آبائيات

رسالة فيلبي ع7 – ق. يوحنا ذهبي الفم – جورج ميشيل أندراوس

رسالة فيلبي ع7 - ق. يوحنا ذهبي الفم - جورج ميشيل أندراوس

رسالة فيلبي ع7 – ق. يوحنا ذهبي الفم – جورج ميشيل أندراوس

 

رسالة فيلبي ع7 - ق. يوحنا ذهبي الفم - جورج ميشيل أندراوس
رسالة فيلبي ع7 – ق. يوحنا ذهبي الفم – جورج ميشيل أندراوس

 

تفسير رسالة بولس الرسول إلى أهل فيلبي

للقديس يوحنا ذهبي الفم

جزء أول (العظات من 1 ـ 8 )

ترجمة عن اليونانية

الباحث جورج ميشيل أندراوس

 

 

العظة السابعة

 

   ” فَلْيَكُنْ فِيكُمْ هَذَا الْفِكْرُ الَّذِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ أَيْضاً: الَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اللهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً لِلَّهِ. لَكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذاً صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِراً فِي شِبْهِ النَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي الْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ[1].

 

   يوّجه ربنا يسوع المسيح نظر تلاميذه نحو الأمور العظيمة، واضعًا نفسه وأبيه والأنبياء أيضًا مثالاً، حين يقول: ” فإنهم هكذا طردوا الأنبياء الذين كانوا قبلكم[2]، و” إن كانوا قد اضطهدوني فسيضطهدونكم[3]، وأيضًا: ” تعلموا مني لأني وديع ومتواضع[4].  و” كونوا رحماء كما أن أباكم أيضًا رحيم[5]. وهكذا أيضًا فعل المطوب بولس، فنجده يقود أهل فيلبي إلى ممارسة هذا التواضع، مشيرًا إلى المسيح له المجد، كنموذج يُحتَذَى به. نفس الشئ يقوله حينما يتكلم عن محبة الفقراء، قائلاً: ” فإنكم تعرفون نعمة ربنا يسوع المسيح، أنه من أجلكم افتقر وهو غني “[6]. لأنه لا يوجد ما يحرك النفس الحكيمة والعظيمة تجاه عمل الصلاح أكثر من معرفتها بأنها بهذا السلوك تتمَّثل بالله. إذًا هل هناك شيئًا يعادل قيمة التواضع؟ لا شئ. والقديس بولس إذ يعرف ذلك، نجده يحثَّهم على التواضع مبتدئًا بالترجي والتوسل، ثم بعد ذلك يستخدم أسلوب التبكيت فيقول:        ” تثبتون في روح واحد “، و” هو لهم بيّنة للهلاك وأما لكم فللخلاص” وفي النهاية يقول لهم: ” فليكن فيكم هذا الفكر الذي في المسيح يسوع أيضًا، الذي إذ كان في صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله. لكنه أخلى نفسه، آخذًا صورة عبد “.

   انتبهوا من فضلكم واستيقظوا، فكما يحدث حينما يكون هناك سيف ماض ذو حدين، فأينما وقع، حتى ولو على آلاف، فانه يقضي عليها بسهولة، لأنه قاطع من الجهتين ولا يوجد ما يعوق حده، هكذا أيضا كلمات الروح. وبهذه الكلمات سقطت هرطقات مثل تلك التي لآريوس الإسكندري وبولس الساموساطي وماركلوس الغلاطي، وسابيليوس الليبي وماركيون البنطي وماني وابوليناريوس من لاودكيا وفوتينوس وصوفرونيوس، وبقية الهرطقات الأخرى. فبمجرد أن تشاهدوا ذلك المشهد، حين تسقط كل هذه الفيالق بضربة واحدة، فيجب أن تستيقظوا كي لا تفوتكم فرحة ذلك المشهد. لأنه إذا كانت المتعة التي يحصل عليها المتسابق في حلبة السباق لا حد لها، وذلك حينما يفوز ويُسقط كل العربات التي تجرها أربعة أحصنة والذين يقودونها أيضًا وتنقلب على ظهورها، بعد ذلك يسير وحده في الطريق متجهًا نحو الهدف ونهاية السباق. وفي الوقت الذي يتصاعد فيه التصفيق والهتاف من كل جهة إلى عنان السماء ينطلق هكذا ويطوف بالأحصنة كل الحلبة وهو كمن يطير بسبب هذه السعادة والنشوة. فكم بالأحرى تكون هذه السعادة أعظم حينما ننتصر بنعمة الله على كل الهراطقة والأعمال الشيطانية والذين يمارسونها في نفس الوقت؟

   وإن كنتم تريدون معرفة هذه الهرطقات فيمكن لنا أن نستعرضها بالترتيب، أتريدون ترتيبًا لهذا الجحود بحسب النوع أم بحسب الترتيب الزمني لظهور هذه الهرطقات ؟ ولأنه من الصعب أن نعرف جيدًا ترتيب هذا الجحود ( من حيث نوع الهرطقة ) فسنعرض للترتيب الزمني، فأول من يقدم نفسه هو سابيليوس الليبي. فماذا يقول إذًا؟ يقول إن الآب والابن والروح القدس، هم مجرد أسماء لشخص واحد. أما ماركيون البنطي فيُعلِّم أن الله الذي خلق كل الأشياء، ليس هو الإله الصالح ولا هو أب للإبن، وإنما هو إله آخر عادل وقاس، كما أن الله الكلمة لم يأخذ جسدًا لأجلنا. بالنسبة لماركلوس وفوتينوس وصوفرنيوس فإنهم يقولون إن الكلمة هو مجرد طاقة، وهذه الطاقة سكنت في نسل داود (المسيح)، فهو ليس أقنومًا في الله. أما آريوس فبينما يقبل بوجود الابن، لكنه يقول إن الإبن مخلوق وأدني كثيرا من الآب. كما يزعم آخرون أن المسيح ليس له نفس إنسانية.

