أبحاثمُترجَم

التحليل اللغوي واللاهوتي لتعريف مفهوم الإيمان في (العبرانيين 11: 1) – ترجمة ودراسة: Patricia Michael

التحليل اللغوي واللاهوتي لتعريف مفهوم الإيمان في (العبرانيين 11: 1) – ترجمة ودراسة: Patricia Michael

التحليل اللغوي واللاهوتي لتعريف مفهوم الإيمان في (العبرانيين 11: 1) - ترجمة ودراسة: Patricia Michael
التحليل اللغوي واللاهوتي لتعريف مفهوم الإيمان في (العبرانيين 11: 1) – ترجمة ودراسة: Patricia Michael

 

🟥الجزء الثاني (يمكنك قراءة الجزء الأول من هنا: هل الإيمان الحقيقي تصديق أعمى؟ – أليس هذا ما يقوله الكتاب المقدس؟ ج1 – ترجمة ودراسة: Patricia Michael)

 

◼️مقدمة

في الجزء الأول من هذه الدراسة، تناولنا الشبهات الشائعة التي تلاحق مفهوم الإيمان المسيحي، خاصة تلك التي تصوُّره على أنه تصديق أعمى غير مبني على أساس معرفي أو عقلاني وكأنه قفزة في الظلام. وقد اوضحنا كيف أن هذا التصوُّر السائد لا يعكس الجوهر الحقيقي للإيمان المسيحي، بل هو تحريف يُبسّط ويقلّل من عمق العلاقة المعرفية والروحية التي يقيمها المؤمن مع الله.

 

أما في هذا الجزء الثاني، فسوف ننتقل إلى تحليل النص الأساسي في رسالة العبرانيين (11: 1)، الذي يقدم تعريفًا متوازنًا ودقيقًا للإيمان. وسنتطرّق إلى التحليل اللغوي واللاهوتي للنص، موضحين كيف أن الإيمان المسيحي، وفق هذا النص، هو بُنية معرفية وروحية متينة، تتجاوز التصديق الأعمى، وتتأسّس على يقين موضوعي مدعوم بعلاقة حيوية مع الله وتجربة تاريخية ثابتة.

 

بهذا الانتقال، نؤسّس لفهم أعمق للإيمان المسيحي، لا كاعتقاد عاطفي أو شعور عابر، بل كمعرفة واعية تجمع بين الروح والعقل، وتشكّل أساسًا صلبًا للثقة والرجاء في الحياة المسيحية

 

◼️ أولا: بين الجوهر والبرهان: تحليل ὑπόστασις وἔλεγχος في تعريف الإيمان (عب 11: 1)

 

كثيرًا ما يُساء فهم الإيمان المسيحي على أنه حالة عاطفية مُبهمة أو تصديق دون دليل، لا سيما في الثقافة الحديثة التي تضع الإيمان في مقابل المعرفة والعقل. غير أن العهد الجديد، وبخاصة في (عب 11: 1)، يقدّم مفهومًا مغايرًا. ففي هذا النص، يُعرَّف الإيمان بأنه:

وَأَمَّا الإِيمَانُ فَهُوَ الثِّقَةُ بِمَا يُرْجَى وَالإِيقَانُ بِأُمُورٍ لاَ تُرَى. (عب11: 1)

“Ἔστιν δὲ πίστις ἐλπιζομένων ὑπόστασις, πραγμάτων ἔλεγχος οὐ βλεπομένων.”

يتطلّب هذا التعريف الرجوع إلى اللغة اليونانية الأصلية لتحليل المُصطلحين المفتاحيين للنص: ὑπόστασις (hypostasis) وἔλεγχος (elenchos)، وكَشَف خلفيتهما الفلسفية واللاهوتية، لفهم الإيمان الحقيقي لا كبديل عن المعرفة، بل كامتداد أعمق لها، قائم على الإعلان الإلهي والثقة الموضوعية.

 

◼️ثانياً: التحليل الدلالي للمصطلحات اليونانية “semantic analysis”.

