوه منذ أن صار راهبًا وكرَّس نفسه لله ”. ولما لم تستطع أن تُثبِت عليه أية تُهمةٍ أصبح طريقه خاليًا وأزيلت عنه كل العراقيل، وللحال رأى نفسه كأنه قد أتى إلى جسده، وأصبح أنطونيوس كما كان من قبل.

وإذ نسيَ الأكل صار يئنّ ويصلِّي بقية النهار وطول الليل، لأنه دُهِش إذ رأى كيف أنّ مصارعتنا هي مع خصومٍ أشدّاء، وكيف أننا يجب أن نجتاز الهواء بجهودٍ شاقة، ثم تذكّر أن هذا هو ما قاله الرسول: »حسب رئيس سلطان الهواء« (أف2: 2). لأن العدو له فيه سلطان ليحارب ويحاول تعطيل الذين يجوزون فيه. ولذلك قدَّم النصيحة بكل قوةٍ: »احملوا سلاح الله الكامل لكي تقدروا أن تقاوموا في اليوم الشرير« (أف6: 13). وذلك لكي يخزى المضادّ إذ ليس له شيء رديء يقوله عنا (تي2: 8).

لقد اختُطِف بولس الرسول إلى السماء الثالثة، وإذ سمع أمورًا لا يُنطَق بها نزل؛ أما أنبا أنطونيوس فقد رأى أنه صار في الهواء، وصار يجاهد حتى تحرر([22]).

14- وقال أيضًا: “أيها الأبناء، لا نملّ من الطلب إلى صلاح الله لكي تدركنا معونته وتعلِّمنا أن نصنع ما ينبغي. وبحقٍ أقول لكم إنّ هذا الإناء الذي نحن حالُّون فيه، أعني الجسد، لَهو لنا هلاكٌ وموتٌ ومملوءٌ من كل الحروب.

وحقًا أقول لكم، يا أولادي، إنّ كل إنسانٍ يتلذّذ بالشهوة ويتنازل معها فإنّ أفكاره تفرغه وتحطَّه إلى أسفل. إذا كان يقبل ما يُلقَى في قلبه ويفرح ويتلذذ به ويقبله إليه كأنه سرٌّ عظيم، ولا سيما إذا كان ممتدحًا بأعماله؛ فالذين هم هكذا فإنّ نفوسهم تصير آلةً للأرواح الشريرة ومجمعًا للشرور، وأجسادهم خزائن لأسرار الظلمة مخزونةً فيها خفيةً، لأنّ الأرواح الشريرة تتسلّط على الذين هم هكذا.

ألا تعلمون أنه ليس فخٌّ واحدٌ للشياطين لكي ندركه ونهرب منه؟ لأنهم ليسوا متجسِّدين حتى نراهم عيانًا، بل افهموا أننا نُهلك الأجساد إذا قبلناهم، ونفوسنا أيضًا عندما تميل إلى أن تقبل شرورهم.

فالآن، أيها الأولاد الأحبّاء، لا نجعل لهم فينا موضعًا وإلاّ فنحن نثير على أنفسنا غضب الله وهم لا يذهبون عنا بل يسخرون بنا. وبحقٍ إنهم يمكرون بنا في كل وقت بمشورتهم الرديئة واضطهادهم الخفي لنا، وبرذائلهم الدنسة مع قلة الأمانة التي يُلقونها في قلوبنا كل يوم، وقساوة القلب والأوجاع التي يجلبونها علينا في كل حين، والقلق حتى نقلق كل يوم بما يجلبوه علينا، وربما يجعلوننا نضحك في وقتٍ يجب فيه البكاء ثم نبكي في وقت الفرح.

لذلك لا نملّ من الطلب إلى صلاح الله لتدركنا رحمته ومعونته لنتعلّم أن نصنع ما ينبغي لكي ننال العون والنجاة”([23]).

15- وقال أيضًا للإخوة: “بينما كنتُ سائرًا يومًا ما في الجبل، وجدتُ نعامةً مع صغارها، فلما رأوني لاذوا بالفرار، وكأنِّي سمعتُ الأمّ تقول لصغارها: ’انزلوا تحت الحجارة حتى لا يصطادوكم‘. وهكذا نحن أيضًا، إذا قذَفَنا الشياطين بالأفكار الرديئة فلنرمهم بالحجارة المأخوذة من الحجر الذي أُخِذ من الرحم غير الدنس الذي للقديسة العذراء مريم »حجر الزاوية« (أع4: 11؛ مز118: 22) الذي يقاتل عنا بمهارةٍ وينقذنا من فخاخهم الرديئة”([24]).

16- قال القديس أنطونيوس: “السيرة المستقيمة والإيمان بالله هما سلاحٌ عظيمٌ مقاومٌ للشياطين الذين يخافون من الصيام والنسك وسهر الليل والصلاة والهدوء والوداعة وبغضة الفضة والافتخار والتواضع ومحبة المسكنة والرحمة وعدم الغضب وفعل البرّ في المسيح، لأنّ الشياطين يجاهدون جدًا أن لا يُقهَروا، فلنذكر نحن في قلوبنا أن الرب كائنٌ معنا في كل حين فلا تقدر الشياطين أن تصنع بنا شيئًا، وإن رأوا أننا خفنا وضعفنا يجعلون الخوف يزداد بالأكثر في قلوبنا بأفكارهم. فإذا وجدونا فرحين بالرب في كل حين وأننا نفكِّر في قلوبنا في الخيرات العتيدة ونتكلم فيما للرب ونفكِّر قائلين: إنّ كل شيء هو بيد الرب؛ فإن الشياطين لا تقدر أن تصنع شيئًا ولا لهم سلطان في شيء من الأشياء البتّة. فإذا وجدوا النفس محصّنةً بهذه الأفكار هكذا يخزون للوقت ويرجعون إلى ورائهم، لأنه هكذا وجد العدو أيوب محصّنًا ثابتًا فتباعد عنه عندما لم يقدر أن يُميل فكره عن الله، ولأجل هذا افتُضِح.

فكمال كل الفضائل أن يكون الإنسان ثابتًا متقوِّيًا بكل قلبه وكل نفسه بالرب ولا يحيد عنه بالجملة بأي حال ولا في أي وقت، بل يكون متحدًا بأفكاره مع الله لأنّ الله هو متحدٌ معنا بإيماننا به ”([25]).

17- ذهب أخ اسمه سمعان إلى الأب أنطونيوس وقال له: “أيها الأب، رأيتُ في حلمٍ مَنْ يقول لي: ’اُسكن مع إنسان يكون له ضِعف جهادك‘ ”. فقال له القديس: “هذا الذي ظهر لك هو الشيطان لأنه مدحك ووصفك بأنك عمَّالٌ ”. فقال له الأخ: “لقد كان مكتسيًا بالنور”. فقال له أنبا أنطونيوس: “إنّ الشيطان نفسه يغيِّر شكله إلى شبه ملاك نور (2كو11: 14)”. فقال الأخ في نفسه: “إنّ الأب أنطونيوس يجهل الأمور المخفية”. ولكن الأب أنطونيوس علم بذلك وقال له: “ياعديم الشعور، لقد علمتُ أنه لما جاء إليك الشرير لم يقُل لك “سلام”، وأنت لم تتعرّف عليه على الأقل بكون السلام لم يكن في فمه ”([26])!

 

أقوال الأنبا أنطونيوس الكبير أبو الرهبان مع سيرة حياته
أقوال الأنبا أنطونيوس الكبير أبو الرهبان مع سيرة حياته

نصائح رهبانية للأنبا أنطونيوس

18- قال القديس أنطونيوس: “أدِّب بخوف الله ولا تُشفق، لا تأخذ بوجه صغير ولا كبير، بل اقطع بكلام الحق باستقامةٍ. احرس ثيابك لئلاّ تمشي عريانًا (رؤ3: 18) في يوم الحكم وتُفتضح. آباء الدير الذين ولدوك بالروح يتعجّبون من مجدك وسط القديسين. كُلْ خبزك بسكينةٍ وهدوءٍ وإمساكٍ (أي بعدم شراهةٍ). جلوسك يكون بأدب، ولا تتبع جميع أفكارك. قف قدام الرب وقوفًا مستقيمًا. إذا ضُرب الناقوس لا تتوانَ عن الحضور إلى الكنيسة”([27]).

19- قال القديس أنطونيوس: “لا تفطر بالجملة إلاَّ في مرضٍ شديدٍ. لا تتذمّر في أي عمل. لاتعيِّر أحدًا لأي سببٍ. إذا ذهبت عند أخ فلا تُبطئ في مسكنه. لا تتحدّث في الكنيسة. لا تجلس في أزقَّة الدير. لا تحلف بالجملة لا بالحق ولا إذا كنت متشكِّكًا. لا تذهب إلى كنيسة يجتمع فيها الناس (أي العلمانيين). تصدَّق بقدر قوَّتك. لا تدفن ميتًا في البيعة. لا تصنع وليمة ولا تذهب إلى دعوة وليمة.

“تعلَّم كل يوم الأدب من الكبار، ولا تعمل أي شغلٍ حتى تشاور أب الدير. إذا ذهبتَ لتملأ الماء فاقرأ وأنت سائر بقدر قوتك. إذا دفعتَ صدقةً فلا تتظاهر بها. وإذا حضرتَ في موضعٍ قد صُنِعت فيه صدقة فكُلْ واشرب واشكر الله. اِحزن في الليل والنهار من أجل خطيتك. كُنْ مربوطًا بقلسوتك ومئزرتك وإسكيمك في الليل والنهار. أضئ سراجك بزيت عينيك أي الدموع. إذا تعبَّدت فلا تفتخر. لا تردَّ أحدًا جاء يطلب المسيح. لا تتحدّث بأفكارك لجميع الناس ما خلا الذين لهم قوة على أن يخلِّصوا نفسك. وإذا ذهبتَ إلى الحصاد فلا تُبطئ بل أسرع بالعودة إلى الدير. لا تلبس ثيابًا تفتخر بها. لا تُظهر صوتك إلاّ في صلاة الفرائض. صلِّ في مسكنك قبل أن تأتي إلى البيعة. أمِت نفسك في كل يوم.

“لا تَغْتَبْ أحدًا بسبب ما يُقال فيه من الأوجاع. لا تفتخر، ولا تضحك بالجملة. اِلزم الحزن بسبب خطيتك كمثل مَنْ عنده ميت. اِعمل بقوّتك لتمجِّد أباك الذي في السموات. أدِّب ابنك بلا شفقةٍ فدينونته عليك. لا تأكل حتى تشبع. لا تَنَمْ إلاّ يسيرًا بقدر فتأتي عندك الملائكة. إذا صلَّيتَ وذكرتَ الله تصير ثيابك التي تلبسها أجنحةً تطير على بحر النار. اذهب إلى المرضى والضعفاء واملأ مكاييلهم. لا تكن مقاتَلاً باللسان. اجعل كل واحدٍ يبارك عليك، والرب يسوع المسيح يعيننا على العمل بمرضاته، فله المجد مع أبيه وروح قدسه إلى الأبد آمين ”([28]).

20- سأل أنبا بامو القديس أنطونيوس عمّا يصنعه لأجل خلاصه، فقال له الشيخ: “لا تتكل على برِّك، ولا تصنع أمرًا تندم عليه، وامسك لسانك وبطنك وقلبك ”([29]).

21- كان أنبا أنطونيوس ينصح الرهبان قائلاً: “آمنوا بالرب وأحبّوه، احفظوا أنفسكم من الأفكار الدنيئة والملذات الجسدية، وكما هو مكتوبٌ في سفر الأمثال: »لا تُخدَعوا بامتلاء البطن« (أم24: 15 حسب السبعينية). واظبوا على الصلاة، تجنّبوا الغرور والعجرفة، رتِّلوا المزامير عند النوم وعند الاستيقاظ، احفظوا في قلوبكم وصايا الكتاب المقدس، اذكروا أعمال القديسين حتى إذا ما تذكرت نفوسكم الوصايا ظلّت متوافقة مع غيرة القديسين ”.

وكان القديس ينصحهم بصفةٍ خاصةٍ دائمًا أن يتأملوا في كلمة الرسول: »لا تغرب الشمس على غيظكم« (أف4: 26). وكان يعتقد أن هذه تشمل كل الخطايا بصفةٍ عامة. فليس المقصود منها الغيظ فقط، بل إنه يجب ألاّ تغرب الشمس على أيّة خطيةٍ من خطايانا، لأنه حسنٌ، بل ضروري، أن لا تغيب الشمس على أي شرٍّ صنعناه نهارًا، ولا القمر على أيّة خطية بدرت منا ليلاً، ولا حتى على أي فكرٍ شرير. ولكي تستمر هذه الحالة فينا يحسن أن نسمع الرسول ونحفظ كلماته لأنه يقول: »جرِّبوا أنفسكم، امتحنوا أنفسكم.« (2كو13: 5)

إذًا يجب على كل واحدٍ أن يستخلص من نفسه كل يوم قصة أعماله في الليل والنهار، وإن كان قد أخطأ فليكُفّ عن الخطية، وإن لم يكن قد أخطأ وجب ألاّ يفتخر، بل ليتمسّك بالصالح دون إهمال، وأن لا يدين إخوته أو يُبرِّر نفسه »حتى يأتي الرب الذي يكشف الخفيات« (1كو4: 5 ؛ رو2: 16) كما يقول المغبوط بولس الرسول. لأننا كثيرًا ما فعلنا بغير قصدٍ الأشياء التي لا نعرفها، ولكنّ الرب يرى كل شيء؛ لذلك إذ نسلِّم الدينونة له فلنعطف بعضنا على بعض، لنحمل أثقال بعضنا بعضًا (غل6: 2)، ولكن لنمتحن أنفسنا ونسرع لملء ما نقص فينا.

