تاريخ الأسفار القانونية للعهد الجديد – ثيو دونر – ترجمة: عبدالمسيح
تاريخ الأسفار القانونية للعهد الجديد – ثيو دونر – ترجمة: عبدالمسيح

بدأ وعي الكنيسة بالحاجة إلى قائمة متفق عليها من الكتب يتشكّل تدريجيًا؛ وربما كان لظهور قانون ماركيون (Marcion’s canon) دورٌ متفاوت في تحفيز هذا الوعي. وبحلول نهاية القرن الثاني، أصبحت مسألة قانونية الكتب محل نقاش محتدم. (ويُقدَّم قانون موراتوري (Muratorian Canon)، الذي يُرجّح أنه يعود إلى هذه الفترة⁴، كدليل على هذا النقاش.)
في ذلك الوقت، لم يعد هناك شك في الجزء الأكبر من أسفار العهد الجديد: الأناجيل الأربعة، سفر الأعمال، رسائل القديس بولس الرسول، وبعض الرسائل الجامعة (Catholic Epistles). أما الشكوك فظلّت قائمة حول الكتب السبعة “المُختلَف عليها”، (وهي: الرسالة إلى العبرانيين، رسالة يعقوب، رسالة بطرس الثانية، رسالتا يوحنا الثانية والثالثة، رسالة يهوذا، وسفر الرؤيا) حتى القرن الرابع، وحتى بعد ذلك في بعض المناطق.
ومن المهم التنبيه إلى أن هذا العرض لا يتعدى كونه إطارًا عامًا للفهم السائد بشأن تكوين قانون أسفار العهد الجديد، إذ تختلف تفاصيل الحجة من كاتب إلى آخر.”
لا يمكن لنا في مقال واحد أن نطمح إلى معالجة شاملة لكل ما يتعلّق بتاريخ قانون أسفار العهد الجديد، أو إلى مناقشة جميع الآراء والحجج التي طُرحت حول هذا الموضوع. ومع ذلك، من الممكن أن نطرح بعض التساؤلات حول الطريقة المعتادة التي يُتناوَل بها هذا الموضوع.
أدلة مبكرة على أن كتب العهد الجديد كان يُنظر إليها على أنها تتمتع بسلطة كتابية
ينبغي أن نلاحظ أولًا أن الأدلة المتوفرة لدينا من المسيحية الأولى لا تدعم دائمًا الافتراضات أو الاستنتاجات التي تم ذكرها أعلاه.
أما فيما يخص الادّعاء القائل بأن كتابات العهد الجديد لم تكن تُعتبَر ذات سلطان “كتابي” (scriptural authority) حتى أواخر القرن الثاني، فإن الأدلة، على أقل تقدير، مبهمة. وأي شخص يرغب في الأخذ بهذا الادّعاء عليه أن يُفسّر الحقائق التالية:
أ. في الرسالة الأولى إلى تيموثاوس 5:18، نرى مقطعًا من العهد القديم واقتباسًا من الإنجيل يُوضَعون جنبًا إلى جنب، ويُقدَّمون بنفس العبارة: “يقول الكتاب”. وحتى لو لم يكن الرسول بولس يشير إلى إنجيل مكتوب، إلا أنه من الواضح أنه يُساوي بين قول الرب وبين ما جاء في الكتاب المقدس للعهد القديم.
ب. في رسالة بطرس الثانية 3:16، يُشار إلى رسائل بولس، ويذكر أن البعض “يحرّفونها كما يفعلون أيضًا مع الكتب المقدسة الأخرى”، مما يعني أن رسائل بولس كانت تُعتبَر في نظر الكاتب مساوية لأسفار العهد القديم (من حيث السلطان).
ج. ينبغي الحذر عند استخلاص استنتاجات حاسمة من الديداخي (Didache)، بسبب الغموض الكبير حول تاريخ كتابته (ما بين سنة 70 إلى 150م تقريبًا) وطريقة تكوين هذه الوثيقة. لكن من الواضح في هذا أن الديداخي:
- يعتبر وصايا الرب ذات أعلى سلطان.
- يستشهد بإنجيل مكتوب (قارن: الديداخي 8:2 و15:3،4).