 

✝Ὑπόστασις (Hypostasis)

يشير هذا المصطلح حرفيًا إلى “ما يقوم عليه الشيء”، أي الأساس أو الجوهر الثابت. يُترجم أحيانًا إلى substance (كما في ترجمة الملك جيمس KJV) للدلالة على الكيان الحقيقي والثابت، وأحيانًا إلى assurance (كما في ESV وNASB) للدلالة على اليقين والثقة الراسخة.

في الفلسفة اليونانية، كان المصطلح يُستخدم للدلالة على الجوهر او الكيان الحقيقي الذي يقوم وراء الظواهر المتغيّرة. وبالتالي فإن استخدام الكاتب لهذا المصطلح يشير إلى أن الإيمان ليس مجرد أمل أو توقّع، بل هو يقين موضوعي يقوم على أساس راسخ من وعود الله الثابتة.

يؤكد معجم BDAG المعنى الفلسفي العميق لهذا المصطلح بقوله:

“the essential or basic structure/nature of an entity, substantial nature, essence, actual being.”

وبناءً على ذلك، يُقدَّم الإيمان هنا على أنه يقين موضوعي راسخ بحقيقة الأمور المرجوّة، وليس مجرد شعور عاطفي غامض أو توقُّع غير مستند إلى أساس.

 

✝Ἔλεγχος (elenchus / elenchos)

 

يعني هذا المصطلح “البرهان المنطقي” أو ” الدليل العقلي”(وليس مجرّد اثبات عشوائي)، وقد استُخدم على نطاق واسع في الجدل الفلسفي الكلاسيكي، لا سيما في محاورات أفلاطون (مثل Apology وEuthyphro)، وفي كتابات أرسطو، حيث يشير إلى التفنيد المنطقي المؤسَّس على العقل.

في هذا السياق، لا يُفهم الإيمان بوصفه تصديقًا أعمى، بل كاقتناع عقلاني مبني على دليل داخلي ومنطقي، يتجاوز حدود الرؤية الحسيّة إلى واقع أعمق غير مرئي.

وبناءً على ذلك، يُقدَّم الإيمان هنا على أنه يقين موضوعي راسخ بحقيقة الأمور المرجوَّة، وليس مجرَّد شعور عاطفي غامض أو توقُّع غير مستند إلى أساس.

 

◼️ثالثاً: البعد السياقي في الرسالة إلى العبرانيين

 

يأتي هذا التعريف للإيمان في سياق لاهوتي محدّد، يُبرز عمق معناه اللغوي والروحي كما سبق وأوضحنا من خلال تحليل المصطلحين ὑπόστασις (hypostasis) وἔλεγχος (elenchos).

 

ففي الإصحاح العاشر الذي سبق وأشرنا اليه في الجزء الاول، يناقش الكاتب أوقات الشدة والاضطهاد التي يبدو فيها أن الله غائب عن واقع الألم. في مثل هذه الظروف، يدعو الكاتب إلى التمسُّك بالثقة في الله، ليس كتجاهل للواقع، بل كردّ مبني على اختبارات سابقة لأمانة الله وتحقيقه لوعوده.

 

هكذا، يُصبح الإيمان فعلًا مبنيًا على الذاكرة والوعي، مستندًا إلى جوهر يقيني ثابت (ὑπόστασις)، ومُثبتًا بعقلانية وواقعية (ἔλεγχος) في ذاكرة شعب الله والمؤمنين في العهدين، مما يجعل الحاضر منفتحًا على الرجاء، ويُقيم أساسًا متينًا للثقة في الله وسط تحديات الواقع.

 

◼️رابعا: البُعد الدفاعي والمعرفي للإيمان

 

يتّضح من التحليل اللغوي والسياقي أن الإيمان في الفكر الرسولي لا يُقدَّم كنقيض للعقل، بل كشكل من أشكال المعرفة اليقينية المرتكزة على إعلان موثوق. ومن ثمّ، يُمكن تقديم الإيمان كمفهوم دفاعي ضد التهمة الشائعة بأن المسيحية تدعو إلى التصديق الأعمى.

