آبائيات

رسائل عن الروح القدس ج3 للقديس أثناسيوس الرسولي

رسائل عن الروح القدس ج3 للقديس أثناسيوس الرسولي

رسائل عن الروح القدس ج3 للقديس أثناسيوس الرسولي

 
رسائل عن الروح القدس ج3 للقديس أثناسيوس الرسولي
رسائل عن الروح القدس ج3 للقديس أثناسيوس الرسولي
 
 
الرســالة الثانية

(ضد من يقولون إن الابن مخلوق)

 (1)

         كنت أظن أن ما كتبته، قليل، واتهمت نفسي بالضعف الكثير، لأنني لم أستطع أن أكتب كل ما يمكن أن يقوله البشر ضد هؤلاء الذين يجدفون على الروح القدس. ولكن حيث أن بعض الأخوة ـ كما كتبت أنت ـ قد طلبوا أن نختصر الكتابة حتى يمكن لهم أن يردوا على الذين يسألون عن الإيمان الذي فينا، بوسيلة جاهزة ومختصرة، وأن يدحضوا أولئك الذين يجدّفون، ولقد فعلت هذا وأنا واثق إذ أن لك ضمير صالح، أنه إذا كان فيها ثمة نقص، فأنك سوف تكمله.

إن الآريوسيين[42] إذ انغلقوا على أنفسهم، معتقدين مثل الصدوقيين أنه ليس هناك، خارجاً عنهم، ما هو أسمى، فإنهم واجهوا الكتب الموحي بها بمجادلات بشرية. فحينما يسمعون أن الابن هو حكمة الآب، وشعاعه، وكلمته[43]، فإنهم اعتادوا أن يسألوا كيف يمكن أن يكون هذا؟ كما لو أنه لا يمكن أن يكون ثمة شئ إلا ويفهموه. وقياسًا لى ذلك، فإنه ينبغي عليهم أن يفكروا على هذا النحو في مثل هذه الأمور: فكيف يمكن  للخليقة التي لم تكن موجودة أن تأتي إلى الوجود؟ أو كيف يمكن لتراب الأرض أن يتشكل إنسانًا عاقلاً؟ أو كيف يمكن للفاسد أن يصير عديم الفساد؟ أو كيف ” تأسست الأرض على البحار“، “وكيف ثبّتها الله على الأنهار” (مز24: 2)، ثم أخيرًا ينبغي أن يضيفوا إلى أنفسهم ” فلنأكل ونشرب لأننا غدًا نموت” (1كو15: 32)، لكي يصير واضحًا أنه عندما يهلكون، فسيهلك أيضًا معهم جنون هرطقتهم.

 

(2)

         إن مثل هذا الفكر للآريوسيين هو في الحقيقة إلى فناء وزوال. ولكن كلمة الحق التي كان ينبغي على هؤلاء أن يدركوها هي كما يلي: إذا كان الله ينبوعًا ونورًا وأبًا، فليس من الجائز القول بأن الينبوع جاف[44] أو أن النور بلا شعاع أو أن الله بلا “كلمة”، لئلا يكون الله غير حكيم، وغير عاقل، وبلا شعاع. وإذن فحيث إن الآب أزلي،  فبالضرورة يكون الابن أيضًا أزليًا، لأن كل ما هو للآب فهو بلا شك للابن أيضًا. لأن الرب نفسه يقول، كل ما للآب فهو لي (يو16:16)، وكل ” ما هو لي هو للآب“(يو17: 10). فالآب أزلي، والابن هو أيضًا أزلي لأن به صارت العالمين. والآب هو كائن، فبالضرورة الابن أيضًا هو ” الكائن على الكل إلهًا مباركًا إلى الأبد أمين“(رو5:9). فليس من الصواب القول عن الآب: “كان هناك زمن لم يكن فيه موجودًا” . وليس من الصواب القول عن الابن: “كان هناك زمن لم يكن فيه موجودًا”، الآب ضابط الكل، والابن أيضًا ضابط الكل، كما يقول يوحنا: ” هذا ما يقوله الرب الكائن والذي كان والذي يأتي الضابط الكل” (رؤ1: 8).