- يوصي قارئيه بشأن وصايا الرب قائلاً: “لا تُضِف عليها شيئًا ولا تُنقِص منها” (الديداخي 4:13، مقتبسًا من سفر التثنية 4:2 و12:32)، واضعًا بذلك وصايا الرب في مرتبة مساوية لشريعة موسى.
د. نفس الاقتباس من سفر التثنية نجده أيضًا في رسالة برنابا (Epistle of Barnabas) التي تعود إلى الربع الأول من القرن الثاني (برنابا 19:11).5 وفي نفس الرسالة نقرأ: “فلنحذر لئلا يُقال عنا كما هو مكتوب: «كَثِيرِونَ يُدْعَونَ، وَلَكِنْ قَلِيلِينَ فَقَطْ يُختَارُونَ.»” (برنابا 4:14). ويبدو أن الكاتب هنا يشير إلى إنجيل متى كمصدر كتابي (قارن متى 20:16 و22:14).
هـ. القديس إغناطيوس الأنطاكي (استُشهد بين عامي 98 و117م) يذكر في سياق واحد الإنجيل والرسل والأنبياء، وهو أسلوب معتاد للإشارة إلى أسفار العهد القديم.
و. الغنوصي باسيليدس (Basilides) (125–150م) يُقدِّم اقتباسات من رسائل بولس بهذه العبارات: «كما كُتِب» (ويليها رومية 8:19، 22)، وأيضًا: «والكتاب يقول في هذا الصدد…» (ويليها 1 كورنثوس 2:13). (راجع: هيبوليتس، Refutation of All Heresies، الكتاب السابع، الفصول 13 و14 – ANF).
ز. بوليكاربوس أسقف سميرنا (الذي استُشهد غالبًا حوالي عام 155م) يحضّ أهل فيلبي قائلاً: «كما قيل في هذه الكتب: “اغضبوا ولا تخطئوا” و”لا تغرب الشمس على غيظكم”» (رسالة بوليكاربوس إلى أهل فيلبي 12:1). وفي نفس الرسالة (6:3)، يضع المسيح والرسل والأنبياء معًا.
ح. ما يُعرَف بـ الرسالة الثانية للقديس كليمندس الروماني (2 Clement)، والتي كُتِبت ربما حوالي سنة 150م، يقتبس في الإصحاح 2:4 أولًا من إشعياء 54:1، ثم يقول: «وكتاب آخر يقول أيضًا: “لم آتِ لأدعو أبرارًا بل خطاة”» (مرقس 2:17 وما يوازيه).
وبالنظر إلى هذا النوع من الأدلة التي قدمناها، فإن الباحث ر. ب. س. هانسون R. P. C. Hanson6 جادل بأن هذه الشواهد لا تُثبت الأمر بشكل قاطع. فقد زعم أن التعبير الوحيد الذي يُعَدّ مؤشّرًا موثوقًا على المكانة التي منحها كتّاب القرن الثاني لأسفار العهد الجديد هو عبارة “الكتب المقدسة” (the Holy Scriptures). ويقول إننا لا نجد هذا التعبير مستخدمًا للإشارة إلى العهد الجديد حتى ما بعد منتصف القرن الثاني بفترة وجيزة، في دفاع أرستيدس (Aristides’ Apology، فقرة 16).
لكن التركيز على هذا التعبير بعينه غير مبرَّر، خصوصًا وأنه لا يُستخدم في العهد الجديد كله إلا مرة واحدة فقط (رومية 1:2)، ثم لا يظهر مجددًا إلا عند القديس يوستينوس الشهيد (الذي كتب حوالي سنة 160م)، حيث استخدمه مرتين فقط في أكثر من 70 إشارة إلى العهد القديم كـ”الكتب المقدسة”.
ما دام هناك مقاطع من أسفار العهد الجديد تُقدَّم بنفس الصيغ التي تُستخدم مع أسفار العهد القديم، فستظل هناك حاجة لإعطاء مبررات كافية إن أردنا التمييز في السلطان المنسوب لكل منهما.
عدم اعتبار التقليد الشفهي منافسًا للتقليد المكتوب
قضية أخرى يكتنفها الغموض في الأدلة هي مسألة التقليد الشفهي. لا شك في وجود تقليد شفهي في الكنيسة الأولى، ولكن يبدو أن مجرد حقيقة وجوده يُفهم أحيانًا وكأنه يُقلِّل من سلطان التقليد المكتوب.
