أبحاث

رسالة رومية الأصحاح7 – عظة14 ج1 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب

رسالة رومية الأصحاح7 – عظة14 ج1 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب

رسالة رومية الأصحاح7 – عظة14 ج1 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب

رسالة رومية الأصحاح7 – عظة14 ج1 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب
رسالة رومية الأصحاح7 – عظة14 ج1 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب

العظة الرابعة عشر

” فإننا نعلم أن الناموس روحى وأما أنا فجسدى مبيع تحت الخطية” (رو14:7).

          1 ـ ولأن الرسول بولس قال سابقًا إن هناك شرور كثيرة قد صارت، وإن الخطية قد أصبحت أكثر قوة عندما كانت هناك الوصية، وإن ما حاول الناموس تحقيقه قد حدث عكسه، فإنه بذلك يكون قد وضع المتلقى لرسالته في حيرة كبيرة. لذلك أخذ هنا يتحدث عن كيف صارت الأمور على هذا النحو بعدما برأ الناموس من الشبهة الخبيثة. وحتى لا يعتقد أحد أن قول الرسول بأن الخطية اتخذت فرصة بالوصية، وأنه عندما أتت الوصية عاشت الخطية، أنه خُدع وقُتل، وأن الناموس هو سبب كل هذه الشرور، راح الرسول يدافع أولاً عنه بكلام مستفيض، ليس فقط مبرءًا إياه من الإدانة، ولكن موجهًا له أعظم المديح. وهو يذكر ذلك، ليس باعتباره متُفضلاً على الناموس، بل كمن يُعبّر عن حكم عام معروف لدينا جميعًا. إذ يقول: ” لأننا نعلم أن الناموس روحى”. كما لو أنه كان يقول إنه لأمر معروف وواضح، أن الناموس روحى، وأنه بعيدًا كل البُعد عن أن يكون سببًا للخطية، ومسئولاً عن الشرور التي تحدث.

          لاحظ أنه لم يُبرئ الناموس من الإدانة فقط، ولكنه يمتدحه بشدة. لأنه يقول عنه إنه “روحى” موضحًا كيف أن الناموس هو مُعلّم الفضيلة، وعدو للخطية. لأن هذا هو معنى أن “الناموس روحى”، بمعنى أنه منزهًا عن كل الخطايا، الأمر الذي جعل الناموس هو المحذر، والمُرشد، والمُصحح، والمقدم لكل النصائح التي تساعد على ممارسة الفضيلة. إذًا من أين وجدت الخطية، طالما أن المعلّم (أى الناموس) كان رائعًا؟ أقول وُجدت الخطية نتيجة لامبالاة التلاميذ. ولهذا أضاف قائلاً: ” وأما أنا فجسدى” واصفًا الإنسان الذي عاش في ظل الناموس، والإنسان الذي عاش قبل الناموس.  “مبيع تحت الخطية” لأن آلامًا كثيرة ظهرت مع الموت (الناتج عن الخطية)، وعندما صار الجسد فاسدًا، تعرّض فيما بعد بالضرورة للشهوة والغضب والحزن وكل الأمور الأخرى التي تحتاج لعفة كبيرة. أقول هذا  حتى لا تغمر نفوسنا هذه الأشياء، ويغرق فكرنا في قاع الخطية. لأن هذه الأشياء لم تكن في حد ذاتها خطية، ولكن المغالاة فيها وعدم قمعها هو ما جلب علينا كل هذه النتائج. وتوضيحًا لذلك أسوق هذا المثل وأقول إن الرغبة المشروعة في حد ذاتها ليست خطية بالطبع، ولكن عندما تسقط في المغالاة، وترفض البقاء في إطار قوانين الزواج، بل وتذهب إلى نساء غريبات، عندئذٍ يصير هذا المسلك زنى، إلاّ أن الشهوة في حد ذاتها ليست هى السبب في ذلك، بل السبب يكمن في الشراهة التي هى وراء الشهوة.

          وانتبه إلى حكمة الرسول بولس، لأنه بعدما امتدح الناموس، انتقل سريعًا وبطريقة مباشرة إلى الزمن السابق على الناموس، مُظهرًا كيف عاش الجنس البشرى آنذاك، وكذلك كيف عاش عندما أخذ الناموس، لكى يُبيّن أن مجيء النعمة كان أمرًا ضروريًا، الأمر الذي حرص على أن يُظهره في كل موضع. لأنه عندما يقول ” مبيع تحت الخطية“، لا يتحدث فقط عن أولئك الذين عاشوا في ظل الناموس، بل وعن الذين عاشوا قبل الناموس، وأيضًا عن الذين وجدوا في عهد النعمة.