الآب نور والابن شعاع ونور حقيقي الآب إله حقيقي والابن إله حقيقي، فهكذا كتب يوحنا “ فنحن في الحق في ابنه يسوع المسيح، هذا هو الإله الحق والحياة الأبدية” (1يو5: 20). وبوجه عام ليس هناك شئ مما هو للآب لا يكون للابن. ولذلك فالابن هو في الآب (يو14: 10) والآب هو في الابن، لأن كل ما هو للآب يكون في الابن، وأيضاً كل هذا يدرك في الآب. وعلى هذا النحو يدرك القول: ” أنا والآب واحد” (يو10: 30). لأنه لا توجد أشياء في الآب، وأخرى مغايرة في الابن، بل أن كل ما هو في الآب هو في الابن أيضًا، وحيث إنكم ترون في الابن تلك الأشياء التي ترونها في الآب، فأنكم تدركون حسنًا ذلك القول ” من رآني فقد رأى الآب” (يو14: 9).

 

(3)

         وعندما نكون قد برّهنا على هذه الأمور هكذا، فالذي يقول إن الابن مخلوق يكون كافرًا، وسوف يكون مضطرًا لأن يدعو الينبوع مخلوقًا، وهو الذى يدفق الحكمة، الكلمة، والذي فيه كل ما يخص الآب. وبتعبير آخر، فمما يلي يمكن للمرء أن يلاحظ مدى ضلال هرطقة الآريوسيين المجانين: فأولئك الذين نشابههم ولنا هويتهم، لنا معهم نفس الجوهر[45]. فنحن البشر إذن، متشابهون، ولنا نفس الهوية45، ولنا أحدنا مع الآخر نفس الجوهر. فنفس الوضع يكون للجميع. الموت، الفساد، التغيّر، والوجود من العدم. وأيضًا الملائكة فيما بينهم، وكذلك الكائنات الأخرى،  لها فيما بينها طبيعة واحدة. فدع هؤلاء الفضوليين أن يبحثوا فيما إذا كان هناك من بين المخلوقات من يشبه الابن، أو إذا كان من الممكن أن يجدوا في المخلوقات ما هو في الابن، حتى يمكن أن يتجاسروا ويقولوا إن كلمة الله مخلوق. ولكن هؤلاء المتهورين والضالين عن التقوى، لن يجدوا أي تشابه. فليس بين المخلوقات من هو قادر على كل شئ، وليس بينها من هو تحت سيادة الآخر[46]، لأن كل منها ملك لله نفسه: “ السموات تحدث بمجد الله” (مز18: 1س)، و” للرب الأرض وملؤها” (مز23: 1س) ” البحر رآه فهرب” (مز113: 1س). فالكل عبيد لذلك الذي هو خالقهم يفعلون كلمته ويطيعون أوامره. ولكن الابن هو ضابط الكل كالآب.

وهذا هو ما كُتِب وتبّين. وأيضًا فليس بين المخلوقات ما هو غير متغير بالطبيعة. فبعضًا من الملائكة ” لم يحفظوا رتبتهم” (يه6). “والنجوم ليست ظاهرة أمامه” (أي25: 5). والشيطان سقط من السماء، وأما آدم فعصى. وكل الأشياء متغيّرة. وأما الابن فهو غير متغيّر ولا متحوّل. وهكذا فإن بولس يذكّرنا من المزمور المئة والواحد: “وأنت يارب أسست الأرض والسماء هي عمل يديك. هي تبيد ولكن أنت تبقى، وكلها كثوب تبلى، وكرداء تطويها فتتغير، ولكن أنت أنت وسنوك لن تفنى” (عب1: 10ـ12). وأيضًا يقول ” يسوع المسيح هو هو أمس واليوم وإلى الأبد” (عب8:13).

 

(4)