ومن المؤسف أن كامبنهاوزن7 لا يزال يرى أن بابياس Papias (الذي كتب ما بين سنة 110–130م تقريبًا) كان يؤمن بـ”تفوق التقليد الشفهي”، مستندًا إلى قول بابياس:
«ما يأتي من الكتب لا يبدو لي نافعًا بقدر ما يأتي من الكلام الحي ويبقى كذلك» (تاريخ الكنيسة ليوسابيوس، الكتاب الثالث، الفصل 39، الفقرة 4 – ترجمة كامبنهاوزن).
ولكن كما أظهر جي. بي. لايتفوت J. B. Lightfoot8 في وقت سابق، وأعاد تأكيده باحثون آخرون لاحقًا (ذكرهم كامبنهاوزن نفسه)، فليس هذا هو الفهم الأوضح أو الأرجح للنص الوارد في كتاب يوسابيوس.
يبدو بالأحرى أن بابياس كان حقيقةً يعتمد على التقليد الشفهي فقط في تفسير أقوال الرب، لا في نقل مضمون تلك الأقوال نفسها. وقد يكون تعليقه المسيء على الكتب موجهًا في الواقع إلى الكتابات الهرطوقية التي كانت كما نعلم، في ذلك الوقت، تحاول تفسير أقوال الرب من منظورها الخاص، تمامًا كما كان يحاول بابياس أن يفسرها.
من خلال ما يقوله يوسابيوس Eusebius عنه، فإن الصورة التي تتكون لدينا عن بابياس هي صورة “أصولي” من القرن الثاني، يتمسك بعقيدة المُلك الألفي الحرفي (Pre-millennialism)، ويؤمن بـعصمة الأناجيل، حيث يجادل بقوة أن غياب الترتيب الزمني في إنجيل مرقس لا يعني وجود خطأ في هذا الإنجيل من قِبل الكاتب. (وهذا أمر غريب أن يصدر عن شخص يُفترض أنه يفضل التقليد الشفهي على المكتوب.)
ورغم أن هناك أدلة على استمرار وجود التقليد الشفهي، إلا أنه لا توجد أية أدلة على أن هذا التقليد كان يتنافس من حيث السلطان مع التقليد المكتوب.⁹

السؤال الجوهري هو السلطان، وليس مسألة الإدراج الكنسي
الأمر الأهم من مجرد النقاط المتعلقة باستخدام الأدلة من قِبَل الكُتّاب الذين تناولوا موضوع قانونية أسفار الكتاب المقدس، هو مسألة المنهجية التي يتّبعونها: هل يطرحون الأسئلة الصحيحة أصلًا عند بحثهم في تاريخ قانون العهد الجديد؟
السؤال الذي يُطرح عادةً هو: “متى نجد أوّل دليل على وجود قائمة متفق عليها من الأسفار ذات سلطان مُلزِم للكنيسة؟” الاقتباس الذي ذكرناه سابقًا عن كامبنهاوزن (Campenhausen) يعبّر عن هذا بوضوح: لا يمكن الحديث عن “قانون” إلّا عندما تُمنَح وثيقة (أو مجموعة وثائق) عن قصدٍ مكانةً معيارية خاصّة، تضعها في مرتبة واحدة مع الكتب المقدسة الموجودة للعهد القديم.
(والجدير بالذكر أن الافتراض بأن قانون العهد القديم كان قد اكتمل بشكل راسخ في الحقبة المعنيّة، هو أمر لا يتفق عليه جميع الباحثين).
هذا يعني فعليًا أننا ننطلق من مفهومنا الحالي لكلمة “قانون” (Canon)، ثم نحاول أن نجد دليلاً على وجود هذا المفهوم في الكنيسة الأولى. وبناء على هذا، ينصبّ اهتمامنا على إيجاد – أو إثبات عدم وجود – قوائم طويلة أو قصيرة من الأسفار المقبولة في فترات محدّدة من تاريخ الكنيسة المبكرة، وهو ما سعى إليه كامبنهاوزن10 مثلًا.
لكن، هل مسألة القوائم الرسمية هي في الحقيقة السؤال الأهم؟
صحيح أن كلمة “قانون” (canon) تعني في الأصل “قائمة”، ومن ثم، فإن “تقنين” الأسفار بالمعنى الدقيق للكلمة قد يكون قد تم في وقت متأخر نسبيًا. ولكن من المضلِّل جدًا أن نُوحي بأن لحظة إعداد القوائم هي المرحلة الأولى التي بدأت فيها أسفار العهد الجديد تُعتَبَر ذات سلطان [إلهي].