   أرأيت المركبات وهي مُجهَّزة؟ انظر إذًا لسقوطها، كيف يطرحها معًا في الحال بقوة وبضربة واحدة. كيف؟ يقول ” فليكن فيكم هذا الفكر الذي في المسيح يسوع أيضًا. الذي إذ كان في صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله “. لقد سقط أيضا بولس الساموساطي وماركلوس وسابيليوس. فالكتاب يقول: «الذي إذ كان في صورة الله» فكيف تقول أيها الدنس انه اخذ وجوده من مريم وقبل ذلك لم يكن موجود؟ كيف تقول انه كان مجرد طاقة؟ فالرسول بولس يقول إن صورة الله، اخذ صورة عبد. فهل صورة العبد تُعد طاقة أم هي طبيعة العبد؟ بالتأكيد هي طبيعة العبد. هكذا أيضا فان صورة الله تعني طبيعة الله؛ وبالتالي فهي ليست طاقة[7]. انظروا أيضًا لقد سقط ماركلوس الغلاطي، وصوفرونيوس وفوتينوس.

   أرأيت ما قاله سابيليوس. فالرسول يقول: «لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله». فالمساواة هنا أو المعادلة لا تقال عن شخص لذاته، لان المساواة والمعادلة تكون مع آخر. أرأيت أقنوم واحد لشخصين، ليس هناك أسماء علوية بدون وجود حقيقي لها. هل سمعت عن الوجود الأزلي للإبن وحيد الجنس؟

   فماذا نقول لآريوس، الذي يزعم أن الإبن هو من جوهر آخر؟ اخبرني الآن ماذا يعني قوله: ”اخذ صورة عبد “؟ يعني انه صار إنسانًا، وبناء عليه هو صورة الله، وهو الله، لان الصورة لازالت كما هي. فلو أن هذا حقيقي فهذا يعني أن ”صورة الله“ قد اخذ طبيعة الإنسان، هكذا أيضا صورة الله تعني انه من طبيعة الله. وليس ذلك فقط، بل أن المساواة مع الآب تؤكِّد، كما جاء بيوحنا أيضًا، انه ليس اقل من الآب على الإطلاق (يو1:1). لأنه يقول: «لم يحسب خلسة أن يكون معادلا لله». ولكن ماذا تعني أقوال الحكمة هذه؟ يقول: “إذ كان في صورة الله”، هذا يعني انه لم يختلس مساواته بالله. فكيف يكون له وهو الإله أن يختلس هذه المساواة؟

   وكيف يكون هذا الأمر غير مفهوم؟ كيف يستطيع أحد أن يقول إن فلان، وهو إنسان، قد إختلس طبيعته كإنسان؟ كيف سيقدر احد أن يختلس ما هو فيه؟ يقول هؤلاء الهراطقة إن الأمر ليس كذلك، ولكن المقصود انه إله أقل من الآب، وهو بهذه الصفة لم يختلس مساواته نحو الإله الأعظم منه. هل يوجد اله أعظم واله أقل؟! هل تدخل هذه العقائد الوثنية اليونانية إلى الكنيسة؟ فهؤلاء لديهم إله عظيم وإله أقل، ولست اعرف هل هذا لديكم أيضا، لأنه لا يوجد شيء من هذا على الإطلاق في الكتب المقدسة، وإنما نجد دائمًا الإله العظيم، وأما هذا الإله الأقل فلا وجود له على الإطلاق. فكيف يكون هناك إله يوصف بأنه أقل؟ فان كان بالنسبة للإنسان لا يوجد أقل وأكبر، بل طبيعة إنسانية واحدة، وإذا كان لا ينتمي إلي هذه الطبيعة الواحدة، فلن يكون إنسان، فكيف يوجد إله أقل وآخر أعظم؟ فمن ليس له الطبيعة الإلهية لا يكون الله، فدائمًا ما نجده يُلقّب في الكتاب المقدس ”بأنه عظيم“ «عظيم هو الرب وحميد جدًا»[8]. وهذا أيضًا ينسحب على الإبن، فدائمًا ما يُدعى بالرب: «لأنك عظيم أنت وصانع عجائب. أنت الله وحدك»، وأيضًا «عظيم هو الرب وحميد جدًا وليس لعظمته استقصاء»[9].

