فريق اللاهوت الدفاعي

الوسم: interpretation

  • المنهج الوجودي لتفسير الكتاب المقدس

    المنهج الوجودي لتفسير الكتاب المقدس

    المنهج الوجودي لتفسير الكتاب المقدس

    المنهج الوجودي لتفسير الكتاب المقدس
    المنهج الوجودي لتفسير الكتاب المقدس

    المنهج الوجودي لتفسير الكتاب المقدس

    لم تقدم العقلانية الإجابات التي توقعها أنصارها بشأن معنى وهدف الحياة، فقد تجاهلت نواحي الحياة التي تمتد إلى ما هو أبعد من المنطق. أما الوجودية، التي تركز على مكان الإرادة والمشاعر، فقد ظهرت في بداية القرن العشرين كرد فعل للعقلانية. وقد قدمت الوجودية افتراضاتها بداية من حقيقة الوجود الإنساني، لكي تفسر الحياة بأكثر حماسة وشمولية.

    من ناحية، تعتبر الوجودية بالفعل مضادة للفلسفة، إذ ان أنصارها يرفضون فرض صيغ أو أنظمة خارجية تقوم بتقيد التعبير الحر عن الوجود الإنساني. لذلك، فبخلاف المناهج الطبيعية وفوق الطبيعية التي قد تتميز بأنها “ذاتية نظرية” كثيراً ما تكون غير واعية لمنهجها الذاتي في التفسير، فإن الوجودية تكون “ذاتية متعمدة وظاهرة بوضوح” كمبدأ عمل أساسي لها.

    يوجد للوجودية تعبيراتها العلمانية والمسيحية. فالوجوديون العلمانيون، من أمثال جان بول سارتر (1905-1980)، وألبرت كاموس (1913-1960)، كانوا يعتقدون أن الحياة ليس لها معنى موضوعي بعيداً عن الخبرة الحالية. وبدون نقطة موضوعية مرجعية، قادت الوجودية العلمانية إلى العدمية، واليأس من وجود أي معنى للحياة.

    الوجودية المسيحية أيضاً تستقي المعنى والحق من الخبرة الشخصية، لكنها تزعم أن أكثر التجارب الأساسية في الحياة هي اللقاء مع الله. فهم يزعمون أن إعلان الله للبشر هو إعلان شخصي، وداخلي، واختباري. الليبرالية اللاهوتية، التي طغى عليها المنهج العقلاني، تم تحديها واستبدالها شرعياً بالوجودية في السنوات التي تلت الحرب العالمية الأولى.

    وقد كان المنهج السائد في الخط الرئيسي من اللاهوتيين البروتستانت خلال النصف الثاني من القرن العشرين في فهم الكتاب المقدس، هو المنهج “الوجودي”.

    اللاهوتيون الوجوديون

    كارل بارث

    يُعتبر سورن كيركجارد (1813-1855)، الفيلسوف الدنماركي، هو أب الوجودية المسيحية. لكن كارل بارث (1886-1968) ربما كان هو أكثر الأشخاص المؤثرين في هذه الحركة. كان بارث بوضوح من أنصار المنهج فوق الطبيعي، من حيث أنه كان يؤكد بشدة على العناصر المعجزية، مثل قيامة المسيح (رغم أنه لم يعتبر القيامة حدثاً يمكن التحقق منه تجريبياً في المكان والزمان، كما فعلت العقيدة الكلاسيكية). لقد اعترف بارث في منهجه بما هو فوق طبيعي؛ ومع ذلك، فقد كان أيضاً من الأنصار المدققين للمنهج الطبيعي.

    وبدمج الطبيعي مع ما هو فوق الطبيعي، تم تسمية الحركة “التقليدية الجديدة”. فهي “تقليدية” في تأكيدها على ما هو فوق طبيعي، و”جديدة” في تمسكها بالافتراضات الطبيعية فهي تفسير الكتاب المقدس. استطاع بارث أن يدمج هذين المنهجين غير المتفقين بواسطة فصل الحق الكتابي عن المنطق والتاريخ.

    فقد علم بارث أن العناصر فوق الطبيعية في الكتاب المقدس لا يمكن أن تكون حقيقية بالفعل إلا عندما يتم قبولها بواسطة المفسر، بالإيمان، على أنها كلمة من الله. وعندها تصبح “القفزة غير العقلانية للإيمان” ضرورية لكي يختبر الإنسان شخصياً كلام الله.

    وهكذا فإن الوجودية المسيحية هي محاولة لأن يكون الإنسان في منتصف الطريق بين العقيدة التقليدية والليبرالية، وبين المنهج فوق الطبيعي والمنهج الطبيعي. تعتقد النظرة الوجودية للكتاب المقدس أن الكتاب المقدس هو بالحقيقة أداة إعلان الله للبشر. فالله يوصّل رسالته بواسطة الكتاب المقدس.

    لكن الكتاب المقدس، في حد ذاته، لا يمكن أن نسميه إعلان الله. لأنه لكي يصبح الكتاب المقدس كلمة الله بالكامل، يجب أن يتم قبوله بواسطة شخص ما؛ تماماً مثل الصمغ الذي يصنع من الإيبوكسي والمقوي، فهو يصبح صمغاً فقط عندما يختلط العنصران معاً بطريقة سليمة. بنفس الطريقة، يصبح الكتاب المقدس إعلاناً، فقط عندما يتم مزجه بصورة سلمية مع إيمان القارئ أو السامع، فالكلمة في حد ذاتها لن تلصق.

    وإلى أن يستجيب عقل بشري لكلمات الكتاب المقدس، لا تكون إلا كلمة الله “المحتملة”. وهكذا فإن “المزج” هو حقاً الذي يقرر حق وسلطة النص. لهذا السبب، فإن الوجودي الذي يقوم بالتفسير لا يجب أن يتحدث عن الكتاب المقدس على أنه “كلمة الله”، بل على أنه “يصبح” كلمة الله.

    رغم أن المنهج الوجودي للكتاب المقدس يزعم أنه فوق طبيعي أولاً وقبل كل شيء، إلا أن توجهه الأساسي طبيعي من زاويتين. الأولى، أن المفسرين الوجوديين يستخدمون عامة الوسيلة النقدية – التاريخية، التي كما رأينا، تكون مبنية على افتراضات طبيعية مسبقة.

    ثانياً، أن المفسر بادعائه السلطة الناجمة عن أهمية وضعه، يقوم في النهاية بالتحكم في المعنى، إذ ان الكتاب المقدس وحده ليس إعلاناً، فهو يصبح إعلاناً في عملية التقاء المفسر معه. وبذلك، فبافتراضاتهم الطبيعية، يعتنق الوجوديون نظرة للكتاب المقدس لا تماثل النظرة التي يعتقدها الكتاب المقدس نفسه عن نفسه.

    لأنه بالنسبة لهم، يعتبر الكتاب المقدس سلطة غير مستقلة، لكنها خاضعة لحكم المفسر الذي يحدد أي من عناصر الكتاب المقدس هو الحق، وبالتالي هو كلمة الله الجديرة بالثقة.

    رودلف بلتمان

    إن المفسرين الذين يتعاملون مع الكتاب المقدس بحسب المنهج الوجودي يحاولون عادة أن يطهروا الكتاب المقدس من جميع العناصر التي لا تتفق مع نتائج نقدهم التاريخي الطبيعي. فإذا كان هناك أي شك بشأن الأساس الطبيعي للتفسير الوجودي، فإن مثل هذا الشك تم استعباده تماماً بواسطة تصاعد حركة رودلف بلتمان (1884-1976) وتلاميذه.

    ذهب منهج بلتمان “بتخليص اللاهوت من الأسطورة” إلى ما هو أبعد من الوجوديين الأوائل، في إنكار المصداقية التاريخية لجميع العناصر فوق الطبيعية في الكتاب المقدس، بما فيها قيامة المسيح. فقد جادل بلتمان أنه على الرغم من السمة الطبيعية الكلية لكتب المقدسة، إلا أن تلك العناصر الطبيعية تشير إلى واقع أسمى، كان مخفياً في أسطورة.

    فإن بعض العناصر في الكتاب المقدس لا يمكن أن يتم التعامل معها على أنها تاريخ رصين. فعملية فصل الأسطورة عنه وتقرير الأمور المهمة الباقية كان مهمة المفسر، كما يزعم بلتمان، وهكذا أصبحت عملية تخليص اللاهوت من الأسطورة هي الموضوع السائد للوجوديين بعد الحرب العالمية الثانية.

    لا يكون واضحاً دائماً عملية استخدام أحد مفسري الكتاب المقدس أو الوعاظ لمنهج وجودي. فإحدى سمات هذا المنهج هي استخدام كلمات تقليدية بمعان غير تقليدية. فمثل هذا الشخص قد يعلم عن الميلاد الجديد، لكن يكون في ذهنه مفاهيم روحية تتكرر مرات ومرات. وقد يحدث عن أمور شيطانية لكنه لا يشير إلى أي كائن فوق طبيعي لكن يشير إلى قوى شريرة في المجتمع.

    النظرة العالمية للمفسر

    انتقل القادة في المنهج الوجودي مؤخراً إلى تحليل كيفية عمل التواصل البشري. وهذا يتبع الاتجاه العام للمحدثين، بأن يصرفوا الانتباه عن النص القديم وعن مؤلفه، وأن يزيدوا من التركيز على المفسر؛ أي أن يقوموا بالتركيز على دور المتلقي للمعلومات أكثر من تركيزهم على دور المرسل.

    إن الله يرغب بالتأكيد أن تتغلغل كلمته بعمق وبطرق مغيرة للحياة في مفسري القرن العشرين، لكن تطبيق الكتاب المقدس يجب أن يتبع تفسيراً أميناً لمعنى النص، وليس أن يقرره. يخطئ المنهج الوجودي في إعطاء المفسر سلطة مساوية لسلطة النص، إن لم تكن أكثر. بهذه النظرة، يكون إسهام المفسر جزءًا سلطوياً في المزيج الذي يشكل الكلمة التي من الله.

    إن الذين يدرسون ظاهرة فهم فكر شخص آخر يدركون أن المتلقي لأية معلومات يسمع بمجموعة من الافتراضات المسبقة التي تشكل نظرة عالمية. هذه النظرة العالمية هي عدسة يرى الشخص من خلالها كل الواقع. فهي تمثل قنوات للفكر، تفسر الخبرات، وتوجه السلوك. تعمل هذه العدسة باستمرار، لكن نادراً ما يتم ملاحظتها.

    الأكثر من ذلك، إن اللغة التي يستخدمها المرء يكون لها معنى، فقط بالنسبة للشخص الذي يفهم النظرة العالمية للمتحدث أو الكاتب. لذلك فإن التواصل الفعال لا يحدث إلا عندما تكون اللغة المستخدمة بواسطة المرسل (مؤلفي الكتاب المقدس في هذه الحالة) متصلة مباشرة بالنظرة العالمية للمتلقي (مفسر الكتاب المقدس). فاللغة تصبح مفهومة فقط عندما يستطيع المتلقي أن يفهم النظرة العالمية للمرسل، وبذلك يسمع الكلمات في سياق النظرة العالمية للمرسل.

    وحيث أن تأثير النظرة العالمية للشخص يكون شديد العمق والتغلغل، فقد يئس البعض من إمكانية وجود تواصل مفهوم بين البشر من حقب وثقافات مختلفة. بل الحقيقة أن أصحاب النظريات الأكثر تطرفاً قد يئسوا من إمكانية وجود تواصل دقيق بين الذكور والإناث من نفس الثقافة أو حتى بين أي شخصين.

    لكن الوجودي المتدين يؤمن أن المشكلة تحل عندما يأتي الدارس للنص الكتابي القديم بحياته الشخصية إلى تلك العملية من الفهم، بحيث ينتج “المزج” بين النص القديم والاستجابة الشخصية المعاصرة، كلمة صحيحة من الله.

    يزعم المنهج الوجودي أن الحياة الشخصية للمفسر تلعب دوراً تشكيلياً في معنى أي عملية توصيل للمعلومات. فالمفسر يصل دائماً إلى تفسير يتكون إلى درجة ما من مزيج من أفكاره الخاصة وأفكار المؤلف الأصلي. فحيث أن المفسر قد تفاعل مع النص، فإن النص يعيد تشكيل فكر المفسر، لكن بسبب تفاعل النص مع المفسر، يعيد المفسر تشكيل رسالة النص.

    بحسب هذا الاتجاه الوجودي، لا تعد الفجوة بين النص والمفسر أمراً مؤسفاً، بل أنها تمثل الديناميكية التي تنشط كل تفسير. السبب في ذلك هو أن المنظور الجديد، المفترض أنه أوسع، الذي يحدث نتيجة التفاعل بين النص والمفسر، يصبح هو الأساس الذي عليه يحدث اللقاء التالي مع النص.

    التفسير الجديد والدائرة التفسيرية

    تم إعطاء اسم “التفسير الجديد” لعملية تطبيق المنهج الوجودي على ظاهرة الفهم البشري. ويطلق عليه “جديد” لأنه يأتي بالمفسر إلى دور تشكيلي في عملية التفسير. ويطلق عليه “تفسير” في صيغة المفرد، لأنه لا يعنى بالإرشادات أو الوسائل التي بها يعين المرء معنى النص – وهي المهمة التقليدية للتفسيرات (بصيغة الجمع) – ولكنه يعنى فقط بهذا المنهج أو النظرية المنفردة في فهم الفكر البشري.

    يوضح التفسير الجديد مشكلة “الدائرة التفسيرية”. تتضح الناحية الدائرية للتفسير عندما يسأل المرء “أيهما جاء أولاً، النص أم سياق المفسر؛ أفكار المؤلف القديم أم أفكار المفسر؟” وهذا سؤال مشروع ويمكن أن ينبه المفسر لخطأ افتراض أن الكتاب المقدس يمكن قراءته بطريقة شديدة الموضوعية مما يجعل التفسير حراً من التحيز أو البقع المظلمة.

    لكن هناك اختلاف جوهري بين منظور التفسير الجديد والمنهج التاريخي لفهم الكتب المقدسة، كما هو معروض في هذا الكتاب. يقول التفسير الجديد أنه لا يوجد طريق للخروج من هذه الدائرة، فلا توجد موضوعية في التفسير، ولا معنى ثابت في النص بمعزل عن مدخلات المفسر. لكن الكتاب المقدس هو توصيل لمعلومات من الله، واللغة البشرية الموحى بها في النص مؤيدة ومدعّمة بحقه ومصداقيته وعدم تغيّره.

    فالنص صادق بطريقة موضوعية، ومستقل عن تفسير أي شخص له. وهكذا فإنه بالنسبة للذين يقبلون السلطة المستقلة للكتاب المقدس، لا يحاول المفسر أن يختلق معنى جديداً، رغم أنه يحاول أن يفهم ويطبق المعنى الموضوعي لمقطع كتابي بطريقة أكثر أصالة مما كان يحدث في الماضي. ربما يكون هناك بهذه الطريقة تفسير جديد سليم. للكن لا يكون هناك إعلان سلطوي جديد لحق الله.

    لكن قبول الحق المستقل الموضوعي للكتاب المقدس لا يحل بالكامل المشكلة التي تثيرها “الدائرة التفسيرية”. فكيف يمكن لأي مفسر يعنق حشداً من الافتراضات المسبقة الواعية واللاواعية، أن يعرف أنه ينظر للنص من منظور الله، غير متأثر بتحيزاته الشخصية؟ يصدق التفسير الجديد عندما يزعم أن النص ليس سلبياً. بمعنى أن النص ليس مجرد موضوعاً للفهم، لكن الكتاب المقدس كتاب حي، يفحص ويفسر المفسر.

    كما يصدق التفسير الحديث أيضاً عندما يرضى بأن يشترك النص مع المفسر في العملية. فكما أن المسيحي الحديث لا يولد في العائلة كامل النمو، ولكنه ينمو في التقوى طوال حياته، كذلك أيضاً النمو في الفهم وتطبيق الكتاب المقدس، يستمر طوال رحلة المسيحي. لكن التفسير الجديد معيب بصورة خطرة، لأنه ينكر موضوعية الحق ويرفض السلطة المستقلة للكتاب المقدس.

    رغم أن الجزء القديم من عملية التفسير (النص الموحى به) والعنصر الحديث (دور المفسر) لا يمكن الفصل بينهما، إلا أنه يمكن ويجب التمييز بينهما. فسلطة الله تقف خلف الكلمة التي تم التحدث بها في السياق القديم؛ ولكنها لا تقف خلف ما يأتي به المفسر إلى النص. الكتاب المقدس حق وسلطوي؛ لكن التفسير قد يكون كذلك أو لا يكون.

    بحسب التفسير الجديد، يقفز المفسر إلى عملية دائرية دائمة في التفسير، ويتحرك فيها بواسطة عدم يقينية وتعقيدات السياق الحالي، متأثراً بالنص القديم. لكن بحسب الوسيلة التي ينادي بها هذا الكتاب، يعترف المفسر بحق ومصداقية وسلطوية الكتاب المقدس الذي أعطي في السياق القديم، ويستخدم ويوظف الإرشادات لأجل التفسير المناسب الذي يجعل النص يتحدث عن نفسه.

    رغم أن المفسر لا يكون حراً على الإطلاق من تأثير السياق الحالي، إلا أن معنى النص السلطوي يكون موجوداً ويكون عليه اكتشافه. يمكن للمسيحي أن يكون واثقاً من تقدمه نحو الفهم والتطبيق السليم للكتاب المقدس، لأن المسيحي يتحرك نحو هدف ونقطة ثابتة، وليس نحو هدف متحرك بالتفسير الوجودي.

    الأكثر من ذلك، يمكن للمفسر المسيحي أن يكون على يقين تام من معنى التعاليم الأساسية العظيمة للكتاب المقدس – مثل وضوح إعلان الله. إن اليقين لا يتطلب معرفة مرهقة بكل حق الله. بكلمات أخرى، يمكن للمسيحي أن يفهم حق الله ويعيش في ضوئه بدون أن يزعم أنه فهم واستوعب بالكامل كل حق الله. هذا التمييز يساعد المسيحي على تجنب الشك القوي من ناحية، على عدم التهاون في العقيدة في التفسيرات موضع الخلاف، من ناحية أخرى.

    تنشأ العديد من المفاهيم والتحذيرات عند تقييم التفسير الحديث. أولاً، يجب على المفسر أن يحمي الاستقامة والسلطة المستقلة للنص الكتابي بأي ثمن. ثانياً، إن تفسير الكتاب المقدس لا يمكن أن يتم بموضوعية كاملة. ثالثاً، يجب على المفسر أن يقترب إلى النص ويتعامل معه باتضاع.

    رابعاً، حيث أن المفسر ليس هو الشخص الوحيد الذي يقوم بتفسير الكتاب المقدس، فإنه يجب أن يدرك قيمة وأهمية الكنيسة في التفسير. خامساً، تفسير الكتاب المقدس هو عمل يستمر طوال الحياة، حيث ينتقل بنا الله من درجة من المعرفة إلى أخرى. سادساً، يمكن للكنيسة أن تنال اليقين بدون الحاجة لأن تفهم تفسير الكتاب المقدس كله. وسابعاً، يجب تجنب الجزم بالرأي في الأمور التي لم تتضح بواسطة الكتب المقدسة.

    إن التفكير الوجودي، السائد بواسطة بارث، ثم بلتمان، وأخيراً بواسطة التفسير الحديث، لم يعد له اتجاه سائد. بل بدلاً من ذلك، ينقسم مجال النقد التاريخي بين الكثير من المناهج والاتجاهات، ليس جميعها وجودي.

    ففي البحث عن نماذج جديدة لعبور الفجوة من الوثائق القديمة إلى الفكر الطبيعي المعاصر، يسعى العلماء نحو النقد الأدبي، واللغوي، وفلسفة اللغة، والعلوم الاجتماعية. لكن لم يأت منهج ما إلى وضع السيادة والهيمنة بعد. من ناحية أخرى، يتجه العديد من العلماء الإنجيليين السابقين نحو منهج بارث القديم.

    رغم أن الوجوديين في القرن العشرين قد شرعوا في استعادة كلمة الله من حطام العقلانيين، فإنه بنهاية القرن أصبحوا في مثل ذلك التدمير لأية كلمة موضوعية صادقة وسلطوية من الله. ربما يكون هذا نتيجة حتمية لمحاولة بشر محدودين ساقطين أن يبحثوا في أنفسهم عن إجابات، الأمر الذي يعتبر عيب قاتل للمنهج الوجودي. ففي النهاية لا يمكن أن نهرب من الذاتية، وخاصة ذاتية المنهج الطبيعي.

    مراجع مختارة للمزيد من الدراسة

    أكتيميير، بول جي. An Introduction to the New Hermeneutic. Philadelphia: Westminster. 1974.

    بارث، كارل. Church Dogmatics المجلد الأول، The Doctrine of the Word of God ترجمة جي تي طومسون. New York: Scribners, 1936.

    برونو، إميل. Truth as Encounter. ترجمة إيه دبليو لوس ودي كارنز Philadephia: Westminster, 1964.

    بولتمان، رودلف. The Problem of Hermeneutics في Essays Philosophical and Theological ترجمة جي سي جي جريج، الصفحات 234-61. London: SCM.1955.

    جرونلر، وريس جوردون. Meaning and Understanding: The Philosophical Framework for Biblical Interpretation. Grand Rapids: Zondervan. 1990.

    سيلفا، مويزس. Has the Church Misread the Bible? The History of Interpretation. In the Light of Contemporary Issues. Grand Rapids: Zondervan, 1987.

    روبينسو، أنتوني. The Two Horizons: New Testament Hermeneutics and Philosophical Description. Grand Rapids: Eerdmans, 1980.

    المنهج الوجودي لتفسير الكتاب المقدس

  • مبادئ أساسية لفهم الكتاب المقدس

    مبادئ أساسية لفهم الكتاب المقدس

    مبادئ أساسية لفهم الكتاب المقدس

    مبادئ أساسية لفهم الكتاب المقدس
    مبادئ أساسية لفهم الكتاب المقدس

    مبادئ أساسية لفهم الكتاب المقدس

    سياق المؤلف

    حيث أن الكتاب المقدس من تأليف بشري، يجب التعامل معه بنفس الطريقة التي نتعامل بها مع أية معلومات أخرى. والهدف من ذلك هو تحديد المعنى الذي كان يقصده المؤلف. لكن هناك عوائق معينة – مثل اختلافات اللغة والثقافة – تفصل بين المؤلف والقارئ.

    فلكي نفهم المعنى الذي قصده المؤلف، يجب على القارئ أن يفهم السياق والبيئة التي يكتب منها المؤلف. بهذه الطريقة فقط يمكن التغلب على تأثير الاختلافات بين المؤلف والمتلقي، ويصبح في الإمكان الوصول إلى الفهم الحقيقي.

    في فصول تالية سنقوم بدراسة الوسائل وتطوير المهارات اللازمة للتغلغل في سياق النصوص الكتابية، وسوف نستخدم فهم هذه الدراسة في تفسير الكتاب المقدس، وأخيراً، في تطبيقه على حياتنا. عند هذه النقطة سنقوم ببساطة بتشكيل المبدأ نفسه، وهو أن أختار الله أن يكشف عن نفسه وعن مشيئته، وليس في قائمة من الحقائق الافتراضية المدونة بلغة سماوية، بل أن يكشف عن ذلك للبشر في التاريخ باستخدام لغة بشرية.

    لذلك فمن مسؤوليتنا أن ندرس الكتاب المقدس كما نفعل مع أية معلومات بشرية أخرى لكي نحدد بأكثر دقة ممكنة ما كان يقصد المؤلفون أن نفهمه ونؤمن به ونطيعه.

    لكن نقوم بذلك، سوف نفكر في سياقين: السياق التاريخي والسياق الأدبي. يشمل السياق التاريخ السياق المادي والجغرافي والثقافي والأيديولوجي للمؤلفين وللناس الذي كتب إليهم. والأحداث التاريخية كذلك. ويشمل السياق الأدبي، اللغة نفسها، وأسلوب الصياغة الأدبية، والسياق المباشر للمقطع موضوع الدراسة.