حينما يخبرنا كامبنهاوزن قائلاً: «في الكنيسة الأولى، كان المقصود بـ”الكتاب المقدس المسيحي” هو… ببساطة العهد القديم، الذي أُخذ من المجمع اليهودي وأُعيد تفسيره مسيحيًا. ولم تكن هناك بعد أية إشارة إلى قانون للعهد الجديد، لأن هذا نفسه لم يكن موجودًا…»،¹¹ فقد يكون محقًا من الناحية الفنية. لكن في الوقت نفسه، يكشف هذا عن قصور منهجيته بالكامل.
القضية الجوهرية هنا هي قضية السلطان (السلطة) Authority. فلو افترض كامبنهاوزن، مثلاً، أن العهد القديم كان هو السلطان الوحيد، أو حتى الأعلى، في الكنيسة الأولى، لبدا هذا الافتراض عبثياً على الفور. فلم يكن هناك وقت – منذ يوم الخمسين (العنصرة) – كانت فيه الكنيسة تعتبر أن العهد القديم وحده يُشكّل السلطان الوحيد أو حتى الأعلى.
يصف لوقا في أعمال الرسل 2 الكنيسة الأولى بأنها جماعة من المؤمنين «كانوا يواظبون على تعليم الرسل». فقد كان لسلطان الرسل وتعاليم المسيح التي نقلوها، مكانة أسمى من سلطان العهد القديم، إذ صار العهد القديم يُفهَم فقط في ضوء تعليم المسيح والرسل.
ونجد هذا الأمر جليًا أيضًا خارج أسفار العهد الجديد، كما في السجال الذي يرويه لنا القديس إغناطيوس (في رسالته إلى أهل فيلادلفيا 8:2)، حيث قال له بعض الأشخاص (غالبًا من المتهوّدين): «إن لم أجد هذا الشيء في كتبنا القديمة (يقصدون العهد القديم؟)، فلن أؤمن به عندما يرد في الإنجيل.» وحينما أكد لهم إغناطيوس أن الأمر مذكور فعلًا في الكتب المقدسة القديمة، أجابوا: «هذا يحتاج إلى إثبات.» فردّ إغناطيوس قائلاً: «أما أنا، فسجلاتي هي يسوع المسيح، وسجلاتي المقدسة هي صليبه وموته وقيامته، والإيمان الذي يأتي من خلاله.»
لا يمكن تقريباً التشكيك في أن المسيحيين الأوائل اعتبروا سلطان الرسل هو الأعلى، حتى أعلى من العهد القديم. ولا يوجد سبب يدعونا للاعتقاد أن هذا السلطان كان يقتصر فقط على تعليمهم الشفهي؛ بل من المؤكَّد تقريبًا أنه امتد أيضًا إلى كتاباتهم، منذ بدايتها.
وعليه، يجب أن نعيد صياغة أسئلتنا بشأن تاريخ قانون العهد الجديد بطريقة مختلفة. ما ينبغي علينا تتبعه ليس مجرد وجود قوائم مبكرة للأسفار المقبولة، بل ما إذا كانت هذه الأسفار – التي أُدرِجت لاحقًا في القوائم – قد اعتُبرت في الأصل وقبل ذلك رسولية وذات سلطان. أي: هل تم قبولها كأسفار قانونية عمليًا، حتى إن لم تكن قد أُدرجت رسميًا بعد؟
هذا سؤال أصعب بطبيعته من مجرد تتبُّع القوائم، لكنه يقودنا إلى ملاحظات جديرة بالاهتمام.
- السلطان الذي يتجلى في الاستخدام المبكر لكتابات العهد الجديد
لقد رأينا سابقًا بعض الأدلة المبكرة التي تشير إلى أن العهد الجديد كان يُعتبر ذا سلطان كتابي (انظر النقطة 1 أعلاه). ويمكننا هنا أن نضيف المزيد من الأدلة المتعلّقة بكيفية استخدام العهد الجديد في الكنيسة الأولى.