   فآريوس يتحدث عن: “إن الابن اقل من الآب ” أما الكتاب المقدس فيقول العكس، فكما أنه يتكلم عن الآب، هكذا أيضًا يتكلم عن الإبن. فاسمع إذًا إلى ما يقوله القديس بولس: «منتظرين الرجاء المبارك وظهور مجد الله العظيم»[10]. لكنه ربما يقول إن هذه الآية تتحدث عن ظهور الآب؟ لذلك أضاف إلى كلمة ”ظهور“ عبارة ”مجد الله العظيم“ لكي يقنعكم بالأكثر بمجده. إذًا هل ذكر الآب؟ مطلقًا، فتكملة الآية لا تشير إلى ذلك، إذ يقول «وظهور مجد الله العظيم، ومخلصنا يسوع المسيح». أرأيت أن الإبن أيضًا عظيمًا. فكيف تتكلم عن أقل وأعظم؟ اسمع أيضًا النبي حينما يدعوه «عجيبًا مشيرًا قديرًا»[11]. فهل هذا الإله المشير القدير ليس عظيمًا؟ هل الإله القدير هو إله اقل؟! إذًا فماذا  يعنى هؤلاء السفهاء بزعمهم انه برغم كونه أقل فهو إله؟ إنني أكرر ما يقولونه مرات عديدة، لكي تتجنّبوهم أكثر فأكثر. إذا كان إله أقل فإنه لا يمكنه أن يساوي نفسه بالإله الأعظم. ماذا إذًا، اخبرني فإن كان بحسب هؤلاء هو أقل، واقل جدًا في القوة بالنسبة للآب، فكيف يقدر أن يحسب نفسه مساويًا لله؟ فالطبيعة الأقل لا تستطيع أن تختلس ما هو أعلي منها. فالإنسان لا يستطيع أن يختلس مساواته للملاك في الطبيعة، ولا الحصان يقدر أن يختلس مساواته للإنسان في الطبيعة. ولكن بدون هذا الكلام سيقول ذاك المعترض، ما هو غرض بولس من طرح موضوع إتضاع الإبن؟ بالقطع هدفه أن يدفع أهل فيلبي نحو الإتضاع. ماذا يهدف إذًا من وراء عرضه لنموذج الإتضاع هذا؟ لأنه لا يوجد احد وهو يرغب في النصح بالإتضاع يقول: ليكن لك فكرًا أكثر تواضعًا من نظرائك، لان فلان العبد لا يقوم ضد سيده، فأفعل أنت هكذا على مثاله. ومع ذلك ربما يقول احد إن هذا ليس تعبيرًا عن الإتضاع وإنما عن الكبرياء. ينبغي إذًا أن تعرفوا ماذا يعني الإتضاع، أنتم يا من لديكم كبرياء الشياطين. إذًا ما هو الإتضاع؟ هو أن يحمل المرء فكرًا متضعًا، والذي يُمارس الإتضاع ليس مَن هو في وضع أدنى؛ أو هو مَن يمارسه عن إضطرار، بل من يضع نفسه بإرادته. سأشرح ما أقوله، ولكن انتبهوا، فحينما يكون لدى الشخص القدرة على أن يكون صاحب فكر متميز، ويتواضع، فهذا يُعد شخص متضع، ولكن حينما يتضع وهو لا يحمل  فكرًا متميزًا، فهذا لا يُعد متواضعًا. فالملك الذي يخضع لمرؤوسيه، يُعد متواضعًا، لأنه ينزل عن مكانته العالية بإرادته، ولكن إن حدث العكس وفعل المروؤس ذلك فإنه لا يُعد متواضعًا، لأنه لم ينزل من مكانة عالية. ولا يمكنه أن يتواضع، إلا إذا وصل إلى مكانة عالية وتنازل بإرادته عن هذه المكانة. فإن كان متضعًا عن إضطرار وبدون إرادته، فلن يكون هذا الإتضاع نابعًا من رغبته الخاصة، وإنما عن إضطرار. لأجل هذا كله فهو يُسمى تواضع، لأنه إتضاع للفكر.

   اخبرني إذا كان هناك شخص ما يريد إن يكون سيدًا على خاصته، ولم يكن له الحق في أن يطلب أكثر مما له، فهل نمتدح مثل هذا الشخص لأجل عدله؟ أبدًا، لماذا؟ لأن ما هو فيه بحسب وضعه قد حرمه من المديح الذي (كان يمكن أن) ينتج عن إختياره الحرّ. أيضًا إذا كان هناك شخص لا يستطيع أن يصير ملكًا متسلطًا، ولكنه ظل كما هو مواطن بسيط، فهل مثل هذا سنمتدحه بوصفه لا يتدخل في شئون الآخرين؟! بالطبع لا. فيجب أن نعي أن الإطراء لا يُعطي بسبب عدم ممارسة هذه الأعمال، بل بسبب القيام بالأعمال الصالحة. لان ذاك الذي لا يقوم بعمل إيجابي لا يُلام وإنما لا يُمتدح أيضًا فالمديح مستحق للآخر الذي يعمل الصلاح. لاحظوا إذًا أن المسيح له المجد يمدح بالأسلوب ذاته قائلا: «تعالوا يا مُبارَكي أبي، رثوا الملكوت المّعَّد لكُم منذ تأسيس العالم. لأني جُعت فأطعمتموني، عطشت فسقيتموني»[12]. فهو لم يقل: لأنكم لستم طمَّاعين، ولستم خاطفين، فهذه أمور يسيرة، وإنما لأنكم رأيتموني جوعانًا فأطعمتموني. هل يا ترى هناك من سيمدح الأصدقاء أو حتى الأعداء بهذا الأسلوب؟ فلم يُمدح أحد هكذا، ولا حتى بولس نفسه، ولماذا أتكلم عن بولس؟ فانه ولا حتى الشخص العادي يُمدح هكذا، كما تمدح أنت المسيح[13]. لان الإنسان لا ينال المديح حين يكون غير مستحق له. فان أُعجبت بمثل هذه الأمور، فهذا برهان على شر كبير. لان الناس الأشرار لا يمدحون أي شخص، إلاّ إذا تحول مثلاً ذاك الذي كان يسرق قبلاً وصار لا يسرق، ولكن بين الصالحين فان الأمر ليس كذلك[14] فهل أي إنسان يأخذ شيئا لا يحق له، أو ينال كرامة، هي ليست له،  يُعد مستحقًا للمديح؟ هل هناك حماقة أكثر من ذلك؟

