هل الإيمان الحقيقي تصديق أعمى؟ – أليس هذا ما يقوله الكتاب المقدس؟ ج1 – ترجمة ودراسة: Patricia Michael

🟥الجزء الأول (يمكنك قراءة الجزء الثاني من هنا: التحليل اللغوي واللاهوتي لتعريف مفهوم الإيمان في (العبرانيين 11: 1) – ترجمة ودراسة: Patricia Michael)
مقدمة
بحكم عملي كمحقق جنائي على مدى أكثر من خمسة وعشرين عامًا، كان الاعتماد على الأدلّة جزءًا أساسيًا من مهنتي وشخصيتي. وقد تشكل لديّ مع مرور الوقت مَيْلٌ تلقائيٌ للبحث عن القرائن والتحقق من الفرضيات قبل قبول أي ادّعاء. ومع ذلك، أجد نفسي أحيانًا أتساءل: “هل توجهاتي الاستدلالية تُفضي إلى نوعٍ من التحيّز أو التشويش قد يُشوّه — ولو بشكل غير مقصود — طريقتي في قراءة الكتاب المقدس واستيعابه؟ هل أقوم بتفسير النصوص من منظور مُسْبق يفترض أن الإيمان لا بد أن يكون قائمًا على البرهان؟ وهل أتعامل مع النصوص المقدّسة من خلال عدسة الإيمان المرتكز على الدليل فقط؟”
لا ينبغي أن يُفاجَأ أحد بكوني مؤمنًا بالدليل؛ فأنا في النهاية مُحقّق، وقد أصبح هذا النهج جزءًا لا يتجزأ من مسيرتي المهنية طوال خمسة وعشرين عامًا. أعتقد أن ذلك صار جزءًا من تكويني. لكن هذه التساؤلات دفعتني إلى إعادة النظر، بتأنٍّ وصدق، في المفهوم الكتابي للإيمان. وقد توصلت، بعد سنوات من البحث والتأمل، إلى قناعة راسخة مفادها أن الإيمان، كما يقدّمه الكتاب المقدس، ليس إيمانًا أعمى أو قفزة في الظلام، بل هو ثقة عقلانية مستندة إلى أدلّة واضحة يمكن التحقق منها، ثقة معقّدة تتفاعل بعمق مع ما يُقدَّم من شواهد.
فعلى سبيل المثال، دعا يسوع مستمعيه إلى تصديق رسالته بناءً على تعاليمه وأعماله ومعجزاته، والتي قدّمها كبرهان ودليل ملموس على صحّة أقواله واثبات ألوهيته:
(يو 14: 11)
“صَدِّقُونِي أَنِّي فِي الآبِ وَالآبَ فِيَّ، وَإِلاَّ فَصَدِّقُونِي لِسَبَبِ الأَعْمَالِ نَفْسِهَا.”
وعلاوة على ذلك، مَكَثَ يسوع اربعين يومًا مع التلاميذ بعد قيامته، وقدّم لهم العديد من البراهين المقنعة التي تؤكد حقيقة قيامته وأَرَاهُمْ أَيْضًا نَفْسَهُ حَيًّا بِبَرَاهِينَ كَثِيرَةٍ.
(أعمال الرسل 1:1-3).
1 اَلْكَلاَمُ الأَوَّلُ أَنْشَأْتُهُ يَا ثَاوُفِيلُسُ، عَنْ جَمِيعِ مَا ابْتَدَأَ يَسُوعُ يَفْعَلُهُ وَيُعَلِّمُ بِهِ،
2 إِلَى الْيَوْمِ الَّذِي ارْتَفَعَ فِيهِ، بَعْدَ مَا أَوْصَى بِالرُّوحِ الْقُدُسِ الرُّسُلَ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ.
3 اَلَّذِينَ أَرَاهُمْ أَيْضًا نَفْسَهُ حَيًّا بِبَرَاهِينَ كَثِيرَةٍ، بَعْدَ مَا تَأَلَّمَ، وَهُوَ يَظْهَرُ لَهُمْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَيَتَكَلَّمُ عَنِ الأُمُورِ الْمُخْتَصَّةِ بِمَلَكُوتِ اللهِ.