يُقرّ كامبنهاوزن بأن حقيقة تكرار أو استخدام أو الإشارة إلى كتابات العهد الجديد لا تعني “تقنينها”¹². وهذا صحيح إذا ما أخذنا مفهوم “التقنين” بحسب فهم كامبنهاوزن له. ولكن إن كان يقصد أن التكرارات أو الإشارات أو الاقتباسات لا تعني شيئًا بخصوص سلطان الكتب المشار إليها، فتصريحه هذا يحتاج إلى تبرير، في ضوء بعض الاعتراضات الواضحة. لا يمكن أن يُعتبر هذا الادعاء سليمًا إلا إذا أمكن إثبات أن كتّاب المسيحية الأولى رددوا أو اقتبسوا أو أشاروا إلى نصوص نعلم يقينًا أنها لم تكن تُعتبر ذات سلطان بنفس الطريقة. أما الواقع، فإن استخدام كتابات العهد الجديد هذا يعكس تمامًا الطريقة التي بها يُستَشهَد بالعهد القديم داخل أسفار العهد الجديد نفسها، وفي كتابات الكنيسة الأولى عمومًا.
إن مثل هذه التلميحات والإشارات الضمنية تظهر بوتيرة أكبر بكثير من الاقتباسات الرسمية الصريحة. أفليس من المشروع أن ننظر إلى هذا الأسلوب في الإشارة إلى كتابات العهد الجديد بالطريقة التي نظر بها وستكوت Westcott، عندما قال عن آباء الكنيسة الرسوليين:
«إن كلمات الكتاب المقدس (ويقصد بها العهد الجديد) منسوجة في نسيج كتبهم، لا مجزأة كاقتباسات رسمية. فهي ليست منظّمة بغرض الجدل [أو الاستدلال]، بل تُستخدم كتعبير طبيعي عن الحقائق المسيحية. وهذا الاستخدام للأسفار المقدسة يُظهِر – على الأقل – أنها كانت معروفة على نطاق واسع في ذلك الوقت، وبالتالي محروسة بشهادة جمع غفير [من المؤمنين]؛ بحيث أن لغتهم قد انتقلت إلى لغة المؤمنين اليومية؛ وأنها كانت مألوفة لدى أولئك المسيحيين الأوائل بقدر ما هي مألوفة لنا اليوم، بحيث كانوا يستخدمونها بلا وعي في كتاباتهم وحديثهم»¹³.
حتى في محاولة التحقق من الأسفار التي كانت معروفة ومستخدمة من قِبل كتّاب الكنيسة بعد العصر الرسولي، لم يُجرَ بعدُ تحليل دقيق بالقدر الكافي للكشف عن هذه الاستشهادات والتلميحات والإشارات غير المباشرة التي قد تشير إلى تلك الأسفار. إذ انصبّ التركيز أثناء البحث غالبًا على الاقتباسات الصريحة والواضحة فحسب.
لدينا مجال هنا لمزيد من الفحص الأدبي العميق، ليس فقط لاكتشاف التشابه في اللغة والمفردات والتراكيب النحوية، بل أيضًا لدراسة التشابه في الفكر اللاهوتي والمضمون العقائدي. إن السلطان الظاهري الذي تحظى به كتابات العهد الجديد لدى الكتّاب المسيحيين الأوائل، يتأكد بصورة لافتة من خلال استخدامها أيضًا من قِبل الهراطقة في القرن الثاني الميلادي.
لقد أشرنا أعلاه إلى أن الغنوصي باسيليدس (في النصف الأول من القرن الثاني) اقتبس من رسائل بولس على أنها «الكتاب المقدس». أما ماركيون، فعندما وضع «قانونًا» خاصًا به في ذات الفترة تقريبًا، لم يكن غرضه منح بعض الأسفار سلطانًا أعلى، بل على العكس: كان هدفه استبعاد سلطان باقي الأسفار الرسولية.