   أرجو أن تنتبهوا، فان الكلام كثير. مرة أخرى مَن يحث على التواضع في مثل هذه الأمور؟ يجب أن تكون الأمثلة اكبر بكثير من الحالة التي ننصح بها. مثلما فعل السيد المسيح الذي يطلب منا أن نفعل الخير نحو أعدائنا، وأعطى مثالاً عظيمًا على ذلك، بـأن الآب يشرق بشمسه على الأبرار والأشرار بدون تفرقة، ويُمطر على كل العادلين والظالمين. ولكي يحض على الوداعة أعطى نفسه مثالاً قائلاً: «تعلموا مني، لأني وديع ومتواضع القلب»[15]. كذلك أيضًا: «فان كنت وأنا السيد والمعلم قد غسلت أرجلكم، فماذا يجب عليكم انتم بالأحرى أن تفعلوا»[16]. أرأيت كيف انه يأتي بأمثلة ليست بعيدة عن موضوع تعليمه، هكذا نفعل نحن أيضًا.ومن ناحية أخرى فإن ما طرحه (الهراطقة)، يعتبره ق.بولس في هذه الحالة أمرًا غير مناسبًا، إذ أنه لو كان الإبن عبدًا فهو بالفعل أقل، وينبغي عليه أن يطيع الأعظم، إلا أنه في الحقيقة لا يُعد هذا تواضعًا، لأنه كان يجب عليه (أي بولس) في هذه الحالة أن يفعل العكس، أي أن يأتي بمثال الأعظم الذي يتضِّع ويطيع من هو أقل. إلا أن ق. بولس لأنه يرى الأمر مختلفًا في الحالة الإلهية، وليس هناك أعظم وأقل، فمن المؤكد أن ما قدمه يتعلق بالمساواة بين الآب والإبن في الجوهر.. فلو كان الإبن أقل من الآب، لما كان في مقدوره أن يحض على التواضع، لأنه ليس من التواضع عدم قيام الأقل ضد الأكبر، وعدم سلبه للسلطة، وإطاعته حتى الموت. 

   من جهة أخرى، لاحظوا ماذا يقول (ق. بولس) بعد المثال: «بتواضع حاسبين بعضكم البعض أفضل من أنفسهم» (في3:2). فهو يقول حاسبين، لأنه بالتأكيد وحسب الواقع فأنتم واحد، هكذا أنتم أيضًا بحسب الكرامة التي تنالونها من الله، فسلوككم تجاه بعضكم البعض ينبغي أن يقوم على الاحترام فيما بينكم، أما من جهة مَن هم أعلى ومن هم أقل فلن أقول “حاسبين”، بل أن تقِّدروا من هم أعلى منكم، هكذا نجده يقول في موضع آخر: «أطيعوا مرشديكم واخضعوا»[17]. ففي هذه الحالة فإن الخضوع يأتي كنتيجة طبيعية، أما هنا (بين المتساوين) فينبغي أن يعتمد ذلك على اختيارنا نحن. هكذا يقول عن التواضع: «حاسبين بعضكم البعض أفضل من أنفسهم»[18]. تمامًا مثلما فعل المسيح له المجد. وفيما يتعلق بأقوال هؤلاء الهراطقة، فتكون قد قُوِّضَت، أما فيما يتعلق بما يخصنا نحن فيجب  علينا بعدما تناولت هؤلاء أولاً وبإختصار، أن نقول الآتي: فحينما يحض الرسول بولس على الإتضاع فهو لم يعط كمثال إطاعة الأدنى للأعلى. لأنه إن حث العبيد على طاعة أسيادهم فهذا له ما يبرره منطقيًا، ولكن إن كان يحث الأحرار على إطاعة من هم أحرارًا مثلهم، فلماذا يقدم خضوع العبد لسيده كمثال؟ وكذلك الصغير للكبير؟ فهو لم يقل ليخضع الأصغر للأكبر، ولكن أنتم الذين لكم كرامة متساوية مع الآخرين، اخضعوا، «حاسبين بعضكم البعض أفضل من أنفسهم». لماذا لم يُشر حتى إلى طاعة الزوجة لزوجها ويأخذها كمثال، قائلاً كما أن الزوجة تطيع زوجها، لذا يجب أن تطيعوا انتم أيضًا؟ فإن كان لم يقدم الشريك المساوي والحر، والذي فيه الخضوع شيء طفيف كمثال، فكيف له بالحري أن يقدم المثال الخاص بطاعة العبيد؟ لقد قلت قبل ذلك أن لا احد يُمتدح لأجل الامتناع عن الشر، ولا يُذكر هذا مطلقًا، ولا يمكن لأحد أن يقول إني أرغب في مدح شخص عفيف لأنه لم يزن، وإنما يُمتدح لتعففه حتى في حياته الزوجية. إذًا لم نُوصَ مطلقًا بمجرد البعد عن الشرور لان ذلك يثير السخرية[19].

   لقد قلت إن صورة العبد هي صورة حقيقية وليست ادني من الإنسان على الإطلاق، هكذا فإن صورة الله هي صورة كاملة وليست أدنى من الله. لماذا لم يقل: ”الذي صار في صورة الله“، وإنما قال: «الذي إذ كان»؟ هنا يعادل قوله «أهيه الذي أهيه»[20] أي (أنا هو الكائن). فإن “الصورة” تُظهر الأصل الذي يماثله، لأنها صورة له. فلا توجد كائنات ذات جوهر وتحمل صورة جوهر أخر مختلف عنها، فلا يوجد إنسان له صورة الملاك، كما انه لا يوجد حيوان له صورة الإنسان، إذًا كيف يكون هذا بالنسبة للابن؟ بعد ذلك فإنه بالنسبة لنا فلأننا من طبيعة مركبة فإن الصورة تلائم الجسد، أما بالنسبة للطبيعة البسيطة تمامًا وغير المركبة فإنها تلائم الجوهر. إن «الآب» يُذكر أحيانًا بدون أداة تعريف، وهذا ما نجده في مواضع كثيرة. ولماذا أقول في مواضع كثيرة؟ ففي نفس الآية مباشرة يقول: «لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله» ولم يستخدم أداة التعريف في كلامه عن الآب، أي لم يقل “الله”. إنني أريد هنا أن أضيف أيضًا أشياء أخرى، ولكن أخشي أن أشوش أذهانكم. فلتتذكروا أولاً ما قيل لكم بخصوص دحض أفكار أولئك الهراطقة، فلنقتلع أولاً الأشواك، ثم بعد ذلك نبذر البذار الصالحة، بعدما نكون قد اقتلعنا الأشواك حتى تهدأ الأرض قليلاً، بعد نزع كل الشرور التي تأتي منها، لكي تقبلوا بعد ذلك البذار الإلهية وأنتم متمتعين بفضيلة كاملة.