 

فالإيمان بحسب ما يقدّمه كاتب الرسالة إلى العبرانيين (11: 1)، ليس افتراضًا عاطفيًا أو تصديقًا أعمى، بل هو ὑπόστασις – “الجوهر الثابت” أو “الأساس الموضوعي” لما يُرجى؛ أي يقين حقيقي استباقي لوعود لم تتحقّق بعد، وهو كذلك ἔλεγχος – “البرهان العقلي–الروحي” لما لا يُرى؛ أي دليل داخلي راسخ يتجاوز الحس دون أن يتناقض معه.

إنه التقاء بين المعرفة العقلية والمعرفة الكاشفة، يُنتج يقينًا روحيًا متجذرًا في الواقع التاريخي والوعد الإلهي.

بهذا المفهوم، يُقدَّم الإيمان كموقف معرفي قائم على إعلان موثوق، ومُدَعَّم بتاريخ من أمانة الله، ليُصبح ردًّا عقلانيًا–لاهوتيًا على فكرة أن المسيحية تقوم على تصديق بلا دليل، أو إيمان منفصل عن الواقع.

 

◼️خاتمة

 

الإيمان المسيحي، كما يقدّمه النص في (عبرانيين 11: 1)، لا يقوم على شعور داخلي عابر أو تصديق أعمى، بل على بُنية معرفية راسخة، تتجسّد في ὑπόστασις (الجوهر الثابت) وἔλεγχος (البرهان المنطقي).

ويكشف هذا التعريف أن الإيمان، بحسب التصوُّر الرسولي، ليس موقفًا شعوريًا ذاتيًا ولا مجرّد تصديق دون أساس، بل هو نَمَط معرفي متكامل يرتكز على إعلان إلهي موثوق، ويتجذّر في خبرة تاريخية ملموسة، ويتجاوز في الوقت ذاته حدود الإدراك الحسّي والعقلي المجرّد نحو أفق غير منظور.

لذلك، لا يُطرح الإيمان في تضاد مع العقل، بل بوصفه نوعًا من المعرفة يتجاوز العقل دون أن ينقضه. فهو يجمع بين موضوعية الحقيقة المُعلَنة ويقينية البرهان الداخلي، مُؤسِّسًا علاقة معرفية متبادلة بين الإنسان والله، قوامها الثقة في الأمانة الإلهية حتى في لحظات الألم أو الشك أو الصمت الإلهي الظاهري.

وبهذا المعنى، لا يُختزل الإيمان المسيحي في تجربة باطنية أو معتقد فردي، بل يُقدَّم كمعرفة روحية مؤسَّسة على تفاعل حيّ مع الوحي الإلهي. إنّه يقين يُغذّي الرجاء، ويمنح صاحبه ثباتًا في مواجهة الشكوك والتجارب، حتى في غياب ما يُعدّ دليلًا مباشرًا أو محسوسًا.

 

ليكون للبركة

Patricia Michael

Bauer, W., Danker, F. W., Arndt, W. F., & Gingrich, F. W. A Greek-English Lexicon of the New Testament and Other Early Christian Literature (3rd ed.). Chicago: University of Chicago Press, 2000.

Nestle-Aland. Novum Testamentum Graece (28th ed.). Stuttgart: Deutsche Bibelgesellschaft, 2012.

The Holy Bible: English Standard Version (ESV). Wheaton, IL: Crossway, 2016.

Hornblower, S., Spawforth, A., & Eidinow, E. (Eds.). The Oxford Classical Dictionary (4th ed.). Oxford: Oxford University Press, 2012.

Various Editors. The Cambridge Companions to Religion and Classics Series. Cambridge: Cambridge University Press.

التحليل اللغوي واللاهوتي لتعريف مفهوم الإيمان في (العبرانيين 11: 1) – ترجمة ودراسة: Patricia Michael

زر الذهاب إلى الأعلى