لقد تناولت مِراراً في كتاباتي هذا المنهج الاستدلالي في فهم طبيعة الايمان المسيحي، وخلُصْتُ الى نتيجة مفادها أنّ الايمان — كما يُقدّمه الكتاب المقدس— هو “ثقة عقلانية تستند الى ادلة موضوعية ملموسة”، وهذا ما يتجلّى بوضوح في النصوص التي تُبرز طبيعة الايمان المسيحي، بوصفه تجاوبا مع اعلان إلهي مدعوم بالبراهين.
ومع ذلك، ما زلت اتلقّى احيانا رسائل من مستمعي البودكاست الذين يتساءلون عن طبيعة الإيمان المسيحي، هل هو فعلًا يستند إلى براهين كما أؤمن وأدّعي؟ أم أن الكتاب المقدس يقدم مفهوما مختلفًا – ربما أقرب إلى “الإيمان الأعمى” الذي لا يطلب او يحتاج الى دليل؟
وإليكم مثالاً شائعًا عن هذه التساؤلات، ارسلها إليْ أحدُ المستمعين حيث يقول:
“جيم، أود أن تساعدني في توضيح نقطة تشغل ذهني وتثير حيرتي. انا أميل إلى الاتفاق مع منهجك الاستدلالي الذي يستند على الأدلّة في فهم الكتاب المقدس، ودائمًا ما أشعر بالإحباط عندما يُعرّف البعض الإيمان على انه مجرد تصديق أعمى دون أساس.
ومع ذلك، أجد انّ هناك بعض النصوص الكتابية التي تبدو -للوهلة الاولى- وكأنها تدعم هذا المفهوم، مما يدفعني الى التساؤل: كيف يمكن التوفيق بين هذه النصوص وبين منهجك الاستدلالي الذي يعتمد على الأدلّة والمنطق والبرهان؟
على سبيل المثال، يقول كاتب الرسالة الى العبرانيين في مستهل الاصحاح الحادي عشر:
“وَأَمَّا الإِيمَانُ فَهُوَ الثِّقَةُ بِمَا يُرْجَى وَالإِيقَانُ بِأُمُورٍ لاَ تُرَى.” (عب 11: 1).
كثيرًا ما يُستشهد بهذا النص من الرسالة إلى العبرانيين بوصفه مثالًا على إيمان قد يُفهَم على أنه لا يستند إلى دليل، بل يقوم على الرجاء والثقة في أمور غير منظورة دون حاجة إلى شواهد محسوسة او براهين موضوعية، ومن هنا، يرى البعض أنه يُعبّر عن مفهوم “الإيمان الأعمى” الذي لا يستند إلى ما يمكن التحقُّق منه أو الاستدلال عليه منطقيًّا.
فكيف توفّق بين هذا النص ومنهجك الاستدلالي القائم على الادلة في فهم الكتاب المقدس؟”.
الرد:
أولا: السياق الأدبي لفهم النص:
غالبا ما يتم الاستشهاد بالنص الوارد في (الرسالة الى العبرانيين11: 1) للدلالة على ان الايمان المسيحي يقوم على “الثقة والرجاء دون دليل”. غير ان هذا الفهم الشائع يتغاضى عن السياق الأدبي للنص، الذي يلعب دورا حاسمًا وجوهريًا في تحديد طبيعة الايمان المقصود ومرجعيته، ومن ثمّ فإنّ فهم المعنى الدقيق لهذا النص يقتضي دراسته في ضوء السياق المباشر الذي يسبق الإصحاح الحادي عشر، وتحديدًا في خاتمة الإصحاح العاشر، وكذلك في ضوء السياق الأوسع للرسالة.
يقول النص:
“وَأَمَّا الإِيمَانُ فَهُوَ الثِّقَةُ بِمَا يُرْجَى وَالإِيقَانُ بِأُمُورٍ لاَ تُرَى.” (عب 11: 1).