   ولنقدم الشكر لله على كل هذه الكلمات، ولنعمل على حفظها لكي نفرح جميعًا، انتم ونحن أيضًا أما الهراطقة فيخزوا. لنتوسل إليه كي يعيننا لنكرز بالكلمة في المستقبل أيضًا، ولنضع أمامه كل أمورنا وغيرتنا في الحق حتى يباركها ويحفظها. لنتوسل إليه كي يعطينا حياة الإيمان، كي نحيا لنسبحه، وحتى لا يُجدّف على اسمه بسببنا. إذ يقول «لأنه يُجدف على اسمي دائمًا بسببكم بين الأمم».[21] هل هناك مَن هو أكثر محبة لدينا من إبننا؟ فان كان يُجدَّف علينا بسبب هذا الابن، فنحن نتبرأ منه، ونطرده، ولا نقبله، فكيف بالأحرى يفعل الله حينما يكون لديه عبيد جاحدين، يجدِّفون عليه ويجحدونه، ألا يتخلى عنهم ويبغضهم؟ وذاك الذي يبغضه الله ويتخلى عنه من سيقبله؟ لا أحد، فقط الشيطان أو الأرواح الشريرة. وهل هناك رجاء لخلاص ذاك الذي تتسلمه الأرواح الشريرة؟ وأي عزاء له في هذه الحياة؟ فعندما يشملنا الله بعنايته، لا يستطيع احد أن يخطفنا، فعنايته لنا هي عناية قوية، ولكننا نهلك حينما نفقد هذه العناية وهذه المعونة، ونكون عُرضه كي يخطفنا الجميع، «كحائط مُنقض، كجدار واقع»[22]. وحينما يكون الحائط ضعيف، فسيكون من السهل على الجميع تسلّقه.

   لا تظنوا إذًا أن ما هو مزمع أن أقوله قد قيل عن أورشليم فقط، وإنما ينسحب على كل إنسان. ماذا قيل عن أورشليم؟ «لأنْشِدَنَّ عَنْ حَبِيبِي نَشِيدَ مُحِبِّي لِكَرْمِهِ. كَانَ لِحَبِيبِي كَرْمٌ عَلَى أكَمَةٍ خَصِبَةٍ فَنَقَبَهُ وَنَقَّى حِجَارَتَهُ وَغَرَسَهُ كَرْمَ سَوْرَق،َ وَبَنَى بُرْجا فِي وَسَطِهِ وَنَقَرَ فِيهِ أيْضًا مِعْصَرَةً، فَانْتَظَرَ أنْ يَصْنَعَ عِنَبا فَصَنَعَ عِنَبا رَدِيئا. وَالآنَ يَا سُكَّانَ أورُشَلِيمَ وَرِجَالَ يَهُوذَا، احْكُمُوا بَيْنِي وَبَيْنَ كَرْمِي. مَاذَا يُصْنَعُ أيْضًا لِكَرْمِي وَأنَا لَمْ اصْنَعْهُ لَهُ؟. لِمَاذَا إذِ انْتَظَرْتُ أنْ يَصْنَعَ عِنَبا، صَنَعَ عِنَبا رَدِيئا؟ فَالآنَ أعَرِّفُكُمْ مَاذَا اصْنَعُ بِكَرْمِي. انْزِعُ سِيَاجَهُ فَيَصِيرُ لِلرَّعْيِ. اهْدِمُ جُدْرَانَهُ فَيَصِيرُ لِلدَّوْسِ. وَاجْعَلُهُ خَرَابا لا يُقْضَبُ وَلا يُنْقَبُ، فَيَطْلَعُ شَوْكٌ وَحَسَكٌ. وَأوصِي الْغَيْمَ أنْ لا يُمْطِرَ عَلَيْهِ مَطَرا. أنَّ كَرْمَ رَبِّ الْجُنُودِ هُوَ بَيْتُ إسْرَائِيلَ، وَغَرْسَ لَذَّتِهِ رِجَالُ يَهُوذَا. فَانْتَظَرَ حَقّا فَإذَا سَفْكُ دَمٍ وَعَدْلا فَإذَا صُرَاخٌ. »[23].

   هذا ما يقال عن الإنسان أيضًا. فالله محب البشر بعدما فعل كل شيء استوجب عمله، لم يجد ثمرا من الإنسان ، إذ أنه بعد كل ذلك قد أثمر أشواكا بدلا من الكروم، ومن اجل هذا سينزع السياج ويهدم الجدران وحينها سنكون غنيمة للجميع. اسمع ما يقوله نبي آخر  منتحبًا «فلماذا هدمت جدرانها فيقطفها كل عابري الطريق؟ يفسدها الخنزير من الوعر، ويرعاها وحش البرية»[24]. فمن ناحية نجده أولاً يتكلم عن الفارسيين والبابليين، أما هنا فلا يتكلم عن هؤلاء بشيء، وإنما عن الخنزير ووحش البرية أي الشيطان وقواته، لان سمته انه وحش ونجسً. فحينما يريد أن يظهر قدرته على الخطف يقول عنه: «كـاسد زائر، يجول ملتمسًا من يبتلعه»[25]. وحينما يُظهر سمومه وقتله ودماره، يدعوه حيّة وعقرب، فيقول: «لتدوسوا الحيّات والعقارب وكل قوة العدو»[26]. وحينما يبين قوته وسمومه، يدعوه تنينًا، فيقول «لوياثان هذا خلقته ليلعب فيه»[27]. والكتاب يدعوه دائما تنين وحيَّة (لوياثان) وأفعى ملتوية. فالوحش إذًا له أشكال عديدة، ولديه قوة شديدة، فيحرك كل الأشياء، ويُثير فيها أضطراب، ويحولها في طريق معاكس.