 

2 ـ ثم يتحدث بعد ذلك عن طريقة البيع (تحت الخطية)، وإعلان الحكم  

 

” لأنى لست أعرف ما أنا فاعله” (رو15:7).

          ماذا تعنى عبارة “لستُ أعرف” تعنى أجهل. ومتى حدث هذا، إذ لا يوجد أحد مطلقًا يكون قد أخطأ دون أن يعرف. أرأيت كيف أنه إن لم نقبل الكلمات بالورع المناسب، وإن لم نفهم الهدف الرسولى، فإننا سنتبع أمورًا كثيرة في غير موضعها، لأنه إن كانوا قد أخطأوا دون أن يعرفوا،  تمامًا كما قال سابقًا ” لأن بدون الناموس الخطية ميتة “[1]، فإنه يقول هذا لا لكى يُبرئهم أنهم أخطأوا بدون معرفة، بل لأنهم كانوا بالطبع يعرفون ولكن ليست المعرفة الدقيقة. ولهذا أُدينوا، ولكن ليس بقسوة شديدة. وأيضًا قال:    “ بل لم أعرف الخطية“، وعدم المعرفة هنا، لا يقصد به الجهل التام، بل ما يُشير إليه هو عدم المعرفة الواضحة جدًا. وقال إن الخطية بالوصية أنشأت فيّ كل شهوة، وهو لا يعنى بهذا أن الوصية أنشأت الشهوة، ولكن ما يعنيه هو أن الشهوة التي بالخطية قد ظهرت وازدادت بالوصية. هكذا هنا أيضًا لا يُعلن عن جهل كامل، قائلاً: ” لأنى لست أعرف ما أنا فاعله“، لأنه كيف يُسر بناموس الله بحسب الإنسان الباطن؟

          إذًا ما معنى ” لست أعرف “؟ يعنى صار لى الأمر غامضًا، وخُدعت، وهُددت، فإننا غالبًا ما نقول: لا أعرف كيف أن فلان أتى وخدعنى، ذلك رغبةً منا في ألا ننسب الجهل لنفوسنا، إلاّ أن هذا يُظهر خداعًا معينًا، وظروفًا محددة، وتسلطًا. ” إذ لست أفعل ما أريده بل ما أبغضه فإياه أفعل“. إذًا كيف لا يعرف هذا الذي يفعله؟ لأنه إن أردت الخير وأبغضت الشر، فهذا يدل على أنني لديّ معرفة كاملة. وبناء على ذلك فإنه من الواضح أن بولس الرسول قال عبارة ” لست أفعل ما أريده“، لا لكى يُبطل الحرية، ولا لكى يُشير إلى قوة تُجبره على ذلك. لأنه إن أخطأنا بدون إرادتنا، وكانت هناك قوة تدفعنا لهذا، فلن تكون العقوبات التي كانت من قبل مُبررة. ولكن كما يقول ” لست أعرف“، وهى عبارة لا تعلن عن جهل، تمامًا كما سبق وأشرنا، لذا أُضيفت عبارة ” لست أفعل ما أريده” وهى لا تُعلن أنه لا يفعل ما يريده نتيجة لإحتياج ما، بل أنه أراد لنا ألاّ نمتدح تلك الأمور التي تحدث. وهذا ما أراد أن يقوله، لذلك بعدما قال: ” ما لست أريده إياه أفعل” لم يقل ما أُجبر عليه وأُدفع إليه، إياه أفعل ـ وهذا هو ضد إرادتنا وضد سلطاننا، بل قال ” ما أبغضه فإياه أفعل” لكى تعلم أن بقوله “ما أريده” يجرد نفسه من القدرة على فعل ما يريده. وأتساءل ماذا يعنى بعبارة ” ما لم لست أريده“؟ أجيب: يعنى هذا الذي لا أمتدحه، هذا الذي لا أقبله، هذا الذي لا أحبه، وللتوضيح، أضاف:

 

” بل ما أبغضه. إياه أفعل. فإن كنت أفعل ما لست أريده فإنى أصادق الناموس أنه حسن ” (رو16:7).