    صدق الكتاب المقدس

    حيث أن الله هو المؤلف خلف مؤلفي الكتاب المقدس – وهو المصدر النهائي للإعلان – يجب تفسير الكتاب المقدس على أنه حق وصادق في كل أجزائه، ويجب السعي نحو وحدة كل أجزائه.

    صادق في كل أجزائه

    حيث أن الكتاب المقدس هو صادق في كل أجزائه، فلا يصلح تشويه تفسيره، أو رفض جزء منه لأنه يبدو أنه يتناقض مع نظرية علمية، أو مصدر تاريخي، أو نظرية معاصرة سواء في علم النفس أو علم الاجتماع أو علم الأجناس البشرية. فعلى سبيل المثال، الله هو الذي خلق العالم، فالعالم لم ينشأ بصورة تلقائية. لذلك فإن أي تفسير للأصحاحات الأولى من سفر التكوين يجب أن يتم التعامل معها على أنها صادقة، وإلا يكون المفسر قد استخدم افتراضات طبيعية مسبقة.

    هل حقاً أمر الله إسرائيل أن يهلكوا شعوباً معينة، أم أن هذه فكرة موسى؟ من الذي كتب سفر إشعياء؟ هناك العديد من المقاطع التي يعتمد تفسيرها على إجابات على مثل هذه الأسئلة، لكن المفسر الذي يقبل تقييم يسوع المسيح للكتاب المقدس، يجب أن يقوم بكل تفسير على أساس الافتراض بأن الكتاب المقدس هو حق وصادق.

    وحدة أجزائه

    إن الكتاب المقدس هو حق بالفعل في كل أجزائه، يجب السعي إلى الوحدة الحقيقية لها بواسطة الشخص الذي سيفسر الكتاب المقدس. فيجب مقارنة الكتب المقدسة ببعضها البعض، كما يجب فحص سياق الكاتب والمتلقي الأول للكتابات. قد تثار أسئلة مثل: كيف يرتبط العهد القديم بالعهد الجديد؟ ماذا يفعل المرء بالسجلات التاريخية التي يبدو أنها لا تتفق معاً، مثل بعض الأنساب في العهد القديم أو في الروايات الخاصة بحياة يسوع في العهد الجديد؟

    تتطلب عملية تنسيق ومجانسة الكتاب المقدس مهارات معينة سوف ندرسها بنوع من التفصيل في الفصل 15. لكننا يجب أن نبدأ بالمبدأ الأساسي وهو أنه حيث أن كل أجزاء الكتاب المقدس حق وصادقة. فالتناسق موجود بالفعل، ومهمتنا هي البحث عنه والعثور عليه.

    إن الباحث عن الحق مسؤول عن تجميع كل ما يقوله الكتاب المقدس في موضوع معين. بل أكثر من ذلك، تعتبر مهمة جديرة بالعناء أن يسعى الباحث لربط كل التعاليم الكتابية في تفسير شامل للهيكل الكلي للحق الكتابي. سيكون جزءًا من دراستنا في الفصل 16 هو أن ندرس الإرشادات والوسائل الخاصة بتفسير الكتب المقدسة بمقارنتها ببعضها البعض، وإنشاء ترتيب شامل لعقيدة الكتاب المقدس كله (لاهوت نظامي).

    في الوقت الحالي، يمكننا أن نخلص إلى أن الكتاب المقدس بأكمله هو جدير بالثقة، ببساطة لأن الله هو مؤلفه. لذلك، فليس فقط أمراً مشروعاً بل أنه من الضروري أن نسعى لإيجاد الوحدة بين جميع تعاليمه لكي نفهم مشيئة الله أكثر.

    سلطة الكتاب المقدس

    إن الكتاب المقدس، والكتاب المقدس وحده، هو السلطة النهائية المطلقة للإيمان والحياة. لذلك، جميع المبادئ والتقنيات المستخدمة لاستخراج معنى مقطع كتابي يجب أن تتفق مع المبدأ القائل بأن الكتاب المقدس نفسه هو السلطة النهائية. فكر معي في أربعة معان رئيسية لذلك المبدأ:

    غرض الإعلان الإلهي

    لقد أعلن الله عن نفسه في الكتاب المقدس لأجل غرض خلاص البشرية. وذلك “الخلاص” هو كامل – فهو يمتد منذ بداية المصالحة مع الله، وعبر تغيير المؤمن إلى الشبه الأخلاقي لله، وحتى اتحاد المحبة النهائية مع الله في الأبدية. فغرض الله هو خلاص الإنسان.

    “وإنك منذ الطفولية تعرف الكتب المقدسة القادرة أن تحكمك للخلاص بالإيمان الذي في المسيح يسوع. كل الكتاب موحى به من الله ونافع للتعليم والتوبيخ للتقويم والتأديب الذي في البر لكي يكون إنسان الله كاملاً متأهباً لكل عمل صالح”. (2تيموثاوس 3: 15-17).

    إن قولنا أن الخلاص هو غرض الكتاب المقدس يعني أن الإعلان محدد. فالكتاب المقدس لم يعط لنا لكي يعلمنا كل شيء عن الله غير المحدود أو كل شيء عن الكون الذي خلقه. فالله لم يوحي لمن كتبوا الكتاب المقدس لكي يقدموا سجلاً محدداً للتاريخ القديم، أو حتى لكي يعلمونا كل شيء عن طبيعة الإنسان.

    لذلك فإن استخدام الكتاب المقدس ككتاب دراسي في علم الأحياء أو علم النفس أو علم الاجتماع معناه إساءة استخدامه وتقويض سلطته. إلا أن الأمر الأكيد هو أنه عندما يلمس الكتاب المقدس تلك المناطق، فإنه يكون جدير بالثقة تماماً، فهو لا يعلم خطأ، لكن ليس هذا هو غرض الإعلان، بل غرضه هو مصالحة الناس مع الله، ومن خلال تلك المصالحة، يردهم لكل ما قصد الله لهم أن يكونوا.

    الهدف من دراسة الكتاب المقدس

    حيث أن الكتاب المقدس هو الإعلان السلطوي للحق الروحي، فإن الهدف الأول لدراسة الكتاب المقدس يجب أن يكون فهم المعنى الذي قصده المؤلف. فلكي تكون للكتاب المقدس سلطة مستقلة، يجب أن نقرر المعنى الذي قصده المؤلف.

    فإن كان غرض الكتاب المقدس هو خلاصنا، فإن هذا الغرض لا يمكن أن يتحقق إلا إذا تم فهم رسالة الله، وتلك هي مهمة المفسر. ومع ذلك، فإن فهم الكتاب المقدس لا يأتي بالخلاص، إذ أن الرسالة يجب أن يتم الإيمان بها وطاعتها، وتلك هي مهمة التطبيق.

    لكي يكون التفسير مطابقاً لقصد الكاتب، يجب أن يشتمل على تطبيق.[1]

    يمكن أن تصح معرفة وتعلم كلمة الله فقط بواسطة تغيير الحياة…. إن التعليم الوحيد الذي يمكن عن حق أن نطلق عليه “تعليم كتابي” هو الذي يركز ليس على تشغيل المعلومات، لكن على سماع صوت الله المحب والاستجابة له.[2]

    باختصار، غرض الإعلان الإلهي هو خلاص الأفراد. لذلك، فكي يكون الكتاب المقدس فعالاً في خلاص الإنسان، فإن أول خطوة هي فهم المعنى الذي قصده المؤلف. أما الخطوة التالية فهي تطبيق ذلك المعنى على الخلفية المعاصرة بالإيمان والطاعة. عندها فقط سيتحقق غرض الإعلان الإلهي، ويكون الكتاب المقدس سلطوياً بالكامل في حياة الناس.

    مدى السلطة

    لقد رأينا حتى الآن أن سلطان الله لا يؤسس على تفسيرنا غير المعصوم للكتاب المقدس، لكن فقط على الكتاب المقدس نفسه. لكن هل هذه السلطة تستقر فقط على تعاليم الكتاب المقدس، أم أنها تمتد أيضاً إلى كلمات الكتاب المقدس؟ وإن كانت كذلك، هل تمتد إلى كل جزء من الكتاب المقدس بالتساوي؟ أولاً، افتراضنا هو أن كل الكتاب المقدس هو موحى به من الله ومعصوم من الخطأ، فليس هذا هو مكان الدفاع عن وضع الوحي اللفظي أو عصمة الكتاب.

    لكن من الملائم أن نتذكر أن نماذجنا في التفسير هم يسوع المسيح والأشخاص الذين كتبوا العهد الجديد. فقد تعاملوا مع العهد القديم ليس فقط على أنه ذو سلطان، بل على أنه بالكامل جدير بالثقة كذلك –حتى بالنسبة لكل كلمة فيه. ونحن باتباعنا لذلك النموذج، فإننا نؤكد أن سلطة الكتاب المقدس تغطي الكلمات كما تغطي المفاهيم. بعض المفسرين يؤكدون على صدق مفاهيم الكتاب المقدس، بينما يعتقدون أن بعض الكلمات بها خطأ.

    لكن لا يوجد معنى بدون كلمات تصدق في المعنى وتتفق معه. الأكثر من ذلك، فإن لاهوت “المفهوم الموحى به” يتعدى على السلطة المستقلة للكتاب المقدس. فمعايير التمييز بين المعاني أو المفاهيم الحقيقية، وبين الكلمات غير الصادقة التي من خلالها يتم تقديم المعنى، تنقل السلطة إلى تلك المعايير أو للشخص الذي يستخدمها.

    يستخدم جون وورويل مونتجمري تشبيها بالوثيقة القانونية لكي يوضح هذه النقطة، فيقول:

    بخصوص تفسير الوثائق القانونية عامة، قدم اللورد بيكن هذه الحكم الصادقة:

    “إن التفسير الذي يبتعد عن حرف النص لا يعتبر تفسيراً بل تكهناً”.

    “عندما يبتعد القاضي عن الحرف فإنه يتحول إلى مشرع.”

    يشرح السير رولاند بوروز هذه النقطة بوضوح يثير الإعجاب:

    “يجب على المحكمة أن تعنى بألا يستخدم الدليل لإتمام وثيقة تركها أحد الأطراف غير كاملة، أو بأن تناقض ما قاله هذه الطرف، أو بأن تثير الشكوك، التي بدون ذلك لا تكن موجودة؛ أما بالنسبة للتفسير، فإنه يكون مقصوراً دائماً على تلك الأمور، مما يساعد المحكمة على الوصول إلى معنى الكلمات المستخدمة، وبالتالي أن تعطي سلطة للمعنى المقصود كما يتم التعبير عنه.”

    كما هو الحال بالنسبة للرغبات والأفعال والقوانين، المفسر الأمير للكتاب المقدس يقوم بتفسير النص بطريقة تعطيه “شرعية وليس عدم شرعية”؛ ويعمل” بافتراضات ضد السخف ومنافاة العقل”؛ وبمجرد أن يتم تقرير المعنى الواضح للنص، فإنه يقبل تطبيقه وتفعيله في حياته “رغم أن النتائج قد تبدو قاسية أو غير عادلة أو غير مناسبة.” (سي إي أودجرز، The Construction of Deeds and statutes الطبعة الرابعة، 1956، الصفحات 186، 188).

    إن المفسر المسيحي المؤمن لوصايا الكتب المقدسة سيفترض أنه بالإشارة إليها أيضاً “كل جزء من وصية يعني شيئاً، ويجب أن يعطى السلطة وأن يتناغم، إن أمكن، بربطه ببقية الأجزاء الأخرى كلها.”  (إف إتش تشيلدز)؛ ويقوم بتفسير العهد القديم دائماً في ضوء العهد الجديد على أساس أن “التعبير الأخير عن الوصية هو الذي يغلب”.[3]

    لكن على الرغم من أن الكتاب المقدس كله هو من الله، وبالتالي فهو أهل للثقة، إلا أن ليس كل الكتب المقدسة لها سلطة متساوية بالنسبة لطاعة المسيحيين في عهد الكنيسة. سوف نقوم بمناقشة هذا المبدأ بنوع من التفصيل عند دراسة مبادئ تطبيق الكتاب المقدس في الفصل 19.

    الكتاب المقدس نفسه، كالسلطة النهائية، يجب أن يحدد أي جزء منه هو الذي له الدوام والعمومية في التطبيق، وأي جزء هو المحدود. فإذا تم التمييز بين التطبيق العام والمحدود بواسطة أي مبدأ أو شخص آخر. فإن ذلك المبدأ أو الشخص يصبح هو السلطة، مستبدلاً بذلك الكلمة الأخيرة للكتاب المقدس عن نفسه.

    الحدود المتضمنة في مبدأ السلطة.

    تضع سلطة الكتاب المقدس حدوداً معينة على مبادئ سياق المؤلف ووحدة الكتب المقدسة. لو لم يكن هذا صحيحاً، لما كان الكتاب المقدس نفسه هو السلطة النهائية. فدعونا نلقي نظرة على تلك الحدود.

    حدود السياق البشري.

    كما أشرنا من قبل، حيث أن الكتاب المقدس قد جاء إلينا من خلال مؤلفين من البشر، فإن المفسر يتعامل حتمياً مع سياقين: (1) إنه يسعى لفهم سياق الذين كتبوا الكتاب المقدس بأفضل طريقة ممكنة، و(2) يسعى أيضاً لتفسير وتطبيق الحق الكتابي في ضوء السياق المعاصر.

    غالباً ما يتم دمج هذين الأمرين ومن المعتاد أن يحدث تداخل بينهما. السؤال المفتاحي هو: كيف يمكن استخدام هذه الأدوات المفيدة والمشروعة لفهم الكتاب المقدس بدون التعدي على سلطة الكتاب المقدس؟ وعلى أي أساس يقوم المرء بالتمييز بين الرسالة السلطوية والدائمة للمؤلف، وبين السياق التاريخي المؤقت؟

    هناك عدة مناهج تم اقتراحها للقيام بذلك. البعض يعتقد أن التعليم يجب أن يتم الإيمان به وطاعته إن كان في نظام الخليقة أو من طبيعة الله (مثلاً، المحبة). فإن لم يكن التعليم الكتابي في نظام الخليقة أو من طبيعة الله، فيمكن افتراض أنه تعليم مؤقت مقصور على الشكل الثقافي الانتقالي أو على سياق تاريخ محدد. وهنا يجب على المفسر في العصر الحاضر أن يحرر الحق الباقي لكي يتم تطبيقه او رفضه اليوم.

    بينما يعتقد آخرون أن أي أمر يرتبط بمبدأ عام، أو مطلب أخلاقي يُطلب من كل الثقافات في أي وقت (مثلاً، عدم السرقة)، يمكن تطبيقه بصورة عامة بسلطة مشيئة الله الأكيدة، لكن التعليم الخاص الذي يكون محدوداً بثقافة معينة، قد لا يتم تطبيقه بهذه الصورة. فالأوامر الخاصة بالدور في علاقات الزواج هي أمور خاصة محدودة بالثقافة، يمكن ألا يتم تطبيقها بسلطان على أنها مشيئة الله الأكيدة في كل الثقافات وفي كل الأزمان.[4]

    كما أن هناك آخرون يقولون إن التعليم الذي يكون أخلاقياً بالفطرة ولاهوتياً هو التعليم السلطوي، لكن التعليم غير الأخلاقي وغير اللاهوتي لا يكون له بالضرورة نفس السلطة.[5]

    المشكلة في كل من هذه المناهج هي، كيف يمكن للمرء أن يقرر؟ حيث أن الكتاب المقدس لم يعطنا مثل هذا الأساس لتفسيره، ربما يغتصب المفسر لنفسه، عن غير عمد، سلطة الكتاب المقدس، عن طريق فرض معاييره الخارجية الخاصة بما هو تعليم مقبول وسلطوي، وما هو تعليم يمكن الاستغناء عنه. هذه مشكلة حقيقية، وحلها ليس سهلاً. لكن المبدأ الثابت الذي يضع حدوداً صارمة على الفهم الثقافي هو سلطة الكتاب المقدس نفسه.

    عند هذه النقطة دعونا نميز بين التفسير والتطبيق. المهمة الأولى هي أن نفسر، أي أن نحدد بثقة المعنى الذي قصده المؤلف. لأجل ذلك، يكون الفهم الثقافي مهماً في تفسير النص وإلقاء الضوء عليه. أما عند القيام بتطبيق النص على خلفية معاصرة، فمن الضروري أن نفحص المبدأ العام الذي يكمن خلف أي تعليم محدد. بهذه الطريقة يمكن للباحث أن يقرر ويطيع مشيئة الله كما هي معلنة في كلمة الله السلطوية.

    فكر في مثال تم التلميح إليه من قبل “أيتها النساء أخضعن لرجالكن”. (أفسس 5: 22) إنها وصية واضحة بما يكفي. لا يصلح أن نقول إن هذه عبارة مشروطة ثقافياً، لذلك فهي لم تعد تطبق. فقولنا هذا يعني أن الوصية التالية كذلك “أيها الأولاد اطيعوا والديكم” (أفسس 6: 1)، يجب التعامل معها أيضاً بصورة نسبية، والوصية الأولى بطاعة الله، يمكن أن تعاني من نفس هذا المصير.

    إن المعنى الذي يقصده بولس لأي ملاحظ موضوعي هو شديد الوضوح. وهذا المعنى لا يمكن تغييره من خلال التفسير إذا كان المفسر يدرك السلطة المستقلة لكلمة الله. لكن عندما يأتي الأمر إلى التطبيق، فإن الطريقة التي يعلم بها الكتاب المقدس عن دور الزوج كرأس للبيت تختلف بالتأكيد من ثقافة لأخرى. فعلى سبيل المثال، سيسود بالتأكيد في البيت الأمريكي جو أكثر ديموقراطية مما في البيت الياباني، بينما يكون كل منها طائعاً للتعليم الكتابي الواضح.[6]

    إن عملية تمييز المبدأ من وراء التعليم الكتابي المشروط ثقافياً هو أمر مشروع وضروري للغاية في تطبيق الكتاب المقدس على الإيمان والطاعة في الوقت الحاضر. هذا الأمر لا يتعدى على سلطة الكتاب المقدس، لكنه يحققها. من ناحية أخرى، فإن استخدام هذا المنهج في التفسير بحيث يتم استبعاد المعنى الواضح، يقوم باستبدال النص السلطوي بالفهم الثقافي المعاصر.

    وهذا الأمر لا يتعدى فقط على سلطة الكتاب المقدس، ولكنه يصبح أداة يمكن بها إساءة استغلال تعاليم الكتاب المقدس بتحويلها إلى أي صيغة تقريباً يرغب فيها المفسر.

    حدود السعي لوحدة الكتاب المقدس كله.

    يضع مبدأ سلطة الكتاب المقدس حدوداً معينة على تنفيذ مبدأ معاملة الكتاب المقدس باعتباره معلومات بشرية مفهومة. كما يضع حدوداً أيضاً على المبدأ القائل بأن المفسر يجب أن يسعى لتناغم واتساق تعاليم الكتاب المقدس. وسوف نقوم فيما بعد بدراسة الإرشادات والوسائل التي تعمل على تناسق وتوافق الكتاب المقدس (الفصلان 15-16).

    أود أن أقول باختصار أن سلطة الكتاب المقدس يتم التعدي عليها بوسيلتين أساسيتين بواسطة أولئك الذين يعملون على التوفيق بين مقاطع تبدو أنها غير متفقة في التعليم:

    1 – يتم تفسير المقاطع بصورة منافية للمنطق، وبتفسيرات غير أكيدة، أو يتم جعل التركيز الكتابي الثانوي يسود على المقاطع الواضحة المعنى أو على التعليم الأكثر شمولية. فعلى السطح، يبدو أن الوسيلة تسمح ببساطة للكتاب المقدس بأن يقارن نفسه بنفسه، لكن عندما يتم جعل تعليم غير أكيد يسود على الإعلان الأكثر وضوحاً، يكون عندها المفسر أو تفسيره هو السلطة النهائية.

    2 – يقوم المفسر بالتعدي على سلطة الكتاب المقدس من خلال الاستنتاج المنطقي من التعليم الكتابي الواضح. هذا النوع من الاستنتاج يتعدى على سلطة الكتاب المقدس عندما: (1) يتم التعامل معه باعتباره حق معصوم من الخطأ؛ أو الأسواء، (2) عندما يتم تحويله ضد تعليم كتابي آخر واضح للكتاب المقدس. عندئذ يصبح وضعاً فلسفياً خارج الكتاب المقدس، والذي يتم استخدامه لتشويه القصد الواضح لمؤلفي الكتاب المقدس.

    لكن لكي يتم فهم كلمة الله والإيمان بها وطاعتها، يجب أن تسود سلطة الكتاب المقدس وتتفوق هي وحدها.

    [1] ويليام لاركن Faculty Handbook (Columbia, S. C.: Columbia Bible college and Seminary, 1990) صفحة 3.

    [2] لاري ريتشاردز، Church Teaching: Content Without Context Christianity Today 15 أبريل 1977، صفحة 16.

    [3] جون ورويك مونتجومري، Testamentary Help in Interpreting the Old and New Testaments Christianity Today، 5 مايو 1978، صفحة 55.

    [4] تشارلز إتس كرافت، Interpreting in Cultural Context Journal of the Evangelical Society، ديسمبر 1978، صفحة 257.

    [5] جوردن في، The Genre of thw New Testament Literature and Biblical Hermeneutics, in Interpreting the Word of God، تحرير صمويل جي شولتز وموريس إيه إنش (Chicago: Moody, 1976) صفحة 133.

    [6] انظر جي روبرتسون ماكويلكن، The Limits of Cultural Interpretation, Journal of the Evangelical Theological Society, June 1980، صفحة 113.

    مبادئ أساسية لفهم الكتاب المقدس

  • المنهج العقائدي في تفسير الكتاب المقدس

    المنهج العقائدي في تفسير الكتاب المقدس

    المنهج العقائدي في تفسير الكتاب المقدس

    المنهج العقائدي في تفسير الكتاب المقدس
    المنهج العقائدي في تفسير الكتاب المقدس

    المنهج العقائدي في تفسير الكتاب المقدس

    لا يمكن لله أن يكذب، لذلك لا توجد تناقضات في فكر الله. وحيث أن كل الكتاب المقدس هو موحى به من الله، فإنه جدير بالثقة. في ضوء هذا الافتراض الأساسي، تصبح كل المحاولات التي تبذل لتوفيق جميع تعاليم الكتاب المقدس بشأن موضوع ما أو إعداد نظام منهجي شامل لكل تعاليمه، هي محاولات سليمة وفي موضعها الصحيح.

    ليس فقط الدراسة النظامية للكتاب المقدس سليمة، لكنها ضرورية. فعلى سبيل المثال، إنه أمر ضروري بالنسبة للاهوتي أن يدرس كل أجزاء الكتاب المقدس التي تصف طريق الخلاص. فإذا قام بأخذ مقطع معين، وفصله عن بقية المقاطع الأخرى التي تتعامل مع كيفية خلاص الشخص، وبنى عليه مبدأ للخلاص، ستكون النتيجة تشويه حق الله الخاص بالخلاص. لذلك فإن الدراسة المنظمة للاهوتي ليست فقط أمر سليم وضروري، لكن لها أهمية عظمى لفهم معنى الكتاب المقدس. فالجهود التي تبذل لتنسيق وتجانس ووحدة الحق في المقاطع المختلفة التي تتحدث عن موضوع معين هي سليمة ومطلوبة للمعلم والواعظ كما هي بالنسبة للاهوتي.

    إن تركيب التعليم الكتابي ليس فقط صحيح، وضروري، ومهم؛ ولكنه حتمي كذلك. وحيث أن كل شخص يتعامل مع أية وثيقة مكتوبة بمجموعة من الافتراضات المسبقة، بالمثل، يتعامل المسيحي مع الكتاب المقدس من خلال هذه النظارات الفكرية. بل الحقيقة أنه لا يستطيع أن يقبل إلا الأفكار التي تتفق بصورة ما مع نظام تفكيره الممنهج الموجود في عقله بالفعل. لذلك ليس فقط جميع المسيحيين لاهوتيين، بل أن كل الناس لاهوتيين. الاختلاف الوحيد هو أن البعض يكونون لاهوتيين أفضل من غيرهم.