وتجنُّبًا للخطية لنراعِ الآتي: لينتبه كلٌ منا، ولنسجِّل أعمالنا والدوافع المحرِّكة لنفوسنا كأننا سوف نقصَّها بعضنا على بعض، واثقين من أننا إن كنا سنخجل تمامًا من أن تُعرَف الخطية فوجب أن نكفَّ عنها وأن لا نُبقي على أية أفكار شريرةٍ في عقولنا، لأنه مَنْ ذا الذي يحب أن يُرى وهو يخطئ؟ أو بالحري مَنْ ذا الذي لا يكذب بعد ارتكاب الخطية بسبب الرغبة في تجنُّب معرفة الآخرين لها؟ وكما أننا إذا روقبنا من بعضنا بعضًا فإننا لا نرتكب الخطية المادية، هكذا إذا سجّلنا أفكارنا كأننا سنخبر بها بعضنا بعضًا نحفظ أنفسنا بسهولةٍ من الأفكار الرديئة بسبب الخجل لئلاّ تُعرَف.

لذلك فليكن ما نسجِّله على أنفسنا بمثابة أعين زملائنا النسّاك حتى إذا ما خجلنا من أن نسجِّل خطايانا كأننا قد أمسكنا بها فلن نفكِّر قط فيما لا يليق. فإن رتّبنا أنفسنا بهذه الكيفية أمكننا إخضاع الجسد لإرضاء الرب، كما أمكننا أن ندوس على حيل العدو([30]).

22- كما قال أيضًا: “لا تأكل مع امرأةٍ، ولا تصادق صبيًّا بالجملة، ولا ترقدا اثنان على حصيرةٍ واحدةٍ إلاّ إذا كان ذلك بسبب ضرورةٍ مُلحّة، وحينئذٍ يكون الذي معك هو أبوك أو أخوك وتفعل ذلك بخوفٍ شديدٍ. وإذا نمتَ فلا تُدخل يدك إلى داخلك لئلاّ تُخطئ بغير هواك. لا تحلّ منطقتك وأنت قوي. لا تمسك يد قريبك ولا خدَّه صغيرًا كان أو كبيرًا. وإذا تعرّيتَ من ثيابك فلا تنظر جسدك. لا تشرب ثلاثة أقداح خمر إلاّ في مرضٍ شديد. لا تُفسد وصية الله من أجل صداقة أحدٍ. لا تعُد إلى المدينة التي أخطأتَ لله فيها مرةً أخرى. لا تتخلَّ عن العبادة لئلاّ يصير ذلك لك فخًّا وعثرة”([31]).

23- وقال أيضًا: “أتعِب نفسك في قراءة كتب الله، فهي تخلّصك من النجاسة. إن جلستَ في خزانتك (أي قلايتك) فاعمل في شغل يديك، ولا تتخلَّ عن اسم الرب يسوع بل امسكه بعقلك ورتِّل به بلسانك وفي قلبك، وقُلْ: [ يا ربي يسوع المسيح ارحمني ، يا ربي يسوع المسيح أعنِّي ] وقُلْ أيضًا: [ أنا أسبحك يا ربي يسوع المسيح ].

“اِخترْ التعب فهو يخلِّصك من جميع الفواحش مع الصوم والصلاة والسهر، لأنّ تعب الجسد يجلب الطهارة للقلب، وطهارة القلب تجعل النفس تُثمر. لا تجعل نفسك معدودًا بالجملة حتى تتفرّغ للبكاء من أجل خطيتك. إيّاك والكذب فهو يطرد خوف الله من الإنسان. لا تتحدث بأفكارك لكل أحدٍ لئلاّ تكون عثرةً. كُنْ مُتعَبًا في شغل يديك فيأتيك خوف الله. حِبّ الاتضاع فهو يغطِّي جميع الخطايا. اِحذر من أن تحقد على أحدٍ بالجملة بل اغفر لأخيك. اصرف الأفكار الرديئة عنك وسلِّم نفسك إلى الله فيظللك بيمينه. لا تكن قليل السمع لئلاّ تكون وعاءً لجميع الشرور، اجعل في قلبك أن تسمع لأبيك فتحلّ بركة الله عليك ”([32]).

24- قال أنبا أنطونيوس: “لا تفتر على أخيك ولو رأيته عاجزًا عن جميع الفرائض لئلاّ تقع في أيدي أعدائك. الخطايا القديمة التي فعلتها لا تتفكّر فيها لئلاّ تتجدّد عليك، وتأكّد أنك بعد أن أعطيت نفسك لله قد سقطَتْ عنك ولا تتشكّك في ذلك.

“لا تتوهّم أنك عالمٌ وحكيمٌ لئلاّ يضيع تعبك وتمرّ سفينتك فارغة. عوِّد لسانك أن يقول في كل شيء وفي كل وقت ولكل أخ ولله تعالى: “اغفر لي ”، والاتضاع يأتيك.

“لا تدِنْ أحدًا لئلاّ يفارقك خوف الله وتسقط في أيدي أعدائك. لذّاتك وألعابك في زمان كسلك لا تذكرها، ولا تتحدث بها ولا تقُل: صنعتُ كذا وتركته، فتصير عثرةً لك.

“متى جلستَ في خزانتك (أي قلايتك) فلا تفارقك هذه الأشياء: القراءة في الكتب، التضرُّع إلى الله، شغل اليد. ولا تفكِّر في شيء من أوجاعك التي كانت لك في الدنيا لئلاّ تنشغل في شهواتها فتكون عثرةً في قلبك.

“اُطلب التوبة في كل لحظةٍ ولا تكسل نفسك لحظةً واحدةً. لا تستحِ أن تسأل أباك ببكاءٍ واتضاع أن يعرِّفك ما أنت عاجز عنه. تفكَّر في كل يوم أنّه آخر ما بقي لك في العالم لكي تُحفظ من الخطية، واعلم أنّ الاتضاع هو أن تُعِدَّ جميع البشر أفضل منك، وتتحقّق بقلبك أنك أكثر منهم خطية، ولتكن رأسك منكّسة، ولسانك يُسرع بأن يقول لكل أحدٍ: “اغفر لي ” حتى ولو افتُري عليك. ونظرك يكون للموت في كل حين.

“اُحرس نفسك ولا تتكلم بهموم أو أعمال الدنيا بشيء بالجملة. اِحذر من أن تحب أن تبلغ شهواتك وأغراضك. اِبغض الجسد وابغض جميع لذّاته فإنها ممتلئة شرورًا.

“اِجعل شهوتك ألاّ تُتعِب أحدًا وألاّ تقاتل أحدًا، وإن ضايقك المحتال (الشيطان) فلا تغضب. اُرفض الكبرياء وقل عن قريبك وعن كل الناس إنهم أخير منك.

“لا تُغطِّ على خطيتك التي صنعتها، اُرفض المجاوبة، ولا تفكِّر في قلبك بشرٍّ على مَنْ يُغضبك أو يُبغضك. لا تُسرِع إلى الغضب. اِحذر من أن تتكلم بكلامٍ فارغ، ولا تسمعه من غيرك لكي تعيه، وليكن كلامك في ذكر الله تعالى واستغفاره ”([33]).

25- قال أنبا أنطونيوس: “إياك والشره، ولا ترتبط بشهوتك فإنهما يطردان مخافة الله من القلب والحياء من الوجه، ويجعلا الإنسان مأسورًا من الشهوات الفانية الدنيئة، ويُضلاّ العقل عن الله. لا تفتخر وتقول بفمك ولا تفكِّر في قلبك أنك فعلتَ وصنعتَ وأنك لم تُتعِب أحدًا، فإنّ هذا يسبِّب لك المجد الباطل، فمَنْ كانت عنده هذه صارت نفسه مسكنًا للشياطين ومنزلاً للأرواح النجسة.

“اجعل أكلك مرةً واحدةً في النهار لقيام الجسد لا للشهوة، واجعله عاجزًا (ضعيفًا) قليلاً، وأَتعبه كثيرًا في المطانيات. لا تكن كسلانًا فتموت بأشرِّ حال. أضعِف جسدك كمثل من هو مُلقى على الفراش فتهرب الأوجاع عنك. اجعل فكرك في الوصايا كلّ حينٍ وداوم على فعلها ولا تتخلَّ عن شيءٍ منها لئلاّ تصير نفسك مسكنًا لجميع الفواحش.

“لا تغتبْ أحدًا من الناس لئلاّ يُبغض الله صلاتك. إياك واللعب والاستهزاء فإنه يطرد خوف الله من القلب. أَتعِب نفسك في قراءة الكتب واتباع الوصايا فتأتي رحمة الله عليك سريعًا، فمَنْ كان في خزانته مُغلق الفم وغير ذاكرٍ لله تعالى ولا قارئًا في الكتب فهو يكون كالبيت الخرب خارج المدينة الذي لا تفارقه جميع الجيف (أي القمامة)، وكلّ مَنْ احتاج إلى تنظيف بيته من الجيف رماها فيه.

“صلِّ دائمًا صلاةً في خزانتك (أي قلايتك) قبل صلاتك مع الإخوة وبعدها، ولا تملّ من ذلك. أكثِر البكاء دائمًا فإنّ الله يترحم عليك ويعزِّيك من جميع أحزانك. أبغض كل أعمال الدنيا وارفضها عنك، واعلم أنها هي التي تُبعدك من الله بحقٍ. اِحذر من أن تكون صغير القلب لأن صغر القلب يجلب الأحزان، أحِب التعب واظلم نفسك لكل أحدٍ، واغلق فمك، فبذلك تملك الاتضاع، والاتضاع يغفر جميع خطايا الإنسان. مَنْ لا يحفظ هذه فهو يُغضِب الله.

“أنا أنطونيوس أقول لك الحق، فاسمع الآن كلامي وأوعِه في نفسك، واعلم أنني بهذا الكلام أُسلِّمك للخالق فتفرح مع جميع الملائكة وتُحزِن الأرواح الشريرة جميعها. إذا لازمتَ هذه ومشيتَ فيها فإنّ الله يكون معك وملائكته تمشي معك ونفسك تمتلئ من طيب الأطهار، ويستنير وجهك بنور الحسنات، وتصير قربانًا لله مثل جميع القديسين، ويكون لقاؤك للرب بتهليلٍ وفرح، وتسمع الصوت القائل: »جيدًا عملتَ أيها العبد الصالح الأمين، وجدتك أمينًا في القليل فأُقيمك أمينًا على الكثير، اُدخل إلى فرح سيدك« (مت25: 21)، الذي له المجد إلى الأبد آمين ”([34]).

26- كان أخٌ محارَبًا من أفكاره أن يترك ديره، فأخبر أنبا أنطونيوس بذلك، فقال له الشيخ: “اذهب، اجلس في قلايتك وارهن جسدك لحوائط قلايتك ولا تغادرها، ودع الفكر يذهب حيثما يشاء، فقط لا تسمح لجسدك أن يخرج من القلاية. إنه سيُعاني، ولن يمكنه أن يعمل أي عمل، ثم إنه سيجوع، وفي وقت الأكل يحتال عليك لكي يأكل، فإذا قال لك نحو الوقت: “كُلْ قليلاً من الخبز لأجل حاجتك ”، فقُل له أنت أيضًا بتيقُّظٍ: »ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمةٍ تخرج من فم الله« (تث8: 3؛ مت4:4). وسيقول لك: “اشرب قليلاً من الخمر مثل الطوباوي تيموثاوس ” (1تي5: 23)، فأجبه أنت أيضًا: “اذكر أبناء يوناداب الذين حافظوا على وصايا أبيهم ” (إر35: 6). وإذا جاءك النوم فلا تستسلم له لأنه مكتوبٌ في الإنجيل المقدس: »اسهروا وصلُّوا« (مت26: 41)، ومكتوبٌ أيضًا: »كانوا نائمين ولم يكسبوا شيئًا« (مز75: 5 حسب السبعينية).

غذِّ نفسك بأقوال الله، بالأسهار والصلوات، وأيضًا بالذكر المستمر لاسم ربنا يسوع المسيح، وبذلك ستجد الإرشاد الذي به تعرف كيف تغلب الأفكار الرديئة. وإذا صنع لك الجسد فخاخًا لكي تخرج من قلايتك فهو سيحطِّمك ويبتلعك بعد أن تخرج بدون إفراز بين ما ينفعك وما يضرّك. إنه في الحقيقة يقاتلك بطرق كثيرة سواء في رجليك أو في يديك، سواء في قلبك أو في نظرك أو في سمعك أو في الأعمال أو في اللسان والفم أو في المشي. فإذا مكثتَ في قلايتك ستكون في مأمَنٍ من كل ما قلته لك ”([35]).

27- وقال أيضًا: “لا شيء يجدِّد النفس التي شاخت مثل مخافة الله والصلاة النقية والتأمل المتواصل في كلام الرب مع إمداد النفس بزاد الصلاة والمداومة على الأسهار وعدم الإفراط في شرب الماء، ففي الحقيقة يجب على الراهب أن يزهد في شرب الماء كما يزهد تمامًا في الخمر، لأنه كما أنّ الشجرة التي تُروى بالماء هي فقط التي تُحمَّل بالثمار هكذا أيضًا الجسد الذي يمتلئ بالماء فهو يُصاب بالرخاوة والخمول، ومن الرخاوة يأتي التواني والكسل، والتواني يلد النعاس، ومن النعاس يتولد الترف، وهكذا شيئًا فشيئًا تزداد أوجاع النفس وتطرحنا في عمق جهنم، وتصير أجسادنا مسكنًا للأرواح النجسة وأفكارنا مستعبَدةً للأوجاع المخزية.

إنّ هذه في الحقيقة شبكة تُخفي في ثناياها الكثيرة خداعات العدو. فالذي يشتبك ولو جزئيًا بهذه الأوجاع إذا لم يأخذ حذره بكل اهتمام فهي تتسلّط عليه تمامًا. وهذا مثل الملك الذي إذا حاصر مدينةً حصينةً وهاجم سكانها فلا يمكنه أن ينهبها إن لم يمنع الغذاء والماء عن سكانها، هكذا حال الجسد مع أوجاعه (أي شهواته)، فإن كنا لا نُشقيه بالحدِّ من الأطعمة والمشروبات لا نستطيع أن ننجو في حروبنا الروحية وثورة أعضائنا الجسدية. فلندع اللسان ييبس من العطش ولنضيِّق البطن التي اتسعت من الامتلاء بالأطعمة الشهية لأنّ هذا مرضيٌّ عند الله ”([36]).

