أبحاث

المسيح المعلم (3) – دكتور جورج عوض إبراهيم

المسيح المعلم (3) – دكتور جورج عوض إبراهيم

المسيح المعلم (3) - دكتور جورج عوض إبراهيم
المسيح المعلم (3) – دكتور جورج عوض إبراهيم

المسيح المعلم (3) – دكتور جورج عوض إبراهيم

تحدثنا فى العددين السابقين عن: المسيح المعلّم وذلك من خلال نصوص الأناجيل الأربعة: متى، مرقس، لوقا، يوحنا، وعن لقب “معلّم” وهو الذى أُطلق على المسيح أكثر من أى لقب آخر، وطرحنا أسئلة تمثل الهدف من المقال مثل: ما الذى أعطى لتعليم المسيح هذه الجاذبية الدائمة؟ وكيف احتفظ هذا التعليم بفاعليته فى كل العصور؟

ثم تكلمنا فى القسم الثانى عن تعليم المسيح التربوى واستعرضنا “البيئة” التربوية التى عمل المسيح وعلّم فيها، ثم ملامح هذه التعاليم، وسوف نتكلم فى هذا المقال عن: الحرية والمسئولية فى تعاليم المسيح ثم البُعد الاجتماعى فى تعليمه التربوى.

 

5 ـ الحرّية والمسئولية

التربية المعاصرة تعطى تأكيدًا على عنصرين هما: (أ) حرية الاختيارات، (ب) المسئولية.

واليوم، تحت تأثير الانعكاسات النفسيّة لمجتمع يشكّك في القيّم التقليدية، حيث يفحص ويدين ويرفض كل ما كان مقبولاً بالأمس، تُعطى أهمية عظمى لقيّم الحرية وصدق أعمال وأفعال الإنسان النبيلة. الحرية والمسئولية يمثلان شرطًا لتكوين وعىّ صحى ناضج يعمل كمؤشر للاختيارات الأخلاقية للفرد.

هذا يعنى أن التربية ليست مجرد تخويل أو غرز قيّم تقليدية لمجتمع معين، لكن هى محصلة قيّم وأفكار قد تكون مضادة لبعض القيَّم والرغبات التى يتبناها أعضاء كثيرون لمجتمع معين. والعظة على الجبل تمثل تيارًا مثيرًا مضادًا لممارسات اجتماعية نمت في عصر المسيح. والمسيح في إطار هذه العظة ينادى بتعاليم تشكِّل تغيير جذرى للإنسان في المجتمع[1].

لقد نادى المسيح بتعاليم لتكون بمثابة مناخ يستطيع التلاميذ في إطاره أن يتعلّموا أن يكونوا أحرارًا، وأن يعملوا من أنفسهم. أيضًا يتعلّمون فى هذا الإطار ممارسة النقد الذاتى، أو أن يستثمروا مواهبهم في مجال الحياة العامة وفي مجال الحياة الشخصية.

 

أ ـ الحرّية والخوف

عندما يتحدث المسيح إلى الشعب نجده يظهر بكثرة مدى سلبية كلمة “الخوف” (راجع لو21:9، 5:8، مر36:5، رو4:13)، على الجانب الآخر يغرز فى نفوس الشعب الثقة والإيمان: ” ولا تخافوا من الذين يقتلون الجسد ولكن النفس لا يقدرون أن يقتلوها. بل خافوا بالحرى من الذي يقدر أن يهلك النفس والجسد كليهما في جهنم” (مت28:10). فالخوف يظهر كنتيجة لوجود الإنسان في الخطية إذ هو ثمرة عبودية نفسيّة وجسدية. وهو يؤثر على تصرفات الإنسان، ولقد وضّح المسيح له المجد نتائج الخوف من خلال الأمثلة التى كان يتحدث بها مع الشعب، فنجد فى مثل الوزنات ـ على سبيل المثال ـ يوضّح أن الخوف كان يسيطر على العبد الثالث الذي قال ” فخُفت ومضيت وأخفيت وزنتك في الأرض” (مت14:25 ـ30).

وعلى الجانب الآخر نجد أن المسيح في أحاديثه لم يعلّم بأن الإنسان سوف يتخلّص نهائيًا من الخوف بل أكد على أن البشر يجب أن يخافوا وهذا واقع بشرى: ” بل أريكم ممن تخافون. خافوا من الذي بعدما يقتل له سلطان أن يلقى في جهنم. نعم أقول لكم من هذا خافوا” (لو5:12).