    يصف إيرنست بيست هذا الاتجاه اللاهوتي العام لدى جميع الناس قائلاً:

    كل تفسيرات الكتاب المقدس يتم التحكم فيها بواسطة لاهوت الشخص الذي يفسر. قد لا يكون صحيحاً أن هناك مفسر معين له وضع لاهوتي مستقيم ثابت؛ إذ أن لاهوته ونظرته العالمية تتحكم دائماً في تفسيره.[1]

    إن كان صحيح أن الكتاب المقدس هو كلمة الله، وأن الفكر البشري يسعى باستمرار إلى علاقة متسقة بين الأفكار المقبولة بشأن معتقد معين، فما هو المنهج الذي يجب استخدامه لتجنب الخطأ في اكتشاف المعنى الحقيقي للكتاب المقدس؟ كيف يمكن للشخص أن يعمل من خلال متاهة مفاهيمه المسبقة ومفاهيم المفسرين الآخرين للكتاب المقدس، لكي يتوصل إلى الرسالة التي يعلنها الله في الكتاب المقدس؟ الإجابة على هذين السؤالين ستكون هي الجزء الرئيسي من هذه الدراسة في الفصلين 15 و16.

    إن عملية تركيب التعليم الكتابي معاً تشبه استخدام العالم للاستقراء والاستنتاج. يبدأ المفسر بمقطع معين، فيثبت المعنى الذي يقصده المؤلف. ثم يقوم بهذه العملية مع جميع المقاطع الأخرى التي تتعالم مع نفس الموضوع والموضوعات المرتبطة به، سعياً للربط بينها في وحدة شاملة. يقوم المفسر بعد ذلك بصياغة نموذج معقول، أو فرضية ما، واثقاً من الوحدة النهائية للكتاب المقدس. ويصبح هذا النموذج بالتالي أساساً لدراسة مقاطع أخرى. النموذج الذي يتم فحصه بدقة، واعتناقه باقتناع، يصبح نظاماً لاهوتياً يفهم به المفسر الكتاب المقدس.

    لكن الوصول إلى نظام ليس خطوة نهائية في التفسير، لأن تفسير الكتاب المقدس هو عملية تستمر طوال الحياة. كما أن الكتاب المقدس يجب دائماً أن يتحكم في النظام؛ فيجب ألا يسمح للنظام أن يتحكم مطلقاً في الكتاب المقدس. الأكثر من ذلك، يكون المفسر مسؤولاً إما أن يدمج كل التعليم الكتابي داخل نظامه، أو أن يتخلى عن النظام. بالإضافة لذلك فإن عناصر النظام التي لا يمكن التحقق منها بواسطة البرهان الكتابي المباشر يجب التعامل معها باتضاع باعتبارها غير نهائية.

    لذلك فإن هناك استخدام مشروع لنظام ما للمبادئ في دراسة الكتاب المقدس. لكن تنشأ المشكلة عندما يصبح النظام نفسه هو السلطة، فيجلس للحكم على السلطة المستقلة لأي مقطع من مقاطع الكتاب المقدس. يساء تفسير الكتاب المقدس عندما يستخدم المفسر الافتراضات العقائدية للنظام، لإجبار المقطع على الاتفاق مع العقيدة، بدلاً من أن يعدل العقيدة لكي تتفق مع الكتاب المقدس.

    بسبب الحماسة المعطاة من الله لكل من العلماء والعلمانيين على السواء عبر العصور، لفهم كل حق الله، قام الناس في البداية بإنشاء ما يبدو بالنسبة لهم أنظمة متسقة متجانسة، وبعد ذلك قاموا بتفسير كل مقاطع الكتاب المقدس على أساس أنظمتهم. يسمى ذلك المنهج العقائدي، والافتراضات المسبقة للتفسير العقائدي هي هذه: كل تعاليم الكتاب المقدس هي من الله، ويجب أن ينظر إليها كوحدة متناسقة. بعد أن يتم اكتشاف هذه الوحدة المنظمة، يجب أن يتفق معها تفسير معين.

    يتكون إطار العمل العقائدية من مواد موجودة في الكتاب المقدس ومن استنتاج منطقي مبني على بيانات الكتاب المقدس. عندها يتم جعل كل مقطع كتابي يتفق مع ذلك النظام. لهذا السبب، توقف كثيرون من العلماء في السنوات الأخيرة عن الحديث عن تفسيرات، أو عن مجموعة من الإرشادات التي يمكن بها للشخص أن يفسر الكتاب المقدس. بل أصبحوا يتحدثون عن تفسير في صيغة المفرد. هذا يعني أن الشخص يعترف بصراحة ليس فقط بافتراضاته المسبقة بل بنظامه الكامل، ثم على أساس ذلك النظام يسعى لفهم الكتاب المقدس. يوجد لدينا اليوم التفسير الجديد، والتفسير الكالفيني، والتفسير الإعفائي، والكثيرون غيرهم.

    لكن، رغم أني قلت في السنوات الأخيرة، إلا أن هذا كان أساس التفسير في العصور الوسطى كذلك:

    خلال العصور الوسطى، كان الكثيرون، حتى رجال الدين، يعيشون في جهل عميق بالكتاب المقدس… وقد أصبح مبدأ قائماً، أن تفسير الكتاب المقدس يجب أن يكيف نفسه على التقليد وعلى عقيدة الكنيسة. وقد تم اعتبار أن ذروة الحكمة هو أن يعاد استخراج تعاليم الآباء، وأن يتم العثور على تعاليم الكنيسة في الكتاب المقدس… بل أن حتى هوجو من سانت فيكتور قال: “أعرف أولاً ما يجب أن تؤمن به، ثم اذهب بعد ذلك إلى الكتاب المقدس لكي تعثر عليه هناك”.[2]

    في منتصف القرن السادس عشر أنشأ مجمع ترنت المنهج العقائدي باعتباره أنه الافتراض التفسيري الرسمي للكنيسة الرومانية الكاثوليكية. وقد أقر المجمع بأن كلاً من الكتاب المقدس والكنيسة معصومان من الخطأ، مما جعل بدوره عقيدة الكنيسة هي العامل المتحكم في التفسير.

    لكن ماذا عن المصلحين؟ يوجد تفسير واحد فقط لنظرة لوثر المتدنية لسفر يعقوب. كان نظام لوثر الأساسي موجود في رومية 1: 17، وحيث أن سفر يعقوب ابتعد عن ذلك المعيار، كما فهمه لوثر، فقط كان السفر بالنسبة له “رسالة ضالة”.

    هل يمكن بواسطة أي مبدأ كتابي في التفسير، أن تعني الآية الموجودة في يوحنا 3: 16: “لأنه هكذا أحب الله المختارين”؟ يبدو أنه لا يمكن أن يكون هناك مثل هذا التفسير، إلا على أساس افتراضات عقائدية، أي بواسطة نظام تم إنشاؤه بحيث يصبح معنى ذلك المقطع مختلفاً عن معناه الواضح والعادي. وبالمثل، يمكن لنظام ما أن يُستخدم لاستبعاد التوبة كمطلب يسبق قبول الله للإنسان، أو استبعاد الصلاة الربانية عن أن تكون ملائمة لشفاه المسيحيين.

    وهكذا فغن النظام يحدد المعنى. يتحدث ميلتون تيري عن قضية التفسير على أساس افتراضات عقائدية مسبقة، فيقول:

     عندما يفترض أحد اللاهوتيين وجهة نظر لعقيدة كنسية، ومن ثم يستكمل بمهاترة للبحث عن نص وحيد في الكتاب المقدس مفضل لديه أو غير مفضل لدى خصمه، يكون الأرجح كثيراً أن يبالغ في الأمر. فقد تكون عقيدته في مثل صدق الكتاب المقدس نفسه؛ لكن وسيلته مرفوضة. شاهد مثلاً النزاع بين لوثر وزوينجلي حول مسألة اتحاد جسد المسيح ودمه بالخبز والخمر عند ممارسة العشاء الرباني، والأدب الجدلي للمبادئ المتناقضة، ومشاحنات الكالفينيين، والخلافات الخاصة بالأسرار المقدسة.

    تجد أن الكتاب المقدس كله قد تم نهبه ومعاملته كما لو كان مجموعة نصوص شديدة الصغر من الأدلة العقائدية…. لكننا يجب أن نتذكر أنه لا يوجد دفاع سليم، ولا مبدأ أكيد، يرتكز على وسائل غير نقدية، أو يتقدم على أساس افتراضات عقائدية. فمثل هذه الإجراءات ليست عرضاً للحقائق بل فرضاً لها.[3]

    وهكذا يتجه المنهج العقائدي في تفسير الكتاب المقدس إلى التطرف، تكون له نتائج غير مرغوب فيها على الإطلاق، إذ لا يصبح الكتاب المقدس هو مصدر سلطته الخاص. فعلى الرغم من أنه قدم المادة الخام التي تم بناؤها داخل النظام، إلا أن قدراً كبيراً كذلك من الاستنتاج المنطقي تم بناؤه أيضاً في النظام. هذا الهيكل النظامي إذاً يتم فرضه على أي مقطع في الكتاب المقدس، وبذلك يصبح هو السلطة التي بها يُستبعد المعنى الطبيعي للمقطع.

    إن المنهج العقائدي كما يتم تعريفه هنا، رغم أنه يقبل كلاً من السمات الطبيعية وفوق الطبيعية في الكتاب المقدس، إلا أنه يعوق الدراسة الموضوعية الساعية نحو تحديد المعنى الذي يقصده المؤلف. وفي النهاية، يمكنه أن يثبط أي تفسير جيد. بل أنه يمكن أن يستبدل السلطة المستقلة للكتاب المقدس بسلطة نظام من صنع إنسان.

    توجد ثلاثة مصادر مثالية للعقيدة التي تتحكم في التفسير. إذ يتم تحقيق الترابط المنطقي – سواء بين تعاليم الكتاب المقدس أو في موقف الفرد الشخصي – بواسطة الخضوع غير النقدي للعقيدة النابعة من واحد من المصادر الثلاثة التالي: التقليد، مسيحي آخر، أو الاختبار الشخصي.

    التقليد

    يمكن أن ننظر للتقليد إما بصورة إيجابية أو سلبية. فكعقيدة أو نظام عقائدي تم تبنيه بواسطة كيان مسيحي وتم نقله لأجيال متعاقبة، يساعد التقليد في إظهار الحقائق التي صمدت في اختبار الزمن. كما أنه يقدم لكنيسة اليوم فهماً للكنيسة التاريخية. فكم يكون صعباً بالنسبة للمسيحيين لو أنه كان على كل جيل جديد أن يفكر ويقرر بشأن أمور مثل تعريف الثالوث، والعلاقة بين البشرية والإلهية في المسيح، أو التبرير بالنعمة من خلال الإيمان. تاريخياً، قاد الروح القدس الكنيسة في تأسيسها للتفسيرات التي صمدت في اختبار الكتب المقدسة في ذلك الوقت، ثم صمدت الآن في اختبار الزمن.

    إلا أن التقليد يمكن أيضاً أن يعوق التفسير الأمين للكتاب المقدس إذا كانت التفسيرات التقليدية قد تم تبنيها دون مبرر كتابي سليم. فالافتراضات الموروثة غير الممحصة تعمل غالباً كمجموعة من الغمامات التي توضع على الأعين والتي تمنع المسيحيين من رؤية ما يقع خارج مجال رؤيتهم من الكتاب المقدس. الأكثر من ذلك، فإن الرؤية المحدودة تشوه ما يتم رؤيته.

    إن نظام العقيدة الموروث يحتاج أن يتم تعديله وإصلاحه بإخضاعه تحت السلطة القوية الصارمة للكتاب المقدس – فنسمح للكتاب المقدس أن يتحكم في إيمان الشخص وسلوكه حتى عندما يبدو أن مقطع معين لا يتفق مع النظام. رغم أنه يكون هناك توكيد ويقين أكثر عندما يشترك كثيرون من المؤمنين الآخرين في اعتناق نظام ما، إلا أن هذا لا يعني أن كل مسيحي يجب أن يتفق تماماً مع نظام تقليدي معين، مثل نظام العهد، أو النظام الإعفائي، أو الكالفيني، أو الأرميني، أو اللوثري، أو التجديدي. فكل إنسان له نظام، سواء يعمل بصورة ظاهرة أو ضمنياً فقط. لكن أياً كان النظام، سواء كان تقليد موروث أو بنية شخصية، يجب القيام بالتفسير بصرامة تحت إشراف سلطة الكتاب المقدس المستقلة.

    مسيحي آخر

    المنهج العقائدي في التفسير الأقل تبريراً يحدث عندما يقبل المرء تعليم شخص آخر بصورة غير نقدية، مثل تعليم معلم أو راع مهاب. فالسماح لشخص ما بأن يقيم عقيدة أو تفسير كتابي دون افتراض المسؤولية الشخصية في الفهم والثقة والطاعة لتعاليم الكتاب المقدس، قد يأتي نتيجة لواحد من دوافع متعددة. فمحبة القائد الذي يوكل إليه مسؤولية تفسير الكتاب المقدس أو الإعجاب به قد يقود إلى الاستبعاد غير النقدي للمسؤولية الشخصية. يكون هذا الأمر سهلاً عندما تكون معرفة القائد الموثوق به أكثر كثيراً من معرفة التابع، وخاصة عندما يشجع مثل هذا القائد على مثل هذه النوعية من العلاقة، أو يتوقعها كمطلب من متطلبات “التلمذة” أو “الولاء”. إذ أنه يوجد شعور بالأمان في قبول القائد للتابع أو لجماعة التابعين.

    بالطبع، يمكن للمرء أن يتنازل عن مسؤوليته نتيجة الكسل – غير راغب في أن يبذل جهداً لكي يفهم ويطبق الكتاب المقدس هو شخصياً. فالخيط الدقيق بين التعلم باتضاع من الشخص الذي لديه معرفة، والسماح لذلك الشخص بأن يبني عقيدة، قد لا يكون من السهل دائماً تمييزه. لكن كل مؤمن مسؤول أن يبذل أقصى جهده لكي يأتي بأفكاره وحياته تحت السلطة المباشرة للكتاب المقدس.

    قد لا تكون المشكلة فيما يتم الإيمان به، بل في كيفية التوصل إلى هذا الإيمان. فإذا كان أي مسيحي يتمسك عقائدياً بتفسير للكتاب المقدس، لمجرد أن شخصاً آخر قدمه – بغض النظر عن مدى احترام ومهابة هذا الشخص – فإن الكتاب المقدس عندئذ لم يعد يعمل باعتبار أنه السلطة الوحيدة في هذه الحياة. فسلطة كل القادة المسيحيين هي سلطة مأخوذة ومستمدة؛ لكن سلطة المسيح وحده من خلال كلمته هي السلطة المطلقة.

    الاختبار الشخصي

    أما الاتجاه الثالث الخاطئ للمنهج العقائدي في تفسير الكتاب المقدس فهو السماح للاختبار الشخصي بأن يبني عقيدة. فعندما ننظر بطريقة إيجابية إلى اختبار المسيحي مع الله، نجد أنه يدفعه للرغبة في معرفة المزيد عن الله. وكلما وثقنا في الله وأطعناه أكثر، كلما أظهر أمانته نحونا أكثر. لكن اختبار المسيحي يمكن أن يصبح عائقاً في طريق التفسير الكتابي السليم. ففي النهاية يكون الكتاب المقدس وحده هو السلطوي وليس التقييم الذاتي لاختبار الشخص مع الله.

    فعلى سبيل المثال، يصحب اختبار التجديد دائماً أفكار معنية عن الخطية، وعن شخص يسوع المسيح، وعن عمل الروح القدس، وعن أهداف الكنيسة. لكن لو في وقت لاحق رفض المسيحي أن يغير من آرائه في ضوء الشهادة الكتابية، قائلاً، “إني أعرف أن ما كنت أؤمن به دائماً هو الصواب لأني اختبرته”، أو “كان الله يعمل في حياتي عندئذ، لذلك فأنا أعلم أنه لا بد وأن يكون صحيحاً”، عندها يكون الاختبار الشخصي قد أصبح سلطة. لكن لا بد أن نفسر اختبارنا بواسطة الكتاب المقدس وليس أن نفسر الكتاب المقدس بواسطة اختبارنا.

    في تطوير تفسير خاص لمقطع كتابي أو لنظام شخصي للعقيدة، لا بد أن نقوم بذلك باتضاع عظيم. فإن أقل ما يقال عن ابتعادنا عن الحكمة العامة للكنيسة، هو أنه أمر خطير. فعلى الرغم من المفاهيم المعاصرة للحكم الذاتي للفرد، إلا أن الروح القدس يقود كنيسته بطريقة لا يمكن للفرد المستقل أن يدعيها بثقة. وإذ قد أشرنا إلى ذلك، نقول إنه يجب على كل منا أن يعطي حساباً عن كيفية تعامله مع الكتاب المقدس: “اجتهد أن تقيم نفسك لله مذكى عاملاً لا يخزى مفصلاً كلمة الحق بالاستقامة” (2تيموثاوس 2: 15).

    لقد قمنا بفحص أربعة مناهج لتفسير الكتاب المقدس، يمكن أن تقود دارس الكتاب المقدس إلى الضلال، وهي: المنهج فوق الطبيعي، بتفسيراته الرمزية أو السرية؛ والمنهج الطبيعي، بتفسيراته العقلانية؛ والمنهج الوجودي، بمزيجه غير النافع بين الطبيعي وفوق الطبيعي؛ والمنهج العقائدي، الذي يفسر كل مقطع كتابي على أساس افتراضات عقائدية مسبقة. لاحظ أن كلاً من هذه المناهج مبني على افتراض صحيح بشأن الكتاب المقدس: أي أنه فوق طبيعي، وإنه طبيعي، وإنه يجب تطبيقه، وإنه متسق ومترابط – أي أن كل تعاليمه تتفق معاً في وحدة متكاملة. المشكلة هي أن كلاً من المناهج قد ركزت على افتراض صحيح بشأن الكتاب المقدس، ولكنها تجاهلت كون بقية الافتراضات الأخرى صحيحة كذلك. لذلك فالحل هو أن نتعامل مع الكتاب المقدس بجميع الافتراضات التي يعتقدها عن نفسه.

    هذه الافتراضات الكتابية تتضمن مبادئ معينة سنقوم بالتعرف عليها الآن. بعد ذلك، سوف نناقش الإرشادات التي تنشأ عن تلك المبادئ.

    مراجع مختارة للمزيد من الدراسة

    بيركوف، لويز. Principles of Biblical Interpretation. Grand Rapids: Baker, 1950.

    براجا، جيمس. How to Study the Bible. Portland, Oreg.: Multnonah, 1982.

    كارسون، دونالد إيه. Exegetical Fallacies. Grand Rapids: Baker, 1984.

    إفيرد، جيمس إم. How to Interpret the Bible. Atlanta: John Konx, 1984.

    فيك، جوردون دي، ودوجلاس ستيوارت. How to Read the Bible for All Its Worth. Grand Rapids: Zondervan, 1981.

    فيرجاسون، دانكان إس. Biblical Hermeneutics: An Introduction. Atlanta: John Knox, 1986.

    إنش، موريس إيه، وسي هازل بولوك، محرران. The Literature and Meaning of Scripture. Grand Rapids: Baker, 1981.

    لونجنيكر، ريتشارد. Biblical Exegesis in the Apostolic Period. Grand Rapids: Erdmans, 1975.

    كيرلي، إف فورمان، وإدوارد بي ميرز، وتيموثي دي هادلي، محررون.Biblical Interpretation: Principle and Practice. Grand Rapids: Baker, 1986.

    ميكسلن ،إيه باركلي. Interpreting the Bible, Grand Rapids: Eerdmans, 1963.

    رام، بيرنارد. Protestant Biblical Interpretation. Grand Rapids: Baker, 1970.

    شولتز، صامويل، وموريس إيه إنش. Interpreting the Word of God Today. Chicago: Moody, 1976.

    سبرول، أر سي. Knowing Scripture. Downers Grove, Intervarsity, 1977.

    تيري، ميلتون. Bible Hermeneutics طباعة. Grand Rapids: Zondervan, 1974.

    ستوت، جون آر. Understanding the Bible طبعة ثانية. Grand Rapids: Zondervan, 1985.

    فيركلر، هنري إيه. Hermeneutics: Principles and Processes of Biblical Interpretation. Grand Rapids: Baker, 1981.

    [1] انظر إيرنست بست، From Text to Sermon: Responsible Use of the New Testament in Preaching (Atlanta: John Knox, 1978)، الصفحات 97-99.

    [2] لويز بيكوف، Principles of Biblical Interpretation (Grand Rapids: Baker, 1950)، صفحة 23.

    [3] ميلتون إس تيري، Biblical Hermeneutics (Grand Rapids: Zondervan, 1974)، صفحة 172.

  • المنهج فوق الطبيعي لتفسير الكتاب المقدس

    المنهج فوق الطبيعي لتفسير الكتاب المقدس

    المنهج فوق الطبيعي لتفسير الكتاب المقدس

    المنهج فوق الطبيعي لتفسير الكتاب المقدس
    المنهج فوق الطبيعي لتفسير الكتاب المقدس

    المنهج فوق الطبيعي لتفسير الكتاب المقدس

    كما رأينا، لقد وضع يسوع النموذج الذي اتبعه من كتبوا العهد الجديد، في التعامل مع الكتاب المقدس على أنه كتاب فوق طبيعي. فأمور مثل الحية النحاسية، وأحداث مثل الخروج من مصر، وكلمات مثل التنبؤ بأن إشعياء سيكون له ابن؛ وأشخاص مثل ملكي صادق – يتم فهمهم جميعاً على أنهم إشارات ليسوع المسيح.

    بعض الشواهد تكون واضحة بما يكفي بحيث أن المفسرين اليهود للعهد القديم – قبل زمن المسيح – كانوا يرون باستمرار إشارات للمسيا. لكن العديد من الشواهد، مثل تلك التي أشرنا إليها أعلاه، لن ترد إلى ذهن الشخص الذي يبحث عن المعنى الذي كان يقصده المؤلف. فغير المؤمنين قد يقولون إن هناك معنى معين تم فرضه على النص.

    أما المؤمنون فيقولون إن المعنى يظل مخفي إلى أن يكشفه المسيح أو رسله. ففي أي حدث، يتم رؤية الكتاب المقدس على أنه كتاب فوق طبيعي، هذا لأن الأحداث المستقبلية لا يمكن التنبؤ بها بدقة وتفصيل زمني، قبل حدوثها بسنوات كثيرة، بواسطة الحكمة البشرية وحدها.

    المفسرون اليهود وآباء الكنيسة

    لم تكن الطريقة التي فهم بها يسوع الكتب المقدسة وفسرها طريقة غريبة بالنسبة لسامعيه من اليهود. فعلى الرغم من أن بعض المفسرين اليهود تعاملوا مع العهد القديم على أنه وثيقة يتم فهمها بمعناها الواضح، إلا أن معظم المفسرين في زمن المسيح وضعوا على عاتقهم مسؤولية أن يكتشفوا المعاني والفروق الدقيقة والمخفية في الكتب المقدس.

    كان المفهوم المحوري في تفسير أحبار اليهود، وربما في تفسير الفريسيين الأوائل كذلك، هو مفهوم “Midrash”، بمعنى أنه مفهوم يحدد “التفسير الذي إذ يتعمق فيما هو أبعد من مجرد المعنى الحرفي، يحاول أن يتغلغل في روح الكتب المقدسة، لكي يفحص النص من جميع الجهات، وبذلك يستخرج تفسيرات لا تكون واضحة مباشرة”[1].

    توجد بعض التشابهات الموجودة بين فكرة المجاز اليهودية (التي تعتقد أنه بين طيات “الحرف”، أو المعنى الواضح، يوجد المعنى الحقيقي) وبين الطريقة التي تعامل بها من كتبوا العهد الجديد مع العهد القديم. لكن العهد الجديد لم يتعامل مع كل مقطع في العهد القديم بتلك الطريقة، كما رأينا.  الأكثر من ذلك، لا توجد في العهد الجديد الاستنتاجات المتطرفة والخيالية، التي تعتبر نموذجاً لتفسيرات أحبار اليهود.