28- قال أبّا أنطونيوس: “لا ينبغي على الراهب أن يذهب إلى مكانٍ توجد فيه نساء، ولا أن تكون له دالّة معهنّ إذا كُنّ لسن من اللواتي عندهنّ تقوى الله، لأنّ التطلُّع إليهنّ لا يجعل للإنسان راحةً حينما يجلس في قلايته ”. فقال له واحدٌ: “ألا يوافق أن نذهب إليهنّ لأجل وعظهنّ ”؟ فقال له الشيخ: “إن نلتَ الروح القدس فاذهب إليهنّ وإلاّ فلا أريد لك أن تذهب، لأنّ في ذلك فرصة لك للسقوط أنت الذي تعظهنّ، وهنّ أيضًا معرّضات للسقوط لأن لهنّ نفس الطبيعة التي فينا، فقلب الإنسان دائمًا ميّالٌ إلى الشر”.

فقال الأخ: “ماذا أفعل في أمر التدبير الذي أنا مكلَّفٌ به ”؟ لأنه كان مدبِّرًا (إيكونوموس). فقال له الشيخ: “إذا نلتَ الروح القدس فاذهب إليهنّ وإلاّ فأنا لا أودُّ لك أن تذهب، وإنّ ذاك الذي يخدعك حتى يُسقِطك ألا يدفعهنّ هنّ أيضًا حتى يسقطن؟ لكن الإنسان إذا سلَّم قواه (إمكانياته) لله فسيصير نارًا على الأرض ”. فقال له الأخ: “إنني أقول، يا أبي، إنّ الإنسان الأمين يراقب نفسه في كل موضعٍ يذهب إليه ”. فقال له الشيخ: “لا، ولكن انتبه إلى أنه إذا وُجِد قطيعٌ من الخنازير الصاعد من النهر مغمورًا بالوحل ثم مشيتَ أنت في وسطهم ولم يُسقِطك الوحل إلاّ أنك ستُبلى كلك بقذارتهم ”([37]).

29- وقال أيضًا: “لا تمشي مع متكبِّر ولا مع غضوبٍ، بل سِرْ مع الذين هم متضعون في كل وقت، ولتكن كلماتك موزونة حتى يكون لها منفعة للذين يسمعونها. كن غيورًا، واقبل الآلام لأجل أخيك، وكن شفوقًا عليه. ليكن كلامك حلوًا في كل وقت. أحبّ الفقر جدًا، أحبّ الألم واسعَ إليه، اقبل الألم في جسدك لكي تغلب شهوات الجسد. قاتل لكي تغلب في الحروب التي تأتي عليك، لأن الحكيم يعرف طريقه الذي يجعله يحظى بملاقاة النور العُلوي في السموات ”([38]).

أقوال الأنبا أنطونيوس الكبير أبو الرهبان مع سيرة حياته
أقوال الأنبا أنطونيوس الكبير أبو الرهبان مع سيرة حياته

أقوال الأنبا أنطونيوس عن عدم الإبطاء خارج القلاية

30- وقال أيضًا: “كما أن السمك يختنق إذا بقي طويلاً خارج الماء، هكذا الرهبان الذين يتعوَّقون طويلاً خارج قلاليهم أو يقضون أوقاتهم مع أهل العالم، فإنهم يفقدون عمق سلامهم الداخلي، فينبغي علينا إذًا أن نُسرع إلى قلالينا كالسمك نحو البحر، خوفًا من أننا إذا تأخرنا خارجًا ننسى حرصنا الداخلي ”([39]).

31- سأل إخوةٌ شيخًا عن معنى القول السابق، فقال الشيخ: “لأنّ تذكار الله بربنا يسوع المسيح هو حياة النفس الذي يسميه الآباء “مستودع الحياة” وأيضًا “نسمة حياة النفس والذهن” ؛ فعندما يُبطئ الراهب في المدن وينظر ويتكلم مع العلمانيين يموت بالنسبة لنسمة الحياة التي في الله، أي ينسى تذكار الله وتبرد محبة المسيح في قلبه، المحبة التي تحصَّل عليها بأتعابٍ كثيرةٍ، وينسى فضائله وترتخي محبته للتجارب، ويحب الملذات ويميل إلى الشهوات وتضطرب زكاوة قلبه بما يدخل حواسه من سجسٍ، أي من النظر والحديث والسمع، التي هي بالحقيقة قوة النفس. بل يحدث أيضًا أن يسقط في أوجاعٍ عظيمةٍ، الله يحفظنا منها، آمين ”([40]).

32- مرةً جاء إليه بعضٌ ممن كانت لهم حاجات مُلِحّة، وبعد توسلاتٍ كثيرةٍ من قائد جندٍ، جاء وكلّمهم بإيجاز عمّا يؤول إلى خلاصهم وعمّا كانوا محتاجين إليه، ثم أسرع بالانصراف، وعندما توسل إليه القائد أن ينتظر أجاب بأنه لا يستطيع البقاء بينهم، وأقنعهم بابتسامةٍ حلوةٍ قائلاً: “إن السمك إذا بقي طويلاً على الأرض الجافة يموت، هكذا الرهبان يفقدون قوتهم إذا توانوا بينكم وصرفوا وقتهم معكم، لذلك كما يجب أن يسرع السمك إلى البحر ينبغي أن نسرع نحن إلى الجبل لئلاّ إذا تأخرنا ننسى ما بداخلنا”.

ولما سمع القائد ذلك وأمورًا كثيرة غيرها منه ذُهِل وقال: “يقينًا إنّ هذا الرجل هو خادم الله، لأنه لو لم يكن محبوبًا من الله فمن أين يكون مثل هذا الفهم العظيم لإنسانٍ جاهلٍ ”([41])؟

33- قال القديس أنطونيوس: “إذا خرجتُ من قلايتي لكي أذهب إلى الناس أخلع عباءتي (الرهبانية) وأذهب بدونها، ولمّا أرجع أرتديها مرةً أخرى، وهذا معناه: عندما أخرج إلى الناس أصير جسدًا وعندما أرجع إلى مسكني أصبح روحًا، فأصير إنسانًا مع الناس وأصير روحًا مع الله.

فالجسد هو مسكن القلب (أي الروح) وله بابٌ ونوافذٌ، فعندما أخرج إلى الناس تنفتح جميعها فتدخل العواصف والأمواج، أي أنّ الحواس تسمع وترى وتتكلم وتشعر. وعندما أمكث في قلايتي تكون كلها مغلقة وأكون بدون عواصف، وهذا لا يكون إلاّ مع قلبي الذي أُقاتل به، وأكون حرًّا من أربعة (حواس) أخرى، لأن الذي يتكلم بفهمٍ يبني نفسه وينفع رفيقه، والذي يصمت لا يتعرّض للخطر، لأن القديسة مريم العذراء مارست الفضيلة أولاً قبل وصولها إلى المعرفة الحقيقية لله (لو1: 30)”([42]).

 

أقوال الأنبا أنطونيوس عن ضبط اللسان

34- قيل إن بعض الإخوة من الأسقيط اتفقوا على زيارة القديس أنطونيوس، ولما ركبوا المركب وجدوا فيه شيخًا من الآباء يريد الذهاب إليه ولم يكن الإخوة يعرفونه، وإنهم اندفعوا يتحدثون بحديث الآباء وبما في الكتب ويتذاكرون أيضًا صنائع أيديهم والشيخ جالسٌ يسمع وهو صامتٌ، فلما غادروا القارب علموا أن الشيخ ذاهبٌ معهم إلى أنبا أنطونيوس. ولما وصلوا نظر إليهم القديس وقال للإخوة: “نِعمَ الرفيق وجدتموه ”، يقصد الشيخ. ثم قال للشيخ: “نِعمَ الرفقة وجدتهم أيها الأب ”. فقال له الشيخ: “أما هم فجيادٌ، ولكنّ دارهم ليس عليها باب، فمَنْ أراد أن يدخل الإسطبل ويحلّ الحمار ويأخذه لا يجد مانعًا”. يقصد أنهم كانوا يتكلمون بكل ما يجري على ألسنتهم([43]).

 

أقوال الأنبا أنطونيوس عن طاعة وصايا الله

35- قيل: ذهب بعض الإخوة إلى أنبا أنطونيوس وقالوا له: “يا أبانا، قل لنا كيف نخلص ”. فقال لهم: “أسمعتم ما يقول الكتاب ”؟ فقالوا: “من فمك أيها الأب ”. فقال لهم: “إن السيد يقول: »مَنْ لطمك على خدِّك الأيمن حوِّل له الأيسر«”. فقالوا: “لا نطيق ذلك ”. قال لهم: “إن لم تطيقوا ذلك فاصبروا على اللطمة الواحدة”. فقالوا له: “ولا هذا نستطيعه ”. فقال لهم: “إن لم تستطيعوا ولا هذا أيضًا فلا تكافئوا من يظلمكم ”. فقالوا له: “ولا هذا نستطيع ”. فدعا الشيخ تلميذه وقال له: “أصلح مائدةً للإخوة واصرفهم لأنهم مرضى، هذا لا يُطيقون وذاك لا يستطيعون ووصايا الرب لا يريدون، فماذا نصنع لهم ”([44])؟!

36- سأل إخوةٌ شيخًا: “ما معنى هذا القول (السابق)”؟ فقال الشيخ: “الطبيخ يعني به صلوات الشيوخ وأعمالهم، أي إن كنتم لا تقدرون على أن تحفظوا جزءً ا واحداً من وصية ربنا بالفكرة الإرادية فتفكيركم ضعيف، وأنتم محتاجون إلى صلاة عليكم من الآباء لشفاء نفوسكم كما يحتاج المرضى إلى طبيخ لضعف أجسادهم ”([45]).

37- وقال أيضًا: “إنه بالطاعة والتمسكن تخضع لنا الوحوش ”([46]).

38- وقالوا له: “ما معنى قول الرسول: »افرحوا بالرب«”؟ فقال: “إذا فرحنا بعمل الوصايا فهذا هو الفرح بالرب، فلنفرح بتكميل وصايا الرب وبنجاح إخوتنا، ولنحفظ أنفسنا من فرح العالم والضحك إن أردنا أن نكون من خواص ربنا، لأنه قال إنّ العالم يفرح وأنتم تبكون (يو16: 20)، وقال إنّ الويل للضاحكين وطوبى للباكين (لو6: 21و25). ولم يُكتب أنه ضحك قط، وكُتب أنه حزِنَ ودمعت عيناه (يو11: 35)”([47]).

39- وقال أيضًا: “إن أمِرتَ بشيءٍ يوافق مشيئة الله فاحفظه، وإن أمِرتَ بما يخالف الوصايا فقُل إنّ الطاعة لله أَولى من الطاعة للناس (أع5: 29)، واذكر قول الرب إنّ »غنمي تعرف صوتي وتتبعني ولا تتبع الغريب.« (يو10: 4و5)”([48])

40- وقال أيضًا: “إذا أعطيت نفسك لله فاحذر جميع الخطايا واعمل بوصية الله ولا ترفضها، فإنك إذا رفضتها فلن تُغفر لك خطيتك الأولى، وإن تمسّكتَ بها فتحقّق أنه قد تُرِكت لك جميع خطاياك الأولى”([49]).

41- وقال أيضًا: “إنّ الجمل لا يُعطَى إلاّ قليلاً من الغذاء فيحفظه داخله إلى أن يدخل حظيرته فيسترجعه ويجترّه حتى يتغلغل في عظامه ولحمه، أما الحصان فيُعطَى غذاءً كثيرًا فيأكله لساعته ثم يفقد ما أكله سريعًا. فالآن إذًا، نحن لا ينبغي أن نكون كالحصان، بمعنى أننا نتلو أقوال الله في كل وقت ولا نعمل بأيٍّ منها، ولكننا ينبغي أن نتشبّه بالجمل مردِّدين كل كلمةٍ من الأسفار المقدسة مراعين إياها حتى نتمِّمها، لأنّ الذين أكملوا هذه الأقوال كانوا بشرًا تحت الآلام مثلنا”([50]).

 

أقوال الأنبا أنطونيوس عن المغفرة للمسيئين واحتمال الإساءة

 

42- قال أنبا أنطونيوس: “لا تحزن ولا يوجعك قلبك على شيء لهذه الدنيا، ولا تقلق إذا شتمك جميع الناس، فهم يشبهون الغبار الذي تحمله الريح، بل احزن إذا عملتَ ما يستوجب الشتيمة”.

وقال أيضًا: “ما منفعة كلام الكرامة؟ إنه يطير في الهواء، وأما الخسارة الناتجة من الشتيمة الصائرة مجانًا فهي عارضة، لأنّ الناس يموتون وتموت كرامتهم، وشتيمتهم أيضًا تذهب معهم ”([51]).

 

أقوال الأنبا أنطونيوس عن التفكير في الفضيلة قبل الدخول فيها

43- وقال أيضًا: “الذي يطرق سبيكة من الحديد يضع أولاً في فكره ما هو عتيدٌ أن يعمله إمّا منجلاً أو سكينًا أو فأسًا هكذا نحن ينبغي أن نفكر في كل ما نبتدئ في الدخول فيه من الفضائل لئلاّ يكون عملنا وتعبنا باطلاً”([52]).

 

أقوال الأنبا أنطونيوس عن التشبُّه بالآباء في العمل الجيد

44- سُئل القديس أنطونيوس: “ما هو العمل الجيد”؟ فقال:“الأعمال الجيدة كثيرة، لأن الكتاب يقول إنّ إبراهيم كان مضيِّفًا للغرباء وكان الله معه، وإيليا كان يؤثر سكنى البرية والوحدة وكان الله معه، وداود كان متضعًا وديعًا وكان الله معه، ويوسف كان حليمًا عفيفًا وكان الله معه، فما يحبُّه قلبك من كل هذه افعله من أجل الله، واحفظ قلبك، وإذا قاتلتك أفكار كثيرة فقاتل رأسها، فإنّ هزمته هُزِم باقيها”([53]).