ولفهم هذا التعريف فهماً دقيقًا، لا بد من وضعه ضمن سياقه الأدبي المباشر حيث يقدّم الكاتب في ختام الإصحاح العاشر تمهيدًا لاهوتيًا ونفسيًا يعكس الحاجة الملحّة إلى الإيمان في ظل المعاناة والاضطهاد، وبالتالي فالتعريف الوارد في مطلع الإصحاح الحادي عشر لا يُطرح بوصفه جملة عرضية أو فكرة مبتورة، بل ينبثق من سياق متكامل يشدّد فيه الكاتب على ضرورة الثبات والصبر والثقة في الله ومعاملاته السابقة وسط الشدائد. وبهذا، لا يُقدَّم الايمان هنا كمفهوم نظري مجرّد، بل كاستجابة عقلانية وواعية تنبع من اختبار سابق لأمانة الله، وتقوم على رجاء راسخ، لا على تصديق أعمى أو إيمان منفصل عن الواقع.
عند الرجوع إلى الإصحاح العاشر الذي يسبق مباشرة تعريف الإيمان في مطلع الإصحاح الحادي عشر، نجد أن كاتب الرسالة إلى العبرانيين يختتم حديثه بتشجيع المؤمنين على الثبات في إيمانهم، داعيًا إياهم إلى الصبر والاحتمال على الرغم من “التعييرات” و”الضيقات” التي تعرَّضوا لها أو شهدوها، فيقول:
(العبرانيين10 :36)
لأَنَّكُمْ تَحْتَاجُونَ إِلَى الصَّبْرِ، حَتَّى إِذَا صَنَعْتُمْ مَشِيئَةَ اللهِ تَنَالُونَ الْمَوْعِدَ.
ويؤكد لهم ان المؤمنين لا ينتمون الى فئة أولئك الذين يرتدّون إلى الهلاك، بل الى الذين يثبتون ويثابرون في الايمان من اجل اقتناء وخلاص نفوسهم، حيث يقول:
(العبرانيين 10: 39)
وَأَمَّا نَحْنُ فَلَسْنَا مِنَ الارْتِدَادِ لِلْهَلاَكِ، بَلْ مِنَ الإِيمَانِ لاقْتِنَاءِ النَّفْسِ.
في هذا السياق، يقدّم الكاتب في مطلع الإصحاح الحادي عشر تعريفًا للإيمان، فيقول:
“وَأَمَّا الإِيمَانُ فَهُوَ الثِّقَةُ بِمَا يُرْجَى وَالإِيقَانُ بِأُمُورٍ لاَ تُرَى.” (عب 11: 1).
هنا يُقدَّم الإيمان باعتباره ثقة راسخة بما يُرجى، ويقينًا قائمًا على أمور غير منظورة بَعْد. هذا الإيمان لا يُفهم كتصديق أعمى او قبول غير عقلاني بل هو ثقة راسخة في ما يُرجى ويقيناً مبنياً على وقائع موضوعية تتمثَّل في وعود الله، وتاريخ أمانته وتدخله الفعلي في الاحداث. فالإيمان بحسب الكاتب، ليس بديلًا عن الدليل، بل هو استجابة عقلانية واعية مبنية على مصداقية الله كما أُعلنت وأختُبِرت من خلال تدخلاته وأعماله السابقة عبر الاجيال.