    كان علماء الكتاب المقدس في حقبة الكنيسة ما بعد الرسولية يميلون لاتباع مثال اليهود، بل والمجازيين اليونانيين، أكثر من مثال من كتبوا العهد الجديد. وعلى الرغم من وجود مجموعة من العلماء في أنطاكية (كريزوستوم، وتيودور من موبسيويستيا، وتيودوريت) الذين سعوا لتحديد المعنى الحرفي الذي كان يقصده المؤلفون، إلا أن تلك المدرسة الفكرية لم تنتشر في الكنيسة.

    كليمينت، وهو واحد من آباء الكنيسة الأولين العظام من شمال أفريقيا، وتلميذه أوريجن الاسكندري، وضعا نموذجاً لفهم الكتب المقدس منذ القرون الأولى للكنيسة وحتى الإصلاح.

    كان أوريجن يعتقد أن المعنى الروحي لمجيء رفقة لاستقاء ماء لعبيد إبراهيم وجماله هو أننا يجب أن نأتي إلى ينابيع الكتب المقدسة لكي نلتقي مع يسوع. كما علم كليمنت أن الخمسة خبزات التي أطعم بها يسوع الجموع كانت تشير إلى التدريب الإعدادي لليونانيين واليهود الذي كان يسبق حصاد القمح. أما السمكتان فتشيران إلى الفلسفة الهلينية: منهج الدراسة، والفلسفة نفسها.

    في قصة الدخول الانتصاري، كان الجحش يشير إلى حرف العهد القديم، وأن الأتان، الذي ركبه يسوع كان هو العهد الجديد. كما أن التلميذان اللذان أحضرا الحيوانين إلى يسوع يمثلان المعنى الأخلاقي والمعنى الروحي: لكن رغم أن كليمنت كان يعتقد أنه يمكن أن يكون هناك معنى حرفي ومعنى روحي معاً في النص، إلا أن أوريجن كان يعتقد أن كل شيء في الكتاب المقدس له معنى مجازي رمزي.

    هذا الاتجاه في التعامل مع الكتب المقدسة والذي يطلق عليه “the quadriga”، أو “الوسيلة الرباعية في التفسير”، تم تأسيسه بقوة منذ القرن الرابع وحتى القرن السادس عشر. قامت هذه الوسيلة بفحص كل نص من ناحية أربعة معان: حرفية، وأخلاقية، وباطنية (مجازية)، ونبوية. وقد تم تعليم ذلك المنهج بواسطة ترنيمة شهيرة:

    الحرف يوضح لنا ما فعله الله وآباؤنا؛

    المجاز يوضح لنا أين يكمن إيماننا؛

    والمعنى الأخلاقي يعطينا قواعد للحياة اليومية؛

    والمعنى النبوي يوضح لنا أين ينتهي جهادنا.

    مثال على ذلك كلمة “أورشليم” حرفياً، تمثل أورشليم مدينة بذلك الاسم؛ ومجازياً، تعني أورشليم الكنيسة. أما نبوياً، فهي المدينة السماوية؛ وأدبياً، هي النفس البشرية.[2]

    لقد اتخذ المصلحون موقفاً قوياً تجاه ذلك النوع من التفسير. فكان اهتمام لوثر، وكالفن، وزوينجلي هو أن يجدوا المعنى الذي قصده المؤلفون، وأن يجعلوا هذا المعنى هو السلطة للإيمان والأعمال. وقد اتحد هؤلاء المصلحون الثلاثة في رفض زعم الكنيسة في أن تكون هي المفسرة؛ وأكدوا على حرية وقدرة ومسؤولية الفرد في فهم معاني الكتب المقدسة. كما اتفق هؤلاء الثلاثة على سلطة كلمة الله باعتبار أنها فوق كل السلطات الأخرى.

    واتفقوا على أن الكتاب المقدس بأكمله جدير بالثقة، وبالتالي، أن الكتب المقدسة يمكنها بل ويجب أن تفسر نفسها بنفسها. الأكثر من ذلك، لقد اتفقوا على أن استنارة الروح القدس هي أمر ضروري لفهم الكتب المقدسة، وأن الدراسة الجادة والقوية هي أمر مطلوب كذلك. لكنهم لم يتفقوا من جميع النواحي على كيفية تفسير الكتب المقدسة.

    اختلف المصلحون في أن كالفن كان أكثر ثباتاً وتمسكاً في اتباعه لهذه المبادئ. فقد تمسك بشدة بالمعنى الواحد الواضح لنص الكتب المقدسة. أما لوثر فقد كان أقل تدقيقاً، وكان في بعض الأحيان يستخدم المعنى الرمزي لتفسير المقطع بطريقة تدعم لاهوته الخاص.

    وكان تفسيره عقائدياً، يحكمه النظام اللاهوتي الذي كان منتمياً له – وهو الخلاص بالنعمة من خلال الإيمان وحده. أكثر من ذلك، كان تفسيره في بعض الأوقات على أسس ذاتية، أو يزعم أنه تلقاه عن طريق الاستنارة المباشرة بالروح القدس.[3]

    لكن على الرغم من اختلاف المصلحين في تلك الطرق، إلا أنهم اتحدوا في التزامهم بالافتراضات المسبقة التي كان يعتنقها من كتبوا العهد الجديد:

    1 – بأن الكتاب المقدس هو من الله، وأنه كتب بواسطة البشر.

    2 – بأنه نقل مباشرة لمشيئة الله للبشر.

    3 – أنه يمكن فهمه باللغة البشرية العادية.

    لقد قدم المصلحون جسراً يعبر من المجهودات التفسيرية التي كانت في كثير من الأحيان خيالية ولا يمكن توقعها دائماً في القرون الأولى والمتوسطة للكنيسة، إلى الحقبة البروتستانتية، التي فيها أصبح المعنى الذي يقصده المؤلف هو موضوع البحث لمن يرغبون في فهم كلمة الله.

    وإذ قام المصلحون بكسر قبصة التفسير المجازي الرمزي، كانت هناك نتيجة أخرى، وهي أن العقلانيين الآن قد أصبحوا أحراراً في التعبير عن وجهات نظرهم. وفي الحال، أصبح هناك من يرون الكتاب المقدس على أنه كتاب طبيعي صرف. في النهاية، أصبح المنهج الطبيعي سائداً في التفسير البروتستانتي للكتاب المقدس.

    المُروحنون المعاصرون

    (أي إعطاء روحانية للنص أكثر مما هي فيه)

    بقولنا أن المصلحين قد جاهدوا لكي يقربوا الكنيسة أكثر إلى النظرة التي كان يعتنقها الكتاب المقدس نفسه، وأن المصلحين قد حرروا الكنيسة من أولئك الذين كانوا ينظرون للكتاب المقدس على أنه كتاب فوق طبيعي خالص أو حتى سحري، سيكون من الخطأ الكبير أن نفترض أن التفسير الرمزي قد توقف.

    فالحقيقة أن هذا الاتجاه في تفسير الكتاب المقدس لا يزال سارياً ومزدهراً، خاصة في الدوائر الإنجيلية. فكر مثلاً في الاستخدام التالي للكتاب المقدس بواسطة أحد المفسرين المشهورين واسعي الانتشار:

    ثالثاً، الصمت المطلوب من “الشعب” في هذه المناسبة قدم خطاً مهماً آخر في الصورة النموذجية التي أوردتها هذه الحادثة – رغم أنه خط لا يجذب بالتأكيد الكثيرين من المسيحيين في العصر الحاضر. إن احتلال إسرائيل لأريحا بلا شك سبق تصوير الانتصارات التي حققوها تحت قيادة الله، بواسطة الإنجيل. فالكهنة الذين كانوا ينفخون في الأبواق المصنوعة من قرون الكباش يصورون خدام الله وهم يبشرون بالكلمة.

    إن منع “الشعب” من فتح أفواههم تكمن أهميته في أنه يصور أن الأفراد العاديين من المسيحيين لا يجب أن يكون لهم دور في التبشير الشفهي بالحق – فهم غير مؤهلين لذلك، وليسوا مدعوين لخدمة الكلمة. فلا يوجد في أي مكان في الرسائل حث واحد لهؤلاء القديسين على أن يشتركوا في التبشير العلني، وليس حتى على أن يقوموا “بالعمل الفردي” ويسعوا “لربح النفوس”.

    كما أنه ليس مطلوب منهم أن “يشهدوا للمسيح” بسلوكهم اليومي في العمل وفي المنزل. بل عليهم فقط أن “يظهروا تسابيح الله”، أكثر من أن “يخبروا” بها. عليهم أن يدعوا نورهم يضيء. فشهادة الحياة هي أكثر تأثيراً من كلام الشفتين السطحي. فالأفعال صوتها أعلى من الكلمات.[4]

    لن ينفع لتبرير تلك الطريقة في التعامل مع الكتاب المقدس أن نقول إن هناك معنى واحد فقط لكن تطبيقات كثيرة. صحيح أن المقطع يمكن أن يتم تطبيقه بعدة طرق بالنسبة للخلفيات المعاصرة، لكن أن نتعامل مع الكتاب المقدس بهذه الطريقة، ونستخرج منه رسالة تبعد كثيراً عما يقصده المؤلف، فهذا نموذج للتفسير الذي لا يتعامل مع المؤلف وقصده بمحمل الجد.

    في مثل هذا المنهج، لا يكون للكتاب المقدس سلطته الخاصة، ولا يكون حراً في أن يذكر هدفه المعين ويطلب الطاعة لتعاليمه، بل بدلاً من ذلك، فإنه يُستخدم لهدف آخر يكون في ذهن المفسر من خلال عملية الروحنة – والعثور على معنى خفي في النص.

    تكون براعة دارس الكتاب المقدس هي القيد الوحيد لتفسيراته المثيرة للكتاب المقدس في مثل هذا المنهج. فعندما يقوم واعظ بالتعامل مع حدث تاريخي مباشر على أن له مضامين خفية وحقائق روحية مثيرة، فلا عجب في أن الكثيرين من المسيحيين الإنجيليين يتعاملون مع الكتاب المقدس بنفس الطريقة في الاستخدام التعبدي وفي طلب المشورة.

    كثيرون من المسيحيين المخلصين في قراءة الكتاب المقدس بطريقة تعبدية يشعرون “بالبركة” فقط عندما يجدون فكرة مدهشة مفاجئة يوحي بها النص، وتكون فكرة ليس لها علاقة بقصد وهدف المؤلف. فبالنسبة لهم، يبدو السعي لمعرفة مشيئة الله من خلال الدراسة المتأنية وفهم قصد المؤلف، عملاً جافاً ومملاً.

    وبنفس الطريقة، يستخدم كثيرون من المسيحيين الكتاب المقدس بطريقة “سحرية” للحصول على إرشاد معين للقرارات التي يجب أن يتخذوها، مثل، إلى أين يذهبون، وماذا يشترون، وما الوظيفة التي يقبلونها – والتي يتم اكتشافها جميعاً من خلال مقاطع الكتاب المقدس التي، بالمصادفة العجيبة، يكون لها معنى مزدوج. لكن أولاً، هناك الرسالة التي يقصدها المؤلف، ثم هناك المصادفة غير المرتبطة بالموضوع الذي لا يتشابه مع خبرتهم الشخصية الحالية.

    على سبيل المثال، قد يسعى زوجين شابين لطلب مشيئة الرب بشأن وظيفتهما الحالية في منطقة جبلية في الولايات المتحدة، ورغبتهما في أن يذهبا عبر البحار لخدمة إرسالية في إحدى الجزر. وأثناء قراءتهما في الكتاب المقدس يكتشفان الأمر القائل: “كفاكم دوران بهذا الجبل” (تثنية 2: 3).

    ويلي ذلك اكتشافهما لنبوة كتابية أخرى تقول: “وتنظر الجزائر شريعته” (إشعيا 42: 4). فماذا يمكن أن يكون توجيهاً أوضح لحياتهما الشخصية من تلك الكلمات ذات السلطان من الكتاب المقدس؟ فلا يهم عندها إن كانت الرسالة التي تلقوها ليست لها أية علاقة بالرسالة التي كان يقصد الكاتب توصيلها.

    إنني لا أقول إن الله لم يقدم إرشادات مطلقاً من خلال مثل هذه المصادفات الجيدة، فهو ربما يستخدمها، كما يحدث في ظروف الحياة، مثل لقاء شخص بطريق “المصادفة”، والذي يصبح جزءًا مكملاً لإرشاد الله. لكن الكتاب المقدس لم يُعط لأجل هذا الغرض، وعندما نستخدمه بهذه الطريقة، زاعمين السلطة الكتابية أو تصديق الله على قراراتنا الشخصية، فإننا بذلك نسيء استخدامه.

    كما يمكن للمصادفة أن تحدث كذلك كترتيب من العناية الإلهية من خلال الصحف اليومية، مفترضة مساراً ما للسلوك للشخص الذي يسعى لمعرفة مشيئة الله. لكن لا يمكن للمرء أن يزعم، في كلتا الحالتين، إعلاناً معصوماً من الخطأ لمشيئة الله، كمثل ما يمكنه أن يزعم بالنسبة لتعاليم مقطع كتابي قصد المؤلف توصيلها.

    بل أن الكتاب المقدس يساء استخدامه بصورة أكبر إذا كانت هذه “الرسالة” السرية من الله تم استخدامها لاستبعاد تعليم واضح للكتاب المقدس – أو مبدأ كتابي، على سبيل المثال، يحظر المسار المقترح للسلوك. لأن الروح القدس لن يقول مطلقاً شيئاً من خلال كاتبي الكتاب المقدس، ثم يقوم بمناقضته أو تغييره بالنسبة للقارئ.

    بكلمات أخرى، لن يقوم الله بإرشاد المسيحي من خلال فهم أو تطبيق للكتاب المقدس يبتعد بأي حال من الأحوال عما هو مكتوب. فإن لو قام بذلك، لن تكون هناك طريقة لمعرفة إن كان تفسيرنا هذا من الروح القدس، أم من ميولنا الخاطئة، أم من الشيطان، أم من باعث نفسي أو مادي آخر.

    يجب أن يكون واضحاً أن الانطباعات الذاتية لا يمكن أن تتناقض مع تعاليم الكتاب المقدس، إن كنا نريد أن يكون الكتاب المقدس هو السلطة الوظيفية لتفكيرنا وسلوكنا.

    لكن الخطر الأساسي من الاعتماد على الانطباعات الذاتية التي يثيرها الكتاب المقدس ليس أن تتناقض مع الكتاب المقدس، بل أن تمضي لمعان أكثر مما يقصده الكتاب المقدس، فتجد معاني لم يقصدها المؤلف على الإطلاق، خاصة فيما يتعلق بالمشورة والإرشاد الشخصي، ثم استخدام هذه الانطباعات بسلطة إلهية كما لو كانت كلمة الله المعصومة من الخطأ.

    بمعنى أن استخدام الكتاب المقدس كوسيلة عادية للإرشاد الشخصي يروج لوهم “الحق المعلن” الذي يكون مستوى سلطته أعلى من سلطة ظروف العناية الإلهية الأخرى في الحياة، لمجرد أن هذا “الإرشاد” موجود في الكتاب المقدس.

    لكن الكتاب المقدس يجب أن يستخدم للإرشاد “بطرق صحيحة”. وهذه الطرق الصحيحة تتكون من مشيئة الله المعلنة للسلوك البشري، التي تتفق مع المعنى الذي كان يقصده المؤلف. فعندما يكون للنص علاقة عرضية بالظروف الشخصية الحالية والقرار المبني على مثل هذا “الإعلان”، يمكن عندها للشخص أن ينادي فقط بانطباعه الذاتي الخاص عن إرشاد الروح القدس من خلال ظروف غير معتادة، وليس بسلطة الإعلان الكتابي.

    إن الخطأ الأساسي في كل المناهج الأربع الخاطئة في التعامل مع الكتاب المقدس هو صفة الذاتية. ففي خاصية الذاتية، يصبح المفسر هو السلطة المطلقة النهائية للتفسير. وقد رأينا أن المنهج الطبيعي لتفسير الكتاب المقدس هو ذاتي، لأن المفسر يقرر مسبقاً ما هو المقبول في الكتاب المقدس، بحسب افتراضاته الطبيعية المسبقة. على أن النوع الأقل ظهوراً للذاتية، خاصة بالنسبة للذين يتأثرون به، هو الروحنة الذاتية.

    يعتبر الإنجيليون أكثر عرضة لهذا الخطأ، ربما لأنهم يتعاملون بجدية مع العلاقة بين الروح القدس وكلمة الله. لا يمكن الاستغناء عن عمل روح الله في التفسير الكتابي السليم. فقد ألهم الروح القدس الأشخاص الذين كتبوا الكتاب المقدس، وهو الذي ينير أذهان المسيحيين الذين يقرأون هذه الكلمات بعد ذلك بقرون.

    فالوحي أو الإلهام يعني أن الله كان يراقب تدوين الكتاب المقدس حتى آخر كلمة فيه. والاستنارة تعني أن الروح القدس يعمل الآن في المسيحي لكي يساعده على فهم ما هو موجود بالفعل في الكلمة، ويساعده على تطبيق الكلمة بطريقة أصيلة وصحيحة.

    أعطانا الوحي إعلاناً لمشيئة الله بدون خطأ، بحسب ما يقر الكتاب نفسه. ولكن الكتاب المقدس لا يقر بمثل هذا الوعد بالنسبة للإستنارة أو الفهم أو التطبيق الذي يساعد عليه الروح القدس. فكما يعمل الروح القدس فينا لكي يجعلنا قديسين، ولكننا لسنا قديسين بعد، هكذا يعمل فينا أيضاً لكي ينير أذهاننا من خلال الكتاب المقدس، لكن نتيجة هذه الاستنارة ليست فهماً كاملاً، لأنها لو كانت كذلك، لاتفق جميع المفسرين الأتقياء معاً في تفسيراتهم.

    فعندما يتعامل المفسر مع الاستنارة كأمر معصوم من الخطأ، تماماً كما يتعامل مع نص الكتاب المقدس، يكون عندئذ قد سقط في الذاتية. لأنه عندما يدعى شخص ما مثل هذه السلطة في تفسيره لمعاني الكتاب المقدس يكون أمراً سيئاً بما يكفي، لكنه عندما يدعي مثل هذا المستوى من السلطة في انطباعه الذاتي بخصوص الإرشاد الشخصي، فإنه يخطئ أكثر، لأنه يتجاوز معنى النص الموحى به.

    هل هذا يعني أن التفسير السليم و”البركة” الذاتية هما أمران متبادلان؟ بالتأكيد! لأن استخدام مبادئ التفسير لفهم وتطبيق الكتاب المقدس بصورة أصيلة، وإدراك المعنى الذي يقصده الله، سوف يسر الله بالتأكيد، ولكنه سيأتي أيضاً بالبركة الشخصية لحياتنا. فالكتاب المقدس يجب أن يكون له علاقة موضوعية بحياتنا، وإلا لن يتحقق هدفه في تغييرها. لكن التشبه بالمسيح لن يتحقق عندما نجعل الله وكلمته يتفقان معنا. لكن عندما نكون نحن أنفسنا متفقين مع الله ومع كلمته.

    هل يوجد أكثر من معنى واحد؟

    هل لكل مقطع كتابي معنى واحد، أم أن هناك معان خفية يجب استخراجها من خلال اتباع قواعد خاصة في التفسير، أم من خلال الحدس المباشر بالروح القدس؟ يقدم لنا الكتاب المقدس أمثلة لكلمات تم إعلانها لشخص، ومعنى هذه الكلمات تم إعلانها لشخص آخر. فعلى سبيل المثال، في اختبار كل من يوسف ودانيال، أعطيت الرسالة اللفظية أو الرؤية لشخص، بينما التفسير قد أعطي لشخص آخر (تكوين 41؛ دانيال 2).

    فهل هذا هو ما حدث في حالة الكتاب الذين كتبوا العهد الجديد وبالنسبة ليسوع نفسه؟ هل كان لمؤلفي العهد القديم معنى واحد في ذهنهم، بينما كان المؤلف (الله) الذي هو خلف أولئك المؤلفين يقصد معنى آخر أو إضافياً، كشفه لشخص آخر في العهد الجديد؟

    يوجد على الأقل رأيان في هذا المسألة. يعتقد البعض أنه يمكن أن يكون هناك معنى واحداً فقط للمقطع الكتابي إذا كانت اللغة يعتمد عليها وكان إيصالها للمعنى ممكن. هؤلاء الناس لا ينكرون احتمال أن يكون هناك عدة تطبيقات للمعنى الواحد. بل الأكثر من ذلك، فهم لا ينكرون احتمال أن يكون هناك معنا آخر أشمل محتوى داخل الإعلان الأصلي.

    على سبيل المثال، في المشكلة الصعبة الخاصة باقتباس متى بشأن دعوة ابن الله من مصر (متى 2: 14-15)، يشير هذا الاقتباس بوضوح إلى خروج إسرائيل من مصر (هوشع 11: 1). فكيف إذاً يشير متى بذلك إلى إقامة مريم ويوسف والطفل يسوع في مصر؟ ألا يوجد هنا معنى مزدوج؟ لذلك فإن من يعتقدون بأن هناك معنى واحد فقط، وأن ذلك المعنى كان هو القصد الواعي للمؤلف، يفهمون المقطع على أنه تصريح عن قصد الله تجاه الرب يسوع منذ البداية.

    وأثناء عملية الإعداد لهذا الأمر، وكرمز لحقيقة أن يسوع المسيح كان سيأتي من مصر، سمح الله لشعبه إسرائيل أن تكون لهم إقامة هم أيضاً في مصر. فالحقيقة أنه في البداية، دعا الله أول شخص اختاره، إبراهيم، من مكان اقامته في مصر. لذلك فإنه منذ البداية، كان هناك معنى واحد هو المقصود. لكن التحقيق التام لذلك المعنى انتظر حتى مجيء الشخص الذي حققه بالكامل.

    هناك آخرون يجدون صعوبة في مثل هذا الاتجاه, إذ أنهم يؤمنون أن هناك مقاطع معينة في الكتاب المقدس لا يمكن تفسيرها على أن لها معنى واحد؛ فمثل هذه المقاطع يمكن أن يكون لها أكثر من معنى واحد مقصود. فالمعنى الثاني (الخفي أو الأقل ظهوراً) كان يمكن أن يكون في ذهن المؤلف أو ربما كان فقط في ذهن الروح القدس، الذي أوحى للمؤلف.

    في كلتا الحالتين، فإنهم يعتقدون أن المعاني الإضافية موجودة هناك بواسطة القصد الإلهي. فالروح القدس قام بترميز الرسالة، ثم قام في وقت لاحق بإعلان المعنى الثاني لها من خلال متحدث آخر ملهم من الله. (معظم الكتب المقدسة التي يوجد جدل حاد بشأنها تتضمن نبوات). لكن سنقوم بالتعامل مع هذه المشكلة بتعمق أكثر في الفصل 18.

    لكن لا بد من التسليم بأنه أمر مشروع بالنسبة لمؤلف أن يكون له معنى ثاني أو خفي. فإن كان أوليفر ويندل هولمز، مؤلف “The One-Hoss Shay”، قصد أن يكتب بيت شعري ليس فقط عن تحطم عربة تجرها الخيول، لكن لكي يسخر من النظام الكالفيني، فقد كان هذا حقه. وإن قصد كاتب فكاهي أن يخفي رسالة سياسية في مؤلفه الفكاهي، فإن له الحق الكامل في أن يقوم بذلك. فالحقيقة أن هذه تقنية أدبية شائعة.

    لكن هناك قاعدة واحدة يجب مراعاتها، وهي أنه إذا تنصل المؤلف عن معنى خفي، لا يمكن لشخص آخر بمنتهى الثقة أو السلطة أن ينسب له هذا المعنى الخفي. بكلمات أخرى، أن المؤلف نفسه هو الوحيد الذي يستطيع بصورة شرعية أن يعرف ذلك المعنى الثانوي. هذه هي الحال مع الكتاب المقدس. إذا تم التسليم بأن هناك معنى ثانوي في مقاطع معينة. فالروح القدس هو الذي أوحى للمؤلف وهو الذي أوحى فيما بعد بالتفسير لذلك المؤلف.