 

أقوال الأنبا أنطونيوس عن ملامة الذات

45- وقال أيضًا: “ينبغي على مَنْ يُشتم أن يعتقد أنه هو الذي تسبّب في أن يُشتم بسوء فعله، حتى يكون الشاتم مذلِّلاً له من الخارج وهو مذلِّلٌ لنفسه من الداخل، مثل داود الذي منع أصحابه من قتل شاتمه وقال: »اُتركوه فإنّ الرب جعله يشتمني، دعوه حتى ينظر الرب إلى ذُلِّي ويرحمني« (2صم16: 5-12)؛ وأن يتشبّه بالمسيح لأنه لمّا شُتِم لم يشتم، وأن تُفكِّر في أنّ شاتمك قد أعتقك من السبح الباطل إن احتملته بمعرفةٍ، وأنه قد أرسل لك على لسانه الدواء النافع.

“اقهر ذاتك وتعوّد على قطع مشيئاتك حتى بنعمة المسيح تصل إلى أن تمارس كل أمورك بدون تغصُّبٍ ولا حزن.

“أَحسن إلى كل أحدٍ، وإن لم تقدر فأحبّ كل أحد، وإن لم تقدر فلا أقل من أن لا تبغض أحدًا، ولن يتيسر لك شيء من ذلك ما دمتَ تحب العالميات ”([54]).

46- قال القديس أنطونيوس: “إنّ أفضل ما يقتنيه الإنسان هو أن يقرَّ بخطاياه قدام الله ويلوم نفسه، وأن يكون متأنِّيًا على كل بليةٍ تأتيه، ويتوقع التجربة حتى آخر نسمة من حياته ”([55]).

 

أقوال الأنبا أنطونيوس عن التعامل مع الآخرين

47- وقال أيضًا: “إن حدّثك أخٌ بأفكاره فاحذر من أن تُظهرها لأحدٍ، بل صلِّ عنه وعن نفسك لتخلُصا معًا”([56]).

48- وسُئل أنبا أنطونيوس: “هل جيدٌ أن يكتفي الراهب بنفسه فلا يأخذ من الإخوة ولا يعطيهم ”؟ فقال: “إذا تمسّك الراهب بذلك فهو يعيش بلا اتضاع ولا رحمة، فيبتعد من الخيرات المعدَّة للمتضعين والرحماء”([57]).

49- وسألوه أيضًا إن كان جيدًا أن يكتفي الراهب بنفسه فلا يخدم أحدًا ولا يدع أحدًا يخدمه؟ فقال: “إنّ الرب علّمنا أن نخدم إخوتنا كما يخدم العبيد مواليهم (أي سادتهم)، وذلك عندما شدَّ وسطه وغسل أرجل تلاميذه، فلا نمتنع من أن نخدم لأنّ بطرس لما امتنع عن غسل رجليه قال له: »إن لم أغسلك فلن يكون لك معي نصيب.«(يو13: 4-8)”([58]).

 

أقوال الأنبا أنطونيوس عن البعد عن الأهل والأصدقاء

50- وقال أيضًا: “إن شئتَ أن تخلص فلا تدخل بيتك الذي خرجت منه، ولا تسكن في القرية التي أخطأتَ فيها، ولا تُبصر آباءك ولا أقرباءك الجسدانيين، وإلاّ فأنت تظل كل زمانك بغير ثمرة”([59]).

51- كان القديس الجزيل الطوبى أنبا أنطونيوس الأب الحقيقي للرهبان في المسيح يجتمع مع تلاميذه، وكثيرًا ما كان يوصيهم أن يقطعوا من قلوبهم ذكر والديهم حسب الجسد وأقربائهم، ولا يكون لهم أي انشغالٍ أو اهتمامٍ باطلٍ بأعمالهم حتى تكون الروح حرّة طليقة بلا أي همٍّ جسداني، وحتى تتمكّن النفس من الالتصاق بالله بقوةٍ أكثر وبلا معوِّقات. ففي الحقيقة إنّ ثبات النفس يتحطّم كليّةً ويتقوّض بانشغالاتها بأقاربها، وهكذا ينطفئ فيها نور القلب حتى لا يعود الإنسان يرى نفسه بعد لدرجة أنّ النفس تنقسم وتتمزّق تحت ضغط الأفكار المتقلِّبة الخارجة عن الصواب.

ومن الواجب والنافع جدًا أنه لأجل خلاص النفس من الأهل والأقارب أن يلتجئ الرهبان دائمًا إلى التوسل بلا انقطاع إلى الرب أن ينتزعهم ويخلِّصهم من عذاب النار الأبدي الذي سيُصيب هذا العالم، ولكي يستحقوا أن يكون لهم نصيب في النور الحقيقي الأبدي الذي للأبرار عندما يأتي المسيح ابن الله الملك الأبدي في مجد جلاله مع الملائكة القديسين والقوات السماوية ليُدين الأحياء والأموات في يوم دينونة الله ذلك اليوم العظيم المرهوب.

ففي الحقيقة يجب على الرهبان أن يتشفعوا أيضًا لأجل ذويهم ويتوسلوا للرب لكي يستحقوا نوال الخلاص الأبدي في الحياة الدائمة، ولكي يكون لهم نصيبٌ في ملكوت يسوع المسيح ربنا، آمين([60]).

52- قال أنبا أبرآم: “جاء أحد الرهبان إلى أنبا أنطونيوس وأخبره بأن هناك حياة أعظم من حياة التوحد، إذ أنّ الفضيلة الأعظم هي أن يمارس الراهب حياة الكمال وهو يعيش بين الناس أكثر منه في البرية. فسأله أنبا أنطونيوس عن المكان الذي يعيش فيه هو، فأجابه بأنه يعيش بالقرب من أهله، وتباهى بأنه بسبب أنهم يمدّونه بكل احتياجاته فهو يعيش حرًّا من كل اهتمامٍ أو انشغالٍ بالعمل اليومي، وبذلك فهو متفرّغٌ تمامًا وبلا انقطاع للقراءة والصلاة خلوًا مما يُربِك الروح. فقال له القديس: “أخبرني يا عزيزي، هل أنت تحزن لأحزانهم وبلاياهم وتشاركهم أفراحهم في مسراتهم ”؟ فاعترف بأنه يفعل ذلك. فقال له الطوباوي: “ينبغي أن تعلم أنك ستُدان في اليوم الأخير بنفس الدينونة مع الذين أنت الآن ميّالٌ إلى مشاركتهم في مكسبهم أو خسارتهم وفي فرحهم أو حزنهم ”.

ولما لم يقتنع الأخ، تكلّم أنبا أنطونيوس في هذا الأمر بتوسُّعٍ قائلاً: “رغم أنك لا تشعر الآن بالضرر من هذه المعيشة إذ تذكر كلام الكتاب القائل: »ضربوني ولم أتوجَّع، لقد لكأوني (أو سخروا مني) ولم أعرف« (أم23: 35)، وأيضًا: »أكل الغرباء ثروته (أو قوّته) وهو لا يعرف« (هو7: 9)؛ إلاّ أنّ هذه الطريقة من الحياة وهذه الحالة الأكثر فتورًا تصيبك ليس بالضرر الذي كلّمتك عنه فحسب، بل إنها تجرّ قلبك يومًا فيومًا بلا توقُّف إلى الأمور الأرضية وتجعله يتغير وفقًا لمتطلّبات الظروف، بل إنها أيضًا تسلبك مما تجنيه يداك من ثمار ومن الجعالة التي تستحقها عن جهاداتك حيث إنها لا تسمح لك بأن تقتني خبزك من عمل يديك حسب تدبير ق. بولس الرسول الذي عندما كان يعطي توجيهاته الأخيرة لمدبِّري كنيسة أفسس أكّد لهم أنه رغم أنه كان مشغولاً بواجباته المقدسة في التبشير بالإنجيل؛ فقد كان يقتني الاحتياجات المادية بعمل يديه ليس لنفسه فقط بل أيضًا للذين كانوا معه في نفس الخدمة قائلاً: »أنتم تعلمون أنّ حاجاتي وحاجات الذين معي خدمَتها هاتان اليدان« (أع20: 34). كما أنه لكي يُظهر لنا أنه فعل ذلك كقدوة نافعة لنا يقول: »أنتم تعرفون كيف يجب أن يُتمثّل بنا لأننا لم نسلك بلا ترتيبٍ بينكم ولا أكلنا خبزًا مجانًا من أحدٍ بل كنا نشتغل بتعبٍ وكدٍّ ليلاً ونهارًا لكي لا نثقِّل على أحدٍ منكم، ليس أنّ لا سلطان لنا بل لكي نعطيكم أنفسنا قدوةً حتى تتمثّلوا بنا، فإننا أيضًا حين كنّا عندكم أوصيناكم بهذا أنه إن كان أحدٌ لا يريد أن يشتغل فلا يأكل أيضًا.« (2تس3: 7 – 10)”([61]).

 

أقوال الأنبا أنطونيوس عن محبة الخاطئ

53- اتُّهم أخ في كينوبيون([62]) تهمةً باطلةً بأنه ارتكب خطية الزنى، فقام وجاء إلى أنبا أنطونيوس. فتبعه الإخوة الذين معه في الكينوبيون ليصالحوه ويردُّوه، وهناك تصدُّوا له محاولين أن يُثبتوا عليه التهمة، ولكنه أصرَّ على أنه لم يرتكب قط هذا الفعل. واتفق أنّ أبّا بفنوتيوس الكيفالاسي (أي ذو الرأس الكبيرة) كان هناك، فقال لهم هذا المثل: “رأيتُ على شاطئ النهر إنسانًا مغمورًا في الوحل حتى ركبتيه، فجاء إليه قوم ليساعدوه فأغرقوه إلى الرقبة”. فلما سمع أنبا أنطونيوس ذلك قال لهم عن أنبا بفنوتيوس: “هذا إنسانٌ قادرٌ حقًّا أن يُشفي ويخلِّص النفوس ”. حينئذٍ امتلأوا ندمًا من كلام الشيخين وصنعوا مطانية للأخ ورجعوا به إلى الكينوبيون([63]).

54- حدث أنّ أخًا في كينوبيون سقط في تجربةٍ فطردوه من هناك، فذهب إلى الجبل حيث أنبا أنطونيوس، ومكث الأخ عنده مدةً، ثم أعاده أبّا أنطونيوس إلى الكينوبيون الذي طُرِد منه، فلما رآه الإخوة طردوه ثانيةً، فرجع الأخ إلى أبّا أنطونيوس قائلاً: “رفضوا أن يقبلوني يا أبي ”. فأرسل الشيخ إليهم قائلاً: “سفينة كادت تغرق في البحر وتلفت كل شحنتها، وبتعبٍ كثير رجعَتْ سالمة إلى البرّ، فالذي سَلِمَ تريدون أنتم أن تُغرقوه ”؟! فلما علم الإخوة أنّ أنبا أنطونيوس هو الذي أعاد إليهم الأخ قبلوه في الحال([64]).

55- قيل عن أنبا أنطونيوس: ظهرت له مرةً رؤية بخصوص عذراء كانت قد سقطت في خطية، فنهض وأخذ عصاته الجريد في يده واتخذ طريقه نحو الدير (الذي فيه العذراء)([65]) لكي يوجِّه إلى العذارى توبيخات شديدة جدًا، وذلك بسبب طهارة سيرته. ولما تقدّم في سيره واقترب من الدير ظهر له المسيح ملك المجد الرحوم وحده، ذاك الذي عنده كنوزٌ عديدة من الرحمة، ذاك الذي يغفر ويمحو خطايا وتعدِّيات البشر، وقال له المخلِّص بوجهٍ باشٍّ وبابتسامةٍ مملوءة نعمة: “يا أنطونيوس، هل يوجد سبب لتكبُّدك هذا التعب ”؟ فلما سمع الشيخ هذا الكلام من الرب انطرح على الأرض على وجهه وقال: “يا رب، طالما أنك جعلتني أهلاً أن أعاين حضرتك، فأنت أول من يعرف ما هي حماقة تعبي ”. فقال له محبّ البشر: “لقد احتملتَ هذا التعب والمجهود بسبب خطية هذه العذراء الصغيرة”. فانطرح أنبا أنطونيوس على الأرض على وجهه وقال له: “يا رب، أنت تعلم كل الأمور قبل أن تحدث ”. فقال له الرب: “قُم، اتبعني ”.

ولما دخل معه إلى المكان الذي كانت فيه العذراء أغلِقت الأبواب، وسمع العذراء تبكي وتقول: “يا ربي يسوع المسيح، إن كنتَ للآثام راصدًا فمن يستطيع أن يقف أمامك؟ لأنّ من عندك المغفرة (مز129: 3و4 حسب السبعينية)، يا سيدي يسوع المسيح، انتقم لي من الذي يبغضني والذي يسبِّب لي الهلاك، يا سيدي يسوع المسيح، إنني أصلِّي إليك، لا تحجب وجهك عني (مز27: 9)، لأنني آنية ضعيفة (1بط3: 7)”. وكانت تقول ذلك بدموع غزيرة.

وإنّ ربنا يسوع المسيح إلهنا الرحوم الشفوق قال: “يا أنطونيوس، ألم تتحرك أحشاؤك الآن؟ ألا تبكي عيناك عندما تسمع بضعف طبيعتها القابلة للانكسار، وكيف هي تصرخ إليَّ بدموعٍ مؤلمةٍ؟ ألم تجتذب هي مراحمي إليها بالحق مثل الخاطئة التي غسلت قدميَّ بدموعها ومسحتهما بشعر رأسها، ولأجل توبتها نالت مني غفران خطاياها بسبب إيمانها (لو7: 36-50)؟ ومع ذلك فلن أترك تعبك يذهب سُدًى، أعطها قليلاً من التعليم ثم ارحل ”. ولما قال المخلِّص ذلك اختفى.

ورجع أنبا أنطونيوس ممجِّدًا الله، وكانت دموعه تسيل بغزارةٍ على الأرض، وكان مندهشًا جدًا من صلاح الله وفيض مراحمه العديدة على كل صنعة يديه، والطريقة التي بها يقبل إليه فورًا كل إنسانٍ يخطئ ويرجع إليه تائبًا بقلب مستقيم([66]).