أما الغنوصي فالنتينوس (منتصف القرن الثاني)، فيقول عنه ترتليان14 Tertullian إنه لم يخترع “كتابات مقدسة” جديدة، بل حرّف معنى الكتابات المقبولة من خلال شروحه الخاصة. وقد دافع فان أونيك15 W.C. van Unnik بأن «إنجيل الحق» المنسوب إلى المدرسة الفالنتينية والموجود في مخطوطة نجع حمادي (Jung Codex) يؤكد هذا الرأي الذي أورده ترتليان. وفي موضع آخر، يقول ترتليان: «(الهراطقة) يتعاملون فعليًا مع الكتب المقدسة ويدعمون (آراءهم) منها. وبالطبع يفعلون ذلك؛ فمن أين يمكنهم أن يأتوا بحجج حول أمور الإيمان سوى من سجلات الإيمان؟»¹⁶
ويقول إيريناوس Irenaeus عن الأناجيل الأربعة ما يلي: «إن أساس هذه الأناجيل متين جدًا لدرجة أن الهراطقة أنفسهم يشهدون لها، وكل واحد منهم يحاول أن يُقيم عقيدته الخاصة انطلاقًا من هذه (الوثائق)»¹⁷.
- الأسفار المختلف عليها: كانت أيضًا ذات سلطان منذ وقت مبكر
إن التركيز على مسألة السلطان والاستخدام العملي لكتابات العهد الجديد، بدلًا من حصر النظر في مسألة القوائم الرسمية للأسفار المعترف بها، قد يساعدنا أيضًا على إعادة النظر في مشكلة معينة تخص تاريخ تشكّل قانون العهد الجديد.
نعلم أن النقاشات التي دارت في القرنين الثالث والرابع بشأن حدود قانون العهد الجديد، انصبت على وضع سبعة أسفار تُعرف بـ الأسفار المختلف عليها (Antilegomena)، وهي: الرسالة إلى العبرانيين، يعقوب، ٢ بطرس، ٢ و٣ يوحنا، يهوذا، وسفر الرؤيا. وهذه الأسفار لم تكن مقبولة على نطاق كلي من الكنيسة.
غالبًا ما يُقال إن مكانة هذه الأسفار كانت محل شك حتى قررت الكنيسة في القرن الرابع إدراجها رسميًا ضمن أسفار العهد الجديد. غير أن الأدلة لا تدعم هذا الادعاء بالضرورة.
بل يبدو أن التلميحات والإشارات إلى هذه الأسفار موجودة حتى منتصف القرن الثاني، وأن التشكيك في سلطانها لم يظهر إلا مع نهاية القرن الثاني، وذلك عندما فرض سيل الكتابات الهرطوقية على الكنيسة أن تبدأ في تقييم الأسفار التي لها سلطان مقابل تلك التي لا سلطان لها.
تشير كل الأدلة إلى أن هذه الأسفار كانت مقبولة قبل نهاية القرن الثاني في المناطق التي كانت معروفة فيها (ومن المهم التأكيد على هذه النقطة، لأنها تفسّر الشكوك التي أثيرت لاحقًا بشأنها [في مناطق أخرى لم تصلها هذه الأسفار بالسرعة ذاتها]).
لا يسعنا هنا سوى الإشارة الموجزة إلى الحقائق التالية:
(أ) الرسالة إلى العبرانيين مقتبسة بشكل موسّع في رسالة أكليمندس الأولى Clement (بين عامي 90–110م)، كما استخدمها عدد من الكُتّاب الآخرين. ولم يظهر لنا أن كنيسة شمال إفريقيا لم تكن تتضمنها في قائمتها لأسفار العهد الجديد إلا في بداية القرن الثالث، بحسب ما نعلم من ترتليان.
(ب) رسالة يعقوب موثقة في رسالة كليمنت الأولى ورسالة هرنياس Hernias (منتصف القرن الثاني) وغيرهما.
(ج) أعتقد شخصيًا أن رسالة يهوذا 18 تقتبس من 2 بطرس 3:3، وهناك آثار من 2 بطرس يمكن تتبّعها في بعض آباء الكنيسة الرسوليين مثل (1 أكليمندس 9:3؛ 11:1؛ 23:3؛ رؤى هرماس IV 3:4؛ أمثال هرماس VIII 11:1). ومن المعروف عمومًا أن رسالة 2 بطرس هي الأقل توثيقًا بين الأسفار المُختلَف عليها Antilegomena.