    إن مسألة ما إذا كان المؤلف لديه معنى مباشر ومعنى آخر أشمل في ذهنه هي أمر معقد وشديد الأهمية بالنسبة لغرضنا هنا من إقامة افتراض أساسي لفهم الكتاب المقدس، أعتقد أن هذه المسألة تحتاج أن يتم حسمها. لأنه حتى لو اعتقد المرء أن هناك معنى واحداً فقط في المقطع، وأن المؤلف كان على وعي بهذا المعنى في البداية وفي المضمون النهائي، إلا أنه يجب علينا أن نتفق أن ليس أي إنسان يمكنه أن يميز ذلك المضمون الأشمل أو النهائي.

    ومن ناحية أخرى، إذا اعتقد الإنسان أن هناك مقاطع معينة في الكتاب المقدس تم ترميزها عن عمد بمعنى مزدوج – أحدهما واضح والآخر سيتم التعرف عليه في وقت لاحق – مرة أخرى، ليس أي شخص يمكنه أن “يفك الشفرة” أو يجد ذلك المعنى الخفي.

    هذه نقطة مهمة، فمهما كان الوضع الذي لدى الشخص فيما يخص بمسألة المعنى الخفي أو الثانوي في النبوات، أو المعنى الأشمل المقصود منذ البداية، فإن يسوع المسيح أو كتاب الكتاب المقدس الموحى لهم هم الأشخاص الوحيدون الذين يمكنهم أن يحددوا ذلك المعنى الثانوي أو الأشمل. فعندما تحدث المسيح، كان له كل الحق في تفسير المؤلف. نفس هذا الأمر يمكن أن يقال عن أولئك الرسل الذين خول لهم أن يعلنوا عن مشيئة الله من خلال العهد الجديد.

    فأن ينسب الشخص معان خفية للكتاب المقدس، فإنه بذلك يفترض لنفسه سلطة مساوية أو لاغية لسلطة ذلك المؤلف. فالمفسر، سواء كان فرداً أو كنيسة، يعني بذلك أنه سلطة تعلو فوق سلطة الكتاب المقدس. لكن الكتاب المقدس يجب أن يكون هو السلطة النهائية المستقلة لما يقوله الله لشعبه.

    صحيح أن الإعلان هو فوق طبيعي في محتواه وفي الطريقة التي أعطي بها، وأن الكتاب المقدس له تأثيرات فوق طبيعة في حياة الذين يقرأونه ويسمعونه. لكن الأداة في توصيل تلك الرسالة فوق الطبيعة هي طبيعة، فهي اللغة البشرية التي توصل كلمات مفهومة لما هو في فكر الله.

    فإن كان هناك معنى خفي، فإن المؤلف البشري أو الله نفسه هما الوحيدان اللذان لديهما السلطة لتأكيد ذلك. لذلك فإن أبناء الله الذين يرغبون في معرفة مشيئته وعملها يجب أن يدرسوا باجتهاد لك يتمكنوا من التعامل بطريقة سليمة مع كلمة الحق. فيجب عليهم أن يبذلوا كل اجتهاد لكي يتعرفوا على المعنى الواحد المقصود للمؤلف، وليس أن يبحثوا عن معان خفية.

    وعندما يقوم الرب يسوع نفسه أو أحد مؤلفي الكتب المقدسة بإظهار معنى خفي في النص الكتابي، فإننا نفرح بذلك، ولا نندهش، لأن الكتاب المقدس هو كتاب فوق طبيعي، وهناك مؤلف واحد (الله) خلف كل هؤلاء المؤلفين له. لكننا يجب أن نترك مثل هذا النوع من التفسير لمؤلفي الأسفار المقدسة، إذ أننا غير مخولين من الله لأن نكون متحدثين باسمه معصومين من الخطأ بإعلان إضافي.

    مراجع مختارة لمزيد من الدراسة

    أكرويد، بي آر، وسي إفي إفانز، محرران. The Cambridge History of the Bible Cambridge: U. Press 1970.

    فارار، فريدريك دبليو. History of Interpretation. 1886 reprint. Grand Rapids: Baker, 1961.

    جرانت، روبرت إم. A Short History of the Interpretation of the Bible. مع ديفي تريسي طبعة ثانية منقحة Philadelphia: Fortress, 1984.

    “History of the Interpretation of the Bible” The Interpreter’s Bible.

     New York: Abingdon-Cokesbury, 1952. 1:106-41.

    سمولي، بيريل. The Study of the Bible in the Middle Ages. Notre Dame: U. of Nortre Dame, 1964.

    وود، جيمس دي. The Interpretation of the Bible: A Historical Introduction. London: Duckworth, 1958.

    [1] إس هوروفيتز، Midrash, Jewish Encyclopedia، 12 مجلد (New York: Ktav, 1904)، 8: 548.

    [2] جيمس دي وود، The Interpretation of the Bible: A Historical Introduction (London: Ducworht, 1958)، صفحة 72.

    [3] نفس المرجع. صفحة 87. انظر أيضاً بيمارد رام، Protestant Biblical Interpretation (Grand Rapids: Baker, 1870)، صفحة 54.

    [4] آرثر دبليو بينك، Gleanings in Joshua (Chicago: Moody, 1978)، صفحة 102.

     

    المنهج فوق الطبيعي لتفسير الكتاب المقدس

  • المنهج الطبيعي في تفسير الكتاب المقدس

    المنهج الطبيعي في تفسير الكتاب المقدس

    المنهج الطبيعي في تفسير الكتاب المقدس

    المنهج الطبيعي في تفسير الكتاب المقدس
    المنهج الطبيعي في تفسير الكتاب المقدس

    المنهج الطبيعي في تفسير الكتاب المقدس

    لا يسمح المتعصبون من أنصار المنهج الطبيعي بأي شيء فوق طبيعي في الكتاب المقدس، أو في أي مكان آخر. يأخذ بعض المفسرين هذا الاتجاه بينما يكون الآخرون أقل تصلباً، ويدركون وجود بعض العناصر فوق الطبيعية في الكتاب المقدس. إن من يتعاملون مع الكتاب المقدس بالمنهج الطبيعي يعتقدون أنهم يجب أن يقللوا أو يبعدوا من العناصر غير المقبولة بالنسبة لمنطقهم، لأن الكتاب المقدس كتبه بشر. وعلى الرغم من أن هناك الكثير من المناهج الطبيعية، إلا أننا سوف نناقش أكثر ثلاثة مؤثرين منها:

    1 – العقلانية، التي أصبحت سائدة في القرن السابع عشر.

    2 – النقد الأدبي، الذي أصبح سائداً في القرن التاسع عشر.

    3 – النسبية الثقافية، والتي أصبحت مؤثرة بصورة متزايدة في النصف الأخير من القرن العشرين.

    1 – العقلانية

    الكتاب المقدس عقلاني لأنه يخاطب العقل. فالواقع “تجديد” الذهن وتغييره عن الأفكار السائدة في العالم (رومية 12: 2). والكتاب المقدس عقلاني من ناحية أنه حق صرف، ولا يناقض نفسه مطلقاً. وهكذا يتعامل المسيحي مع الكتاب المقدس بعقلانية وليس بدون عقلانية. لكن العقلانية يستدل عليها بنظام للتفسير ينبع من نظرة طبيعية للعالم. فالعقلاني يعتمد على منطقه الشخصي باعتبار أنه السلطة النهائية المطلقة.

    وتنعكس تلك النظرة في الافتراضات المسبقة لدى العقلاني: وهي أن ما لا يمكن التحقق منه بواسطة الخبرة المعاصرة أو الفكر المنطقي، لا يمكن قبوله على أنه حقيقي، وبالتالي لا يمكن أن يكون كلمة الله. فالمعيار النهائي للعقلاني لتحديد ما إذا كان تعليم ما أهل للثقة، هو المنطق الفردي المستقل ذاتياً.

    بالنسبة للعقلاني، توجد ثلاثة أحجار عثرة في الكتاب المقدس لكي يقبله على أنه جدير بالثقة، وبالتالي ككلام له سلطان من الله. الأولى، بعض تعاليم الكتاب المقدس تم اعتبارها تعاليم لا تليق بالله أخلاقياً. فصلوات دواد لأجل الانتقام من أعدائه (مزامير اللعنات)، والأوامر بإهلاك شعب كنان هي أمثلة لمثل تلك العناصر غير المقبولة. لا يسعى العقلاني لتوفيق هذه العناصر مع تعاليم الكتاب المقدس الأكثر قبولاً (بالنسبة له)، ولكنه يؤكد ببساطة على أنها ليست كلمة الله. وفي السنوات الأخيرة تم إدراج الكثير من تعاليم الكتاب المقدس الأخرى تحت نفس التصنيف بواسطة العقلانيين. فتعاليم الكتاب المقدس عن الطلاق، ودور المرأة في الزواج، وقبول السلطة المدنية، والكثير غيرها قد تم رفضها بسبب ما يطلقون عليه الأسس الاجتماعية.

    كما أن هناك عنصران آخران في الكتاب المقدس تم رفضهما بواسطة العقلانيين، وهما: المعجزات، وعبارات الكتاب المقدس التي يبدو أنها تناقض عبارات أخرى فيه (مثل الشواهد التاريخية التي لا تتفق معاً).

    بعد الإصلاح تصاعد انتشار التفسير العقلاني بسبب التقدم العلمي. وفجأة ظهرت أعداد أكبر كثيراً من المشاكل في الكتاب المقدس مما كانت تعتبر من قبل. فأية نظرية للعلوم الفيزيقية أو البيولوجية كان يمكن للعقلاني أن يقبلها باعتبار انها أقرب إلى الصدق والحقيقة من أي شيء يمكن للكتاب المقدس أن يقوله في هذا الموضوع. وقد عجل هذا الصراع العظيم بين نظرية التطور وتعاليم الكتاب المقدس الخاصة بالخلق. وبتقدم العلم أكثر، ظهر أن عدداً من التفسيرات الكتابية التي كانت مقبولة منذ زمان طويل تتناقض مع النظريات العلمية الناشئة حديثاً. وهكذا كان العقلاني يميل إلى اتخاذ جانب النظريات العلمية.

    وحيث أن العالم المادي ليس هو المحور الرئيس لتركيز الإعلان الكتابي، فإن الصراع حول النظريات الفيزيقية والبيولوجية، رغم شدته، كان محدوداً. لكن بميلاد العلوم السلوكية في القرن التاسع عشر، ازداد بسرعة عدد التعاليم الكتابية التي أصبحت غير مقبولة للعقلانيين. فقد كان علم النفس وعلم الاجتماع يتجهان مباشرة إلى قلب الإعلان الكتابي، بالتعامل مع الموضوعات العامة، مثل الإنسان، وطبيعته، وعلاقاته، وما يجعله مكتملاً. واتسعت ساحة المعركة بسرعة لكي تشمل معظم الكتاب المقدس.

    كان هؤلاء هم العقلانيون العلمانيون، ولكننا عندما نتحدث عن الافتراضات العقلانية المسبقة في التفسير، فإننا لا نشير أساساً إلى المواجهة بين المؤمن، الذي يرغب في فهم الكتاب المقدس، والعقلاني غير المؤمن، الذي يهاجم من الخارج. لكننا نتحدث عن أولئك الذين، في سعيهم لفهم الكتاب المقدس، يتبنون اتجاهاً عقلانياً في افتراضاتهم المسبقة. فيعتمدون بالكامل على العقل أو المنهج “العلمي” في التوصل إلى معنى النص ورسالة الله التي قد تكون هناك.

    يعتبر العقلاني فهمه الشخصي (أو فهم شخص آخر) هو السلطة التي يقيم بها العناصر الموجودة في الكتاب المقدس. فإذا كان هناك خطأ ما في الكتاب المقدس، فيجب أن يقوم شخص ما بتحديد وجه الخطأ وما هو الصواب. وبحسب رأي العقلاني، يتم تحديد ذلك بواسطة التفكير البشري.

    على هذا الأساس، لا يستطيع العقلاني أن يقبل المعجزات الموجودة في الكتاب المقدس لأنه لم يختبرها هو شخصياً، وأيضاً لأن الروايات المتعلقة بالمعجزات لا يمكن التحقق منها بواسطة التجربة. ولذلك يجب تفسير المعجزات إما على أنها سوء فهم للأحداث الطبيعية، أو على أنها أساطير تنمو حول نوع من الأحداث التاريخية او التخيلية.

    على سبيل المثال، بحسب العقلانيين، كان عبور البحر الأحمر فعلياً هو عبور لبحر “ريد”، هو عبارة عن مستنقع ضحل، والذي استطاع الإسرائيليون السير عبره. نبوات دانيال أيضاً لم يكتبها دانيال نفسه، بل كتبها شخص آخر بعد وقوع الأحداث. بالإضافة إلى أن يسوع لم يطعم الخمسة آلاف نفس، بل أن يسوع استخدم سخاء الصبي الذي أعطاه غذاءه لتحفيز الباقين للمشاركة بغذائهم بسخاء أيضاً.

    فالافتراض المسبق هو أن المعجزة أمر مستحيل. لذلك، فبدلاً من اللجوء إلى القواعد العادية التي يستخدمها المؤرخون للتحقق من الأحداث التاريخية، يقوم العقلاني ببساطة باستبعادها على أنها غير مقبولة. يُستخدم نفس هذا المنهج لاستبعاد ما يعتبر تعليم غير مقبول أخلاقياً، وللمقاطع التي تبدو أنها تناقض البراهين التاريخية الأخرى أو النظريات العلمية المعاصرة.

    النتيجة النهائية للمنهج العقلاني في الكتاب المقدس هي ببساطة أنه: لا توجد كلمة أكيدة من الله، بمعنى أن الكتاب المقدس ليست له سلطة مستقلة في ذاته، لأن التفكير البشري هو السلطة النهائية في الحكم على كل ما يعبر عن نفسه بأنه كلام من الله.

    2 – نقد الكتاب المقدس (النقد الأدبي)

    واحدة من السمات المميزة للإصلاح البروتستانتي في القرن السادس عشر كان إصرار قادته على “الكتاب المقدس وحده”. فرفض المصلحين لتساوي سلطة الكتاب المقدس بسلطة التقليد قد تأثر باكتشاف أن وضع الكنيسة الرومانية الكاثوليكية كان مؤسساً على وثائق مزورة. وبالتالي أصبح البروتستانت مهتمين للغاية بالمسائل المتعلقة بالسمة الأدبية للوثائق الدينية، وخاصة الكتاب المقدس.

    وهكذا كان هناك احتياج للحكم النقدي لتمييز الصواب من الخطأ. و”نقد الكتاب المقدس” هو مصطلح فني لا يتضمن معناه الجلوس في موضع الحكم على الكتاب المقدس، كما يحدث عندما يقوم الناقد الفني بتقييم عمل فني، أو النزعة السلبية التي يقوم بها شخص ذو “روح ناقدة”. لكن هذا المصطلح يشير إلى التقييم الدقيق للبيانات لتقرير الحقيقة بشأن الكتاب المقدس.

    يأخذ النقد الكتابي شكلين. أولاً، النقد النصي أو “الأدنى”، إذ سعى النقاد النصيون لتقرير ما هو النص الأصلي للكتاب المقدس. فالكثير من النسخ القديمة من الكتاب المقدس تم حفظها في أجزاء أو بأكملها، وهذه تمثل درجات مختلفة من الاتفاق. فالنقد النصي هو علم مقارنة النص بالنص الآخر لتحديد النص الأصلي. ورغم أنه لا يوجد لدينا أي من المخطوطات الأصلية اليوم، إلا أنه بسبب الأعداد الضخمة من النسخ والترجمات القديمة المتاحة (أكثر من 5000)، يمكننا أن نتيقن تقريباً من النص الأصلي.

    وفي الحالات الضئيلة التي يظل بها نوع من الأسئلة، لا يشكل هذا أي مخاطرة بمبدأ عقائدي مهم. فكل نقاد النصوص الأوائل تقريباً كان يدفعهم الاقتناع بأن النص الأصلي هو الموحى به من الله، ولهذا كان للنص الدقيق أهمية عظمى. وهكذا يسعى النقد النصي لإظهار النص الأصلي بأكثر دقة ممكنة.

    أما النوع الثاني من نقد الكتاب المقدس، فهو أمر يطلق عليه النقد “الأعلى”، ويقوم بفحص النص التاريخي للوثيقة والسمات الأدبية للسفر نفسه. هذا النوع من التحليل يحاول أن يجيب على أسئلة مثل: تاريخ كتابة السفر، ومن هو كاتبه، والأسلوب الأدبي في أي مقطع. مثل هذه الدراسة ليست عقلانية في الأصل. فمعرفة الاختلاف بين نصوص الشريعة والأمثال، أو بين الشعر والرسالة، يساعد على فهم ما يقصده الكاتب بطريقة سليمة.

    كما أن ملاحظة الهدف اللاهوتي لأي ممن قاموا بكتابة الكتاب المقدس له قيمته وأهميته أيضاً. لكن على يدي العقلانيين، أصبحت الوسيلة النقدية التاريخية هي تماماً ما يطلق عليه “النقد الأعلى الهدام” – وهو النقد الذي تكون نتيجته النهائية، إن لم يكن هدفه، هو هدم الثقة في مصداقية الكتاب المقدس، أو في أنه ذو سلطة على الإطلاق.

    النقد التاريخي من هذا النوع قد أصبح بديل شديد الفائدة بالنسبة لأولئك الذين استبعدوا فكرة الكتاب الموحى به من الله، ولكنهم لا يزالون يرون نوعاً من القيمة في الكتاب المقدس كسجل للسعي الديني. فسعي إسرائيل، إذ يعاد بناؤه بواسطة الناقد، تم جعله يتفق، وفي معظم الأحيان يتم تفسيره بالكامل، بالحياة الدينية للشعوب حوله. وهذه نظرة طبيعية لأنها ترفض أي احتمال أن يكون الله قد اختار وأفرز شعب إسرائيل لتحقيق أغراضه الخاصة، وأنه استطاع أن يوحي للكتاب لكي يسجلوا بدقة رحلتهم الروحية.

    كانت نظرية JEDP التي كان هناك الكثير من الجدل بشأنها، هي المثال النموذجي لاستخدام الوسيلة النقدية التاريخية بطريقة تهدم الثقة في سلطة ومصداقية الكتاب المقدس. تعتقد هذه النظرية أن التوراة، أي أسفار موسى الخمس، كان في الحقيقة تجميع لمواد أربعة مؤلفين مختلفين على مدى عدة قرون. باستخدام تقنية مشابهة، جادل آخرون بأن سفر إشعياء كتبه اثنان أو ثلاثة “إشعياء”، وأن بولس لا يمكن أن يكون قد كتب الرسائل الرعوية التي يزعم أنه كتبها.

    يؤكد هذا المنهج كبداية على وجود أخطاء في الكتاب المقدس، كما يقوض سلطة الكتاب المقدس في النهاية، جاعلاً من السهل “تفسير” النص بطرق تتفق مع منطق الفرد الشخصي بالنسبة لما هو ممكن أو مقبول. ولذلك فإن العناصر فوق الطبيعية في الكتاب المقدس أو التعاليم، والتي لا تتفق مع منطق الفرد الشخصي بالنسبة لما هو ممكن أو مقبول. ولذلك فإن العناصر فوق الطبيعية في الكتاب المقدس أو التعاليم، والتي لا تتفق مع الأسس الحديثة التي يتبناها الشخص، لا تعد حقيقية أو ذات سلطة.

    جميع نقاد الكتاب المقدس، لو قاموا بواجباتهم الدراسية، يعملون من منطلق نفس البرهان. فإذا بدا هذا البرهان أنه يقوض مصداقية الكتاب المقدس، تبدأ افتراضات الشخص المسبقة في العمل. أولئك الذين يؤمنون أن النص حق وصادق، سيبحثون عن حلول تدعم ثقتهم في مصداقية الكتاب المقدس – وقد نجح العلماء المؤمنون بصورة ملحوظة في حل تلك المشاكل. لكن الذين يعتقدون أن الكتاب المقدس، مثل أي كتاب ألفة البشر، قد يخطئ، لا يحتاجون أن يسعوا للمزيد من التحليلات، إذ أنهم يحلون المشكلة باستنتاج أن عبارات الكتاب المقدس على خطأ. هكذا نرى أن افتراضات الشخص المسبقة بشأن طبيعة الكتاب المقدس تسبق التفسير، وتتحكم فيه.

    فعلى سبيل المثال، المفسر الذي يعتنق افتراضات طبيعية مسبقة قد يجادل ضد السلطة المزعومة لسفر ما، مثل أسفار موسى أو بولس، لمجرد أن محتوى السفر لا يتفق مع الافتراضات الخاصة بالمفردات والأسلوب. وهذا يقوض سلطة أجزاء رئيسية من الكتاب المقدس.

    على أن المفسر الذي يقبل تصريحات الكتاب المقدس الخاصة بالتأليف، سيجادل من ناحية أخرى، بشأن إمكانية أن يستخدم المؤلف أساليب مختلفة في فترات مختلفة من حياته عندما يتعامل مع موضوعات مختلفة أو عندما يقتبس من مؤلفين مختلفين. وبالمثل، فإن المفسر صاحب المنهج الطبيعي قد يجادل ضد وحدة سفر إشعياء لأن العناصر الموجودة في جزء من السفر تزعج افتراضه المسبق بشأن استحالة تنبؤ أي شخص بالمستقبل. في كلتا الحالتين، يتم حرمان الكتاب المقدس مسبقاً من ممارسة أي سلطة مستقلة.

    إلا أن التصميم الكامل للكتاب المقدس مبني على أن يتحدى الافتراضات المسبقة، وليس أن يحكم بها. وإن لم يكن الكتاب المقدس فوق طبيعي، لأن يفقد منه فقط المعجزات، بل يُزال منه كذلك مفهوم الإعلان الإلهي السلطوي بأكمله. لذلك يختار النقد التاريخي الهدام أن يعترف فقط بالسلطة البشرية في الكتاب المقدس. لكن لكي نكون صادقين فيما يؤكده الكتاب المقدس عن نفسه، يجب أن يعمل كل من النقد التحليلي والنصي والتاريخي والأدبي على أساس افتراضات مسبقة يكون مصدرها بشري وإلهي معاً.

    3 – النسبية الثقافية

    إن مهمة عبور الفجوة بين العالم البعيد لكتاب الكتاب المقدس والعالم المعاصر ليس جديدة. فدراسة السياق الذي كتب فيه الكتاب المقدس كانت دائماً أمراً مهماً لأي شخص لكي يفهم معاني الكتاب المقدس. باستثناء الكثيرين الذين يسعون لفهم “روحي” آخر غير المعنى الطبيعي للنص، يسعى جميع المفسرين للحصول على فهم واضح للكتاب المقدس بدراسة المحيط التاريخي والثقافي والديني للمؤلف.

    على هذا الجانب من الفجوة بين القديم والحديث، يسعى المفسرون الأصليون الحقيقيون للكتاب المقدس لتطبيق المعنى على الوضع الحاضر. ولكي يقوموا بذلك بفاعلية، يجب على المفسرين أن يفهموا محيط وبيئة القارئ أو السامع. لأن الشخص الذي يسعى لتوصيل حق الكتاب المقدس للناس في ثقافة مختلفة عن ثقافته، يكون من أكثر الأمور أهمية بالنسبة له هو أن يدرس سياق ثقافة المتلقي. إن عملية “وضع حق الله في سياق المتلقي” أو السامع، هو ما يعنيه التجسد كله. فقد قام يسوع المسيح بترجمة حق السماء إلى كلمات وأفعال يمكن للبشر أن يفهموها. وأتبع الرسل ذلك بتطبيق حق الله بطريقة مختلفة تماماً بما يتناسب مع كل من سامعيهم من اليهود ومن الأمم.