         وأيضًا، فإن كل الأشياء المخلوقة لم تكن موجودة، ثم صارت موجودة لأنه ” صنع الأرض من لا شئ” (إش40: 23)، “ويدعو الأشياء غير الموجودة كأنها موجودة” (رو4: 17)، وهي أيضًا “مصنوعات” ومخلوقات من أجل ذلك فإن وجودها له بداية[47]، لأنه ” في البدء خلق الله السموات والأرض” (تك1:1)، وكل ما فيها. وأيضًا ” كل هذه صنعتها يدي” (إش66: 2). لكن الابن هو كائن، وإله على الكل، مثل الآب، كما سبق أن أوضحنا. وهو ليس مصنوعًا بل هو صانع. هو ليس مخلوقًا بل هو خالق وصانع أعمال الآب. لأنه به ” صارت العالمين إلى الوجود” (انظر عب1: 2)، ” وكل شئ به كان وبغيره لم يكن شئ مما صار” (يو1: 3). وكما شرح الرسول محتوى المزمور، فهو نفسه في البدء أسس الأرض، والسموات هي عمل يديه، وأيضًا ليس هناك من بين المخلوقات ما هو بالطبيعة إله. كل ما صار في الوجود قد دعى بحسب ما صاره. أحدها دعى سماء، وآخر أرضًا. والبعض كواكب، والبعض الآخر نجومًا، والبعض بحاراً، ثم أعماقاً، ثم حيوانات من ذوات الأربع، وأخيرًا الإنسان. وقبل ذلك الملائكة ورؤساء الملائكة والشاروبيم والسيرافيم والقوات والرئاسات والسلاطين والأرباب، والفردوس، ويظل كل واحد منها هكذا كما خُلِق. ولكن إن كان البعض منها قد دعى آلهة، فذلك ليس بحسب الطبيعة بل بحسب اشتراكها مع الابن، لأنه هكذا أيضًا قال هو نفسه: ” إن قال آلهة أولئك الذين صارت إليهم كلمة الله” (يو10: 35). ومن أجل هذا فإنهم ليسوا آلهة بالطبيعة، فإن بعضهم قد يعاني التغيّر[48] في وقت ما ويسمعون القول: ” أنا قلت إنكم آلهة وبنو العلي كلكم، لكن مثل الناس تموتون” (مز81: 6، 7). هكذا كان ذلك الذي سمع: ” أنت إنسان لا إله” (حز28: 9) أما الابن فهو إله حقيقي مثل الآب، لأنه هو في الآب والآب فيه. وهذا ما كتبه يوحنا ما تبيّن. ويترنم داود: ” كرسيك يا الله إلى دهر الدهور. قضيب استقامة قضيب ملكك” (مز44: 7). وإشعياء يصرخ: ” تعب مصر، وتجارة الكوشيين، والسبئيون ذوو القامة إليك يعبرون، وخلفك يمشون مقيدي الأيدي، ولك يسجدون لأن الله فيك، لأنه إله إسرائيل ونحن لم نعرفك” (إش45: 14، 15س). فمن هو الإله الذي فيه الله إلا الابن القائل:   “ أنا في الآب والآب فيَّ” (يو14: 10).

 

(5)

         وإذن، فحيث إن هذه الأشياء موجودة حقًا ومكتوبة، فمن هو الذي لا يعرف جيداً أن الابن ينبغي أن يكون واحدًا في الجوهر مع الآب، حيث إن الابن ليس بينه وبين المخلوقات أية مشابهة، ولكن كل ما للآب هو للابن؟ وكان من الممكن أن يكون واحدًا في الجوهر مع المخلوقات لو كان له معها أية مشابهة أو قرابة. وحيث إنه غريب عن المخلوقات حسب الجوهر، ولكونه الكلمة الخاص بالآب، وهو لا يختلف عنه، وحيث إن كل ما للآب هو له، فذلك يقتضي أنه من نفس جوهر الآب. وهذا ما أدركه الآباء حينما اعترفوا في مجمع نيقية أن الابن مساوي للآب ومن نفس جوهره.

لقد تحققوا جيدًا أن الجوهر المخلوق لا يستطيع أبدًا أن يقول ” كل ما للآب هو لي” (يو16: 15). وبسبب أن وجود الجوهر المخلوق له بداية، فهو ليس كائنًا ولم يكن أزليًا، ولذلك فحيث إن الابن له هذه الخصائص، وحيث إن كل الأشياء السابق ذكرها، والتي للآب هي للابن فمن الضروري أن يكون جوهر الابن غير مخلوق بل هو من نفس جوهر الآب. لهذا السبب فلا يمكن أن يكون جوهره مخلوقًا فهو يملك خواص الله، تلك الخواص التي له[49] والتي بها يعرف الله: فمثلاً الضابط الكل والكائن، وغير المتغير، والخصائص الأخرى التي سبق ذكرها، حتى لا يبدو الله نفسه في نظر الأغبياء أن له نفس جوهر المخلوقات، لو كانت له الخصائص التي يمكن أن تكون للمخلوقات.

 

(6)