          3 ـ أرأيت كيف أن الفكر ليس فاسدًا، بل هو في الواقع يحتفظ بحيائه؟ إذ بالرغم من أنه انشغل بالخطية، إلاّ أنه يُبغضها، الأمر الذي يمكن أن ينشئ مدحًا كبيرًا للناموس الطبيعى والناموس المكتوب. لأنه كما يقول (الرسول بولس) من حيث إن الناموس حسن، فهذا واضح بالنسبة للأمور التي أُدين بها نفسى، بسبب مخالفتى للناموس، وأُبغض ما قد حدث (من خطايا). فلو كان الناموس هو سبب الخطية، فكيف أبغض ما أمر به الناموس، إذ هو ـ في نفس الوقت ـ يُسرّ بالناموس؟ لأنه يقول: ” أصادق الناموس أنه حسن”.

 

” فالآن لستُ بعد أفعل ذلك أنا بل الخطية الساكنة فيّ. فإنى أعلم أنه ليس ساكن فيّ أى في جسدى شئ صالح ”(رو17:7ـ18).

          هنا تتحدث هذه الآيات عن الذين يحتقرون الجسد، حاسبين إياه شرًا. ماذا سنقول إذًا؟ سنقول ما سبق وقلناه، عندما تحدثنا عن الناموس، أى أنه كما تكلّم (القديس بولس) سابقًا، عن أن كل شئ يعود إلى الخطية وما تُحدثه فينا، هكذا يقول هنا أيضًا، لأنه لم يقل إن الجسد يفعل هذا، بل قال العكس ” لست بعد أفعل ذلك أنا بل الخطية الساكنة فيها”. ولكن كون أنه يقول لا يسكن في الجسد شئ صالح، فإن هذا لا يُمثل إدانة للجسد، لأن عدم سكنى شئ صالح في الجسد لا يدل على أن الجسد شر.

          نحن بالطبع نقبل أن طبيعة الجسد المادية هى أقل وأدنى في القيمة والنوعية من طبيعة النفس الروحية، لكنها ليست مضادًا ولا عدوًا ولا شرًا، بل أنها تخضع للنفس، مثل القيثارة التي في يد العازف، ومثل السفينة بالنسبة للقبطان، والتي هى ليست مضادة لمن يستخدمها أو يقودها، لكنه يقودها بشعور من الحب الكبير جدًا دون أن تكون بالطبع مساوية للفنان أو القائد. تمامًا كما يقول قائل: كون إن الفن لا يوجد في القيثارة، بل في العازف، ولا في السفينة، بل في القبطان، فهذا لا يلغي دور هذه الآلات، ولكنه يظهر الفرق بينها وبين الفنان، هكذا القديس بولس يقول ” ليس ساكن .. في جسدى شئ صالح” لم يُبطل الجسد، لكنه أظهر امتياز النفس. لأن  النفس هى تلك التي تعهدت كل القيادة والعزف، الأمر الذي يظهره الرسول بولس هنا مشيرًا إلى سلطة أو سيادة النفس، مخبرًا إيانا أن الإنسان مكوّن من اثنين النفس والجسد، وأن الجسد أقل فهمًا وبدون عقل، وأنه مرتبط بالأشياء التي تُقاد عن طريق آخر، وليس بالأشياء التي تقود، بينما النفس هى أكثر حكمة، وأنها تعرف جيدًا ما ينبغى فعله وما لا ينبغى ، دون أن تنقصها القوة لكى تقود الجواد حيثما تريد، الأمر الذي سيُمثل إدانة، ليس فقط للجسد، بل للنفس أيضًا عندما تعرف ما يجب فعله، ولكنها لا تفعل ذلك الذي قررته ” لأن الإرادة حاضرة عندى وأما أن أفعل الحسنى فلست أجد“.

          ومرة أخرى يقول ” لست بعد أفعل” لا يقصد بذلك عدم معرفة أو شك، بل يشير إلى وجود خلل ما، وخداع الخطية، ولكى يُبيّن هذا بوضوح، أضاف:

 

” لأنى لست أفعل الصالح الذي أريده بل الشر الذي لست أريده إياه أفعل. فإن كنت ما لست أريده إياه أفعل فلست بعد أفعله أنا بل الخطية الساكنة فيّ ” (رو19:7ـ20).