وعليه، فانّ السياق العام للنص يُبرز أهمية الإيمان كوسيلة لتجاوز المصاعب والتحديات، قائمة على شواهد حقيقية حاضرة في ذاكرة المؤمنين، وليس كتصديق غير مبرر او قفزة في المجهول. فكثيرًا ما يُساء فهم هذا النص على أنه تأكيد لفكرة “الإيمان الأعمى”؛ أي الإيمان الذي لا يستند إلى دليل، بل يقوم على الثقة المجرَّدة في أمور غير منظورة لمجرّد كونها غير مرئية. غير أن هذا النص بحسب الكاتب يُبيّن أن هذا الفهم لا ينسجم مع السياق الأوسع للرسالة، ولا سيما مع ما ورد في خاتمة الإصحاح العاشر، والذي يتضمن دعوة صريحة إلى:
- الثبات في وجه الضيق والاضطهاد
(العبرانيين 10: 32 – 33)
وَلكِنْ تَذَكَّرُوا الأَيَّامَ السَّالِفَةَ الَّتِي فِيهَا بَعْدَمَا أُنِرْتُمْ صَبَرْتُمْ عَلَى مُجَاهَدَةِ آلاَمٍ كَثِيرَةٍ.
مِنْ جِهَةٍ مَشْهُورِينَ بِتَعْيِيرَاتٍ وَضِيقَاتٍ، وَمِنْ جِهَةٍ صَائِرِينَ شُرَكَاءَ الَّذِينَ تُصُرِّفَ فِيهِمْ هكَذَا.
- الثقة بالوعود الالهية رغم غياب مظاهر تحقّقه في الحاضر
(العبرانيين 10: 35).
فَلاَ تَطْرَحُوا ثِقَتَكُمُ الَّتِي لَهَا مُجَازَاةٌ عَظِيمَةٌ.
- التحلّي بالصبر
(العبرانيين 10: 36)
لأَنَّكُمْ تَحْتَاجُونَ إِلَى الصَّبْرِ، حَتَّى إِذَا صَنَعْتُمْ مَشِيئَةَ اللهِ تَنَالُونَ الْمَوْعِدَ.
من هنا، يتضح أن الإيمان الذي يتحدث عنه الكاتب ليس “قفزة في الظلام”، بل هو موقف روحي وعقلي نابع من رجاء مبني على اختبارات سابقة لأمانة الله، وعلى أسس منطقية وموضوعية. فـ”ما لا يُرى” لا يعني ما هو بلا أساس، بل ما لم يُرَ بَعْد، لكنه مؤسَّس على ثقة في الله الحيّ، العامل في تاريخ البشرية.
وهكذا، فإن اختزال النص إلى تعريف يدعو لـ”الإيمان الأعمى” يُفقده أبعاده اللاهوتية والاختبارية، ويبتعد عن فكر الكاتب الذي يؤسس الإيمان على “تاريخٍ حَيٍّ” من العلاقة مع الله، اختبره المؤمنون، ويستند إليه رجاؤهم في الحاضر والمستقبل.
ثانيا: العلاقة بين الإيمان والأمور غير المنظورة؟ وهل يشير ذلك الى غياب الدليل؟
الجواب ينبع من صميم النص وسياقه؛ إذ لا يقدّم الكاتب الإيمان بوصفه “ثقة عمياء في غياب الأدلّة”، بل استجابة عقلانية واعية مبنية على مُعطيات تاريخية وروحية سابقة. فالإيمان لا يتناقض مع الدليل، بل يرتكز عليه؛ إذ يثق المؤمنون بما لم يُرَ بَعْد، استنادًا إلى وعود الله التي أثبتت مصداقيتها عبر أزمنة متكررة، وفي مواقف ملموسة عايشوها بأنفسهم أو تناقلتها جماعة المؤمنين.
فـ”غير المنظور” هنا لا يعني “غير المعقول”، بل يشير إلى ما لم يتحقَّق بَعْد في إطار الزمن الحاضر رغم تأخُّر ظهوره، وبالتالي، لا يُشير وصف الإيمان بأنه اقتناع “بأمور لا تُرى” إلى غياب الدليل، بل يعبّر عن اللحظات التي يشعر فيها الإنسان بغياب حضور الله، رغم ثبات وجوده الدائم. في مثل هذه الأوقات، يُدعى المؤمنون إلى التمسُّك بثقة عقلانية لا تستند إلى مشاعر لحظية أو رؤى آنية، بل إلى سِجِلٍّ إلهي سابق من الأمانة، يثبت أن ما لم يُرَ بَعْد لا يَقلُّ يقينًا عمّا تم اختباره بالفعل سابقاً.