         وهكذا يمكننا أن ندحض كفر أولئك الذين يقولون أن كلمة الله مخلوق. إيماننا هو بالآب والابن والروح القدس حسب ما قال الابن نفسه للرسل ” اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس” (مت28: 19). وقد تكلّم هكذا حتى يمكننا بواسطة ما نعرفه أن نفهم الأمور التي سبق أن تكلمنا عنها. وكما أننا لا نقول عن آبائنا إنهم خالقون بل والدون ولا يقول أحد منا إننا مخلوقو الآباء بل أبناء بالطبيعة ومن نفس جوهرهم، هكذا إن كان الله أبًا فلابد أن يكون أبًا لمن هو ابن بالطبيعة ومن نفس جوهر الآب. فإبراهيم لم يخلق اسحق بل ولده. وبصلئيل وألياب لم يلدا، بل صنعا كل أعمال خيمة الاجتماع. وبانى السفينة والبنّاء لا يلدان ما يصنعانه، لكن كل منهما يبني، الواحد السفينة والآخر البيت. فاسحق لم يخلق يعقوب ولكن وَلَدَه بالطبيعة ومن نفس جوهره، وبالمثل وَلَدَ يعقوب يهوذا وأخوته. وكما أنه جنون أن يقول أحد إن البيت هو من نفس جوهر الباني والسفينة من نفس جوهر بانيها، فإنه من الصحيح أن يُقال إن كل ابن هو من نفس جوهر أبيه. فإذن إن كان يوجد أب وابن، فبالضرورة أن يكون الابن بالطبيعة وبالحق ابنًا. وهذا يعني أنه من نفس جوهر الآب كما سبق أن أوضحنا كثيرًا.

وقد قيل عن الأشياء المخلوقة: ” هو تكلم فوجدت هو أَمَرَ فخلقت” (مز148: 5). أما عن الابن فيقول: ” فاض قلبي بكلمة صالحة” (مز44: 1). وقد عرف دانيال ابن الله، وعرف أيضًا أعمال الله، فمن ناحية رأى الابن وهو يطفئ الأتون (انظر دا 3: 25). ومن ناحية قال عن الأعمال ” فلتبارك الرب جميع أعمال الرب” (تسبحة الفتية الثلاثة 35)، ثم ذكر كل واحدة من المخلوقات، كل على حدة، ولكنه لم يحص الابن من بينها، لأنه كان يعرف أن الابن ليس أحد الأعمال، ولكن بواسطته صارت الأعمال موجودة. وهو في الآب مُسبّح ومرّفع جدًا. وكما أن الله يكشف بواسطته لأولئك الذين يعرفونه، هكذا بواسطته أيضًا، فإن البركة والتسبيح والمجد والجبروت، يُعتَرف بها للآب بواسطته وفيه، لكي يكون مثل هذا الاعتراف مرضيًا كما تقول الكتب. ومن هذه الأقوال ومن أقوال كثيرة أخرى تبيّن ويتبيّن أن من يقول أن كلمة الله مخلوق فهو كافر.

 

(7)

         ولكن حيث إنهم يحتجون بما هو مكتوب في الأمثال: “ الرب خلقني أول طرقه لأجل أعماله[50] (أم8: 22س)، ويضيفون “أنه خُلِقَ” وأنه مخلوق!: إنه من الضروري أن نوضح من هذه العبارة أيضًا كم هم يضلون كثيرًا، إذ هم لا يدركون هدف الكتاب الإلهي. فإذا كان ابنًا فلا يدعى مخلوقًا[51]، لأنه لو كان مخلوقاً فلا يدعى ابنًا. لأننا قد بيّنا فيما سبق، كم أن الفارق بين المخلوق والابن هو عظيم، ولكن حيث إن “التكميل”[52]، لا يتم باسم خالق ومخلوق، بل باسم آب وابن، فبالضروري يجب أن لا يدعى الرب مخلوقًا بل ابنًا. ويقول الهرطوقي ولكن أليس هذا مكتوباً، نعم أنه مكتوب. ولكن من الضروري أن يقال هذا ولكن الهراطقة يسيئون فهم ما هو مكتوب حسنًا، لأنهم لو كانوا قد أدركوا وعرفوا سمات المسيحية لما كانوا قد دعوا رب المجد مخلوقاً ولا كانوا قد تعثروا في ما هو مكتوب حسنًا.

ولكن هؤلاء ” لم يعرفوا ولم يفهموا” (مز81: 5س). لذلك كما هو مكتوب: “ في الظلام يسيرون” (مز81: 5س). ومن الضروري لنا أن نتكلم، لكي يتضّح أنهم أغبياء في هذا الأمر أيضًا ولكي لا نتخلى عن توبيخهم على كفرهم، فربما يغيّرون فكرهم، وإذن، فهذه هي سمة إيماننا بالمسيح: ابن الله، إذ هو “كلمة” الله ” لأنه في البدء كان الكلمة.. وكان الكلمة الله” (يو1:1)، وهو حكمة الآب وقوته: ” لأن المسيح قوة الله وحكمة الله” (1كو1: 24)، وفي ملء الأزمنة صار إنسانًا لأجل خلاصنا، لأن يوحنا بعد أن قال: ” في البدء كان الكلمة“، أضاف بعد قليل: ” والكلمة صار جسدًا” (يو1: 14) أي ” صار إنسانًا”. والرب قال عن نفسه ” لماذا تطلبون أن تقتلوني وأنا إنسان قد كلمتكم بالحق” (يو8: 40). وبولس إذ قد تعلم منه قال ” إله واحد، ووسيط واحد بين الله والناس، الإنسان يسوع المسيح” (1تي2: 5). وإذ صار إنسانًا، وقد تمم تدبيره الإنساني، وإذ قد طرح وأبطل الموت الذي كان قائمًا ضدنا، فهو الآن يجلس عن يمين الآب، إذ هو في الآب والآب فيه، كما كان دائماً وهكذا يكون على الدوام.