          أرأيت كيف أنه برأ طبيعة النفس وطبيعة الجسد من الإدانة، ونسب كل شئ للعمل الخبيث؟ لأنه إن كان لا يريد الشر، فالجسد أيضًا حر، وأن كل شئ يتوقف على الاختيار الشرير. لأن جوهر النفس وجوهر الجسد كلاهما خلقة الله، بينما الحركة التي تأتى من أنفسنا فهى مرتبطة بإرادتنا التي تُقرر اختيار الطريق الذي تسلكه. بمعنى أن الإرادة هى شئ فطرى أو غريزي وتأتى من الله، بينما إرادة فعل الشر التي هى من ابتداعنا، فهى تتعلق بنا نحن وبقرارنا الذي نتخذه.

         

4 ـ ” إذًا أجد الناموس لى حينما أريد أن أفعل الحسنى أن الشر حاضر عندى ” (رو21:7).

          هذا الكلام غير واضح. فما الذي يعنيه؟ يعنى أن الرسول بولس يمتدح الناموس وفقًا لضميره، ويجد نفسه مدافعًا عنه فيما يتعلق برغبته في فعل الحسنى إذ هو يشدّد عزيمته. تمامًا مثل “أسرّ بناموس الله”، هكذا فإن الناموس يمتدحه على ما يفعل من حسنات. أرأيت كيف أن معرفة الأمور الحسنة والأمور الشريرة هى أمور مغروسة داخلنا منذ البداية، بينما الناموس الموسوى يمدحها ويُمتدح منها؟ لأنه لم يقل من قبل، إننى أتعلّم من الناموس، لكنه قال: ” أسر بناموس الله “، كما أنه لم يقل قبلاً إنى أتعلّم منه بل قال: ” أصادق الناموس ” وهكذا فلم يقل أيضًا إننى أتدرب أو أتعلم من الناموس، بل “أُسر بناموس الله”. وماذا يعنى “أصادق”؟ يعنى أننى أقبل أنه حسن، تمامًا كما أن الناموس أيضًا يصادقنى أو يوافقنى عندما أريد أن أفعل الحسنى. وبناء على ذلك فكوننا نريد فعل الحسنى ولا نريد أن نفعل الشر، فهذا أمر قد غرسه الله في طبيعتنا منذ البداية. لكن عندما أتى الناموس، بدأ يُدين الشرور بشدة، ويُثني على الأعمال الحسنة أيضًا.

          أرأيت كيف أن الرسول بولس يريد أن يوضح أبعاد الدور الحقيقي الذي يقوم به الناموس وليس أكثر من ذلك؟ وكأنه يقول إن الناموس حينما يُثنى على ما أفعل، وعندما أُسر وأريد أن أفعل الحسنى، فهذا لا يعنى أن الشر بعيدًا عنى، بل مازال قريبًا منى وعمله لم يُبطل. وبالتالى فإن الناموس وفقًا لما سبق عرضه، يصير مجرد ممتدحًا للمرء حين يفعل الحسنى، طالما أن الناموس يريد نفس الأشياء التي يفعلها.

ثم بعد ذلك يتقدم ويُفسر هذا الموقف ويجعله أكثر وضوحًا لأنه أشار إلى هذه الحالة بغموض، مُبينًا كيف أن الشر قريب، وأن الناموس هو فقط ناموس لذاك الذي يريد أن يفعل الحسنى.

 

” لأننى أسر بناموس الله بحسب الإنسان الباطن ” (رو22:7).

ما يقوله هنا هو أنه قد عرف الحسنى بالطبع قبل أن يأتى الناموس، ولكن عندما أدرك أن هذا يوجد في الناموس، فقد امتدحه.

 

” ولكننى أرى ناموس آخر في أعضائى يحارب ناموس ذهنى ” (رو23:7).

          هنا أيضًا دعى الخطية، “بناموس يُحارب” وليس “بناموس يخضع”. ويتحدث عن الانقياد المغالى فيه لمَن يخضعون للخطية. تمامًا كما يُسمى الغنى سيدًا، والبطن إلهًا، لا من أجل أهميتهما في حد ذاتهما، بل من أجل خضوع من هم عبيد للخطية لهما، وهم يخشون أن يتركونهما، تمامًا مثل الذين وضعوا هذا الناموس هم الذين يخشون أن يهجروه. هؤلاء يحاربون الناموس الطبيعى. لأن هذا هو معنى “ناموس ذهنى”.