    هذان السياقان أو المحيطان، محيط المؤلف ومحيط القراء المعاصرين، مهمان للغاية لفهم وتطبيق حق الكتاب المقدس حتى أن عدة فصول في هذا الكتاب سوف تتعامل مع تطوير المهارات في هاتين المنطقتين. لكن يجب أولاً حسم الافتراضات المسبقة. ماذا يعني المرس إذاً “بتكييف السياق”؟ عملياً، يتراوح من يقومون بتكييف السياق ما بين أولئك الذين يقومون بدراسة السياق الثقافي للنص ببساطة كوسيلة لتوضيح معنى النص، وبين الذين يركزون كثيراً على “السياق” حتى أنهم يصبحون طبيعيين في منهجهم.

    الأسئلة الجوهرية هنا هي: هل تعتمد صحة مقطع كتابي على الفهم الحالي للثقافة القديمة؟ وهل تعتمد سلطة الكتاب المقدس على توافقها مع المقاييس الثقافية في عصرنا الحاضر؟

    “الثقافة” هي الطريقة التي ترى بها جماعة من الناس الأمور المختلفة، أو التي تفعل بها الأشياء. تؤمن النسبية الثقافية بأن قيمة أو حقيقة أية فكرة تعتمد على الثقافة التي وجدت فيها. وحيث أن العقلاني يرى الثقافة على أنها متعادلة أخلاقياً، فإن ما يأتي بنتائج مقبولة في ثقافة ما قد لا ينجح في ثقافات أخرى، وبالتالي فإنه لا يكون صالحاً للثقافات الأخرى. هذا المنهج مشروع في القضايا المتعادلة أخلاقياً. لكن أن نجعل هذا المنهج ينطبق على كل شيء في الثقافة، فإن هذا يزعزع مكانة الكتاب المقدس كسلطة مستقلة تحكم على جميع أفكار وطرق السلوك البشري. في الحقيقة أنه ليس كثير أن نقول أن الكتاب المقدس قد أعطي تحديداً لكي يغير الثقافة البشرية ويخلق أسلوباً إلهياً في التفكير والسلوك. وهذا هدف أساسي من أهداف الكتاب المقدس.

    فكر في مضامين النسبية الثقافية على كلا طرفي “فجوة الفهم” بين النص القديم والمؤمن في عصرنا اليوم. ماذا تفعل النسبية الثقافية للمعنى الذي يقصده المؤلف من ناحية، ولتطبيق الكتاب المقدس على إيمان وحياة العصر الحالي، من ناحية أخرى؟

    عندما تختلف النظرة الحالية لسياق الكتابة الأصلية عن المعنى الواضح للنص، فأي تفسير هو الذي يسود؟ إذا تم السماح لفهم العصر الحالي للثقافة القديمة – الذي يكون غير دقيق في أفضل حالاته – بأن يغير من المعنى الواضح للنص، فقد أصبح هذا المنهج عندها منهجاً طبيعياً.

    كثير من تعاليم الكتاب المقدس تعتبر مصدر إزعاج ومشاكل بالنسبة للثقافة المعاصرة. عدد من المفسرين الذين يعتبرون أنفسهم إنجيليين يتعاملون مع هذه المشاكل من خلال عملية يطلق عليها عدة أسماء مختلفة مثل، “تكييف السياق”، “التفسير الديناميكي المعادل”، أو “علم اللغويات العرقي”. وهذا العلم يقول أن التصريح الكتابي هو مجرد “هيكل” ثقافي مؤقت، فقد كانت له سلطة فقط بالنسبة لسامعيه الأصليين، ويمكن أن يتم استبعاده على أنه غير ملزم لشعوب أخرى ذات ثقافات مختلفة. لكن “جوهر” الحق المخفي في هيكل هذه الثقافة هو المبدأ والعقيدة الثابتة الباقية، والتي هي مشيئة الله لجميع الشعوب وفي كل العصور.

    إلى أي حد يصبح هذا المنهج طبيعياً؟ إنه يصبح كذلك عندما يتم وصف أي تعليم من الكتاب المقدس بأنه هيكل ثقافي يمكن الاستغناء عنه في سبيل الجوهر، أو المبدأ العقائدي الباقي المفترض أنه يحويه – إلا إذا قدم الكتاب المقدس نفسه الأساس لمثل هذا التمييز.

    لا يقر الكتاب المقدس في أي جزء منه بوجود تمييز بين الهيكل والجوهر. فعلى أي أساس إذاً يتم هذا التمييز؟ ومن الذي يحكم فيه؟ على سبيل المثال، أي من الوصايا التالية هيكل ثقافي يمكن الاستغناء عنه؟

    “أيتها النساء اخضعن لرجالكن كما للرب” (أفسس 5: 22).

    “أيها الأولاد أطيعوا والديكم في الرب لأن هذا حق”. (أفسس 6: 1).

    “ينبغي أن يطاع الله أكثر من الناس” (أعمال 5: 29).

    إن الشخص الذي يقيم أية تعاليم هي التي يتعامل معها كمبدأ ثابت، وأيها يتعامل معه كثقافة يمكن الاستغناء عنها، قد أصبح هو نفسه سلطة فوق سلطة الكتاب المقدس. فإذا حكم على الزواج “بالموت” في عيني مشير الزواج، يخبروننا بأنه يجب أن ينصح بالطلاق. لكن ماذا عن أمر المسيح ضد الطلاق؟ حسناً، سيقولون أن المسيح قد أعطى هذه الأوامر في محيط الثقافة اليهودية في القرن الأول الميلادي، وهكذا فإن المبدأ وراء هذا الأمر هو الذي يجب أن يطاع، وليس الأمر نفسه. فالمبدأ هو اهتمام المحبة من الشريكين تجاه بعضهما البعض. لكن في بعض الأحيان يعتقد الناس أن اهتمام المحبة يعفي الطرف الآخر من الروابط الشرعية للزواج. وهكذا يقول أنصار تكييف السياق في معظم الأحيان أنه يجب على المفسر ألا يلتزم بالشرعية الحرفية البسيطة.

    فكر مثلاً في تعليم الكتاب المقدس عن سلوك الجنس المثلي. إن حظر ممارسة علاقات الجنس المثلي في الكتاب المقدس قد تم بسبب السمعة السيئة للأشخاص الذين يمارسون الجنس المثلي في العالم الروماني، السمعة التي كانت ستجلب العار على الكنيسة لو أن المسيحيين قبلوا بهذه الممارسة. وهكذا فإن المبدأ خلف هذا الحظر كان الإخلاص الزوجي، وهكذا يتم التعليم بأن علاقة الجنس المثلي تصبح مدانة فقط لو أنها صارت مختلطة. في النهاية، يصبح فهم المفسر للثقافة القديمة هو السلطة لقبول أو رفض التعليم الكتابي. وحيث أن كل الكتاب المقدس قد أعطي في سياق حضارة ما، فإن أي تعليم فيه تقريباً يخضع لهذا النوع من الاستغلال السيء للسياق.

    افتراضات أنصار النسبية الثقافية هي نفس افتراضات العقلانيين: وهي افتراضات المنهج الطبيعي. فبالنسبة لأصحاب المنهج الطبيعي، عندما يكون هناك تعليم واضح في الكتاب المقدس يتعارض مع أسلوب التفكير البشري بشكل ما، يجب أن يبتعد الإعلان ويفسح الطريق للفكر البشري. وبالنسبة لأنصار النسبية الثقافية، إذا كان فهم الشخص لخلفية المؤلف الثقافية أو للخلفية الثقافية المعاصرة يجعل التفسير مخالفاً للمعنى الطبيعي للنص نفسه، فإن الافتراض هو أن من يقوم بتكييف السياق له سلطة أعظم في تقرير الحق من الكتاب المقدس نفسه، وهذا يعتبر منهجاً طبيعياً. (تعتبر مسألة تكييف السياق هي القضية الجوهرية بين المفسرين الإنجيليين. لذلك سنقوم بمعالجة هذا الموضوع بصورة أدق في الفصول التالية).

    مراجع مختارة للمزيد من الدراسة

    آلاند كيرت، وبارباراد ألاند. The Text of the New Testament: An Introduction to the Critical Edition s and to the Theory and Practice of Modern Textual Criticism. ترجمة إيرول إف رودس Grand Rapids: Eerdmans 1989.

    بروس إف إف. The New Testament Documents: Are Thwy Reliable? Downers Grove, 111.: InterVarsity, 1973.

    جرينلي، جي هارولد. Introduction to New Testament Textual Criticism. Grand Rapids: Eermans, 1964.

    كرتنر، إدجار. The Historical – Critical Method. Philadephia: Fortress, 975.

    سولين، ريتشارد إن. Handbook of Biblical Criticcism. Atlanta: John Knox, 1981.

    ستين، روبرت إتش. The Synoptic Problem: An Introduction. Grand Rapids: Baker, 1987.

    ستولماكر، بيتر. Historical Criticism and Theological Interpretation of Scripture: Toward a Hermeneutic of Consent.  ترجمة روي أيه هاريسفيل. Philadelphia: Fortress 1997.

    المنهج الطبيعي في تفسير الكتاب المقدس

  • اللوجوس عند فيلو الفيلسوف اليهودي – القمص عبد المسيح بسيط

    اللوجوس عند فيلو الفيلسوف اليهودي – القمص عبد المسيح بسيط

    اللوجوس عند فيلو الفيلسوف اليهودي – القمص عبد المسيح بسيط

    اللوجوس عند فيلو الفيلسوف اليهودي - القمص عبد المسيح بسيط
    اللوجوس عند فيلو الفيلسوف اليهودي – القمص عبد المسيح بسيط

    اللوجوس عند فيلو الفيلسوف اليهودي – القمص عبد المسيح بسيط

    منذ عهد بطليموس الأول (323-285ق.) كان هناك يهود يعيشون بكثرة في مصر. وكانت الإسكندرية مركزهم الرئيسي ولقد دعت الحاجة إلى ترجمة العهد القديم من اللغة العبرية إلى اللغة اليونانية، وهى التي تعرف بالترجمة السبعينية. وقد أدى هذا إلى الربط بين الثقافة الغربية واليهودية، وبين إيمان العهد القديم والفلسفة اليونانية.

    وكان الفكر اليهودي في الإسكندرية يميل إلى تفسير العهد القديم تفسيرا رمزيا، وحول علماؤهم الحقائق الكتابية إلى رموز لمبادئ عقلية، وزعموا أن الفلاسفة اليونانيين قد اخذوا فلسفتهم أصلاً عن كتابات موسى النبي. وأشار ارسطوبولس (150ق. م) لوجود هذه الترجمة اليونانية المعروفة بالسبعينية والتي يقول التقليد اليهودي أنها ترجمت فيما بين (280 – 150 ق م). ونظرا لوجود معظم المدارس الفلسفية اليونانية بالإسكندرية، فقد تأثر بها اليهود وكانوا يفضلون المدرسة الأفلاطونية، وكان فيلو الفيلسوف اليهودي المعاصر للمسيح (20 ق م – المتوفى فيما بين 40 – 50م) متأثراً بهذه المدارس الفلسفة خاصة الأفلاطونية والأرسطوطالية والرواقية وغيرها. ومن ثم فقد خلط بين أفكار كل هذه المدارس بالفكر اليهودي، ولأن اعتقد مثل يهود عصره ومدينته أن هذه الفلسفات ترجع في أصولها إلى كتابات موسى النبي، لذا فقد جمع بين الفكر الكتابي اليهودي والفكر اليوناني، وهكذا تشكل مفهومه عن اللوجوس، الذي هو في مفهومه وكيل الله ” والوسيط بين الأبدي والزائل، واللوجوس الذي، من وجهة نظره، يعكس نوراً من مظاهر لا تحصى “(34).

    ولأن فيلو اليهودي جمع ما بين فكر العهد القديم والتقليد اليهودي والفلسفة اليونانية إلى جانب بعض العناصر الشرقية، لذا فكان فكره وعقيدته خليط بين اليهودية والفلسفة اليونانية. فكيهودي آمن بالله كما هو في العهد القديم، ونظرا لأن الفلسفة اليونانية ترى أن المادة أزلية مثل الله وأنها شر، وأن الله لا يتصل بهذه المادة التي هي شر، لذا فصل فيلو بين الله والعالم تماماً، وجعل الله بدون أي صلة بالعالم، وقال أنه لا توجد أي صلة بين الروح المحض (الله) والعالم المحسوس. ونظرا لأن هذا الفكر أوجد فجوة وهوة لا قرار لها بين اللاهوت السامي والفائق وغير المدرك وبين العالم المادي المحسوس، لذا فكر فيلو في إيجاد كوبري، وسيط، يعبر هذه الفجوة أو الهوة، وسيط يربط بين الله والمادة، ولكن لا بحسب الكتاب المقدس أو التقليد اليهودي بل بحسب فكرة القوات الوسيطة والمُثل الأفلاطونية. ونتيجة لذلك فقد قدم فكرة مصغرة لهذه القوات الفاعلة هي اللوجوس (Logos). هذا المصطلح الذي يحتمل أنه أخذه من العهد القديم ولكن بمحتوى وأسلوب وفكر غنوسي يوناني كما هو في فكر أفلاطون في الُمثل وفكر الرواقيين عن الأسباب والقوات.

    ومن ثم يعني اللوجوس عند فيلو ويشير للمثال الأولي، الفكرة الأولية، التي تتفق مع عقل الله، العقل الملازم لله، وأيضاً مبدأ الإعلان في الطبيعة الإلهية. ويعتبر اللوجوس عنده هو العقل الجوهري الذي يوصل الفكر الغير منطوق به في الإنسان، هذا اللوجوس فائق وغير مدرك مثل الله نفسه، ولكن في وجهه الآخر فهو القوة والنشاط وموصل للفكر المنطوق به في الإنسان. اللوجوس هو وسيط الله الذاتي الذي يكشف به الله عن نفسه وعن عنايته الإلهية. هذا اللوجوس أو الكلمة المنطوقة هو الخالق الذي خلق به الله العالم وهو العامل في الكون باستمرار والفاعل فيه دائماً، وفيه توجد كل الحكمة الإلهية والخير الإلهي، بل هو الابن البكر لله، الملاك الأعلى والإله الثاني في الكون(35).

    يقول في كتابه: ” De Plant Noe “: ” لأن أولئك الذين لا يستطيعون أن ينظروا للابن نفسه، ينظرونه في نوره المنعكس، حتى لو باعتباره صورة الله، الذي هو ملاكه، فاللوجوس (logos- Memra) كالله (Elohim) نفسه “.

    ويقول في كتابه ” On The Confusion Of Tongues p. 247 “(36): ” حتى لو لم يكن هناك من هو مستحق ليسمى بابن الله، ومع ذلك فهو يعمل بلا كلل ليكون مزيناً بحسب كلمته البكر [Logos]، أقدم ملائكته، كرئيس الملائكة العظيم ذو الأسماء الكثيرة؛ لأنه يدعى ذو السيادة واسم الله والكلمة [Logos]، وإنسان بحسب صورة الله والذي يرى إسرائيل “.

    ويقول في كتابه ” Allegorical Interpretation, III. “(37): ” ظل الله هو كلمته [Logos] الذي استخدمه كوسيلة عندما خلق العالم. وهذا الظل، وكما كان، نموذجاً، النموذج الأولي للأشياء الأخرى، لأنه كما أن الله نفسه النموذج لهذه الصورة الذي يدعى الآن الظل، هكذا أيضاً هذه الصورة هو النموذج للأشياء الأخرى. وكما بين عندما أوصى معطيا الناموس للإسرائيليين، وقال: ” وعمل الله الإنسان على صورة الله (تك1 :26)، لأن الصورة كانت على نموذج الله، ولأن الإنسان كان على نموذج الصورة التي أُخذت، هكذا، قوة وصورة النموذج “. 

    كما قال في كتاب: ” On Dreams, 1, “(38): ” لأنه يوجد، كما يبدو، هيكلان لله؛ واحد هو العالم، الذي فيه الكاهن الأعلى الذي هو الكلمة الإلهي [Logos]، ابنه البكر ..”.

    وقال في كتاب ” On The Migration Of Abraham. P. 253 “(39): ” كيف نتوقع الكلمة [Logos]، الذي هو أقدم من كل الأشياء التي كانت موضوعات الخليقة، وبأي وسيلة هو حاكم الكون ..”(40).

    ولكن النقطة التي لم يتفق فيها الدرسون هي؛ هل كان اللوجوس عنده، كشخص، منفصل تماما عن الله أم لا؟

    وعموما فقد شكل اللوجوس بالنسبة له محورا جوهريا حيث استخدمه في كتاباته أكثر من 300 مرة، وأن كان بمعاني متناقضة ومتعارضة!! ويرى البعض أنه أخذه عن المفهوم الكتابي اليهودي ومن ثم فهو بالنسبة له هو ” كلمة الله “، وقال البعض الآخر أنه تأثر بلوجوس الرواقيينlo,goj qeou/ وبنفس معنى ” العقل الإلهي ” مثال الحكمة الإلهية(41). وقد لخص لنا بعض الدارسين أفكاره كالآتي:

    1 – أن الله هو الموجود المطلق ” الذي يكون “. وهو وحده الموجود بذاته، بدون خليط وبدون تعدد، الواحد والكل. وليس هناك اسم يمكن أن يناسبه وهو الموجود المطلق، أو ببساطة ” يكون “. وهو غير معروف في طبيعته.

    وتقول دائرة المعارف اليهودية نقلا عن كتاباته أنه فيما يختص بعقيدته في الله فهو يتكلم في اتجاهين؛ سلبي وإيجابي، فمن الناحية السلبية يحاول أن يحدد طبيعة الله بالتضاد مع العالم. فهو، فيلو، يمكن أن يأخذ من العهد القديم نظرات محددة فيما يختص بسمو الله على العالم ” لأن أفكاري ليست أفكاركم ولا طرقكم طرقي يقول الرب. لأنه كما علت السموات عن الأرض هكذا علت طرقي عن طرقكم وأفكاري عن أفكاركم ” (اش55 :8و9)، وعدم استطاعة الإنسان رؤية الله ” لأن الإنسان لا يراني ويعيش ” (خر33 :20). ولكن بحسب المفهوم السائد في العهد القديم فالله يعمل باستمرار في العالم، ومليء بالغيرة ويتحرك بالتوبة ويأتي لمساعدة شعبه؛ ولذا فهو مختلف كلية عن الإله الذي يقدمه فيلو. وفيلو لا يعتبر أن الله مثيل بالسماء ولا بالعالم ولا بالإنسان؛ فالله بالنسبة له لا يوجد لا في الزمان ولا في الفراغ؛ وليس له صفات إنسانية ولا عواطف. حقا فهو بدون صفات وبالتالي فلا اسم له ولهذا السبب لا يمكن أن يدركه الإنسان، وهو لا يمكن أن يتغير ودائما على نفس حاله، ولا يحتاج لكائن آخر، ومكتف بنفسه، ولا يمكن أن يزول وهو ببساطة الموجود، وليس له أي علاقة مع أي كائن آخر(42).

    2 – وخارج الله توجد المادة وهى لا شكل لها، في حالة لا تكون، وجوهرها شر. ولا يمكن لله الكائن الكامل أن يوجد في صلة مباشر مع الفساد وعدم الإحساس، مع المادة التي لا شكل لها ولذلك فهو لم يخلق العالم بشكل مباشر.

    ومن هنا جاءت فكرة المبدأ المتوسط بين الله والمادة – العقل الإلهي، اللوجوس الذي تتضمن فيه كل الأشياء المحدودة، والذي خلق العالم المحسوس بأن جعل هذه الأفكار تتخلل المادة وتنفذ فيها. 

    وتقول دائرة المعارف اليهودية: ” ولأن فيلو وصف المادة والعالم المادي كشر فقد وضع الله خارج العالم. ومن هنا أضطر أن يفصل من الكائن الإلهي الأنشطة التي كان من الواجب أن تكون في العالم وحولها إلى قوات إلهية، هذه القوات كان يقال أنها داخل الله وفي أحيان أخرى يقال أنها خارج الله. هذا الفكر تشكل من العناصر المختلفة التي للفلسفة اليونانية والمفاهيم الكتابية بل النظرات الوثنية إلى جانب اليهودية المتأخرة. وكان فيلو قد استعار من الفلسفة الأفلاطونية مُثل القوات الإلهية والتي عُرفت كأنماط أو نماذج لأشياء حقيقة (المُثل الأولية)، كما أخذ بعض أفكار الفلسفة الرواقية مثل القوات التي اعُتبرت كالأسباب الضرورية والتي لا تمثل النماذج فقط بل تنتجها وتأتي بها أيضاً. فقد ملئت هذه القوات كل العالم وفي داخلهم أحتوى كل كائن وكل الأشياء المتفردة.

    وحاول فيلو أن يعمل تناغم وانسجام بين هذه المفاهيم والكتاب المقدس بتوصيفه هذه القوات كملائكة. كما تأثر فيلو بما جاء في أسفار الأنبياء وكتابات ما بين العهدين الرؤوية بما فيها من ظهورات لله جالسا على العرش وحوله الكاروبيم، قوات الله الجوهرية.

    وقد اعتبر فيلو هذه القوات في مجموعها أيضاً وعاملها ككائن مفرد مستقل وصفه باللوجوس. وكان مفهوم فيلو عن اللوجوس متأثرا بهذه المدارس الفلسفية، فقد استعار من هيراقليطس مفهوم ” اللوجوس الإلهي ” الذي يدعو كل المواضيع المختلفة للوجود وذلك بمزج المتضادات. واستعار من الرواقيين وصف اللوجوس كالقوة الفاعلة والحيوية، واستعار من العناصر الأفلاطونية ” مثال المثُل Idea of Ideas ” والفكرة الأولية.

    وذلك إلى جانب العناصر الكتابية حيث توجد فقرات كتابية فيها كلمة يهوه التي تعمل كقوة مستقلة وموجودة بذاتها مثل ” هكذا تكون كلمتي التي تخرج من فمي. لا ترجع إليّ فارغة بل تعمل ما سررت به وتنجح فيما أرسلتها له ” (اش55 :11)، ومثل هذه الآياتكشفت عن عقيدة الكلمة الإلهي خالق الكون، كما بينا أعلاه. كما استعار فيلو من الأسفار النبوية الرؤوية صورة العرش الإلهي ومركباته والبهاء والمجد الإلهي والشاروبيم واسم الله وأسماء الملائكة أيضاً، وذلك في تفصيل وإحكام عقيدته في اللوجوس. ومن ثم فقد دعى اللوجوس بـ “رئيس الملائكة ذو الأسماء الكثيرة “، والقائد، و ” اسم الله ” أيضاً، و “أدم السمائي ” والإنسان، وكلمة الإله الأبدي. كما وصف اللوجوس أيضاً بـ ” الكاهن الأعلى ” وذلك في إشارة إلى المكانة العالية التي كان يحتلها رئيس الكهنة بعد السبي كالمركز الحقيقي للولاية اليهودية. فاللوجوس عنده مثل رئيس الكهنة، مكفر الخطايا والوسيط والمدافع.

    ولكي يربط فيلو عقيدته هذه بأسفار العهد القديم فقد بني فكره أولياً على ما جاء في (تك1 :27) ” فخلق الله الإنسان على صورته.على صورة الله خلقه “، ليصور العلاقة بين الله واللوجوس. وقد ترجم هذه الآية كالآتي: ” فعمل الإنسان على صورة الله “. مستنتجا من ذلك أن لله صورة موجودة، وقال أن صورة الله هي نموذج لكل الأشياء الأخرى ” الفكرة الأولية – لأفلاطون “، ختم طبع على كل الأشياء. وقال أن اللوجوس نوع من الظل منبعث بواسطة الله، له كل الخطوط العريضة ولكن ليس النور المحتجب للكائن الإلهي(43).

    وتلخص لنا الدكتورة أميرة حلمي جوهر تعليمه كالآتي: أن يهوه اله اليهود الذي امن به فيلو هو الإله المفارق للعالم المحسوس وهو الإله المتعالي اللامتناهى في صفات الكمال التي لا يمكن أن تحدد أو تحصر في عدد معين، لذلك فهو لا يمكن وصفه إلا بالسلب. غير أنه لفرط علوه عن العالم ولعظم الهوة التي تفصله عنه، لا يؤثر مباشرة في العالم، بل يؤثر عن طريق وسائط أو قوى إلهية. هذه الوسائط يختلف بعضها عن بعض بحسب الأعمال التي تقوم بها ولها أنواع أربعة، أولها وأهمها هي: الكلمة أو ” اللوجوس “(44).