 

أقوال الأنبا أنطونيوس عن الإفراز

56- قال القديس أبّا موسى في حديثه مع أبّا يوحنا كاسيان في شيهيت: “أذكر أنه في حداثتي لما كنت في الصعيد حيث يسكن الطوباوي أنطونيوس، أن جاء إليه الشيوخ يسألونه عن الكمال، ورغم أن الحديث امتدّ من المساء حتى الصباح التالي؛ إلاّ أنّ الجزء الأكبر من الليل انقضى في هذا السؤال وحده، لأنهم تباحثوا فيه بإسهابٍ، وهو: ’أية فضيلة أو نظام رهباني يحفظ الراهب بلا مضرّةٍ من فخاخ وضلالات الشيطان وتصعد به هذه الفضيلة في طريقٍ مأمونٍ صحيح بخُطى ثابتة إلى قمم الكمال‘؟

“وقال كل واحدٍ منهم رأيه حسبما يعتقد. فالبعض اعتبر أنّ الكمال كائنٌ في الصوم والسهر بغيرةٍ، فالنفس التي تكون قد انسحقت بهما واكتسبت نقاوة القلب والجسد يسهل عليها الاتحاد بالله. وآخرون اعتبروا الكمال متوقِّفًا على احتقار أمور هذا العالم حتى إذا تجرّد الذهن تمامًا يقترب بغير عوائق من الله، إذ لن تُربكه فيما بعد أيّة فخاخ شيطانية.

“وآخرون رأوا أنّ الحاجة الضرورية هي إلى البعد عن العالم أي التوحُّد وحياة النسك الخفيّة، إذ أنّها هي الحياة التي يتهيّأ فيها الإنسان أكثر للشركة مع الله والالتصاق به على وجهٍ خصوصي. بينما أكّد البعض أنّ الكمال هو في إتمام واجبات المحبة أي ممارسة أعمال الرحمة، لأنّ الرب وعد في الإنجيل أن يهب الملكوت لهؤلاء بالذات عندما قال: »تعالوا إليَّ يا مباركي أبي رثوا المُلك المعدّ لكم منذ تأسيس العالم، لأنّي كنتُ جوعانًا فأطعمتموني، كنتُ عطشانًا فسقيتموني « (مت25: 34-36). وعلى هذا المنوال ظهر أنه بواسطة فضائل مختلفة يمكن للإنسان إلى حدٍّ ما أن يتقرَّب إلى الله.

فلما عبر الجانب الأكبر من الليل في هذه المناقشة، تكلّم أخيرًا الطوباوي أنطونيوس وقال: ’كل ما ذكرتموه نحتاج إليه حقًّا وهو معينٌ للمتعطّشين إلى الله والمشتاقين للاقتراب إليه، إلاّ أنّ حوادث كثيرة وخبرة الكثيرين علّمتنا أنّ أهم المواهب ليست كائنة في هذه الفضائل. فقد يكون البعض جادّين في الصوم أو السهر بحرارةٍ ومنقطعين بشجاعةٍ للتوحد وقد اتجهوا إلى التجرُّد مما لهم إلى أقصى درجةٍ حتى إنهم لا يحملون همّ طعام يومٍ واحدٍ أو بقاء فلسٍ واحدٍ معهم، ويتمّمون كل واجبات المحبة بمنتهى الإخلاص، وإذ بنا نجدهم يُخدَعون فجأةً حتى إنهم لا يكمِّلون العمل الذي بدأوه إلى غايته الصحيحة، بل بغيرتهم الشديدة وحياتهم التي تستحق المديح يبلغون إلى نهايةٍ مرعبة.

’لذلك يمكننا أن نتعرّف بوضوح على الطريق المؤدّية بنا إلى الله مباشرةً إذا تتبّعنا بعنايةٍ علّة سقوطهم وانخداعهم. فعندما تتوافر فيهم الفضائل التي ذكرتموها بغزارةٍ يعوزهم شيءٌ واحد فقط وهو الإفراز، لذلك لا يتمكّنوا من المثابرة إلى النهاية، كما لا يمكنهم اكتشاف علّة سقوطهم لأنهم لم يتعلّموا من شيوخهم كما يجب، فلم يكتسبوا صحة الحكم على الأمور ولا الإفراز الذي يعلِّم الراهب ألاّ يتطرّف في سيرِهِ بل يتخذ الطريق الملوكي، فلا ينتفخ ويتكبّر بالانحراف في طريق الفضيلة يمينًا، وذلك بالاندفاع الأعمى في جسارةٍ غبيةٍ إلى درجة تخطِّي حدود الاعتدال المطلوب، ولا الانحراف يسارًا بأن يرتاح إلى التواني متظاهرًا بضبط الجسد فيزداد بالعكس تراخيًا إلى أن يبلغ إلى روح الفتور.

’لأنّ هذا هو الإفراز الذي عبّر عنه الإنجيل ب “العين” و “سراج الجسد” حسب قول المخلّص: »سراج الجسد هو العين، فإن كانت عينك بسيطة فجسدك كله يكون نيّرًا، ولكن إن كانت عينك شريرة فجسدك كله يكون مظلمًا« (مت6: 22و23). فالعين إذ تميّز أعمال الناس وأفكارهم فهي ترى وتفحص كل الأمور التي ينبغي عملها، ولكن أيّ إنسان إن كانت عينه شريرة أي غير محصّنة بالمعرفة والحكم السليم أو مخدوعةً بأي خطأ أو تهوُّر، فإنّ جسده يصير كله مظلمًا، أي أنّ رؤيته العقلية وكل أعماله تصير مظلمة لأنها تكون غارقةً في ظلمة الرذائل وضباب الاضطرابات، لأنه يقول: »إن كان النور الذي فيك ظلامًا فالظلام كم يكون؟« (مت6: 23)

’فلا يشكّ أحدٌ أنه عندما يكون حكم القلب خاطئًا وغارقًا في ليل الجهالة، فإنّ أفكارنا وأعمالنا الناتجة عن عدم التأنّي وتشاور الفكر والإفراز تكون حتمًا غارقةً في ظلمة خطايا أعظم‘ ”([67]).

57- قال أحد الشيوخ([68]): “إنّ الإفراز الحقيقي لا يكون إلاّ من الاتضاع، والاتضاع هو أن نكشف لآبائنا أفكارنا وأعمالنا، ولا نثق برأينا بل نستشير الشيوخ المجرَّبين الذين نالوا نعمة الإفراز ونفعل كل ما يشيرون به علينا، فالذي يكشف أفكاره الرديئة لآبائه تخفّ عنه، وكما أنّ الحيّة إذا خرجت من موضعٍ مظلم إلى ضوء تهرب بسرعة، كذلك الأفكار الرديئة إذا كُشِفت تبطل من أجل فضيلة الاتضاع.

وإذا كانت الصناعات التي نُبصرها بعيوننا ونسمعها بآذاننا ونعملها بأيدينا لا نقدر أن نعملها من ذواتنا إن لم نتعلمها من معلِّميها، أَفليست هي جهالة وحماقة لمن يريد أن يعمل الصناعة الروحانية غير المرئية التي هي أكثر خفيةً (أي سرِّيةً) من جميع الصنائع، والخطأ فيها أعظم خسارةً من كل ما عداها، بغير معلِّم ”([69])؟!

58- جاء مرةً شيخ كبير زائرًا للقديس أنطونيوس في البرية وهو راكب حمار وحش، فلما رآه أنبا أنطونيوس قال: “هذا سَفَرٌ عظيم، ولكنني لا أعلم إن كان يصل إلى النهاية أم لا”([70])!

59- قيل إنّ شيوخًا كانوا ذاهبين إلى الأب أنطونيوس فضلُّوا وانقطع الرجاء منهم، وجلسوا في الطريق من التعب، فخرج إليهم شابٌ من صدر البرية، وكانت هناك حمير وحش ترعى، فأشار (الشاب) إليها بيده فحضرت إليه، فأمرها قائلاً: “احملوا هؤلاء إلى حيث يوجد أنطونيوس ”، ففعلت حمير الوحش ذلك. وجاءوا وأخبروا أنبا أنطونيوس بما حدث. أما هو فقال لهم: “هذا الراهب يشبه مركبًا مملوءً ا من كل خير، ولكنّي لا أعلم إن كان يصل إلى الميناء أم لا”!

وبعد زمانٍ دخل الشيخ في غيبوبةٍ، ثم بدأ يبكي وينتف شعره، فقال له تلميذه: “ماذا حدث أيها الأب ”؟ فقال له الشيخ: “عمودٌ عظيمٌ في الكنيسة سقط في هذه الساعة، أعني ذلك الشاب الذي أطاعته حمير الوحش ”. وأرسل الشيخ تلاميذه إليه فوجدوه جالسًا على حصير وهو يبكي. فلما رأى تلاميذ أنبا أنطونيوس قال لهم: “قولوا للشيخ أن يطلب إلى الله لكي يُمهلني في الحياة عشرة أيام لعلّي أتوب ”. ولكنه قبل أن تكمل خمسة أيام توفى([71]).

60- سأل إخوةٌ القديس فيلوكسينوس قائلين: “ذاك القديس الذي كان ساكنًا في البرية الداخلية بالقرب من أنبا أنطونيوس، الذي قال عنه إنّ عمودًا سقط اليوم من الكنيسة، لماذا لما سقط وطلب مهلةً لمدة عشرة أيام لم تُعطَ له سوى خمسة أيام؟ ولماذا لم يذكر الكاتب سقطته ”؟

أجاب الشيخ: “كان هذا الرجل عظيمًا في درجة أنبا أنطونيوس، بدليل ما فعله القديس أنطونيوس إذ نتف شعر لحيته وبكى وناح من أجله، لأنه كان قد ذاق النعمة السماوية ولذلك تكبَّر كثيرًا، ولأنّ سقوطه كان ممتلئًا إثمًا لذلك لم يُعطَ له زمانٌ للتوبة كما طلب رغم أن أنبا أنطونيوس صلَّى من أجله كثيرًا، وذلك لسببين: الأول: أنه لو أعطيَ زمانًا كما طلب ما كان سيتوب، والثاني: لكي يحترس أنبا أنطونيوس والكاملون مثله في ذلك الزمان. ورغم صلاة أنبا أنطونيوس لم تُعطَ له مهلة خمسة أيام أخرى لأنّ خطيته كانت مضاعفة: كبرياءه وسقوطه.

ولم يوضِّح الكاتب سبب سقوطه بل ذكره بالرمز للفاهمين لئلاّ يكون سبب شكٍّ (أي عثرة) لمن يعرفه ويسمعه، لأنه مع العطايا العظيمة والمواهب الكثيرة التي نالها قال الكاتب إنّ الوحوش كانت تطيعه عندما يركبها. أما سقوطه فواضحٌ مما قاله داود النبي: »الإنسان الذي لا يعرف كرامته يشبه البهائم التي لا عقل لها« (مز49: 20) . يا ربنا يسوع المسيح استرنا واحفظنا في كنفك لئلاّ نتكبّر ونسقط”([72]).

61- وقال أيضًا: “إنّ قومًا عذّبوا أجسادهم في النسك ولم يجدوا الافراز فظلُّوا بعيدين عن طريق الله ”([73]).

62- قيل إنّ الآباء مدحوا أخاً أمام أبّا أنطونيوس، فلما زاره ذلك الأخ أراد القديس أن يجرِّبه ليعرف إن كان يحتمل الإهانة، فلما وجد أنه لا يحتمل قال له: “إنك تشبه قرية (أو قصر) مزينةً من الخارج بأفخم الزينات ومن الداخل خاويةً منهوبةً من اللصوص ”([74]).

 

أقوال الأنبا أنطونيوس عن الأحلام التي من الشياطين

63- جاء مرةً بعض الإخوة إلى الأب أنطونيوس ليُخبروه عن أحلامٍ كانوا يرونها ليعلموا هل هي حقيقية أم من الشياطين. وكان معهم أتانٌ مات في الطريق، فلما سلَّموا على الأب ابتدرهم قائلاً: “كيف كان طريقكم؟ وكيف مات الأتان الصغير”؟ فأجابوه: “ومن أين علمتَ يا أبانا”؟ قال لهم: “الشياطين أروني ذلك في الحلم ”. فقالوا له: “ونحن لهذا الأمر جئنا لنسألك، لأننا نرى أحلامًا وتصدُق مرارًا كثيرة لئلاّ نكون قد ضللنا”.

فحقّق لهم الشيخ من أمر الأتان الذي أخبرهم به أنّ هذه التخيلات هي من الشياطين، وقال أيضًا: “وإن تظاهر الشياطين بالمعرفة المسبّقة فلا نميل إليهم، لأنهم يخبرون بأشياء كثيرة قبل كونها بأيامٍ ليُقنعوا الذين يُصغون إليهم، فإذا صدّقوهم يضلّونهم بعد ذلك ويهلكونهم بغشِّهم واحتيالهم. أما الشياطين فليست لهم معرفة مسبّقة، لأنّ علم الغيب عند الله وحده، وإنما هم سُعاة خفيفون مسرعون في الهواء، والذي يرونه يسبقون ويُنذرون به. فاطلبوا من الله أن يؤازركم على دحضهم، ومتى طرقوكم ليلاً قائلين إنهم ملائكة فلا تصدِّقوهم لأنهم كذبة”.

ثم قال أيضًا: “إذا بدأ إنسان يسافر من بلدةٍ بعيدةٍ تراه الشياطين فتسبق وتُنذر بمجيئه قبل أن يجيء، وقد يحدث مرارًا كثيرة أنّ ذلك الإنسان يتعوَّق أو يرجع بسبب عارضٍ ما فيظهر كذب الشياطين. وهكذا يُخبرون عن ماء النيل، لأنهم متى عاينوا أنّ الأمطار كثيرة في بلاد الحبشة يعرفون أنّ النهر سيفيض كثيرًا، فيسبقون ويُخبرون بذلك. وكما كان ديدبان (أي رقيب) داود الملك يقف على أعلى موضع فينظر ما لم ينظره مَنْ هو تحته فيُخبر به، هكذا هؤلاء الأرجاس أيضًا يفعلون ليُضلُّوا الناس ”([75]).