          ثم يبرهن لنا أن الجهاد كله هو للناموس الطبيعى، لأن الناموس الموسوى أُضيف مؤخرًا. فبالنسبة للناموس الطبيعى والناموس الموسوى، نجد أن الأول يُعّد معلمًا، والآخر يمتدح الأمور التي ينبغى أن تحدث، وهما لم يتمكنا من تحقيق أى شئ في هذه المعركة، للتصدى لقوة الخطية التي تسود علينا. هذا ما يذكره بالضبط الرسول بولس، مُعلنًا الهزيمة الكاملة، قائلاً: ” ولكننى أرى ناموسًا آخر في أعضائى يُحارب ناموس ذهنى ويسبينى إلى ناموس الخطية“. لم يقل فقط إنه ينتصر، بل ” يسبينى إلى ناموس الخطية“. لم يقل يسبينى إلى شهوة الجسد، ولا إلى طبيعة الجسد، بل “إلى ناموس الخطية”، أى إلى سيادة ناموس الخطية الجائر وإلى قوته. إذًا كيف يقول “في أعضائى”؟ وما معنى هذا؟ معناه أنه لا يجعل الأعضاء خاطئة، ولكن بقوله هذا يُميز جيدًا بين الأعضاء وبين الخطية، لأنه يوجد فرق بين الوعاء وما يحتويه هذا الوعاء. تمامًا كما أن الوصية ليست شرًا، لمجرد أن الخطية اتخذت فرصة بالوصية، هكذا فإن طبيعة الجسد ليست شرًا، على الرغم من أن الخطية تحاربنا عن طريق الجسد. لأنه بهذا المنطق ستكون النفس أيضًا شر ـ لو فكرنا بهذه الطريقة ـ مادام أن لها السلطان على كل الأمور التي ينبغى أن تحدث.

          ولكن الأمر ليس هكذا. لأنه لو كان هناك شخصًا طاغيًا ولصًا قد سرق بيتًا فخمًا أو قصرًا ملكيًا، فإن هذا الحدث لا يُعد إدانة للبيت الغنى، بل أن كل الإدانة تتعلّق بمَن فعلوا كل هذه الأمور. غير أن أعداء الحقيقة، بالإضافة إلى جحودهم، يسقطون في حماقة كبيرة، ولا يشعرون بهذا، لأنهم لا يدينون الجسد فقط، بل يدينون الناموس أيضًا.

          فلو افترضنا ـ حسب قولهم ـ أن الجسد شرًا، فالناموس يكون صالحًا، لأنه يُعارضه ويتصدى له. ولكن إن كان العكس، أى أن الناموس ليس صالحًا، فالجسد يعتبر صالح ـ لأنه وفقًا لرأى هؤلاء ـ هو يجاهد ضد الناموس ويحاربه. إذًا فكيف يقولون أن الاثنين (أى الجسد والناموس) ينتسبان إلى الشيطان ويُقدمانهما على أنهما متضادين فيما بينهما؟ أرأيت كم هى واضحة حالة الجحود التي يعيشون فيها، بالإضافة إلى حماقتهم؟! لكن إيمان الكنيسة ليس هكذا، لكنه إيمان يُدين الخطية فقط، ويُقر بأن كل ناموس أُعطى من الله، أى الناموس الطبيعى والناموس الموسوى، هو عدوًا للخطية، وليس عدوًا للجسد. لأن إيمان الكنيسة لا يقول بأن الجسد خطية، بل هو خليقة الله، وهو مخلوق لتحقيق الفضيلة، إن كنا نتصف بالعفة.

 

5 ـ ” ويحى أنا الإنسان الشقى مَن يُنقذنى من جسد  هذا الموت ” (رو24:7).

          أرأيت مقدار القوة الذي للخطية، حيث إنها تنتصر على الذهن، برغم أن الرسول بولس يُسّر بناموس الله؟ لأنه لا يستطيع أحد أن يزعم بأن الخطية هُزمت، إذا أبغض الناموس، لأنه يقول لأننى أُسر بالناموس وأصادقه وألجأ إليه. لكن بالرغم من ذلك ـ كأنه يقول ـ إن الناموس لم يستطع أن يُخلّصنى ولا حتى عندما لجأت إليه، بينما المسيح خلّصنى، على الرغم من ابتعادي عنه. أرأيت مقدار امتياز النعمة؟ والرسول بولس لم يذكر الأمر هكذا، لكنه بعدما تنهَّد وحزن جدًا، كما لو كان الذين ينوون تقديم المساعدة غير موجودين، يُظهر قوة المسيح وهو في هذه الحيرة، بقوله: “ويحى أنا الإنسان الشقي مَن ينقذنى من جسد هذا الموت”؟ فالناموس لم يستطع أن يُنقذه، والضمير أيضًا لم يتمكّن أن يفعل هذا، وإن كان قد أثنى على الأمور الصالحة، وليس هذا فقط، بل وحارب الأمور المضادة للصلاح. لأنه إذ يقول ” ناموس آخر… يُحارب ” فإنه يُظهر أن هذا الناموس أيضًا يُحارب. إذًا أتساءل من أين سيأتى رجاء الخلاص؟

 

” أشكر الله بيسوع المسيح ربنا ” (رو25:7).