في هذه اللحظات الصعبة، حين يبدو الله صامتًا أو غائبًا، يبرُز التساؤل: أين الله في هذه الظروف؟ ولماذا لا نشعر بتدخله؟
يؤكّد كاتب الرسالة الى العبرانيين أن خلاص الله ورعايته وحضوره ثابت ومستمر، داعياً المؤمنين إلى الثقة بأن الله لم يغِب عنهم أو يتخلّى عنهم، وأن عمله الإلهي يظل فاعلًا في حياتهم، مهما اشتدت المِحَن.
ثالثًا: الثقة المستندة إلى الأدلّة في العهدين القديم والجديد
ولكن ما الذي يبرّر هذه الثقة، وعلى ماذا تستند؟
الثقة هنا ليست ايماناً أعمى، بل تستند الى سِجِلٍّ موثوق من أعمال الله التي شهدها المؤمنون عبر التاريخ. فالإيمان لا يُعتبر قفزة في الظلام، بل استجابة عقلانية وواقعية مبنية على تدخلات الله المثبتة تاريخياً. هذه الأعمال الإلهية، الموثّقة في الكتاب المقدس، تشكّل دليلاً ملموسًا على أمانة الله، مما يمنح المؤمنين أساسًا عقلانيًا ووجدانيًا للثقة في وعوده.
الجواب يكمن في أمانة الله عبر التاريخ. فالإيمان والثقة التي يدعو إليها الكاتب لا يقومان على مجرّد اعتقادات بلا سنَد، بل مبنيان على اختبار حيّ وثمرة تجربة توثّق أمانة الله المتجلية في أحداث التاريخ الكتابي. إن الإيمان هنا ليس قفزًا في الظلام، بل استنادًا إلى سِجِلٍّ إلهي حافل من الأمانة المتكررة، يقوم على ما يمكن تسميته بـ”السابقة الإلهية”. وهذا السِّجِلُّ المتكرر المتجدد لأمانة الله يُكوِّن مرجعية موثوقة، تمنح المؤمن أساسًا عقلانيًا ووجدانيًا للثقة في ما لم يُرَ بَعْد.
لذلك، كان تذكير شعب الله بأعماله السابقة، من إنقاذهم من مصر إلى حمايتهم في أوقات الضيق، دليلاً عملياً على قدرته ووفائه بوعوده.
أما في العهد الجديد، فكانت معجزات المسيح وأقواله وقيامته تمثل برهاناً قاطعاً على ألوهيته ومصداقية وعوده.
إذاً، لم يكن الإيمان لدى المؤمنين مبنياً على خيالات أو تكهنات، بل على أحداث تاريخية موثوقة تكشف أمانة الله وحضوره الفعلي في حياتهم. وبناء عليه، يدعو كاتب الرسالة الى العبرانيين المؤمنين إلى الثقة بالله، مستندين إلى هذه الأدلة التاريخية، حتى حين يغيب حضور الله الظاهر أو لا يشعر به الإنسان أو عندما تكون رحمة الله أو حضوره في مواقف معينة غير مرئية أو غير ملموسة، يُطلب منهم أن يتذكّروا الأدلّة والشهادات السابقة على أمانته، مما يُثبّت إيمانهم في مواجهة الشكوك والتحديات.
إن أعمال الخلاص التي أتمّها الله في الماضي — من إنقاذ الشعب من مصر إلى قيامة المسيح — ليست مجرد أحداث تاريخية عابرة، بل تأكيدات مرئية وملموسة على قدرة الله وحضوره الفعّال في العالم والتاريخ. وهكذا، فإن الكاتب لا يُطالب بالإيمان الأعمى، بل بإيمان يستند إلى تاريخ حافل بتدخلات الله المتكررة التي تُثبت أمانته، وتؤكّد حضوره ومصداقيته، وهو ما يشكّل قاعدة أساسية ومتينة للإيمان بما لم يُرَ بَعْد.