 

(8)

         وسمة إيماننا هذه مأخوذة من الرسل بواسطة الآباء. فيجب إذن على من يقرأ الكتاب، أن يفحص ويميز متى يتكلّم (الكتاب) عن ألوهية الكلمة، ومتى يتكلّم عن أموره الإنسانية، لئلا يُفهم أحدهما بدل الآخر، فنقع فى نفس الخلط الذي سقط فيه الآريوسيين. وإذ نعرف أنه الكلمة نعرف أن ” به صار كل شئ وبغيره لم يوجد شئ” (يو1: 17)، و” بكلمة الرب صنعت السموات” (مز32: 6س) وأيضًا ” يرسل كلمته فيشفي كل الأشياء” (مز106: 20)، وإذ نعرف أنه الحكمة، نعرف أن ” الله بالحكمة أسس الأرض” (أم3: 19)، وأيضًا الآب ” صنع كل الأشياء بالحكمة” (مز103: 24). وإذ نعرف أنه الله فقد آمنا أنه المسيح، لأن داود يرنم: ” عرشك يا الله إلى دهر الدهور، قضيب استقامة قضيب ملكك. أحببت البر وأبغضت الآثم، من أجل ذلك مسحك الله إلهك بزيت الابتهاج أكثر من شركائك” (مز44: 6ـ7). ويقول في إشعياء عن نفسه ” روح الرب على لأنه مسحني” (إش61: 1). وقد اعترف بطرس: ” أنت هو المسيح ابن الله الحي” (مت16: 26). وهكذا على نفس النحو، إذ نعرف أنه قد صار إنسانًا، فنحن لا ننكر ما يقال عن إنسانيته: ” فمثلاً أنه جاع، وعطش، وضرب، وبكى، ونام، وأخيرًا احتمل الموت على الصليب من أجلنا. لأن كل هذه الأشياء كتبت عنه. وأيضًا هكذا فالكتاب لم يخف، بل قال “خلق”، رغم أنها تناسب البشر. لأننا نحن البشر خلقنا وصنعنا. ولكن كما أنه حينما نسمع أنه جاع، ونام، وضرب، لا ننكر ألوهيته: هكذا حينما نسمع القول “خلق”. فإننا نستنتج ونتذكر أنه إذ هو الله قد خُلِق إنسانًا. لأن ما يخص الإنسان هو أن يُخلَقْ، أو الأشياء التي قيلت سابقًا، كالجوع وما يشبهه.

 

(9)

         وأيضًا ذلك القول الذى مع أنه قول حسن، إلاّ أنهم يسيئون فهمه، وأعني: ” أما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد، ولا الملائكة ولا الابن” (مر13: 32). 

وهذا القول له أيضًا معنى حقيقي. فهم يظنون من عبارة “ولا الابن” أنه بكونه يجهل. فهذا يدل على أنه مخلوق. ولكن ليس الأمر هكذا. حاشا! وكما أنه حينما قال “خلقني” فقد تكلّم كإنسان، هكذا أيضًا فإنه تكلّم كإنسان حينما قال “ولا الابن”. وهناك سبب وجيه لحديثه هكذا، إذ أنه صار إنسانًا، كما هو مكتوب لأنه أمر يخص البشر أن يجهلوا وأن يجوعوا وغير ذلك، ” لأنهم لا يعرفون ما لم يسمعوا ويتعلموا”. ولذلك ، فلأنه صار إنسانًا، فهو يظهر الجهل الذي يخص البشر. فأولاً: لكي يبيّن أن له جسدًا إنسانيًا بالحقيقة. وثانيًا: لكي إذ يكون له جهل البشر في جسده يفتدي الإنسانية من  كل شئ، ويطهّرها ويقدّمها كاملة ومقدسة للآب.