 

أقوال الأنبا أنطونيوس عن مشورة الآباء وطاعتهم

64- تصدَّق رجل غني بماله واحتفظ ببعضه لقلّة إيمانه، وأتى إلى الأب أنطونيوس وسجد له قائلاً: “أعلمني كيف أخلص ”. فقال له الشيخ: “إن آثرتَ الخلاص بحقٍ فافعل ما أقوله لك: اذهب إلى القرية واشترِ لحمًا، وانزع ثوبك وعلِّق اللحم في رقبتك وتعال ”. فأطاع الأخ واشترى اللحم وخلع ثوبه وحمله على رقبته، فلم يبقَ طيرٌ ولا كلبٌ في تلك القرية إلاّ وهجم عليه ونهشه الطير وجرح جسمه. فلما وصل إلى القديس على هذا الحال قال له: “مرحبًا بابن الطاعة! أعلمتَ يا بُنيَّ لماذا قلتُ لك أن تفعل ذلك؟ لكي أعطيك مثالاً، فكثيرٌ من الناس إذا سمعوا الوصايا لا يحفظونها، وآخرون ينسونها لقلّة الحسّ، فلذلك أمرتك بهذا ليكون لكلامي أثرٌ بسبب ألم الجراح، لأنّ قليلي الحسّ لا تنفع معهم الوصية شيئًا، فلهذا يا بُنيَّ أسّستُ فيك موضعًا ثابتًا لوصيتي، فإذ قد تنقّى حقلك من شوك الغفلة فلنبذر فيك الزرع المقدس.

“أرأيتَ يا بُنيَّ؟ كما نهشت الطيور والكلاب جسمك وجرحته، كذلك تنهش الشياطين وتجرح نفوس أصحاب القنية. فأوعِ الآن هذا الكلام في عقلك وتفكّر به كل أيام حياتك، وإياك يا ابني أن تتكل على المال بل اتكل على المسيح، فاذهب الآن يا بُنيَّ وفرِّق ما أبقيت لنفسك من المال حتى تكون رهبانيتك يا حبيبي نقية من الغش، لأنه سيّان عند الراهب إذا أبقى في قلايته دينارًا أو شيطانًا”.

وبعد أن دعّمه بالكلام أخذ زيتًا وصلَّى عليه ودهنه، ولوقته شُفيَ وكأنه لم يُصب بجراح ولا ألم قط، وذهب وهو مسرورٌ يسبِّح الله([76]).

65- قيل إنّ اثنين من الإخوة كانا يعيشان في دير، وكان كلٌ منهما قد وصل إلى درجةٍ عاليةٍ في الحياة النسكية، فقد كرَّس أحدهما نفسه لحياةٍ صارمةٍ من إنكار الذات والفقر، وكان الآخر مطيعًا ومتضعًا. وإذ حدث نقاشٌ بينهما أرادا أن يعرفا أي نوع من حياتهما هو الأعظم، فنزلا في نهرٍ كانت فيه تماسيح كثيرة، فدخل الأخ الذي كانت له ملَكة الطاعة ووقف بين التماسيح فانحنت كلها له. ثم صاح مناديًا زميله الذي كان إنسانًا نائحًا، فقال له: “اغفر لي يا أخي، فلم أبلغ بعد إلى درجة الإيمان هذه التي لك ”.

ولما رجعا إلى الدير سمع أنبا أنطونيوس (أب الدير) صوتًا يقول له: “إنّ الإنسان المطيع أفضل من ذاك الذي يعيش حياة فقر اختياري ”([77]).

66- وقال أيضًا: “ينبغي على الراهب الشاب أنه في كل خطوةٍ يخطوها في قلايته وكل نقطة ماء يشربها يشاور الشيوخ، لأنِّي رأيتُ رهبانًا كثيرين بعد تعبٍ كثير سقطوا في دهشة العقل والكبرياء والعُجب بالنفس لأنهم اتّكلوا على معرفتهم وحدهم، إذ لم يُصغوا إلى الوصية القائلة: »اسأل أباك فيُخبرك وشيوخك فيقولوا لك.«(تث32: 7)”([78])

 

أقوال الأنبا أنطونيوس عن الاتضاع

67- أبصر أنبا أنطونيوس فخاخ الشياطين مبسوطةً على الأرض كلها، فتنهَّد وقال: “يا رب مَنْ يفلت من كل هذه ”؟ فجاءه صوتٌ من السماء قائلاً: “المتضعون يفلتون منها”([79]).

68- سأل الإخوة شيخًا بخصوص القول السابق قائلين: “كيف رأى هذا القديس فخاخ الشيطان، هل بطريقةٍ محسوسةٍ أم معقولة؟ ومَنْ هم الذين قالوا له إنّ الاتضاع يخلِّص منها”؟

فأجاب الشيخ: “لقد رأى القديس أنبا مقار ما يشبه ذلك في البرية الداخلية من الأسقيط، فقد رأى شبه رجلين، الواحد عليه ثوبٌ مثقّبٌ وفيه أشياء ملونة والآخر يلبس ثوبًا باليًا مشبّكة به قوارير كثيرة، وكل واحدٍ منهما له أجنحةٌ كشبه غطاءٍ ملفوفٍ فيها، إلاّ أنه رأى ذلك بعين الجسد. أما القديس أنطونيوس فرأى بعين العقل جميع فخاخ الشيطان التي ينصبها للمتوحدين في كل حين ويكبِّلهم ويعوِّقهم عن السعي في طريق الفضيلة كما هو مكتوبٌ: »في طريقي نصبوا لي فخاخًا وحبالاً شبكوها في مسالكي« (مز140: 5). فلما رآها منصوبةً كشبه الفخاخ التي ينصبها الصيادون للوحوش تعجّب واحتار من كثرتها ومن أنّ الذين يسقطون فيها لا يخلصون، وهي مثل فخّ الشره وامتلاء البطن، وفخّ محبة الفضة، ومحبة الزنى، والمجد الباطل والكبرياء وبقية الأوجاع التي أظهرتها له الملائكة. كما أظهروا له جميع الحيل والخداعات التي يُخفون بها فخاخهم ويقيِّدون الإخوة بها.

فلما تعجّب واحتار من كل ذلك بكى وتنهّد وقال: ‘الويل لنا نحن المتوحدين، كيف نقدر أن نخلص من كل هذه ولا نكبَّل بها’؟! فقالت له الملائكة: ’الاتضاع يخلِّص منها كلها ولا يسقط فيها الذين اقتنوا الاتضاع‘. وهم لا يقصدون الاتضاع وحده بل ومعه الجهاد والعمل، لأنّ العمل يشبه اللحم والاتضاع يشبه الملح، فإذا عدم اللحم الملح ينتن ويفسد، وإذا اجتمع العمل الجسدي والجهاد المخفى في الذهن الذي في الهدوء والصلاة بغير فتور والاتضاع الكامل، فهي معًا تغلب جميع الأوجاع، وجميع الشياطين لا تصل إلى هؤلاء العمّالين، كما قالت الملائكة للقديس لأنطونيوس([80]).

69- في أحد الأيام جاء بعض الشيوخ لرؤية أنبا أنطونيوس وكان بينهم أنبا يوسف، وأراد الشيخ أن يمتحنهم فعرض عليهم نصًّا من الأسفار المقدسة، وسألهم مبتدئًا من الأصغر عن معنى هذا النص، فقال كل منهم رأيه حسب مقدرته، ولكنه قال لكل واحدٍ منهم: “أنت لم تفهمه ”. وأخيرًا قال لأبّا يوسف: “كيف تفسِّر هذا القول ”؟ فأجاب: “لا أعرف ”. حينئذٍ قال أنبا أنطونيوس: “بالحقيقة إنّ أبّا يوسف قد وجد الطريق (أي طريق الاتضاع وإنكار الذات) لأنه قال: ’لا أعرف‘ ”([81]).

70- كُشِف لأنبا أنطونيوس في البرية أنه كان هناك واحدٌ مساويًا له في المدينة، وكان هذا طبيبًا ويُعطي ما يكتسبه للفقراء والمعوزين ويقدِّس الله كل يوم، حيث يقضي النهار كله يرتل مع الملائكة الثلاث تقديسات([82]).

71- قيل عن أنبا أنطونيوس إنه بينما كان يصلِّي في قلايته ذات مرةٍ سمع صوتًا يقول له: “يا أنطونيوس، إنك لم تصل بعد إلى درجة رجلٍ يعمل خيّاطًا، وهو ساكن في الإسكندرية”. فنهض أنطونيوس في الصباح وأخذ معه جريدة نخل وسافر إليه، فلما رآه الرجل اضطرب. فقال له الشيخ: “أخبرني ماذا تفعل وكيف تعيش ”؟ فقال له الخياط: “أنا لا أعرف أنني أفعل أي صلاح، أعرف فقط أنني عندما أقوم في الصباح، قبل أن أجلس إلى عمل يديَّ أشكر الله وأسبِّحه، وأنا أضع أعمالي الشريرة نُصب عينيَّ قائلاً: ’كل الناس الذين في هذه المدينة سيدخلون ملكوت الله بسبب صدقاتهم وأعمالهم الصالحة ما عدا أنا فسأرث العقاب على خطاياي‘. وأيضًا في المساء قبل أن أنام أفعل نفس هذه الأمور”.

فلما سمع أنبا أنطونيوس ذلك قال: “مثل الرجل الذي يعمل في الذهب ويعمل أشياء جميلة نظيفة وهو في سلام، هكذا أنت بأفكارك الجميلة سترث ملكوت الله، في حين أنني أنا الذي قضيتُ كل حياتي في البرية منعزلاً عن الناس لم يحدث أنني فُقتُ عليك إطلاقًا”([83]).

72- سأل إخوةٌ شيخًا: “لماذا وجّه الله أبانا أنطونيوس وآباء آخرين في هذا العالم إلى علمانيين من الرجال والنساء فرأوا فضيلتهم ومدحوهم ”؟ فأجاب الشيخ: “من أجل اتضاع الآباء (أي لكي يتضعوا) وتعزية العلمانيين. فالآباء كانوا أغنياء بالأعمال والجهاد، وكانوا محتاجين إلى اتضاعٍ أكثر، والأفاضل الذين في العالم كانوا أغنياء بالاتضاع ومحتاجين إلى الشجاعة والتعزية، فأرسل الله عظماء قديسين إلى الأفاضل الذين في العالم حتى ينتفع كلا الطرفين ويكمل عونهم: هؤلاء بالأعمال والاتضاع وأولئك بالرجاء والعزاء”([84]).

73- سأل إخوةٌ شيخًا: “لماذا لما طلب بعض الآباء من الله أن يُعرِّفهم بمن يشبههم من القديسين كان يقودهم إلى قوم حقيرين في العالم كما قاد أنبا أنطونيوس إلى ذلك الإسكافي وأنبا مقاريوس إلى تينك المرأتين وأنبا ببنودة (بفنوتيوس الصعيدي) إلى ذاك اللص صاحب المزمار وغيرهم ”؟

فأجاب الشيخ: “إذا وصل الصدِّيقون الكاملون إلى علو التدبير الممجَّد يمتلئ قلبهم نورًا وفرحًا بالله، وإذ تكون لهم دالّة عنده – كدالّة يوحنا الرسول التي جعلته يسأل الرب على مائدة العشاء الربّاني عمّن سيسلِّمه – كانوا يطلبون أن يكشف لهم إلى أيّة درجةٍ وصلوا وبمَنْ مِن القديسين تشبّهوا ليكون لهم بذلك عزاء ويزدادوا حرارةً في حب الله. والرب بحكمته وصلاحه لا يعطيهم طلبتهم إذ ليس لهم فيها ربح، بل كان يقودهم إلى قوم حقيرين في العالم ذوي صلاح واتضاع، ولم يكن بقاؤهم في العالم بهواهم بل بحكم العادة أو مغصوبين أو عن ضرورةٍ، وذلك لثلاثة أسباب: الأول: لكي يتضعوا ولا يتكبّروا، والثاني:لخلاص الذين قادهم إليهم، والثالث: لكي يُعرَف حينئذٍ أنهم كاملون إذا اتفق مع برِّهم محقرة واتضاع وندم مثل الخطاة”([85]).

74- وقال أنبا أنطونيوس أيضًا: “اعتبر نفسك لا شيء، لأنّ عدم اعتبارك لنفسك هو دليل الاتضاع، والاتضاع يلد المعرفة، والمعرفة تلد الإيمان، والإيمان يلد الطاعة لله، والطاعة لله تلد المحبة الأخوية”([86]).

75- سأل إخوة شيخًا: “قال أنبا أنطونيوس إنّ الاتضاع هو أن لا يجازي الإنسان الشر بالشر، وإن كان لم يصل إلى هذه الدرجة فليحفظ السكوت والهدوء، فكيف من الهدوء يصل الإنسان إلى هذه الدرجة”؟

قال الشيخ: “عندما ينظر الإنسان في الهدوء إلى المسيح مصلوبًا ممّن قد أحسن إليهم ويرى نفسه مصلوبًا معه ممّن أحسن هو إليهم فهو يسأل الصفح عنهم، فقد تشبّه به الشهيد اسطفانوس في ذلك، فصار المسيح مثالاً لنا في الصبر. وكما علّمنا القديس بولس الرسول فلننظر يا إخوة إلى صليب ربنا لنرى كم صبر من أجل الخطاة. ولا تملُّوا ولا تنحلّ نفوسكم من الصبر والضيق والشتيمة والموت من أجل حبّه، واطلبوا بالصلاة الغفران لمن يضايقكم كما طلب ربنا عن صالبيه، وكما طلب اسطفانوس عن راجميه، فما دام الأخ يقتدي به في ذلك مع العمل بجميع الوصايا فهو يتضع ويقوى على كل الأوجاع، ليس بالصبر على الشتم بغير مجازاة فحسب، بل يفرح بذلك كثيرًا ويكمّل كل الفضائل ”([87]).

76- قال شيخ([88]): “إذا لم يأتِ علينا قتالٌ فعلينا أن نتضع جدًا عالمين أنّ الله لمعرفته بضعفنا رفع عنا القتال، ولكن إن افتخرنا يرفع عنا ستره (أي معونته) فنهلك ”([89]).