    كما يوضح لنا البير ريفو فكره أيضا بقوله: أن الله واحد، وأنه قادر تام القدرة، وأنه لا نهاية له، وأنه الموجد لجميع الخلائق، وعنه تصدر بنوع من الإشعاع المنتشر في الكون، السلسة الهائلة الشاملة لشتى الخلائق، من ملائكة وجن وبشر وحيوان ونبات. وفيه نفسه المبدأ الأول لكل حياة، وبه يرتبط برباط الضرورة، كل ما هو كائن. والابتعاد عنه أنما هو ذهاب نحو العدم والموت. والاقتراب منه معناه الفوز بالحياة والوجود والكمال. وفي كل شيء جزئي خاص يوجد، حينئذ، شبه شرارة صغيرة أو كبيرة من مركز الضوء الإلهي. ومجموع هذه الأضواء الجزئية المنتشرة في الكون هي العقل أو ” اللوجوس ” التي تكون تحت مرتبة الله شبكة متشعبة معقدة من الإدراك الواضح ومن الحياة(45).

    أي أنه إلى جانب الله فقد تحدث فيلو عن وجود وسيط بين الله والعالم هو العقل الإلهي أو اللوجوس الذي يحتوى على مثل أو أفكار الأشياء المحدودة. وقال أن الله المطلق محاط بقواته (dunamies) كما يحاط الملك بحاشيته. هذه القوات في لغة أفلاطون هي ” المُثل “، وفي لغة اليهود هي ” الملائكة “، ولكن جميعها في جوهرها واحد، ووحدتها من حيث هي توجد في الله وجميعها تصدر عنه، وهى تنتشر في العالم، ويعبر عنها باللوجوس. وعلى ذلك، فاللوجوس يبدو على وجهين:

    1 – من حيث هو عقل الله الباطن، ويحوى في داخله مثال العالم، وهو – بينما لا وجود خارجي له – يشبه العقل الباطن في الإنسان، ويدعوه فيلو Logos endiathetos.

    2 – من حيث هو الكلمة المقولة الصادرة عن الله وتظهر في العالم، وذلك عندما خرج اللوجوس من الله في خلقه العالم، ويدعوه فيلو Logos prophorikos أي اللوجوس المنطوق أو المسموع، كما هو الحال عند الإنسان، فأن الكلمة المقولة هي إظهار الفكر.

    وبالنسبة للوجه الأول للوجوس، فأن اللوجوس يكون واحدا مع الكيان الإلهي غير المرئي. وبالنسبة للوجه الثاني، فأن اللوجوس يحيط بكل أعمال وإعلانات الله في العالم، ويقدم من نفسه الأفكار والقوى التي بها تمت صياغة العالم وتدعيمه. وهو الذي يملأ جميع الأشياء بالنور الإلهي والحياة، ويحكم الأشياء بالحكمة والمحبة والعدالة. أنه بداية الخليفة وهو الابن الأكبر للآب الأزلي (والعالم هو الابن الأصغر). هو صورة الله والوسيط بين الله والعالم، وهو الملاك الأعلى والإله الثاني.

    وعلى ذلك فأن فكرة فيلو عن اللوجوس، تتبلور في أن اللوجوس هو الممارسة الحرة للقوة الإلهية جميعها. وهكذا فأن الله، إلى هذا الحد الذي يكشف فيه عن نفسه، يسمى ” لوجوس ” ثم أن اللوجوس، إلى هذا الحد الذي يعبر فيه عن الله، يسمى الله.

    ونظرا لغموض فكر فيلو هذا فقد تناول كثير من الباحثين شرح مفهوم اللوجوس عنده، مع محاولة تحديد المصدر الذي يمكن أن يرد إليه فكر فيلو هذا عن اللوجوس، فمنهم من التمس المصدر عند هيراقليطس ومنهم من رده إلى أصول فيثاغورية أو رواقية أو أفلاطونية.

    ومن دراسة الدارسين لفكر فيلو أتضح لهم أنه من المحال أن تكوّن أقواله هذه مذهبا منسجما، لأنها زئبقية لا ثبات فيها ولا استقرار، على ما فيها من جفاء وجدب، وعلى الخصوص مسألة اللوجوس التي تظهر في مجموعة من المناظر المختلفة التي تتعارض مع عقلنا: فتارة تبدو وكأنها شخصية متمايزة وكـ ” ابن ” الله، وتارة تبدو كأنها مجموعة من العقول الخاصة، وتارة تنطبق على الحكمة الإلهية التي تفيض عنه. وأيضاً مسالة الله عند فيلو، فهو مرة يصوره، لنا مساويا للمبدأ الخالد الذي لا يدنو منه شيء ولا يحاكيه في علمه شيء، ومرة يصوره لنا مساويا للرحمة السامية، وأخرى مساويا للخالق اللامتناهى القدرة. أنها أقوال مجردة من كل نظرة شاملة ومن كل تلخيص محدد. أنها أراء متوالية متفككة تثير الضجر، يتخللها بين الحين والحين برق خاطف من العاطفة والتقوى(46).

    ويمكن أن نخرج من فكر فيلو بما يلي:

    U أن اللوجوس أشبه بمثل أفلاطون إذ هو النموذج الذي يخلق الله العالم على مثاله. ويصفه بكل صفات الكمال من حق وخير وجمال.

    U أما عن صلته بالله، فهو واسطة إلى الخلق ورسول إلى الناس، وهو أيضاً الذي ينقل إليه تضرعاتهم، فهو ابن الله ورسوله، وهو وسيلة في خلق العالم.

    U أما الوسائط الأخرى التي تصورها فيلو بين الله والعالم إلى جانب اللوجوس، فهي القوى الإلهية: قوة الخير في الله التي يتم بها إيجاد العالم. وقوة القدرة التي يسيطر بها على العالم فهي قوة خيرة خلاقة، وهى أيضاً قوة حاكمة تنزل العقاب لتحقيق سيادة الله على خلقة، وهى أيضاً الحكمة التي يتحد بها الله لينتج عن اتحاده بها العالم. وكثيرا ما يرمز لهذه الحكمة الإلهية بأنها أم العالم، وقد تتصف بأنها زوج الإله.

    ومن هذه الوسائط أيضاً الملائكة، وهى فكرة أخذها فيلو من اليهودية. وكذلك الجن والأرواح، فمنها النارية والأثيرية، وكلها تنفذ أوامر الله.

    (34) Vencent,s Word Studies Of The New Testament. Vol.ii. pp.24-30.

    Kittel Theological Dictionary Of The New Testament. Vol. iv. Pp88-90.

    (35) George B. Stevens. The Johannine Theology. P. 83, 84.

    (36) http://www.earlyjewishwritings.com/text/philo/book16.html

    (37) http://www.earlyjewishwritings.com/text/philo/book4.html

    (38) http://www.earlyjewishwritings.com/text/philo/book21.html

    (39) http://www.earlyjewishwritings.com/text/philo/book16.html

    (40) http://www.thevineone.org/download/rico/The_Memra_of_YHVH_English.ppt

    (41) Kittel vol. iv. Pp. 88-89.

    (42) Jewish Encyclopedia, Philo Judaeus.

    (43) Jewish Encyclopedia. Philo Judaeus.

    (44) د. موريس تاوضروس، اللوجوس ص 72.

    (45) المرجع السابق.

    (46) د. موريس تاوضروس، اللوجوس، والفلسفة اليونانية، أصولها وتطوراتها – ترجمة الدكتور عبد الحليم محمود وأبو بكر زكرى ص 259، 260.

    اللوجوس عند فيلو الفيلسوف اليهودي – القمص عبد المسيح بسيط

  • الكتاب المقدس في فكر آباءنا القديسين أنطونيوس وأثناسيوس

    الكتاب المقدس في فكر آباءنا القديسين أنطونيوس وأثناسيوس

    الكتاب المقدس في فكر آباءنا القديسين أنطونيوس وأثناسيوس [1]

    الكتاب المقدس في فكر آباءنا القديسين أنطونيوس وأثناسيوس
    الكتاب المقدس في فكر آباءنا القديسين أنطونيوس وأثناسيوس

    الكتاب المقدس في فكر آباءنا القديسين أنطونيوس وأثناسيوس

    د. وهيب قزمان

    هل كان الكتاب المقدس أداة في يد القديس أثناسيوس، كأي أداة يستلهمها الأديب أو الفنان في عمله؟ أم أنه يا ترى كان يتغلغل في كل نسيج كتاباته وآليات فكره؟ فيمكن أن نلاحظ أن الكتاب كان يتأصل في فكره وقلبه، قبل أن يتحول إلى وسيلة دفاعية في كتاباته. كان القديس أثناسيوس الرسولي يعيش الكتاب فكرًا وقلبًا حقًا، وحين أقتضت الضرورة أن يصيغ فكره اللاهوتي والكتابي، كان الكتاب سباقًا في تشكيل وتحديد معالم فكره، وصبغ التعليم اللاهوتي والأخلاقي لديه[2].

     

    كيف استخدم أثناسيوس الكتاب المقدس؟

    لا يمثل القديس أثناسيوس النخبة الفكرية فقط، بل و”الأغلبية الصامتة” لمسيحيي الأسكندرية، الذين وضعوا رجاءهم في خلاص المسيح، دون أن يشغلوا بالهم بأي شيء آخر. أي أن القديس أثناسيوس كرّس اهتمامه كلاهوتي في الشأن الكنسي والرعوي، أكثر منه في الجانب الجدلي والنظري.

    رغم أن القرن الرابع إشتهر بصراعاته الفكرية واللاهوتية الحادة أحيانًا، والسياسية أحيانًا أخرى. لكن القارئ المدقق لنصوص القديس أثناسيوس أو غيره من كُتاَّب تلك الفترة يجد تركيزًا من جانبهم على “إلتماس وجه الله”، وإن تباينت الأسباب. ورغم تبوأهم لمراكز السلطة الكنسية، سواء كانوا أساقفة أم من المقربين للقصر إلا أنهم وفي مجال الدولة والسياسة كان شغلهم الشاغل أيضًا، هو التماس وجه الله. وذلك ما توضحه أحدث الدراسات في تفكيرهم الكتابي[3].

    كان الجدل حول الله، وبصفة خاصة حول علاقة يسوع المسيح، الكلمة المتجسد بالله الآب. هذا الجدل كان جزءًا لا يتجزأ من سعي الآباء إلى القداسة. والذي شمل العبادة الروحية والأخلاقيات المسيحية، والتعليم الصحيح. بل إن المساهمة المتميزة للقديس أثناسيوس في هذا المجال، كانت في تحديده لما يُسمى “بغاية الكتاب المقدس” وهدفه، بشكل ساعد على توضيح تلك العلاقة بين الكلمة المتجسد والله الآب.

    وتكشف الدراسة أن هذه الغاية قد عبر عنها القديس أثناسيوس بأشكال مختلفة، ليس فقط في كتاباته الرعائية، بل وفي باقي كتاباته الدفاعية والعقيدية والتاريخية أيضًا. وجميعها توضح إهتمامه الأساسي بتجسد الله الكلمة لأجل خلاص البشرية. إن نقطة البدء التي تفيدنا في مناقشة التراث الآبائي الحديث، إنما تتمثل في مقالة نشرها عام 1959 T.E. Pollar[4] ، وفي ذلك الوقت جرت العادة على تصنيف الكُتّاب المسيحيين الأوائل “الرمزيين”، ويقصد بهم الآباء الإسكندريين، و “الحَرفيين” ويقصد بهم الآباء الإنطاكيين. وينصف “بولار” كلاً من القديس أثناسيوس ومعارضيه الآريوسيين على أنهم حَرفْيون، في مقارنة مع المنهج الرمزي في تفسير الكتاب المقدس.

    وقد كان الآريوسيون “حرفيين متطرفين”، بينما يُقال عن القديس أثناسيوس، إنه أظهر في تفسيره تأثره بمدرسة الإسكندرية ذات التقليد الرمزي.

     

    مباديء التفسير الكتابي:

    لقد إتبع القديس أثناسيوس، وبشكل محدد وواضح، المبادئ التفسيرية التالية:

    1. أساسية الكتاب المقدس.
    2. الغاية من الكتاب. 3ـ عادة (έθος ) الكتاب.
    3. مفهوم (διανοια) الكتاب.
    4. أسلوب الكتاب.
    5. المضمون Context، أو سياق المعنى في الكتاب.

    ويوجز “بولار” قائلاً إنه “بطرح هذه المبادئ في التفسير، وباستخدامها بعناية في نقده للتفسير “الإنتقائي عند الآريوسيين”، كان القديس أثناسيوس قادرًا على توضيح أن الفكر اللاهوتي عند هؤلاء الآريوسيين لم يكن كتابيًا. ويدعو “بولار” هذه المجموعة من المبادئ، طريقة القديس أثناسيوس في التفسير، ويرى في “غاية” الكتاب المقدس مبدءًا مهمًا في علم التأويل عند القديس اثناسيوس، وإن لم تكن عنصرًا حاكمًا في منهجه التفسيري.

    وبالنسبة لمبدأ أساسية الكتاب المقدس، فإن القديس أثناسيوس يرى أسبقية التعليم الكتابي على المنطق الجدلي، مؤكدًا أن الكتاب المقدس يوفر له دعمًا قويًا في طرحه لأسس العقيدة.

    ويجد الباحث عند قديسنا ما يؤكد سلطان الكتاب المقدس والتقليد كمصادر للتعليم والعقيدة، ويرى فيها إستجابة من جانب القديس أثناسيوس لجدل ما، كان قد نشأ فيما بعد.

    أما الكلمتان “معنى” و “عادة” الكتاب المقدس، فهما ليستا باللفظتين المترادفتين بالضرورة عنده، أما كلمة “الأسلوب” فربما كانت أقرب إلى كلمة “العادة”. وأما المبدأ التفسيري الخاص بالمضمون أو السياق، فهي طريقة مبسطة للإشارة إلى العديد من العناصر المرتبطة، والتي تمثل في الحقيقة المبدأ الصريح الوحيد عند القديس أثناسيوس، في منهجه الخاص في التفسير. لكن مقالة “بولار” وإن كانت لا تطرح علينا تلك المبادئ التفسيرية الواضحة المعالم، إلا أنها رغم ذلك تشير إلى أسئلة ونصوص مهمة، وعناصر محتملة لمنهج تفسيري محدد للقديس أثناسيوس.

    ومن الأعمال المتميزة الكبيرة الأهمية رسالة الدكتوراه حول تفسير القديس أثناسيوس للكتاب المقدس، الصادرة عام 1968 للباحث سيبن H.Sieben حول إستخدام أثناسيوس للمزامير[5]، وقد يتعجب المرء لعدم الإهتمام الكافي بهذه الرسالة، والتي تضم خمسة أجزاء. الثالث منها فقط والمعنون بالألمانية “المزامير النبوية”، هو الذي يعتمد بشكل كامل على التفسير. وذلك لأن هذه الرسالة لم تنشر، فكان من الصعب الوصول إليها ويعلن الباحث أن الإشكالية الكبرى التي تواجه الدراسات القديمة التي تناقش رأى القديس أثناسيوس حول الكتاب المقدس، كانت تتمثل إما في أن الباحثين كانوا يهتمون فقط بكتاباته العقيدية أو أنهم كانوا يكتفون بوصف تفسيره بأنه رمزي أو حَرفْي، أسكندري أو أنطاكي.

    ويشير الباحث إلى أن الحاجة ماسة إلى معرفة المجالات المختلفة التي كان القديس أثناسيوس يكتب عنها حول الكتاب المقدس، فيما يخص العلاقة العضوية بينها. فهل هي ببساطة: مجرد تصنيفها عقيدية أم دفاعية أو تفسيرية أو وعظية، وهو ما يراه سيبن بحسب وجهة نظره إجراءً غير شافٍ أو مقنع في الدراسة، ولأن الكتابات العقيدية قد تجعل الاستخدام النماذجي (المثالي) Typology في العهد القديم يبدو ثانويًا في كتابات أخرى.

    ويقول إنه من الأفضل أن نركز ليس على الكتابات التي تصادف أنها كانت متواترة، بل على شخص القديس أثناسيوس التاريخي، لأن الكتابات العقيدية كانت إستجابات أو ردود أفعال، أثناء الجدل الآريوسي. فهي حتى إن شغلت مكانًا متميزًا في الأدب الآبائي المعروف لقديسنا، إلا إنها لم تستغرق إلا وقتًا قليلاً من حياته كأسقف.

     

    الكتاب المقدس في حياة القديس انطونيوس:

    وحينما أراد الباحث “سيبن” أن يختار تفسير المزامير للقديس أثناسيوس كنموذج من أسفار الكتاب المقدس، لكي يتبع خطى كتاباته، وكانت غايته في دراسته أن يبرز هذا الدور الذي يلعبه الكتاب المقدس، ليس كثيرًا في فكر أثناسيوس اللاهوتي، مثلما هو الحال في حياته وعالمه الروحي والرعوي، ولكنه فضَّل أن يبدأ باستخدام الكتاب المقدس في كتاب “حياة القديس أنطونيوس” (الجزء الأول من رسالة الدكتوراه)، ثم ينتقل إلى “الرسالة إلى مارسلينوس” حول تفسير المزامير (الجزء الثاني)، وتفسير المزامير (الجزء الثالث)، والكتابات العقائدية (الجزء الرابع)، وأخيرًا {الرسائل الفصحية} (الجزء الخامس).

    يقول “سيبن” إن القديس أثناسيوس قد اشتهر بأنه بطل العقيدة، وكان إستخدامه للكتاب المقدس، والذي أنتقل إلينا في أعماله، ذا طبيعة عقيدية بالأساس. ولكن علينا أن نميز بين استخدامه للكتاب المقدس في المجادلات العقائدية، والذي فُرض على القديس أثناسيوس لظروف تاريخية معينة، وذلك الإنخراط التلقائي لفهم ودراسة الكتاب المقدس، الذي نما بدافع من تقواه الشخصية، وآرائه في العالم المحيط به.

    أما اختيار الباحث لكتاب “حياة أنطونيوس”، كنقطة البدء في دراسته، فقد تأسس على إفتراض أن هذا العمل، الذي يرسم ملامح حياة القديس أنطونيوس بوجه عام، وعلاقته بالكتاب المقدس بوجه خاص، يعكس وبمنتهى الدقة المواقف والمبادئ الشخصية للقديس أثناسيوس نفسه، بالنسبة للكتاب المقدس.

    صحيح أن حياة القديس أنطونيوس، وإن كانت لا تحتوي على إشارات صريحة لطبيعة وتفسير الكتاب المقدس، لكن يمكن لنا أن نلمح في هذه الحياة منهج القديس أثناسيوس في الاقتراب من الكتاب، والنابع من الأنثروبولوجيا اللاهوتية عنده، أي سيرة حياة إنسان بصورتها الإلهية، متمثلة بشكل نموذجي في حياة أشهر الرهبان في العالم[6]. وفي حياة القديس أنطونيوس نرى القديس أثناسيوس راعيًا بالأساس، أكثر منه لاهوتيًا.

    ويبدأ الباحث تورانس في مناقشة ملاحظة هرناك: أن القديس أثناسيوس يهتم بالتعليم الإسكندري عن اللوغوس، خاصة ذلك التعليم الفلسفي التقليدي، فبدلاً من أن يفسر علاقة الإبن من خلال مفهوم اللوغوس، كان يرى المسيح الكلمة وبشكل أساسي في ضوء مفاهيم لغة الكتاب المقدس، التي تركز على علاقة الآب بالابن، فالابن هو الابن الوحيد للآب، وواحد معه في الجوهر (Homo ousios).

    إن علاقة الآب بالابن بحسب المفهوم الكتابي، وقد أصبحت بدورها المبدأ الذي يجب أن نفسر على ضوئه الكتاب المقدس. ويرفض ق. أثناسيوس أيضًا ذلك التمييز الأفلاطوني بين عالم الإدراك الحسي، وعالم المعرفة، والذي أتخذه العلامة أوريجينوس أساسًا لتفسيره الرمزي. أما القديس أثناسيوس فقد أبقى على التفسير النماذجي، ولكن هذا وبحسب رأي تورانس كان التفسير المقابل للتفسير “الرمزي”. لأن كلاً من المِثال وضده إنما هي أعمال الله في التاريخ[7].

     

    التفسير الصحيح للكتاب المقدس:

    إن التفسير الصحيح للكتاب المقدس ممكن فقط حين يُميز المفسر تلك العلاقة بين كلمات الكتاب المقدس، والكلمة اللوغوس الناطق فيها. هكذا نرى في تجسد الله الكلمة، والذي ندركه كعمل الله الخلاصي، المفتاح لكل هذه المعضلات، من ثم فإن التفسير يكون صحيحًا ودقيقًا حين يتبع ما يلي:

    1. يحافظ على غاية الإعلان الإلهي في الكتاب المقدس.
    2. يحترم الطبيعة التدبيرية (economical) لأعمال الله وكلماته.
    3. يحافظ على العلاقة بين معاني كلمات الكتاب المقدس وعباراته، حتى تفي بالغرض من تفسيرها.
    4. فحص العبارات والتدليل عليها، وفقًا لقاعدة الإيمان، التي تنشأ عن فهم الكنيسة للكرازة (The Kerygma)، كما إنتقلت إلينا، بواسطة الكتابات الرسولية[8].

    وهنا الاستنتاج، يأخذ في الإعتبار غاية الكتاب المقدس، ثم الطبيعة التدبيرية (إيكونوميا) للعبارات الكتابية، وأخيرًا طريقة تفسير الكتاب المقدس. إن مناقشة غاية الكتاب تعتمد بشكل أساسي على النصوص وثيقة الصلة في “المقالة الثالثة ضد الآريوسيين”، لكنها تتوفر أيضًا عبر كل كتابات ق. أثناسيوس وعند الإنتقال من غاية الكتاب إلى “غاية الإيمان” أو العقيدة، فإن الباحث يؤكد أن الغاية الموضوعية من الكتاب المقدس هي المسيح نفسه. 

     

    الأمثلة الكتابية:

    ويكمل تورانس تعليقه هذا بقوله: “إن الكرازة الرسولية لا يمكن اختزالها في كلمات، بل يجب النظر إليها على أنها قبول شخص المسيح نفسه بالإيمان، من ثم فإن تفسير الكتب المقدسة، بحسب التسليم يعني فهمها في سياق حياة الإيمان الذي تعيشه جماعة المؤمنين[9].

    ولأن الكتاب يتحدث عن الله، الذي لا يمكن فهمه على نفس مستوى فهمنا للبشر، فإن لغته هي بالضرورة لغة رمزية، ومن ثم يستخدم الكتاب ما يعرف بالأمثلة Παραδείγματα، ويقول الباحث إن القديس أثناسيوس يستخدم الكلمة ببساطة، ولا يتبع في إستخدامها لا تقنية البناء اللفظي، ولا الميتافزيقا الأفلاطونية.

    إن الإشارة إلى ملمح ما من ملامح العالم المادي المنظور، وإتخاذه كوسيلة. أي أن الكتاب المقدس لا يُفسر بالأسلوب البياني ولا بالفلسفة، بل بأعمال الله التدبيرية، التي يوضحها بالنماذج والأمثلة في تاريخ الخلاص البشري للإشارة إلى شيء سماوي، لا يمكن اختزاله في كلمات، أو إلى واقع إلهي غير مدرك، إذًا ما أردنا أن نعكس مجد الله الذي نعجز تمامًا عن معاينته.

    هكذا فإن العلاقة بين الشمس والشعاع، والنبع والنهر والجوهر والتعبير هي مجرد مؤشرات، ولكنها ذات قيمة لأنها ليست إختراعات بشرية، بل إنها معطاة لنا بالإستعلان، ومتأصلة في أعمال الله الحقيقية. ومع ذلك فهي لا تزال مجرد أمثلة، لا ينبغي أن نركز عليها كثيرًا. فهي “مجرد أمثلة أو نماذج، يمكن بواسطتها أن نصور بعض الملامح”.