(د) الرسالتان الثانية والثالثة من يوحنا تمثلان تحديًا خاصًا من نوعهما. فعلى الرغم من وجود بعض الآثار لهما في كتابات مسيحية مبكرة، يبدو من سجلات مجمع قرطاج السابع (سنة 256 م)، ومن موضعين في كتابات إيريناوس (ضد الهرطقات Adv. Haer I 16:3؛ III 16:8)¹⁸، أن رسالتي يوحنا الأولى والثانية على الأقل كانتا تُعرفان كرسالة واحدة، إذ نُقلت اقتباسات من 2 يوحنا تحت عنوان: “من رسالة يوحنا”. وطالما لا نعرف على وجه الدقة الشكل الذي كانت تُعرف به هذه الرسائل الثلاث في ذلك الوقت، ونظرًا لِغموض الأدلة، لا يمكننا إلا أن نقول إنه لم تظهر أية شكوك حول صحة هذه الرسائل حتى نهاية القرن الثاني.
(هـ) نجد آثارًا لرسالة يهوذا في كتابات آباء الكنيسة الرسوليين، والطريقة التي يقتبس بها ترتليان من الرسالة (في كتابه حول زينة النساء De Cult. Fem.، القسم الثالث) توحي بأنها كانت مقبولة ومعترف بها منذ وقت طويل في كنيسة شمال إفريقيا.
سفر الرؤيا يبدو أنه كان مقبولًا على نطاق واسع حتى أواسط القرن الثالث. أما حقيقة أن صحة وسلطان هذه الأسفار قد أُثيرت حولها الشكوك عندما بدأت النقاشات حول مدى قانونية أسفار العهد الجديد في نهاية القرن الثاني، فتُفسَّر غالبًا بكون هذه الأسفار كانت معروفة في بعض المناطق دون غيرها، وكانت شبه مجهولة في مناطق أخرى.
السبب الآخر المحتمل لهذه الشكوك يعود إلى محاولة بعضهم في ذلك الزمان تضييق مفهوم “رسولي” ليعني فقط “من تأليف رسول مباشرة”. وبما أن كُتّاب هذه الأسفار –باستثناء 2 بطرس– لم يكونوا معروفين على وجه الدقة أو كان هناك غموض بشأن هويتهم، فقد كان من الطبيعي أن تُثار تساؤلات بشأنها. أما أسفار مثل مرقس ولوقا وأعمال الرسل، فقد كانت مكانتها قد ترسخت بما يكفي لئلا تثير أية إشكالات من هذا النوع.
الخلاصة
من الواضح أن كل ما سبق يشكّل رسمًا مبدئيًا فقط لكيفية تناول موضوع تاريخ قانون أسفار العهد الجديد. فبعض النقاط التي ذكرناها تُظهر ضعف بعض العروض المعيارية التقليدية حول هذا الموضوع.
ومن الواضح أيضًا أن أي نقاش حول سلطان كتابات العهد الجديد في الكنيسة ما بعد الرسولية يجب أن يأخذ في الاعتبار السؤال الأوسع عن مفهوم السلطان داخل الكنيسة في تلك الفترة. كما لا ينبغي أن يقلل بحثنا عن قوائم قانونية رسمية من أهمية دراسة ظهور ‘قانون’ العهد الجديد تدريجيًا؛ بل إن هدفنا هو توسيع نطاق التحقيق ووضعه في إطاره الصحيح.
توحي رؤيتنا العامة – بنظرة شاملة – حول سلطان كتابات العهد الجديد في الكنيسة الأولى إلى أنه ليس من غير الممكن، ولا من المستبعد منطقيًّا، أن جميع الكتابات الرسولية التي تشكّل اليوم العهد الجديد قد قُبِلت منذ البداية ككتب رسولية وبالتالي ذات سلطة من قبل الكنيسة ما بعد الرسولية، وأن الصحة أو الأصالة لبعض هذه الكتب لم يُشكَّك فيها إلا في وقت لاحق، لأسباب تاريخية واضحة لا تُنقص من قبولها كرسولية من قِبَل الكنيسة ما بعد الرسولية.
لكن، هذه ما هي إلا فرضية أولية بحاجة إلى تحليل أعمق وشامل لكل الأدلة المتاحة، للتحقق مما إذا كانت الأدلة فعلاً تدعم هذا الطرح. في حين لا يبدو أن تحليلاً من هذا النوع متوفر حتى الآن.
المراجع:
- H. V. Campenhausen، The Formation of the Christian Bible (توبنغن 1968؛ الترجمة الإنكليزية لندن 1972)، ص 103.