   لكن لا تخافوا، ولا يسيطر عليكم الفزع، فقط اسهروا، وسيكون هذا الوحش كعصفور بالنسبة لكم، فقد قال «تدوسوا الحيات والعقارب»[28]. فأعطانا أن ندوسه بأقدامنا إذا أردنا. أرأيت إذًا مقدار السخرية وكم التعاسة، فالشيطان نراه يقف أعلى من رؤوسنا رغم إنه في مقدورنا أن ندوسه. فكيف نعطيه حجمًا أكبر من حجمه؟ إن ذلك يرجع إلى موقفنا نحن منه، فان شئنا نجعله عظيمًا، وان شئنا نجعله حقيرًا. فإن انتبهنا لأنفسنا وكنا مع ملكنا، فذاك يتلاشي وهو يسلك في حربه الموجهة إلينا، بطريقة لا تتجاوز سلوك طفل صغير. أما حينما نبتعد عن ملكنا، حينئذٍ يتمدد كثيرا ويزأر، ويصرّ بأسنانه، لأنه يجدنا بدون معيننا الأعظم، فضلاً عن انه لا يقترب إلينا بدون سماح من الله. فان كان لم يجرؤ أن يدخل في قطيع الخنازير، بدون سماح من الله، فكم بالأحرى يكون الأمر اضعف بالنسبة لدخوله في النفس البشرية. فالله قد يسمح بذلك حينما يؤدبنا أو يعاقبنا أو يجربنا أكثر، كما حدث مع أيوب. أرأيت أن ذاك لم يقترب إليه (أي لأيوب) ولا يجرؤ أن يقترب، إنما فقط يخيف ويرعب؟ ولماذا أتكلم عن أيوب؟ فحينما انقضّ الشيطان على يهوذا، لم يستطع أن يخطفه كليةً أو أن يدخل فيه؛ إلى أن عزله السيد المسيح من جماعة التلاميذ المقدسة. حينئذٍ تلقاه من الخارج، ولكنه لم يجرؤ أن يدخله. ولكن حينما رآه مقطوعًا من الجماعة المقدسة، هجم وانقضّ عليه بصورة أشر من انقضاض أي ذئب، ولم يتركه إلا بعدما أهلكه.

   هذه الأمور قد كُتبت لإرشادنا، فما هي الفائدة من أن نعرف أن واحدًا من الأثنى عشر تلميذا كان خائنًا؟ ما هو العائد وما هي المنفعة من وراء ذلك؟ أنها منفعة عظيمة، لأنه حينما نعلم لأي سبب يفكر ذاك (أي يهوذا) هذا الفكر المُهلك، نحترس نحن أيضًا فربما نرتكب نفس الأخطاء. إذا فلأي سبب اتخذ يهوذا هذا القرار؟ بسبب محبة الفضة، لقد كان سارقًا، سلّم الرب لأجل ثلاثين من الفضة. هكذا كان ثملاً من شهوته، فسلّم خالق الكون لأجل ثلاثين من الفضة، فهل هناك ما هو أسوأ من هذا الجنون؟ فذاك الذي لا يعادله شيء، والذي أمامه تُعد كل الأمم لا شيء، يسلّمه بثلاثين من الفضة. فطغيان محبة المال ثقيل ومفزع، ويغيّر النفس، فما تحدثه محبة المال من هذيان هو أكثر بكثير من السُكر، بل ومن الجنون.

   إذًا لماذا يحدث ذلك ؟أخبرني. فإن كان قد دعاك وأنت بلا قيمة وغير معروف، وقَبِلَك كواحد من تلاميذه الاثني عشر، وسلّمك تعاليمه، ووعدك بخيرات لا تُحصى، وجعلك تصنع آيات، وأخذت مكانًا كالباقين في نفس المائدة، وفي نفس المسيرة، وفي أحاديثه، وتجمعاته وفي كل شيء. ألم تكن كل هذه الأمور كافية أن تمنعك؟ فلأي سبب سلّمته؟ أيها الشرير بأي شيء تستطيع أن تتهمه ؟ وما هو الخير الذي منعه عنك؟ لقد كان يعرف فكرك ومع هذا لم يتوقف عن تقديم ما لديه. لقد كرر قائلا: «إن واحدًا منكم يسلّمني»[29]. لقد كان كثيرًا ما يميزك، وكان يصفح عنك، وبينما كان يعرف انك هكذا، إلا انه لم يبعدك عن جماعة التلاميذ، لقد أبقاك معه، وكان يحبك كتلميذ حقيقي من الاثني عشر. وفي نهاية الأمر، اخذ منشفة بيديه الطاهرتين وغسل رجليك الدنستين، ولم يمنعك هذا أيضًا عن تسليمه. لقد سرقت تقدمات الفقراء، وقد احتمل هذه أيضًا، حتى لا تصل إلى شرٍ أعظم. ولكن لا شيء قد أقنعك، فإنك حتى وإن كنت بالحقيقة وَحْش، أو حَجَر، كان يجب أن يتغير سلوكك نحوه بسبب حسن الصنيع معك، أو بسبب ما صنعه من الآيات والتعاليم؟ وبالرغم من قسوتك فقد ظل يدعوك، وبآياته العجيبة كان يهدي من هو اقل إحساسًا من الأحجار. أما أنت فلم تغيِّرك أي من تلك الأمور، إلي ما هو أفضل.