    وفي الحقيقة وعند نقطة معينة لابد أن نتجاوزها إلى الإدراك غير التخيلي للمفاهيم الأصلية التي تمثلها، ولكنها تُشكل فعلاً الأساس للمحاكاة البشرية لله (الغير المرئي والغير الموصوف). لكن التوازي بين الله والبشر، حيث تقوم الأمثلة الكتابية بتوضيح معالم الطريق للبشر، ليتبعوها، إنما هو وبالكامل نتاج التدبير الإلهي للنعمة (الإيكونوميا). أي تدبير الخلاص كله بوجه عام، والتجسد بوجه خاص[10].

    إن حقيقة التجسد الإلهي، وخاصة ذلك الإتحاد الذي لا ينفصم بين الطبيعة البشرية للإبن (الناسوت)، واللاهوت، إنما هي ضمان لكي ندرك أن التصوير الكتابي ليس خياليًا، بل هو مؤشر أمين وصادق لواقع إلهي. ويعتقد “تورانس” أن “التفسير المنهجي Tpottological للإنجيل” في فترة ما قبل ق. أثناسيوس في التقليد الأسكندري قد أخفق في التقدير الكافي لحقيقة هذا الإتحاد الذي لا ينفصل.

    أما التفسير عند ق. أثناسيوس ـ من جهة أخرى ـ فكان يتأرجح بين طرفي النقيض: إما أن يطرح الأمثلة الكتابية Παραδείγματα كمجرد لغة متعارف عليها، أو يتخذها بشكل يستنبط منها مناهج تصبح متوافقة مع الحقائق الإلهية التي تشير إليها. من ثم فإن مفردات اللغة التي نجدها باستمرار عند القديس أثناسيوس حين نتناول الحديث عن تفسير الكتاب المقدس هي من نوع “صحيح، ملائم، متناسق”. هكذا فإن الباحث يقدم لنا شرحًا لاهوتيًا عند إستخدام الكتاب المقدس. يراه المؤرخون بمثابة إنعكاس للمفردات اللغوية السائدة آنذاك، في البلاغة اللاهوتية الهللينية.

     

    الدقة الحرفية والسياق:

    إن آخر كلمتين جديرتين بالإهتمام في بحث تورانس هما: الدقة الحرفية بحسب النص “άκρίβεια”، والسياق “άκολουθεία”[11]. إن ضرورة العمل على توضيح المعنى الدقيق لكلمات الكتاب المقدس، إنما تنبع من ذلك المبدأ الذي يُلح عليه الباحث على الدوام، وهو أن الهدف هو أن نصل إلى المعنى الكامن تحت سطح الكلمات، حتى نبلغ إدراك الواقع الإلهي.

    إن معنى كلمة ما، في نص كتابي بعينه، لابد أن يكون مناسبًا وملائمًا لمفاهيم الحق الذي يقصده الكتاب المقدس ككل، حيث الترابط المنطقي هو الإهتمام العام في الكتاب. ويجد “تورانس” عند القديس أثناسيوس مجالاً واسعًا لاستخدامات كلمة” άκολουθεία” .

    فهناك مفاهيم متعددة للسياق المادي، أو المضمون المنطقي، أو ببساطة “للترابط والإتساق في المعنى”، وهذا الإتساق في المعنى لا يشمل فقط معاني كلمات الكتاب المقدس، بل الأحداث الخاصة بالتدبير الإلهي “إيكونوميا”. التي تشير إليها هذه الكلمات. هكذا فإن تسلسل المعنى وإتساقه نجده يسري من فعل إلهي خلال شهادة الكتاب، ليتجاوز هذا الفعل إلى حياة التلميذ الذي يؤمن بالمسيح وهو يدرس الكتاب، ليتبع نموذج الأفعال الإلهية[12].

     

    1 ترجم بتصرف عن كتاب:

     J.Ernest, The Bible in Athanasius of Alexandria, Boston, 2004.

    [2] The Preface, P.1X.

    [3] R.Wilken, The Spirit Christian thought, Yale university Press, 2003.

    [4] The Exegesis of scripture and the Arian controuay, BJRL. 41 (1959), 414 – 420.

    [5] Sieben’s dissertation on Athanasius biblical interpretation, Paris, 1968.

    [6] Sieben’s dissertation,12, translation of J.Ernest. Jbid,18.

    7 تورانس في علم التأويل، الجزء الأول ص448، حيث رفض القديس أثناسيوس تمييز العلامة أوريجينوس بين الروح والحرف عند بولس الرسول، وذلك بسبب أخذها من سياقها.

    [8] Torrance, “Hermeneutics”, Part1, P.454.

    [9] Ibid. P.P. 464 – 67.

    [10] Torrance, “Hermeneutics”, Part2. P.P 103-106.

    11 يقصد هنا التتابع المنطقي للأحداث وتسلسلها المترابط.

    12 فكر القديس أثناسيوس واضح هنا أكثر من باقي الأجزاء، المرجع السابق ص13.

    الكتاب المقدس في فكر آباءنا القديسين أنطونيوس وأثناسيوس

  • لماذا يختبئ الله ولا يتكلم معي؟ James Bishop

    لماذا يختبئ الله ولا يتكلم معي؟ James Bishop

    لماذا يختبئ الله ولا يتكلم معي؟ James Bishop

    لماذا يختبئ الله ولا يتكلم معي
    لماذا يختبئ الله ولا يتكلم معي

    يطرح الناس هذا السؤال لان الله لم يظهر لهم بالطريقة التي تناسب فكرهم .او بالمعني الصحيح التي يجب عليه ان يُظهر ذاته لهم بناءاً علي متطلباتهم .فلا يتساءل هؤلاء هذا السؤال لماذا ” ؟لماذا يتوجب علي الله الظهور لاي شخص بالطريقة التي يريدها الشخص نفسه؟ فهل الامر هو حقاً واجب علي الله ظهوره للناس بحسب الطلب والهوي؟ وهل الله لم يضع الكون ليشهد عن وجوده بشكل كافي .فكما يذكر الكتاب المقدس وضع العالم ليشهد عن الله ؟ فالاجابة علي هذا السؤال نقول نعم .فالامر ايضاً يتطلب ايمان ولا ينبغي ان نتجنب الناحية الايمانية ونتجاهلها .يوضح الكاتب والمبشر رافي زكرياس الاتي .

    ” جعل الرب العالم بشكل كافي لندركه ولنؤمن به وهو الشئ الاكثر منطقية . و تَرَك منه ما يجعل الحياة بالمنطق المُجرّد أو المُلاحظة وحدها مُستحيلاً.” (1)

    فيسوع نفسه تكلم عن الشق الايماني في مرقس 10 : 52 , متي 17 : 20 . وكان يحزن حينما يجد القلوب الفاتره لديها نقص ايماني كما جاء في مرقس 6 : 5 . ويتكلم بولس الرسول ايضاً عن الايمان ويؤكد عليه رومية 1 : 17 . وايضاً يتكلم في موضع اخر بما قام به الله لنا من خلال يسوع .في رومية 10 : 10 .ففي الواقع لا يمكن فصل الايمان في الاعتقاد بالله . فبدون ايمان لا يمكن ارضاؤه كما جاء في عبرانين 11 : 6 .هذا هو السبب في لماذا الله لا يظهر ذاته لأولئك الذين يرغبون في ذلك . فالايمان هو السعي الي الله والدخول في علاقة حقيقية معه .

    ثانياً الله غير مختفي بالفعل .هو يبدوا انه مخفي في الطريق الذي نتوقع منه وجوده .وعلينا ان نتذكر اننا نطرح هذا السؤال لان الانسان انفصل عن الله كما يخبرنا التكوين 3 : 17 وهذا نتيجة السقوط ومع ذلك كشف الله لنا عن نفسه من خلال يسوع الناصري .فيسوع يقف في قلب التاريخ ليراه الجميع .ففي الواقع خدمة يسوع تخضع للاستكشاف التاريخي والحقيق وهي لب ومنبع حقيقة المسيحية .يفسر لنا المؤرخ Jaroslav Pelikan هذا قائلاً :-

    “بغض النظر عن أي شخص قد نعتقد او نفكر فيه .كان يسوع الشخصية الاكثر بروزاً في تاريخ الثقافة الغربية لما يقرب من عشرين قرناً .وايضاً التقويم وبجوار اسمة يلعنه كثيرين وبجواء اسمة يصلي ايضاً كثيرين “

    وانا لا اعتقد ان هذا الامر ليس صدفة .فالله بالفعل وضع بصمته في التاريخ لنراه .واعتقد ان المرء قبل ان يذهب الي انكار الله ان يذهب ليري بصمت الله في التاريخ من خلال يسوع المسيح .

    فالله منظور لنا في العالم المادي .كما جاء في رومية 1 : 20 لأن أموره غير المنظورة ترى منذ خلق العالم مدركة بالمصنوعات، قدرته السرمدية ولاهوته، حتى إنهم بلا عذر. كتب Fred Hoyle عالم الفلك الانجليزي الشهير ذات مره “

    “A common sense interpretation of the facts suggests that a superintellect has monkeyed with physics, as well as with chemistry and biology, and that there are no blind forces worth speaking about in nature. The numbers one calculates from the facts seem to me so overwhelming as to put this conclusion almost beyond question”

    “الحس السليم في شرح الوقائع يشير الي ان superintellect عله تتحكم بقوانين بالفيزياء بالتوازي مع الكمياء بالتوازي مع الاحياء.وانه لا توجد قوي عمياء تستحق ان نتحدث عنها في الطبيعة.الارقام والحسابات من ضمن الحقائق الهائله التي تجعل هذا الاستنتاج غير قابل للشك ” (2)أأيسيسييسي

     

    فلم يكن هناك قوه عمياء تتحكم في الطبيعة واسفرت عن وجود هذا التصميم .ولا يوجد بديل لله ليفعل ..!َ

    وبولس يخبرنا ان الله كشف لنا عن ذاته من خلال ضمائرنا كما جاء في رومية 2 : 15 الذين يظهرون عمل الناموس مكتوبا في قلوبهم، شاهدا أيضا ضميرهم وأفكارهم فيما بينها مشتكية أو محتجة،ونحن نعلم جميعاً ان الضمير هو الاحساس الاخلاقي تجاه ما هو شر وما هو خير لذلك يعرف ب moral realism الواقعية الاخلاقية .علي الرغم ان بعض الناس تحاول ان تقتل ضمائرهم لانه في وجهة نظرهم يضعفهم في العالم.لكن ايضاً صورة الله انطبعت داخلنا لاننا علي صورته كما جاء في تكوين 1 : 17 ويوضح الفيلسوف ويليام كريج . ” انه في حاله عدم وجود الله لم يكون هناك معايير موضوعية للحق والباطل (3)

    وتكلم الرب مع انبياءه بشكل واضح فلم تكن الصوره المادية هي المرجوه فقد تعامل الله مع شعب بني اسرائيل بما هو مادي فما ان تاخر موسي صنعوا العجل ليعبدوه ..! فليس المقياس الصوره المادية .

    فيتسائل البعض لماذا لا يتكلم الله بصوت مسموع اليوم ؟

    ذلك لان الله تحدث بالفعل عن طريق الوحي الكتابي فلدينا كلمات الله .والوحي قد اكتمل الآن ووصل الي ما وصل اليه .لكن هل لا يزال الله يتكلم ايضاً بعيداً عن الكتاب المقدس ؟ بالطبع يستطيع ان يحدث الينا من خلال روحة القدوس . واشهد انا علي هذه الحقيقة وساكتب عليها فيما بعد .وعلي اي الاحوال متي اراد الله واين اراد الله ان يتكلم هو امر يخص مشيئته.وايضاً الخطية لها دور مهم في هذا الموضوع فالشخص الغير تائب الواقع في الخطية لا يري الله فتكرار الخطايا تصيبة بالصمم وتبعد الانسان عن علاقة حقيقية مع الله .

    وفي الختام نقول

    ان الله تحدث من خلال وسائط متعدده الي البشرية في ملئها .” الكون المادي , الكتاب المقدس , الضمير الاخلاقي ” واكثر هذه الوسائل حسماً هو يسوع التاريخي .فعندما نشعر انه غير موجود وانه لا يهتم حينما نصلي بصدق له هذا استنتاج .لكن هو قريب فكما جاء في ارميا 29 : 13 وتطلبونني فتجدونني إذ تطلبونني بكل قلبكم .فالرب يتمم ما هو صالح حسب مشيئته. فالانسان يري الظلمة ولا يري النور في اوقات الاحتياج

    واختم بمقوله فرانسوا فاريون

    “اثنان يتميزان بالخساسة عندما يعطي الله فنمدحه وعندما يحجب الله فنسخط عليه “

    المراجع

    1. Ravi Zacharias. 2004. The True Face of Atheism. p. 115.

    2. Hoyle, F. 1981. ‘The Universe: Past and Present Reflections’ in Engineering and Science. p. 8–12,
    3. Craig, W. Can We Be Good Without God
    4. Pelikan, J. Jesus through the Centuries.

  • Is Peter the rock on which the church is built? MATTHEW 16:18

    Is Peter the rock on which the church is built? MATTHEW 16:18

    MATTHEW 16:18—Is Peter the rock on which the church is built?

    PROBLEM: Roman Catholics use this passage to support their belief in the primacy of Peter, that is, that he is the rock on which the church is built. But Paul said the church is built on Christ, not Peter (1 Cor. 3:11). Is Peter the “rock” in this passage?

    SOLUTION: There are different ways to understand this passage, but none of them support the Roman Catholic view that the church is built on St. Peter, who became the first Pope—infallible in all his official pronouncements on faith and doctrine. This is evident for many reasons.

    First of all, Peter was married (Matt. 8:14), and Popes do not marry. If the first Pope could marry, why later pronounce that no priest (or Pope) can marry.

    Second, Peter was not infallible in his views on the Christian life. Even Paul had to rebuke him for his hypocrisy, because he was not “straightforward about the truth of the Gospel” (Gal. 2:14).

    Third, the Bible clearly declares that Christ is the foundation of the Christian church, insisting that “no other foundation can anyone lay than that which is laid, which is Jesus Christ” (1 Cor. 3:11).

    Fourth, the only sense in which Peter had a foundational role in the church, all the other apostles shared in the same way. Peter was not unique in this respect. For Paul declared that in this sense the church is “built on the foundation of the apostles and prophets, Jesus Christ Himself being the chief cornerstone” (Eph. 2:20). Indeed, the early church continued steadfastly in the apostles’ doctrine [not just Peter’s]” (Acts 2:42). Even “keys of the kingdom” given to Peter (Matt. 16:19) were also given to all the apostles (cf. Matt. 18:18).

    Fifth, there is no indication that Peter was the head of the early church. When the first council was held at Jerusalem, Peter played only an introductory role (Acts 15:6–11). James seems to have a more significant position, summing up the conference and making the final pronouncement (cf. Acts 15:13–21). In any event, Peter is never referred to as the “pillar” in the church. Rather, Paul speaks of “pillars” (plural), such as, “James, Cephas, and John” (Gal. 2:9). Peter (Cephas) is not even listed first among the pillars.

    Sixth, many Protestant interpreters believe that Jesus’ reference to “this rock” (Matt. 16:18) upon which His church would be built was to Peter’s solid (rock-like) testimony that Jesus was “the Christ, the son of the living God” (Matt. 16:16). But even if this rock has reference to Peter (Petros, rock), which is certainly a possible interpretation, he was only a rock in the apostolic foundation of the church (Matt. 16:18), not the rock. Nor is he the only apostolic rock. Even Peter himself admitted that Christ is the chief rock (“cornerstone,” 1 Peter 2:7). And Paul notes that the other apostles are all part of the “foundation” (Eph. 2:20).

    [1]

     

    [1]Geisler, N. L., & Howe, T. A. (1992). When critics ask : A popular handbook on Bible difficulties (347). Wheaton, Ill.: Victor Books.

  • It is not true that the medieval rabbis were the first to apply Isaiah 53 to Israel instead of the Messiah. The Israel interpretation is actually very ancient.

    It is not true that the medieval rabbis were the first to apply Isaiah 53 to Israel instead of the Messiah. The Israel interpretation is actually very ancient.

    It is not true that the medieval rabbis were the first to apply Isaiah 53 to Israel instead of the Messiah. The Israel interpretation is actually very ancient.
    You’re partially correct. The earliest reference to this interpretation is found in a second-century Christian source recounting a discussion between a Gentile follower of Jesus and some Jewish teachers who did not believe in him. But aside from one passing reference in Midrash Rabbah (where part of one verse is interpreted with reference to the righteous), a specific identification of Isaiah 53 with Israel is not found in any Rabbinic literature until almost one thousand years after Jesus. (In other words, it is not found in the Talmuds, the Targums, or in the midrashim.) Therefore, the view that Isaiah 53 spoke of Israel can hardly be considered a standard (or ancient) Rabbinic interpretation, and for the traditional Jew, that’s what really matters.
    There is really nothing puzzling here at all. The evidence is well known and has been fully accessible for centuries. The Rabbinic data is as follows:
         Targum Jonathan interprets Isaiah 52:13–53:12 (which, for simplicity in this discussion, we will simply call Isaiah 53) with reference to the Messiah, despite the fact that the Targum virtually rewrites the entire passage, changing the verses that speak clearly of the servant’s sufferings so that they speak instead of the suffering of the nations. This means the Messianic interpretation of the passage must have been quite prominent when the Targum was being formed, since it would have been much easier to not add the explicit reference to the Messiah (in 52:13) rather than to virtually rewrite the verses that seemed to contradict the expected role of the Messiah.131
         The Talmud interprets various verses in this section with reference to righteous individuals within Israel (including the Messiah) but never once with reference to the nation of Israel as a whole.132 The Jerusalem Talmud (Shekalim 5:1) applies 53:12 to Rabbi Akiva, while the Babylonian Talmud applies 53:4 to the Messiah in Sanhedrin 98b, 53:10 to the righteous in general in Berakhot 5a, and 53:12 to Moses in Sotah 14a.
         Midrash Rabbah interprets 53:5 with reference to the Messiah (Ruth Rabbah 2:14), while interpreting 53:12 with reference to Israel in exile (Numbers Rabbah 13:2). This last interpretation, offered in a passing interpretation of Song of Solomon 5:1, is the one and only time in the first thousand years of recorded Rabbinic literature that any portion of any verse in Isaiah 53 is applied to Israel as a nation.
         Yalkut Shimoni (a thirteenth-century compilation of earlier midrashic writings) applies 52:13 to the Messiah, stating that the Messiah—called the great mountain according to the Yalkut’s interpretation of Zechariah 4:7—is “greater than the patriarchs … higher than Abraham … lifted up above Moses … and loftier than the ministering angels” (2:571; see also 2:621). Isaiah 53:5 is applied to the sufferings of “King Messiah” (2:620),133 while 53:12 is applied to Moses (2:338), as in the Talmudic passage referred to above.
    Reviewing the above evidence, one thing is clear: The ancient rabbis—traditional Judaism’s most authoritative sources—almost always interpreted Isaiah 53 with reference to an individual rather than to Israel as a whole or to the righteous within Israel, and this individual was most commonly interpreted to be the Messiah. Once again, I cannot underscore how important this is for a traditional Jew, nor can I emphasize enough how this fact has largely been obscured by later interpreters: The Messianic interpretation was common among the ancient rabbis! As we noted above (4.6), even Rabbi Saʿadiah Gaon, the renowned leader of Babylonian Jewry in the ninth century, who did not interpret this chapter as Messianic, still follows the individual interpretation of the passage, explaining it with reference to Jeremiah. Surely, if the national interpretation had been common, he would have endorsed it, especially since it would have helped him in his polemics against the Christianity of his day.
    The first authoritative recorded instance of Isaiah 53 being interpreted with reference to national Israel is found in the commentary of Rashi (eleventh century), who interpreted it, however, in terms of the righteous remnant of Jacob. Not surprisingly, Ibn Ezra (twelfth century), who also read Isaiah 53 as speaking of the people of Israel, began his comments with the words, “This is an extremely difficult passage.” But when we read it with reference to Yeshua, it is not difficult at all. Rather, it is wonderfully clear, giving the reader the distinct feeling that the chapter was written after the Messiah’s crucifixion and resurrection. Despite the fact that Rashi, Ibn Ezra, and Radak (twelfth to thirteenth century) as well all stated that the servant of the Lord in Isaiah 53 was national Israel (or the righteous remnant within the nation)—rather than the prophet himself or the Messiah—many other Jewish commentators, even in our day, still claim that the servant of the Lord in Isaiah 53 is the Messiah.
    As stated above (4.6), the only ancient reference of any kind to the national interpretation of Isaiah 53 is actually found in a non-Jewish source, namely, a polemical work entitled Contra Celsum, written by the second-century Christian scholar Origen. In this work Origen refutes the arguments of an opponent of both Judaism and Christianity named Celsus, and while discussing Messianic prophecies, Origen makes reference to a disputation he once had with some learned Jews, stating that the Jews interpreted Isaiah 53 in terms of Israel’s national suffering:
    Now I remember that, on one occasion, at a disputation held with certain Jews, who were reckoned wise men, I quoted these prophecies; to which my Jewish opponent replied, that these predictions bore reference to the whole people, regarded as one individual, and as being in a state of dispersion and suffering, in order that many proselytes might be gained, on account of the dispersion of the Jews among numerous heathen nations. And in this way he explained the words, “Thy form shall be of no reputation among men;” and then, “They to whom no message was sent respecting him shall see;” and the expression, “A man under suffering.”
    Origen had an immediate reply to this line of interpretation:
    Many arguments were employed on that occasion during the discussion to prove that these predictions regarding one particular person were not rightly applied by them to the whole nation. And I asked to what character the expression would be appropriate, “This man bears our sins, and suffers pain on our behalf;” and this, “But He was wounded for our sins, and bruised for our iniquities;” and to whom the expression properly belonged, “By His stripes were we healed.” For it is manifest that it is they who had been sinners, and had been healed by the Savior’s sufferings (whether belonging to the Jewish nation or converts from the Gentiles), who use such language in the writings of the prophet who foresaw these events, and who, under the influence of the Holy Spirit, applied these words to a person. But we seemed to press them hardest with the expression, “Because of the iniquities of My people was He led away unto death.” For if the people, according to them, are the subject of the prophecy, how is the man said to be led away to death because of the iniquities of the people of God, unless he be a different person from that people of God? And who is this person save Jesus Christ, by whose stripes they who believe on Him are healed, when “He had spoiled the principalities and powers (that were over us), and had made a show of them openly on His cross?”134
    Outside of this one lone reference—from an ancient Christian source, not an ancient Jewish source—there are no ancient Jewish references to this national interpretation, an interpretation that does not become prominent until the biblical commentary of Rashi, who wrote more than four hundred years after the completion of the Babylonian Talmud.
    From this survey, it should be clear that your objection is completely unfounded.

    131 Cf. the discussion in Levey, The Messiah, an Aramaic Interpretation; see further Pinkhos Churgin, Targum Jonathan to the Prophets, repr. with Leivy Smolar and Moses Aberbach as Studies in Targum Jonathan to the Prophets (New York: Ktav, 1983).
    132 The question raised by the Ethiopian eunuch in Acts 8:34 (while reading Isaiah 53:7–8)—“Tell me, please, who is the prophet talking about, himself or someone else?”—is in keeping with this line of reasoning and is completely consistent with the most obvious meaning of the text.
    133 This interpretation is in the midrash to Psalm 2:6, dealing with the Hebrew word nasakti, interpreted here to mean, “I have woven him,” with reference to Judges 16:14, i.e., “I have drawn him out of the chastisements.” R. Huna, on the authority of R. Aha, says, “The chastisements are divided into three parts: one for David and the fathers, one for our own generation, and one for the King Messiah; and this is that which is written, ‘He was wounded for our transgressions, etc.’ ” See Driver and Neubauer, Fifty-Third Chapter of Isaiah, 2:10, for the translation.
    134 Origen, Contra Celsum (i.e., Origen Against Celsus), bk. 1, chap. 55 (5:218).
    Brown, M. L. (2003). Answering Jewish objections to Jesus, Volume 3: Messianic prophecy objections (58). Grand Rapids, Mich.: Baker Books.