          أرأيت كيف أنه أظهر ضرورة أن نُعطَى النعمة وهبات الآب والابن؟ لأنه وإن كان يُشير إلى الآب، لكن السبب في هذا الشكر يرجع إلى الابن. لكن عندما تسمعه يقول ” من ينقذنى من جسد هذا الموت“، فيجب ألاّ تتصور أنه يُدين الجسد. لأنه لم يقل من يُنقذنى من “جسد الخطية”، بل من ” جسد هذا الموت“. أى الجسد الفانى، الذي هُزم من الموت، إذ ليس الجسد هو السبب في الموت، بل هو الذي تضرر بالموت، كما أن هذا التغيير ليس دليلاً على أن الجسد في حد ذاته هو خطية. تمامًا كما لو كان شخص قد أُسر من البربر، يُقال إنه ينتسب إلى البربر، لا لأنه بربرى، بل لأنه أُسر منهم، هكذا الجسد يُدعى “جسد الموت”، لأن الموت ساد عليه، وليس لأنه أنتج الموت. ولهذا تحديدًا، لم يشأ التحرر من الجسد، ولكن يُريد أن يتحرّر من الجسد الفانى، قاصدًا هذا الذي قاله مرات عديدة، طالما أن الجسد قد صار ضعيفًا، فإنه من السهل أن تسود عليه الخطية بعد ذلك. لماذا يُقال إن أولئك الذين أخطأوا قبل النعمة عوقبوا، طالما أن سلطان الخطية كان قويًا قبل مجيء النعمة؟ لكنني أقول قد عوقبوا لأنهم أخذوا وصايا كان من الممكن أن يُنفذوها، بصرف النظر عن سيادة الخطية.

          إن الناموس لم يقودهم إلى حياة كاملة، بل أنه سمح لهم بأن يتمتعوا بالأموال، ولم يمنعهم من أن يأخذوا لهم نساءً كثيرات، وأن يغضبوا إن كان الأمر يستلزم ذلك، وأن يستمتعوا باعتدال. وكان التساهل كبيرًا جدًا من جانب الناموس، حتى أن متطلباته المكتوبة كانت أقل من تلك التي حددها الناموس الطبيعى. لأن الناموس الطبيعى أمر بأن يكون للرجل علاقة جسدية دائمة مع امرأة واحدة، الأمر الذي أراد المسيح أن يُعلنه، بقوله: ” الذي خلق من البدء خلقهما ذكرًا وأنثى[2]. لكن الناموس الموسوى لم يمنع الرجل من أن يطرد زوجة، ويأخذ أخرى بدلاً عنها، ولا منع أن يكون لديه زوجتين في آن واحد. بالإضافة إلى كل هذا، يستطيع المرء أن يرى أن أولئك الذين عاشوا قبل الناموس المكتوب قد أنجزوا أمورًا أخرى أكثر من تلك التي وردت في الناموس الموسوى، وقد أعانهم الناموس الطبيعى في هذا الأمر. إذًا لم يمارس الناموس ضغطًا على الذين عاشوا في العهد القديم، طالما أنه قد أُعطى لهم مثل هذا التشريع الذي كان يتفق وقدراتهم. ولكن إذا كانوا لم يتمكنوا أن يخلصوا ولا حتى هكذا، فإن اللوم يوجه إلى لامبالاتهم. ولهذا فإن الرسول بولس يشكر الله، لأن المسيح له المجد دون أن يفحص بالتفصيل أى أمر من هذه الأمور، وليس هذا فقط بل لم يطلب منا حسابًا عن تلك الأمور التي كانت وفقًا لقدراتنا، قد جعلنا قادرين على السير في طريق أفضل، ولهذا قال ” أشكر الله بيسوع المسيح ربنا“.

[1] رو8:7.

[2] مت4:19.

رسالة رومية الأصحاح7 – عظة14 ج1 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب

تقييم المستخدمون: 5 ( 1 أصوات)