   ربما تتعجبون لتلك الحماقة التي للخائن. فخافوا إذًا من أن يصيبكم ذلك الجرح. لقد صار هكذا بسبب محبته للفضة، وبسبب عشقه للمال. فلنقطع هذه الشهوة تمامًا، لأنها تلد تلك الأمراض، وتنزع عنا الوقار، وتبعدنا عن معرفة الله، بالرغم من انه يقدم لنا خيرات لا تحصى. أترجاكم أن تقطعوا هذه الشهوة تماما، فهي ليست من الشهوات البسيطة، فلها من القوة أن تلد ميتات كثيرة. لقد شاهدنا ذلك الألم، فلنخف ربما نقع نحن أيضًا في نفس الشهوات. والتحذير من تلك الشهوة قد ذكره كل الإنجيليين لأجل إرشادنا، حتى لا نتأذى بسبب هذه الشهوة. لنهرب بعيدًا عنها فليست محبة المال هي فقط الرغبة في اقتناء المزيد منه، وإنما هي في مجرد الأسر لشهوة المال. إنه الحب الردئ للمال أن نطلب أكثر من احتياجنا. فلربما يكون بريق الفضة حينئذٍ هو الذي أقنع الخائن أن يُقْدِم على ما أقدم عليه، لقد سلّم الرب مقابل ثلاثين من الفضة. فلتتذكروا إذًا حينما كنت أقول لكم قبل هذا، أن البرهان على الطمع لا يكون حين ينال احد الكثير، بل حتى حين ينال القليل. انظروا كم الشر العظيم الذي سببته هذه الشهوة لأجل قطع قليلة من الفضة.

   من غير الممكن على الإطلاق أن يرى وجه المسيح، من هو مأسور بشهوة المال، انه شر بالنسبة للضعفاء من البشر، انه أصل كل الشرور. فان كان من يحوز أي نوع من الشرور، يسقط من مجده، فأين سيقف ذاك المسبي من أصل كل الشرور؟ لن يستطيع مَن هو عبد للمال، أن يكون عبدًا حقيقيًا للمسيح. فالسيد المسيح نفسه أوضح استحالة حدوث هذا الأمر. فهو يقول: «لا تقدرون أن تخدموا الله والمال»[30]. وأيضًا «لا يقدر أحد أن يخدم سيدين». لان كلٍ منهما يأمر بخلاف الآخر. فالرب يسوع يطلب أن نهتم بالفقراء، بينما محبة المال تجعلنا نسلب حتى ما يخص هؤلاء الفقراء! السيد المسيح يطلب أن تترك مالك، أما محبة المال فتدفعك أن تأخذ ما ليس لك.

   أرأيت كيف أنهما متضادين (الله والمال)، أرأيت أين هي الحرب؟ كيف انه لا يستطيع أحد أن يطيع الاثنين معا، وإنما لابد أن يحتقر أحدهما؟ أم أنه ليس هناك حاجة للكلام؟ ألا نري هذا في الواقع، فالمسيح يُهان، والمال يُقدّر؟ أرأيتم كيف أن وقع حديثي عليكم ثقيل؟، فكم بالأحرى يكون سلوكنا نحن الذين أبدلنا محبتنا لله بمحبة المال؟ إلا أننا لا نشعر بهذا في الواقع، لأن الشهوة قد تملكتنا. فإن كانت النفس لديها الآن قليل من النقاوة ومُتحررة من هذه الشهوة، فيمكنها أن تحكم على الأشياء بصورة صحيحة، ولكن حينما تكون تحت سيطرة هذا المرض وهذه الشهوة، فلا تستطيع أن تقيِّم الأمور بمعيار نقي، ولا يكون حكمها صائبًا. هكذا يقول رب المجد: «كل واحد منكم لا يترك جميع أمواله، لا يقدر أن يكون لي تلميذًا»[31]. أما محبة المال فتطلب أن تخطف الخبز من الجائع. المسيح يطلب أن تكسو العريان، أما شهوة المال فتدفعك لأن تجرِّد العريان. المسيح يقول لا تحتقر أقرباءك، بينما محبة المال تُلزمك بألا ترحم أقرباءك، بل وأن تحتقر أمك وأبيك كلما رأيتهما، ولماذا أتحدث عن الأب والأم، فهذه المحبة التي للمال تدمر حتى نفسك أيضًا، ومع ذلك فهي تُطاع!! يا للأسف فان تلك التي تأمر بالقساوة والغضب والأشياء الوحشية يُسمع لها أكثر من ذاك الذي ينصح بالأمور المختصة بالرحمة والخلاص! لأجل هذا وُجدَتْ جهنم والنار، والدود الذي لا يموت في الجحيم.

 

   إنني اعرف أن الكثيرين لا يسمعون لهذه الأمور التي أتكلم عنها، وهم راضون. وأنا أيضًا لا أقولها راضيا. ولكن ما هي الضرورة لكي أقول هذا؟ أردت أن أكلمكم بصورة دائمة عن ملكوت السموات، وعن مياه الراحة، وعن مكان الخضرة. كما يقول المرنم: «في مراعٍ خضر يربضني إلى مياه الراحة يوردني»[32]. أردت أن أتكلم عن الموضع، الذي هرب منه الحزن والكآبة والتنهد[33]. أردت أن أتحدث عن الفرح الذي يأتي من الوجود مع المسيح، وان كان هذا الوجود بالطبع يتجاوز كل كلام وكل فكر. حقا لقد أردتْ أن أتكلم عن هذا بقدر ما استطيع. ولكن ماذا أستطيع أن افعل؟ لا يمكن للمصاب بحمي، ويوجد في حالة مرضية سيئة أن يتكلم عن المُلك، إذ يحتاج أولاً أن يتكلم عن الصحة. ولا يمكن لمن ينتظر المحاكمة أن يتكلم عن التكريم، لأن ما يرغب فيه هو أن يتخلص أولاً من الحكم والقصاص والعقوبة، لأجل هذا أتكلم عن هذه الأمور باستمرار، كي نأتي إلى الملكوت. ولذلك ينذرنا الله بالجحيم، كي لا يقع احد منا فيه ولكي نفوز جميعنا بملكوت الله. ونحن أيضًا لأجل هذا نذَّكر دائمًا بالجحيم، فحينما نليِّن عقولكم بالخوف، ندفعكم نحو ملكوت الله، ونُعدَّكم أن تعملوا لكي تستحقوا الدخول إلى ملكوت الله.