77- سأل إخوةٌ شيخًا: “قال أنبا أنطونيوس: ’إذا كنا بغير قتالٍ ينبغي أن نخاف كثيرًا ونتضع قدام الله، وهو يعرف ضعفنا ويظلِّل علينا بيمينه ويحرسنا، وإن تكبّرنا فهو يرفع عنا ظلّه فنهلك‘. فسِّر لنا ذلك ”. فأجاب الشيخ: “يوجد وقت علينا أن نتضع فيه، في زمان الشدّة والضيق والقتال وفي زمان الهدوء والسلامة، لأننا نحن في كل حين محتاجون إلى الله، ففي زمان القتال يعطينا العون ويقوِّينا على العمل بالصبر، وفي زمان السلامة والراحة يحفظنا من الكبرياء ويثبِّتنا بغير سقوطٍ لئلاّ ننحلّ وننساه، فهو لا يشاء أن نكون كل حين في الضيق. أما إن كنا في زمان الضيق والقتال نتضع من أجل الخوف والصعوبة، وفي زمان الراحة والأمن ننساه ونتكبّر فإنه يرفع عنا عونه ونهلك في السقوط وقطع الرجاء، فإذًا لا يوجد وقت إلاّ ونحن محتاجون فيه إلى الاتضاع في كل حين وفي كل مكان وكل فعل ”([90]).

78 – وقال أنبا أنطونيوس: “إنّ جميع القديسين من بعد الله يأتون إلى المسكنة التي هي اتضاعهم ويرتفعون بالمجد والكرامة وينسون سيرتهم الأولى، لكن علامة اتضاعهم هي مسكنتهم أمامهم في كل حين، ونحن أيضًا فلنكن هكذا ونميِّز الكتب ونذكر كل ما يُقرَأ فيها.

“بالحقيقة، يا أولادي، إننا إذا أعطينا جميع قوّتنا أن نطلب الله ونسأله فليس لنا في ذلك فضلٌ، لأنّ كل إنسان يطلب الله ويسأله فهذه هي طبيعة جوهره أن يسأله، وكل خطية يفكر فيها الإنسان هي غريبة عنه وليست هي في طبيعة جوهرنا.

“بالحقيقة، يا أحبائي في الرب، أيها الذين أعدُّوا ذواتهم أن يرفعوها قرابين لله بكل طهارةٍ، بالحق إنني لم أخفِ عنكم ما ينفعكم، لكن الأمور التي رأيتها أشهد لكم بها: أنّ المضادّ للفضيلة يظل بعيدًا عن الحق في كل حين، وكل الذين يحبون أن يحيوا بالعبادة ليسوع المسيح يُضطهدون، ولكن روح الله لا يدخل في الضعيف النفس ولا في جسدٍ مملوءٍ من الخطية.

“اصنع لك صبرًا كما علمتَ من الشهداء وجهادهم، ونحن لا نرضى أن نُشهِدَ سريرتنا علينا. فلتكن نفسك عندك أفضل من كل شيء وأنت تدرك رتب الفضيلة بلا تعبٍ، لأن كل ما في العالم يفنى، أما النفس فهي غير بالية”([91]).

79 – قال بالليديوس: “سألني مرةً القديس ديديموس (الضرير) أن أقدِّم صلاةً في حجرته ولم أُذعن، فروى لي هذه القصة: ’دخل المغبوط أنطونيوس هذه الحجرة عندما زارني للمرة الثالثة([92])، ولما طلبتُ منه أن يصلِّي ركع في الحال ليصلِّي ولم يضطرّني أن أعيد دعوتي له، معطيًا لي بذلك مثالاً للطاعة بخضوعه‘. ثم أكمل ديديموس قائلاً: ’فإذا كنتَ تسير على نفس خطوات حياته فالقِ عنك روح الجدل‘ ”([93]).

80 – قيل إنّ أخًا كان مقهورًا من الغضب ذهب مرةً لزيارة أنبا أنطونيوس، ولما انتهوا من الخدمة (أي الصلاة العامة) أراد أنبا أنطونيوس أن يمتحنه ليرى ما إذا كان قد غلب وجع الغضب، فقال له: “انهض واتلُ شيئًا مما حفظته ”. فلما وقف الأخ قال للشيخ: “في أيهما تريد أن أتأمل، في العهد القديم أم في الجديد”؟ فلما سمع أنبا أنطونيوس هذا الكلام قال له: “اجلس، فالمتكبِّر لا يمكن شفاؤه ”، فلما جلس الأخ قال له الشيخ: “أنا أقصد أن أقول: انهض، تأمل قليلاً فيما حفظته ”. ولما نهض الأخ قال للشيخ: “أتريد أن أفعل ذلك في العهد القديم أم الجديد”؟ فقال له الشيخ: “اجلس أيها المتكبِّر للغاية”. وجلس الأخ مرةً أخرى. فقال له الشيخ: “انهض وتأمل قليلاً فيما حفظته ”. فقال له الأخ مرةً أخرى: “أفعل ذلك في العهد القديم أم في العهد الجديد”؟ فقال له الشيخ: “في الحقيقة يا ابني إنك كاملٌ في كلا العهدين القديم والجديد، فقُل ما تريد”([94])!

 

أقوال الأنبا أنطونيوس عن المعونة التي تحيط بالرهبان

81- قال أنبا أنطونيوس: “توسلتُ إلى الله مرةً أن يدلّني على المعونة التي تحيط بالرهبان، ثم توسلتُ مرةً ثانيةً فرأيتُ مصابيح من نار محيطة بالرهبان وجموع من الملائكة بأيديهم سيوفٌ ملتهبة يحرسونهم مثل إنسان العين، وسمعتُ صوت الله القدوس يقول: ’لا تتركوهم ما داموا مستقيمي الطريق‘.

“فلما رأيتُ مثل هذه المعونة تنهّدتُ قائلاً: ’الويل لك يا أنطونيوس! لقد منحك الله هذه المعونة العظيمة وأنت متوانٍٍ في كل وقت! كل هذا العون محيط بالرهبان والشياطين تقوى عليهم‘؟!

فجاءني صوت الرب قائلاً: ’لا تقوى الشياطين على أحدٍ، لأني منذ أن تجسّدتُ سحقتُ قوتهم عن البشر، ولكن كل إنسان يميل إلى الشهوات ويتوانى عن خلاصه فإنّ شهوته هي التي تصرعه وتجعله يسقط‘. فصحتُ وقلتُ: طوبى لجنس البشر ولا سيما الرهبان لأنّ لنا سيِّدًا هكذا رحومًا ومحبًّا للبشر”([95]).

 

أقوال الأنبا أنطونيوس عن السكنى في البرية‎

82 – قال أنبا أنطونيوس: “الذي يسكن في البرية قد أراح نفسه من ثلاث حروب: السمع، والوقيعة، والنظر إلى ما يجرح القلب ”([96]).

83 – وقال أيضًا: “كنتُ أريد مرةً أن أذهب لأمكث قرب الريف الجنوبي، فأعاقني شيءٌ ما قائلاً لي: ’لا تذهب بل توجّه إلى الجبل (أي داخل البرية)، ففي العالم توجد ثلاثة أمور تحارب الإنسان غير موجودة في البرية هي: العين واللسان والأذن، أما في البرية فلا يوجد سوى القلب وحده الذي يحارب نفس الإنسان‘، وهذا الواحد أليس هو أفضل من أربعة (أي الثلاثة المذكورة بالإضافة إلى القلب)”([97])؟

84 – من تفسير البراديسوس: سأل الإخوة شيخًا قائلين: “ما معنى قول العظيم أنطونيوس إنّ الذي يجلس في البرية يخلص من ثلاث حروب: النظر والسمع والكلام، وتبقى معه حرب القلب فقط”؟

قال الشيخ: “إنّ القتال الذي يكون في الهدوء ليس هو بأقل من الذي يكون مع الإخوة الطائشين من النظر والسمع والكلام، بل إنّ الذين في الهدوء يكون قتال القلب لهم أكثر من القتال عند غيرهم من النظر وبقية الحواس. وكان الآباء يهربون إلى الهدوء لئلاّ تُزاد عليهم حروب الحواس مع حروب القلب، وكما أنّ الإخوة الذين يدخلون ويخرجون إذا ازداد عليهم قتال القلب مع القتال الذي من الحواس يسقطون بسرعة، لذلك فالمتوحدون الذين في الهدوء ومعهم قتال القلب إن كان يُضافُ إليه قتال الحواس فسقوطهم سهل كما حدث لبعض الإخوة الذين في الهدوء، ولما دخل عندهم نساء وازدادوا من نظر الجسد والوجوه غُلِبوا بسرعةٍ مع صعوبة حرب القلب فسقطوا.

إذن، فالقتال الذي يكون مع الذين في الهدوء في القلب من جهة حواس الجسد صعبٌ هو وقوي، لأن الذين في الهدوء يقاتلهم الشيطان بلا واسطة والذين في المجمع يكمّلون الفضيلة ويُحارَبون بواسطة الإخوة الذين يثيرهم الشيطان عليهم. لذلك فليس أَمَرّ ولا أصعب ولا أكثر مكرًا من قتال القلب الذي مع المتوحد، وهو أقل كثيرًا من القتال الذي من الحواس ”([98]).

85 – ذهب أحد الحكماء إلى القديس أنطونيوس وقال له: “كيف أنت ثابتٌ في هذه البرية وليس عندك كتب تتعزّى بها”؟ فأجابه قائلاً: “أيها الحكيم، إنّ كتبي هي شكل الذين كانوا قبلي وطبيعة الأشياء المخلوقة، أما إذا أردتُ أن أقرأ ففي كلام الله قرأت ”([99]).

 

أقوال الأنبا أنطونيوس عن الصلاة

86 – قال أخٌ لأنبا أنطونيوس: “صلِّ من أجلي ”. فقال له الشيخ: “أنا لن أرحمك ولا حتى الله سيرحمك إن لم تجاهد أنت نفسك وتصلِّ إلى الله ”([100]).

 

(1) بدء رهبنة الأنبا أنطونيوس

1- قيل عن القديس أنطونيوس: إنه كان من أهل صعيد مصر من جنس الأقباط، وسيرته عجيبة طويلة، فلنذكر اليسير من فضائله:-

إنه لما توفي والده دخل عليه وتأمله، وتفكَّر كثيرًا وقال: “تبارك اسم الله، أليست هذه الجثة كاملة ولم يتغير منها شيء البتة إلاّ توقُّف هذا النَفَس الضعيف؟! فأين هي همَّتك وعزيمتك وأمرك وسطوتك العظيمة وجمعك للمال؟ أرى أن الجميع قد بطُل وتركته، فيا لهذه الحسرة العظيمة والخسارة الجسيمة”! ثم نظر إلى والده وقال: “إن كنتَ أنت قد خرجتَ من العالم بغير اختيارك فلا أعجبنَّ من ذلك، بل أعجب أنا من نفسي إن عملتُ كعملك ”… ثم إنه بهذه الفكرة الواحدة الصغيرة ترك والده بغير دفنٍ وترك كل ما خلّفه من مال ونعيم وحشم وخرج تائهًا (هائمًا) على وجهه قائلاً: “أخرج أنا من الدنيا طائعًا ولا يُخرجونني مثل أبي كارهًا”…

وظلَّ سائرًا حتى وصل إلى شاطئ النهر([1])، فوجد هناك جميزة كبيرة وعندها بربا([2])، فسكن هناك ولازم النسك العظيم والصوم الطويل وكان بالقرب من ذلك الموضع عربان([3])، فاتفق في يوم من الأيام أن امرأةً جميلة الصورة من العرب نزلت مع جواريها إلى النهر لتغسل رجليها، ورفعت ثيابها وكذلك جواريها، فلمَّا رآهن أنطونيوس حوَّل نظره عنهن وقتًا ما ظنًّا منه أنهن يمضين، لكنهن بدأن في الاستحمام، فقال لها القديس: “يا امرأة أما تستحين مني وأنا رجل راهب ”؟ أما هي فقالت له: “اصمت يا إنسان، من أين أنت راهب؟ لو كنت راهبًا لسكنتَ في البرية الداخلية ، لأنه ليس ههنا مسكن رهبان ”.

فلما سمع أنطونيوس هذه الكلمة لم يردّ عليها جوابًا، وكثر تعجُّبه لأنه لم يكن في ذلك الوقت قد شُوهد راهبٌ ولا عُرف اسمه، فقال لنفسه: “هذه الكلمة ليست من هذه المرأة، بل هذا هو صوت ملاك الرب يوبخني ”. ولوقته ترك ذلك الموضع وهرب إلى البرية الداخلية وأقام بها متوحدًا، لأنه لم يكن في ذلك الموضع أحدٌ غيره في ذلك الوقت، وكانت سكناه في قريةٍ عتيقةٍ مندثرةٍ في جبل العربة([4]). صلاته تكون معنا آمين([5]).

 

2- ذكر القديس أثناسيوس في كتابه “حياة القديس أنطونيوس ” قصة ترك أنطونيوس للعالم هكذا:

بعد وفاة أبيه وأمّه تُرك وحيدًا مع أختٍ واحدة صغيرة، وكان عمره 18 أو 20 عامًا، فأُلقيت عليه مسئولية العناية بالبيت والأخت، ولم يمضِ على وفاة والديه ستة أشهر حتى ذهب ذات يومٍ كعادته إلى بيت الرب، وفي ذلك اليوم ناجى نفسه وتأمل وهو سائر كيف أن الرسل تركوا كل شيء وتبعوا المخلِّص (مت4: 20)، وكيف ذُكر عنهم في أعمال الرسل أنهم باعوا ممتلكاتهم وأتوا بأثمانها ووضعوها عند أرجل الرسل لتوزيعها على المحتاجين (أع4: 34و35)، وكيف وُضع لهم رجاءٌ عظيمٌ في السماء.

وإذ كان يتأمل في هذه الأمور دخل الكنيسة، وأثناء قراءة الإنجيل سمع الرب يقول للغني: »إن أردت أن تكون كاملاً فاذهب وبِع أملاكك واعطِ الفقراء وتعال اتبعني فيكون لك كنز في السماء« (مت19: 21). وكأن الله قد ذكَّر أنطونيوس بالقديسين، وكأن تلك الفقرة قُرِئت له خصيصًا، وللحال بعد خروجه من الكنيسة أعطى القرويين ممتلكات آبائه، وكانت ثلاثمائة فدان من أجود الأراضي، لكي لا تكون عثرةً في سبيله هو وأخته، وباقي المنقولات باعها، وإذ توفرت لديه أموال كثيرة أعطاها للفقراء محتفظًا بالقليل لأخته.