فأي عذر آخر سوف يكتشفه الآريوسيون؟ ماذا إذن سوف يبتدعونه ليثرثروا حوله؟ لقد وبخوا على عدم إدراكهم لعبارة ” الرب خلقني لأجل أعماله” (أم8: 22). وقد تبين أنهم لا يدركون عبارة “ذلك اليوم وتلك الساعة لا يعلم بهما أحد ولا الملائكة”. “ولا الابن”. فبقوله “خلقني” يشير إلى “الإنسان”. إذ أنه صار إنسانًا، فخلق ولكن بقوله     ” أنا والآب واحد“، و” الذي رآني فقد رأى الآب” و” أنا في الآب والآب فيَّ” (يو10: 3؛ 14: 9 ؛ 14: 10)، يشير إلى أزليته. وأنه واحد في الجوهر مع الآب. وهكذا أيضًا حينما يقول: ” لا يعلم بهما أحد ولا الابن“، يتكلم مرة أخرى كإنسان، لأن الجهل أمر يخص البشر. ولكن حينما يقول: ” ليس أحد يعرف الآب إلا الابن، ولا أحد يعرف الابن إلا الآب” (متى11: 27)، فهو يعرف بالأحرى جداً الأشياء المخلوقة. وفي الإنجيل حسب يوحنا، قال التلاميذ للرب: ” الآن نعلم أنك عالم بكل شئ” (يو16: 30). وهذا يدل على أنه ليس هناك شئ يجهله، إذ هو الكلمة الذي به صار كل شئ. وحيث إن ” ذلك اليوم هو من” كل الأشياء” فإنه سوف يصير “يحدث”، به رغم أن الآريوسيين يسخرون ربوات المرات.

[42]الآريوسيون“: إن الرسالة الثانية بأكملها مخصصة لإعادة عرض التعليم الصحيح ضد الآريوسية. فالقديس أثناسيوس يوضح في رسالة 3: 1 أن التعليم الصحيح عن الروح القدس لا يمكن أن ينبع إلا من تعليم صحيح عن الابن. والفصول التالية في هذه الرسالة الثانية لها نقط  اتصال وثيقة مع كتابات أثناسيوس الأخرى ضد الآريوسية وخاصة كتاب De Dec   وكتاب de. Syn  والمقالات الثلاث ضد الآريوسيين (C. Ar. I- III.) وبالإضافة إلى ذلك فإن الحجج هنا متصلة بتلك التي في الرسالة الأولى. وهكذا فهو يوضح في (فصلي 3- 4) أن الابن لا يمكن أن يكون مخلوقاً لأن له كل ما يخص الآب، وبنفس الطريقة يتكلم في الرسالة الأولى (22- 27) عن علاقة الروح القدس بالابن فيقول: “وإن كان الابن بسبب أنه من الآب هو خاص بجوهر الآب، فينبغي أن الروح الذي هو من الله يكون بالجوهر خاصاً بالابن” (1: 25).

وأنه لأمر مثير للاهتمام أن تعبير (ὁμοούσιοσ هوموأوسيوس من نفس الجوهر) يبرز بوضوح في هذه الرسالة وكذلك التفسير الذي يعطيه له والذي له نقط اتصال وثيقة بشرحه له في كتاب: De. Syn. 41- 53 .=

=وأخيرًا فهذه الرسالة متأثرة في صياغتها بالذين وجهت إليهم وهم رعاة كنيسة الإسكندرية إجمالاً، وأيضًا بتطور سمات الآريوسية المعاصرة لزمن كتابة الرسالة.

ثم أن الرسالة توضح أيضًا وحدة الجوهر الإلهي بين الآب والابن، على أن التأكيد يوضح أساسًا “وجود أقنومين متساويين”. وهكذا فإن تعليم القديس أثناسيوس هذا يسبق تعليم الآباء الكبادوكيين عن الثالوث، ويساعد على تفسيره.

[43]الحكمة والشعاع والكلمة” هذه هي التسميات الأساسية التي على ضوئها نعرف ماذا يعني حقيقة الاسمان: “الآب” و “الابن” حينما يطلقان على الله. فالآريوسيون لكي يساووا بين “المولود” (Gennyma) و”المخلوق” (Ktisma)، كان لابد أن ينكروا أن الابن هو الكلمة أو الحكمة بمعناهما الأصيل، بل ينسبونهما فقط إلى الله من الخارج دون أن يكون لهما صلة حقيقية بالابن على الإطلاق. أي أن الابن ليس هو كلمة الله وحكمته على الحقيقة، إذ يقول آريوس فيما يذكر أثناسيوس (أن هناك حكمتان : الأولى لها قوامها الذاتي وموجودة مع الله، أما الابن فقد جاء من خلال هذه الحكمة الأولى، وقد سمى الحكمة والكلمة بسبب اشتراكه فقط في هذه الحكمة الأولى لأنه يقول: إن “الحكمة” جاء إلى الوجود بواسطة الحكمة بمشيئة الله الحكيم. ويقول أيضًا: إنه توجد كلمة أخرى في الله غير الابن.. وأيضًا إن الابن قد سُمِّى كلمة وابنًا بسبب مشاركته للكلمة حسب النعمة) (المقالة الأولى فقرة 5 De Syn.15,).