 

   لا تغضبوا إذًا بسبب هذه الكلمات الثقيلة، لأن هذه الكلمات الثقيلة هي اخف علينا من خطايا النفس. كذلك فان الحديد ثقيل والمطرقة ثقيلة، ولكنهما يصنعان آنية من الذهب والفضة سهلة الاستخدام، وهي أيضًا تُصلح الأشياء التي فسدت، فان لم تكن ثقيلة لما كان بمقدورها أن تُصلح المادة المحتاجة لإصلاح. هكذا أيضًا فإن كلامنا الثقيل يمكن أن يهذِّب النفس. فلا نتهرب إذًا من الكلمات الثقيلة، ولا مما تسببه من ألم، فهذا الألم يحقق إصلاح النفس ولا يؤدي إلى هلاكها. إننا بنعمة الله نعرف كيف نطرق، كيف نُؤلم، حتى لا نحطم الإناء، بل نُعّده ونُصلحه كي نجعله طيِّع لسيده، لنقدمه أكثر إشراقًا، صحيحًا وحسنًا من جهة كماله في ذلك اليوم الذي فيه سيجري نهر النار. لنقدمه بدون حاجة إلى النار الموجودة هناك. لأننا إن لم نختبركم هنا بالنار، فمن المؤكد إنها ستمتحنكم هناك، ولا يمكن أن يحدث شيء آخر مختلف عن ذلك، «لان اليوم (يوم الرب) سيبيّنه. لأنه بنار يُستعلن»[34]. فانه من الأفضل لكم أن تلتهبوا قليلاً بكلماتنا، على أن يتم ذلك بصورة مستمرة في لهيب جهنم. لأنه من الواضح أن هذا سيحدث، وقد قلت لكم ذلك في مرات عديدة بتقديرات ليست محل شك. إن اقتناعنا ينبغي أن يكون مبنيًا على الكتب المقدسة، ولكن لأن البعض يثيرون الشغب فقد أتينا بحجج عقلانية كثيرة. ولا يوجد ما يمنعني الآن من تكرار ذلك لهم.

 

   الله عادل والكل يعترف بذلك، اليونانيون، واليهود، والهراطقة، والمسيحيون. ولكن هناك كثيرون ممن أخطأوا ورحلوا دون عقاب، وآخرون من عاشوا بإستقامة قد رحلوا بعدما قاسوا الكثير من الآلام. إذًا فإن كان الله عادلاً، ولم يكن هناك جحيم ولا  قيامة، فهؤلاء أين سيدانوا بالعقاب، وأولئك الذين عملوا الصلاح أين سيكافأون، فليتذكّر هؤلاء على الدوام وتتذكروا أنتم أيضًا، وهذا الأمر بحد ذاته لن يترككم أبدًا أن تتشككوا في القيامة. فإن من يؤمن بالقيامة، سيجتهد أن يعيش بكل حرص، حتى يفوز بالخيرات الأبدية، ويا ليتنا جميعا ننالها، بالنعمة والرأفة ومحبة البشر اللواتي لربنا يسوع المسيح والذي يليق به مع الآب والروح القدس المجد والقوة والعزة، الآن وكل أوان والي دهر الدهور أمين.

 

+ + + + + + +

   

[1]  في5:2ـ8.

[2]  مت12:5.

[3]  يو20:15.

[4]  مت29:11.

[5]  لو36:6.

[6]  2كو9:8.

[7] كلمة “الصورة” Μορφ» / Morphé دائمًا ما تدلل بصورة حقيقية وكاملة عن الكينونة أو الجوهر. ولذلك فإن “الصورة” لا تأتي كمقابل (تضاد) “للجوهر” بل هي تخرج من هذا الجوهر. و”صورة الله” والتي فيها المسيح كائن، كما كان أيضًا، لا تعني فقط صورة بل طريقة أو إسلوب الوجود الإلهي. تمامًا مثلما نقول “صورة عبد” فهو شكل أو طريقة كينونة أو وجود هذا العبد. وهكذا أيضًا كلمة “الهيئة” Schéma / Σχ»μα حينما يقول الكتاب: “وُجد في الهيئة كإنسان” (في8:2) فهي لا تعني فقط إنه يأخذ هيئة أو شكل الإنسان ولكنه بالحقيقة صار إنسانًا، “الكلمة صار جسدًا” (يو14:1) و “أطاع حتى الموت” (في8:2). فصورة العبد تدلل ليس فقط على إنه شكل أو مظهر خارجي يخالف طبيعته، بل إنه هذه الطبيعة ذاتها.

[8]  مز 48 : 1

[9]  مز10:86 ،3:145

[10] تي13:2

[11] اش6:9

[12] مت 34:25ـ35 .

[13] الكلام هنا موجه للهراطقة الذين ظنوا أن الابن أدنى من الآب.

[14] أنظر أف28:4.

[15] مت29:11.

[16] يو14:13.

[17]عب 13 :17.

[18] أي ليعتبر كل واحد منكم أن الآخر يفوقه.

[19] أي أن المدح هنا ينصَّب على العمل الإيجابي، وليس مجرد البعد عن الشرور.

[20] خر14:3.

[21] إش5:52 س.

[22] مز3:62.

[23]  إش1:5ـ7.

[24]  مز12:80، 13.

[25] 1بط8:5 .

[26]  لو19:10 .

[27]  مز26:104.

[28] لو19:10.

[29] مت21:26.

[30] مت24:6.

[31]  لو33:14 انظر أيضًا أش 58 : 7 .

[32]  مز2:23.

[33] أنظر أوشية الراقدين.

[34] 1كو13:3.

 

رسالة فيلبي ع7 – ق. يوحنا ذهبي الفم – جورج ميشيل أندراوس