دخل الكنيسة ثانيةً، وسمع الرب يقول في الإنجيل: »لا تهتموا للغد« (مت6: 34)، فلم يستطع البقاء أكثر من ذلك، بل أعطى ذلك القليل أيضًا للفقراء، وإذ أودع أخته لبعض العذارى المعروفات الأمينات لتنشأ في ديرهن، تفرّغ للنسك خارج بيته محترسًا لنفسه ومدرِّبًا ذاته بالصبر، إذ لم تكن هنالك حتى ذلك الوقت أديرة في مصر، ولم يعرف أي راهب على الإطلاق أي شيء عن البراري البعيدة، بل كان على كل من أراد أن يحترس لنفسه أن يتدرب على النسك في عزلةٍ بجوار قريته.

في ذلك الوقت كان في القرية المجاورة شيخ عاش عيشة النسك منذ شبابه، وبعد أن رأى أنطونيوس ذلك الرجل اقتدى به في التقوى. وفي أول الأمر ابتدأ يُقيم في أماكن خارج القرية، وبعد ذلك كان كلما سمع عن رجل صالح في أي مكان خرج يطلبه مسرعًا كالنحلة النشيطة، ولا يرجع إلى مكانه إلاّ بعد أن يراه، فيعود بعد أن يتزوّد من صلاح الرجل بالزاد الكافي لارتحاله في طريق الفضيلة.

وإذ أقام هناك في بداية الأمر صمّم على عدم العودة إلى أماكن إقامة آبائه، أو العودة إلى ذكر أقربائه، بل عقد النية على إكمال النسك. وعلى أي حال فقد كان يعمل بيديه إذ كان قد سمع أن الكسول لا يأكل (2 تس3: 10)، وكان يُنفق جزءً ا لأجل القوت ويعطي الجزء الآخر للفقراء، وكان مثابرًا على الصلاة، عالمًا أن المرء ينبغي أن يصلِّي في السر بلا انقطاع (مت6: 7؛ 1تس5: 17)، لأنه كان يتمسك بما يقرأ بحيث لم يسقط منه إلى الأرض شيء مما كُتب، بل تذكَّر الكل، وبعد ذلك أغنته ذاكرته عن الكتب.

وإذ سلك أنطونيوس هكذا أصبح محبوبًا من الجميع، وكان يخضع بإخلاص لكل من زارهم من الصالحين، وعرف تمامًا أين كان يفوقه كل منهم في الغيرة والنسك: لاحظ لطف هذا وصلاة ذاك بلا انقطاع، وعرف تحرُّر هذا من الغضب ورقَّة ذاك. لاحظ هذا وهو يسهر وذاك وهو يدرس. أعجِب من هذا من أجل قوة احتماله، وبذاك من أجل صومه ونومه على الأرض. راقب باهتمامٍ وداعة هذا وطول أناة ذاك، كما لاحظ تقوى الجميع نحو المسيح ومحبتهم المتبادلة وهكذا إذ امتلأ كان يعود إلى مكان نسكه ويجاهد لاكتساب صفات الجميع، وتاق إلى إبراز فضائل الجميع في حياته. ولم يحاول منافسة نظرائه في السنّ سوى في أمرٍ واحدٍ، هو أن لا يكون أقل منهم في الأمور الأسمى. وهذا فعله بحيث لا يجرح شعور أي واحدٍ، بل جعلهم يفرحون به.

وهكذا عندما رآه بهذه الحال كل أهل تلك القرية والأشخاص الصالحون الذين تودّد إليهم، صاروا يدعونه حبيب الله، ورحّب به البعض كابن وغيرهم كأخ([6]).

 

(2) استلامه للحياة الرهبانية بيد ملاك

3- قيل عن القديس أنطونيوس: إنه ذات يوم وهو جالس في قلايته أتى عليه بغتةً صغر نفس وملل وحيرة عظيمة وضاق صدره، فبدأ يشكو إلى الله ويقول: “يا رب، إني أحب أن أخلص والأفكار لا تتركني، فماذا أصنع ”؟ وقام من موضعه إلى موضعٍ آخر وجلس، وإذ برجلٍ جالسٍ مقابله وعليه اسطوانة (أي هالة) ومتوشِّح بزنار صليب مثال الإسكيم، وعلى رأسه كوكلسة([7]) شبه الخوذة، وكان جالسًا يضفر الخوص، ثم قام ذلك الرجل عن عمله ووقف يصلِّي، ثم جلس يعمل أيضًا، ثم قام أيضًا وصلَّى، وأيضًا جلس يعمل، وكان ذلك الرجل هو ملاك الله أرسِل لعزاء القديس وتقويته. فقال له: “يا أنطونيوس، اعمل هكذا وأنت تستريح ”. فلما سمع كلام الملاك امتلأ فرحًا وتعزيةً، ومن ذلك الوقت اتخذ أنطونيوس ذلك الزيّ الذي هو شكل الرهبنة، وصار يصلِّي ويعمل أيضًا الضفيرة، ولم يعد الملل يضايقه بشدّة، واستراح بقوة الرب يسوع المسيح له المجد([8]).

وقيل إنّ أنبا أنطونيوس هو الذي سلَّم الزيّ الرهباني للرهبنة بعد أن رأى الملاك مرتديًا إياه([9]).

 

(5) يقصد نهر النيل بجوار مسقط رأسه: قرية “قمن العروس ” بمحافظة بني سويف.

(6) كلمة أصلها قبطية: πιερφει وتعني “هيكل”، والمقصود هنا معبد وثني قديم.

(7) أي جماعة من العرب، وربما يقصد “بدو” أي سكان البادية.

(8) كانت هي منطقة “بسبير” (مكان دير الميمون الآن في منتصف المسافة بين إطفيح وبني سويف) (ناسك).

(9) مخطوطة س 4 ص 6.

(10) “حياة”: أرقام 2 – 4.

(11) غطاء الرأس ويُدعى “كوكولاّ” أو “كوكوليون Κουκούλειον” أو بالقبطية “كلفت”، وهو يغطي الرأس والقفا معًا (الرقبة)، لذلك فهو يشبه غطاء رأس الأطفال تمامًا، لذلك فهو محسوبٌ أنه يشير إلى روح البساطة التي للطفل . وكل الإشارات التي جاءت عنه في أقوال الآباء تفيد أنه قطعة منفصلة بذاتها لا تتصل بأي ملابس أخرى، ويمكن خلعها في الحال فتسقط إما إلى الأمام أو إلى الخلف لأنها تكون مربوطة حول الرقبة، وقد رُسِمت على رأس أنبا أنطونيوس في صورته بحصن دير أنبا مقار. ويقرر “إيفيلين هوايت ” أنه رأى بعض الرهبان الشيوخ يلبسونها في وادي النطرون وبالأخص في رحلاتهم خارج الدير. (عن “رهبنة” ص 355؛Apoph., Zacharias, 3; Theodore of Pherme, 28; Ev. White, II, p. 195.)(13) Am., p. XXIII. (12) س4 ورقة6؛W. & W. I: 131, Apoph., Ant.,

(14) س 4 ورقة 6. (15) س 4 ورقة 9 ؛ Apoph., Ant., 3 ; W. & W., II: 35

(16) س 4 ورقة 8 ، ورقة 151 ؛ W. & W., II: 207 ; Apoph., Ant., 33

(17) س 4 ورقة 9 ؛ Apoph., Ant., 32 ; W. & W., II: 402

(18) Apoph., Ant., 25 ; W. & W., II: 178.

(19) بالقرب من الفيوم حيث كانت هناك مجموعة رهبان تحت رعايته. (“ناسك”).

(20) أي يفتري عليك أو يحاول أن يستعبدك.

(21) م23 ورقة 160.

(22) س 4 ص 7.

(23) أنظر أقوال أنبا مقار: قصة ظهور الشيطان له بأسلحته المحيطة بكل جسمه ليحارب بها المجاهد في طريق الرب.

(24) “حياة ” رقم 5 و 6.

(25) “حياة ” رقم 51 و 52.

(26) “حياة” رقم 65.

(27) المرجع السابق.

(29) م 41.

(28) Am., 24, 7.

(30) Arm., II: 430. (31) م 23 ورقة 164.

(32) من قوانين ووصايا القديس لأولاده الرهبان بدير النقلون: م 23 ورقة 162 ، 163.

(33) س 4 ورقة 9؛ Apoph., Ant., 6 ; W. & W., II: 196

(34) “حياة ” رقم 55.

(35) م 23 ورقة 165.

(36) س 4 ورقة 9 ؛ م 23 ورقة 165 و 166.

(37) س 4 ص 10 ؛ م 23 ورقة 166 و 167.

(38) س 4 ورقة 10 ؛ م 23 ورقة 167 و 168.

(39) Am., 22, 14. (40)

K., 295.

(41) Am., 41, 11. (42)

Am., 39, 1. (43)

Apoph., Ant., 10.

(44) س 9 جزء 4 رقم 23 ص 103 ؛

W. & W., II: 662 (45) “حياة” رقم 85.

(46) Am., 36, 16.

(47) س 4 ص 8؛

W. & W., I: 10; Apoph., Ant.,18 (48) س 4 ص 8 ؛

W. & W., I: 202; Apoph., Ant., 19 (49) س 9 جزء 4 رقم 64.

(50) س4 ورقة 8 ؛

Apoph.,Ant.,36 (51) س 4 ص 9.

(54) Am., 39, 10. (52) المرجع السابق.

(53) م 23 ورقة 164.

(55) س 4 ورقة 134. س 4 ورقة 8

(56) Apoph., Ant., 35 ;

(57) س 4 ورقة 8 ؛

W. & W., II: 21 (58) س 4 ص 9.

(59) س 4 ص 105و 146؛

Apoph., Ant., 4 ; W. & W., II: 367 (60) م 23 ورقة 163.

(61) س 4 ص 9.

(62) المرجع السابق.

(63) س 4 ورقة 9. (64) C S P, V, 1.

 (65) J. Cass., Conf. XXIV, ch.,11.

(66) كلمة “كينوبيون” تتكون من مقطعين: κοινός = مشترك، βίος = حياة، أي حياة مشتركة. ويمكن أن تُنطَق “كينوبيوس ” وتعني مؤسسة أو مكان به قلالي كثيرة أصحابها متّحدون في نظام الحياة، وتُرادف في المعنى الوصفي تمامًا كلمة “موناستيريون μοναστήριον” وأصلها μονάζειν أي يعيش منفردًا. فكلمة “موناستيريون” تعني مكان يحيا فيه الناس حياة منفردة، وقد انحرف معنى هذه الكلمة وتطورت لتشمل معنى الدير بوصفه الحالي حيث يعيش فيه جماعة = = حياة غير توحدية على الإطلاق. ومَنْ يعيش في كينوبيون هو عكس المتوحد: άναχωρητής الذي يعيش منفردًا بعيدًا عن الناس. (“رهبنة” الطبعة الثانية، ص 48).

(67) س 4 ص 10؛ W. & W., I: 406 ; Apoph., Ant., 29

(68) س 4 ورقة 10 ؛ Apoph., Ant., 21; W. & W., I: 606

(69) أي أحد بيوت العذارى حيث لم تكن قد وُجدت أديرة للراهبات بعد.

(70) Am., 33, 4.

(71) س 4 ص 11 ؛

J. Cass., Conf., II, ch. 2 (72) هو أنبا أنطونيوس في بعض المراجع.

(73) س 4 ص 104 ؛ س 5 ورقة 22.

(74) س 4 ورقة 87 ؛ Apoph., Ant., 14;

(75) س 4 ورقة 87 ؛ Apoph., Ant., 14 ; W. & W., II: 415 (76) س9رقم 283ص392.

(77) س 4 ورقة 10؛ Apoph., Ant., 8; W. & W.,I :296

(78) س 4 ورقة 90 ؛ Apoph., Ant., 15; W. & W., I: 229

(79) س 4 ص 116 ؛ Apoph., Ant., 12 ; W. & W., II: 56

(80) س 4 ص 124 ؛ Apoph., Ant., 20 ; W. & W., I: 178 (81) Am., 22, 5; Anonyme, 161.

Apoph., Ant., 37 , 38 (82) س 4 ص 11 ؛ س 7 ورقة 68؛

(83) س 4 ص 138 ؛ Apoph., Ant., 7 ; W. & W., I: 453

(84) س 9 رقم 133 ص 218.

(85) Apoph., Ant., 17 ; W. & W., I: 551.

(86) Apoph., Ant., 24 ; W. & W., II: 3 ; Ch., 172. (87)

W. & W., II: 2.

(88) س 9 جزء 4 رقم 199 ص 304.

(89) س 9 جزء 3 رقم 27 ص 69.

(90) Am., 32, 9. (91) س 9 رقم 30 ص 108.

(92) ذكرت مخطوطة س 9 في القول التالي أنه أنبا أنطونيوس.

(93) س 4 ص 114 ؛ W. & W., I: 519

(94) س 9 جزء 4 رقم 135 ص 222. (95) م 41.

(96) أغلب الظن أن زيارة أنبا أنطونيوس هذه للإسكندرية كانت لكي يثبِّت المؤمنين ضد البدعة الأريوسية، وذلك استجابةً لدعوة البابا القديس أثناسيوس له.

(97) Laus.,4, 3.

(98) Am., 21, 3. Am., 44: 3, 10 (99) س 4 ص 138 ؛

(100) Apoph. Ant., 11; W. & W., I: 46 ; س 4 ورقة 146

(101) Am., 36, 10.  ; س 4 ورقة 64

(103) D. F., p. 128: XVI

(102) س 9 رقم 28 ص 107.

(104) Apoph., Ant., 16; W. & W., II: 114.

أقوال الأنبا أنطونيوس الكبير أبو الرهبان مع سيرة حياته
أقوال الأنبا أنطونيوس الكبير أبو الرهبان مع سيرة حياته

أقوال الأنبا أنطونيوس الكبير أبو الرهبان مع سيرة حياته