حتى كاتب الرسالة نفسه يُدرك أن اليقين لا ينبع من فراغ، واليقين الذي يدعونا إليه لا يأتي من الخيال، بل هو مستند إلى الأدلة الموثوقة على أمانة الله في العهد القديم، والدليل القوي على ألوهية المسيح وأعماله في العهد الجديد.
الخلاصة
الإيمان، كما يقدّمه كاتب الرسالة إلى العبرانيين، ليس استسلامًا أعمى أو تصديقًا بلا أساس، بل هو ثقة راسخة تستند إلى تاريخ عمل الله وسِجِلٍّ إِلَهِيٍّ موثوق من وعوده المتحقِّقة وافعاله السابقة. فعندما يدعو الكتاب المقدس إلى الإيمان بأمور “لا تُرى”، فإنه يحثُّ على الاتكال على ما قد تم اختباره ومعاينته في تاريخ تعاملات الله مع شعبه والمؤمنين به.
الإيمان المسيحي ليس قفزة في الظلام، بل هو استجابة عقلانية ووجدانية معًا، تعتمد على أدلة موضوعية وشواهد تاريخية ملموسة. فكاتب العبرانيين يُرسّخ هذا المفهوم بأنّ الإيمان بوصفه موقفًا يربط الحاضر بالماضي، ويتطلّع الى المستقبل بثقة قائمة على أمانة الله المستمرة.
وهكذا، يُفهم الإيمان المسيحي بأنه موقف يقوم على الثقة الثابتة بالله، مدعومًا بسِجِلٍّ إِلَهِيٍّ موثوق، واستجابة عقلانية مبنية على حقائق سابقة تعزز الثقة بالوعود المستقبلية، حتى في لحظات الغياب الظاهري للدلائل.
الخاتمة
تؤكّد العديد من الدراسات والمقالات اللاهوتية المعاصرة أن الإيمان المسيحي لا يقوم على أساس الإيمان الأعمى أو القبول غير المبرّر، بل هو إيمان يُبنى على أدلّة وشواهد وتجارب مُعاشة تُعزّز الثقة العقلانية. هناك فرق كبير بين الإيمان الحقيقي والإيمان الأعمى، فالإيمان الحقيقي هو استجابة واعية ومستنيرة للدلائل التي يُقدّمها الله، كما يظهر في النصوص الكتابية التي تعرض علامات واضحة وأحداثًا تاريخية تُثبت صحة الرسالة المسيحية.
إنّ الإيمان لا ينشأ من فراغ أو فرضية عشوائية، بل من علاقة مستمرة وتجربة شخصية مع الاله الحيّ، تستند إلى وعد ملموس وتجارب واقعية، مما يجعل الإيمان قائمًا على المعرفة والتصديق العقلاني وليس على ظلمة الجهل أو الغموض. وفي هذا السياق، يبرز مثال إبراهيم كأحد أبرز نماذج الإيمان في الكتاب المقدس، فقد كان ايماناً وعيًا مستنيرًا نابعًا من إعلان إلهي واضح، وعلاقة حيّة وتجارب ملموسة مع الله. لقد آمن بإله يتواصل ويعلن نفسه، ويَعِد، ويُوفي، ويؤدّب، ويتدخّل، ويقيم العهد، ويُتممّ المواعيد — أي بإله موثوق، له سِجِلٍّ سابق في حياته وتجارب تراكمية مرَّ بها.
فالإيمان لا يُعتبر قفزة في الظلام، بل مبني على تاريخ موثوق لتدخُّلات إلهية ملموسة، وتجارب روحية وشخصية تعزز مصداقية الايمان وتثبت أمانة الله وثبات وعوده عبر الأزمنة.
ليكن للبركة
Patricia Michael
Doesn’t the Bible Say True Faith is Blind? J. Warner Wallace
Does God Expect us to have blind faith?
Blind Faith: Is it Biblical?