كان كامبنهاوزن (Campenhausen) أكثر دقة من ر. م. غرانت (R. M. Grant) في The Formation of the New Testament (لندن 1965). (للاطّلاع على بيان موجز عن موقف غرانت، انظر مقاله “The New Testament Canon” في Cambridge History of the Bible، الجزء الأول، ص 284 وما يليها).
يشير كلا من د. إ. غروه (D. E. Groh) في Interpretation 28 (1974، ص 331–343) وأ. س. سوندبرغ (A. C. Sundberg) في Interpretation 29 (1975، ص 352–371) إلى أن كامبنهاوزن لم يكن صارمًا بما فيه الكفاية وأنه يُحدّد تكوّن القانون في وقت مبكر جدًا. انظر أيضًا د. ل. دنغان (D. L. Dungan) في “The New Testament Canon in recent study”، Interpretation 29 (1975، ص 339–351).
أما الباحثون المحافظون، فيبدو أنهم نادرًا ما يتناولون الموضوع. ومن الاستثناءات إ. لايرد هاريس (E. Laird Harris) في Inspiration and Canonicity of the Bible (غراند رابيدز 1969)، إلا أن الكتاب يترك الكثير مما يُرغب بتناوله.
يمكن العثور على معالجة مختصرة للموضوع في مقدمات الشروحات العامة للعهد الجديد. يقدم د. غذري (D. Guthrie) بيانًا مختصرًا مفيدًا في New International Dictionary of the Christian Church، لكنه للأسف لم يتناول الموضوع بشكل شامل في New Testament Introduction.
- انظر Nicene and Post-Nicene Fathers، السلسلة الثانية، مجلد IV، ص 551 وما بعدها.
- E. Hennecke، New Testament Apocrypha (توبنغن 1959؛ ترجمة إنكليزية لندن 1963)، ص 29.
- A. C. Sundberg، “Canon Muratori: a 4th Century List”، Harvard Theological Review 66 (1973)، ص 1–41، يشكّك في تأريخ هذا القانون [أنه يعود إلى القرن الرابع].
- W. C. van Unnik، “De la règle mēte prostheinai mēte aphelein dans l’histoire du canon”، Vigiliae Christianae 3 (1949)، ص 10 وما بعدها، لا ينفي أن الصيغة الواردة في الديداخي وبرنابا تشير إلى الوصايا المكتوبة، بل يلاحظ فقط الفرق بينها وبين استخدامها في الكتابات الأحدث.
- Tradition in the Early Church (لندن 1962)، ص 205 وما بعدها.
- كامبنهاوزن، المذكور أعلاه، ص 130 وما بعدها. قارن أيضًا ر. م. غرانت (R. M. Grant) في Cambridge History of the Bible، ص 291.
- Essays on the work entitled Supernatural Religion (لندن 1893)، ص 156 وما بعدها.
- عمل مفيد جدًا عن العلاقة بين التقليد والكتاب المقدس في الكنيسة الأولى هو كتاب بهذا العنوان لـ إ. فليسمان-فان لير (E. Flesseman-Van Leer) (آسن 1953).
- كامبنهاوزن، المرجع السابق، ص 103.
- نفس المرجع.
- نفس المرجع.
- B. F. Westcott، A general survey of the history of the canon of the New Testament (لندن 1896)، ص 49.
- De Praescr. Haer.، الفصل 38 (في Ante‑Nicene Fathers).
- W. C. van Unnik، “The ‘Gospel of Truth’ and the New Testament” في F. L. Cross (محرِّر)، The Jung Codex (لندن 1955)، ص 79 وما بعدها.
- De Praescr. Haer.، الفصل 14 (في Ante‑Nicene Fathers).
- Adv. Haer. II 11:7 (في Ante‑Nicene Fathers). كما يخصص Westcott في نفس الكتاب جلستي بحث لنظرته حول شهادة الهراطقة على الأسفار القانونية (ص 278–279، 404 وما بعدها). انظر أيضًا بليز باسكال (Blaise Pascal) في Pensées (نسخة Livre de Poche، ص 260): «Les hérétiques au commencement de l’Église servent à prouver les canoniques.»
- انظر Westcott، المرجع الثالث عشر، ص 372، 380، 390.
كاتب المقال: ثيو دونر Theo Donner
رابط المقال:
ترجمة: عبدالمسيح