[44]الينبوع جاف” لاشك أن أثناسيوس يقصد بلفظتي (Asophos) بدون حكمة و(Alogos) “بدون كلمة” المعنى المزدوج، ليس فقط أن الله “بدون حكمة” أو “بدون كلمة”، بل يكون الله في هذه الحالة “غير حكيم” و “غير عاقل، في كيانه وجوهره. ولذلك فإن أثناسيوس في المقالة الأولى ضد الآريوسيين (1: 14) يتهم الآريوسيين بأنهم ينسبون لله “عدم العقل” (Alogia).

وعلى هذا الأساس فإن الآريوسيين ينزلون بالابن إلى مستوى ملكة غير شخصية في الحياة الإلهية، كما أنهم ينكرون أن يكون الله شخصًا. ولا تكون وحدانية الله مشخصة. أما في فكر أثناسيوس فهو يلتزم في شرحه لوحدانية الله بما يقول به الوحي في الكتاب المقدس. فإنكار المساواة بين الابن والآب في الجوهر يعني في الواقع نفي الشخصية بملئها عن الله. والواقع أنه لا يمكن أن نتحدث عن الله كشخص إذا أنكرنا ألوهية الابن حكمة الله وكلمته. فالله في العقيدة المسيحية هو شخص حي محب ومتكلم في يسوع المسيح. وإلغاء ألوهية الابن هو النظر إلى الله كمجرد قوة وليس شخصًا.

[45] لنا معهم نفس الجوهر … ولنا نفس الهوية“: يرفض أثناسيوس أن يعتبر كلمة (Homios – ὅμιος هوميوس) التي تعني شبه، معادلة لكلمة هوموأوسيوس (Homoousios – ὁμοούσιος) التي تعني: من نفس الجوهر حتى لو أضفنا إلى كلمة “هوميوس” كلمات مقوية مثل Aparaliaktos  (= مطابق أو مماثل) أو كلمة katousian  (= حسب الجوهر). وينبغي أن نلاحظ أن أثناسيوس هنا يشرح كلمة (Taftotis – ταυτοτής) بمعنى نفس الهوية، أي أن أي إنسان هو مثل أي إنسان آخر من حيث إن كليهما بشر. وفي كتابه de. Dec  يرفض أثناسيوس أن يرى في علاقة الآب البشري بابنه إيضاحاً كافياً لعبارة هوموأموسيوس (من نفس الجوهر). ويقول: “لأن الأجساد التي يماثل أحدها الآخر يمكن أن تنفصل متباعدة على مسافة أحدها من الآخر”. ويمكن أن نرى اعتراضاً  مماثلاً بالنسبة للتشبيه بالتضامن بين الجنس البشري المذكور هنا، لأنه على الرغم من أننا نحن البشر لنا نفس الهوية ولنا نفس الوضع في الموت والفساد…، إلا أن هذا التضامن لا يصلح أن يكون توضيحاً كافياً للمساواة في الجوهر (أوموأوسيوس Omoousios). لقد سبق للقديس أثناسيوس أن أكد على وحدة الآب والابن وعدم انفصالهما، وهو هنا يهمه أن يؤكد على أن الآب والابن متساويان جوهرياً ومتماثلان تمامًا، وهو يعرف أن هذا التساوي يتضمن في داخله وحدة الجوهر التي سبق ودافع عنها في الفصل السابق من هذه الرسالة، والتي عبر عنها في كتابه De Dec. 20 . وفي ذلك الكتاب يستعمل كلمة هوموأوسيوس لكي يوضح أن “الابن لكي يكون من الآب ينبغي أن يكون  في الآب. ولكنه هنا يختار نقطة انطلاق يهاجم بها الأونوميين (اتباع أريوس) الذين أكدوا ليس فقط انفصال الآب عن الابن بل أيضاً عدم تماثل الآب والابن.

[46] إن ما يقوله أثناسيوس هنا ـ على عكس ما كان يقوله أرسطو يبرز الفكر المسيحي عن الإنسان، أنه لا يوجد من البشر من هو عبد بالطبيعة للآخر.

[47] من طبيعة المخلوقات بعكس طبيعة الابن، أن توجد من العدم. وهذا ما سبق أن كتبه القديس أثناسيوس في المقالة الثانية ضد الآريوسيين حيث يقول: “المخلوقات والمصنوعات وحدها هي التي من المناسب أن يُقال عنها إنها من العدم” وأنها لم تكن موجودة قبل أن تُنشأ” (الترجمة العربية 2: 1 صفحة 9). وانظر أيضاً المقالة الأولى حيث يقول “أما إن كانوا يبحثون الأمر بفضول وحب استطلاع قائلين لماذا لا يخلق الله على الدوام وهو القادر أن يخلق دائمًا،  فليسمعوا أنه بالرغم من أن الله له القدرة على الدوام أن يخلق إلا أنه ليس في استطاعة المخلوقات أن تكون أزلية لأن هذه المخلوقات وجدت من العدم، ولم تكن موجودة قبل أن تخلق، فكيف يمكن إذن لهذه المخلوقات التي لم تكن موجودة قبل أن تخلق، أن تكون موجودة مع الله الكائن دائمًا، أما الابن فلكونه غير مخلوق بل هو من ذات جوهر الآب فإنه كائن دائمًا (الترجمة العربية 1: 29 ص 60، 61).

[48] أي لأنها كائنات ليست بطبيعتها آلهة، فإنها قابلة للتغير. هذه العبارة لها أهمية خاصة إذ توضح أن أثناسيوس كان يعتبر أن الـ Theopoisis   (ثيئوبييسيس) أي “يؤله أو يجعله إلهًا”، ليس فقط نعمة خاصة بالدهر الآتي بل تبدأ منذ الآن. ويتضح هذا من أن أثناسيوس يطابق بين Hiopoisisi , Theopoisisi  (أيوبييسيس) “أي يجعله ابنًا” في C. Ar. III 19.  إذ يعتبر الأخيرة (البنوة) بكل وضوح أنها ملكية نحصل عليها منذ الوقت الحاضر (انظر Ad. Episc. I ).

[49] لا يعتبر القديس أثناسيوس أن هناك خواص عرضية في الله بل كل خواصه جوهرية. فكل ما هو له فهو يكونه.

[50]فإن الرب خلقنى أول طرقه“: عالج القديس أثناسيوس هذه الآية من سفر الأمثال التي كان يحتج بها الآريوسيين، باستفاضة في كتابه المقالة الثانية ضد الآريوسيين، حيث يفسر لفظ “خلق” على أنه يقصد به الطبيعة البشرية الخاصة بالمسيح. انظر الترجمة العربية لهذه المقالة من فصل 18 إلى فصل 72 ترجمة الأستاذ صموئيل كامل عبد السيد والدكتور نصحي عبد الشهيد. نشر مركز دراسات الآباء القاهرة 1987.

[51]فإن كان ابنًا فلا يُدعى مخلوقًا“: هذه النقطة سبق أن تحدث عنها القديس أثناسيوس في كتابه de. Dec. 3  حيث يقول “إن كان ابنًا فهو غير مخلوق، وإن كان مخلوقًا فهو ليس ابنًا، لأن هناك اختلافًا عظيمًا بين الولادة والخلق. ولا يمكن أن يكون الابن ابنًا ومخلوقًا في نفس الوقت إلا إذ اعتبر أن جوهره من الله وغريب عن اله في نفس الوقت. وكان الآريوسيون يجادلون بالقول بأنه لا يوجد اختلاف بين الولادة والخلق، إذ أن الكتب المقدسة في تصورهم تنسب كلا التعبيرين إلى الله. وأن لقب “ابن” هو حسب رأيهم متماثل تمامًا مع تفسيرهم (لأمثال22:8): حيث يعتبرون الابن مخلوقًا. أما أثناسيوس فيؤكد أن التطابق بين الولادة والخلق هو أمر مستحيل وأن على الآريوسيين أن يختاروا بين البنوة والمخلوقية التي يستنبطونها من أمثال 8: 22.

فهو يقول “لأن المخلوقات هي أعمال الصانع من خارجه، أما المولود فليس من خارجه وليس عملاً بل هو مولود جوهر الآب الذاتي. لذا فينما “الأعمال” هي مخلوقات، إلا أن كلمة الله هو ابن وحيد الجنس”. المقالة الثانية ضد الآريوسيين 56.

[52] أي طقس المعمودية (انظر رسالة 1: 29).

رسائل عن الروح القدس ج3 للقديس أثناسيوس الرسولي