والكتاب المقدس يوصينا أن نكون رجالاً فى الإيمان، والرجولة لا تعرف الخوف. وجدير بنا أن نتكلم عن الطفولة إذ دائمًا ما ترتبط بالخوف. كما أن مصطلح “طفل” فى الكتاب المقدس له مفهوم مزدوج:

المفهوم الأول: يتضمن ملمحًا خلاصيًا، فيشرح لنا القديس كليمندس الأسكندرى كيف أن السيد المسيح أطلق علينا لقب ” صغار” عندما نزع عنا ثياب الشرّ والخبث وألبسنا الحياة الأبدية فى المسيح، حتى نصبح خليقة جديدة مقدسين فى الولادة الجديدة[2].

المفهوم الثانى: يرتبط بالإنسان العتيق، إنسان الخطية ” هكذا نحن لما كنا قاصرين كُنا مستعبدين تحت أركان هذا العالم” (غل3:4). والقديس كليمندس الأسكندرى يوضّح معنى كوننا ” كنا قاصرين ” بقوله إننا كنا: ” أطفال أولئك الذين هم خاضعين للناموس”[3].

هكذا يربط كلمة “طفل” بالخوف عندما يقصد الإنسان الذى هو مستعبد للخطية والناموس بينما كلمة “رجل” هى بالنسبة له هو الإنسان الذى نال البنوة وصار ناضجًا فى المسيح. ومن هذا المنطلق فإن الطفولة فى إطار الخلاص تأخذ محتوى جديدًا فى علاقتها بالناموس: “الطفولة التى فى المسيح هى نضج بالمقارنة بتلك التى فى الناموس”[4].

إن توظيف قدرات الإنسان بهدف التغيير الذي يتخطى الواقع الذي يحرم الإنسان من حقوقه يتم بدافع من الحرية الحقيقية ومسئولية الإنسان نفسه.

هذا العمل يمكن أن يقود أيضًا إلى التشكيك فى المعتقدات والنُظم البالية التي تتحكم في تصرفات الإنسان. على سبيل المثال، في (لو2:15) ” تذمر الفريسيون والكتبة قائلين هذا يقبل خطاة ويأكل معهم“، هنا نجد أن اليهود أدانوا المسيح لعدم توافقه مع تقاليد المجتمع العبرى. وقد صار تلاميذه على نهجه هذا، لذا نجد أن اليهود قد أدانوهم هم أيضًا قائلين: ” لماذا يتعدى تلاميذك تقليد الشيوخ. فإنهم لا يغسلون أيديهم حينما يأكلون خبزًا” (مت2:15). وقد سأل الفريسيون المسيح: ” لماذا لا يسلك تلاميذك حسب تقليد الشيوخ بل يأكلون خبزًا بأيدٍ غير مغسولة” (مر5:7). لكن أى تقليد يذكرونه؟ إن إجابة يسوع كانت مفحمة ” لأنكم تركتم وصية الله وتتمسكون بتقليد الناس. غسل الأباريق والكؤوس وأمورًا أخرى كثيرة مثل هذه تفعلون” (مر8:7). وهكذا نجد أنه عندما نكون أحرارًا “فى المسيح” فإننا لن نكون خائفين إذا تجرأنا على مخالفة تقاليد عالمية هى من وضع البشر.

 

ب ـ الحرّية كشهادة حياة

لقد تصرف المسيح بحرية، إذ هو الرب، الإله الخالق والمُشرِّع، لهذا نجد حديثه عن الناموس كان لا لكى ينقضه بل ليكمّله، فقد جاء من أجل خلاص الإنسان، فكل ما عمل وعلّم به قائم على أساس على اهتمامه بشخص الإنسان واحتضانه الدائم لمبدأ المحبة. هكذا اختار مواجهة الموت المحقق في أورشليم بالرغم من تحذير التلاميذ وخوفهم الشديد عليه. وحريته هذه وصلت إلى قمة العظمة الإلهية عندما منح الغفران لصالبيه.

انشغل المسيح بالكشف عن الجذور الأصيلة للتقليد محاولاً أن يفصل نواة التعليم الأول عن التعليم التقليدى المزيّف الذي شوّه المحتوى الأصيل للتعليم. لم يرفض المسيح السلطة المدنية في المجتمع لكن إرادة الله ـ بالنسبة له ـ تسبق كل القيّم البشرية: ” حينئذٍ جاء إلى يسوع كتبة وفريسيون من أورشليم قائلين لماذا يتعدى تلاميذك تقليد الشيوخ. فإنهم لا يغسلون أيديهم حينما يأكلون خبزًا. فأجاب وقال لهم وأنتم أيضًا لماذا تتعدون وصية الله بسبب تقليدكم. فإن الله أوصى قائلاً أكرم أباك وأمك. ومَن يشتم أبًا أو أمًا فليمت موتًا. وأما أنتم فتقولون مَن قال لأبيه أو أمه قربان هو الذي تنتفع به منى، فلا يُكرِم أباه أو أمه. فقد أبطلتم وصية الله بسبب تقليدكم. يا مراؤون حسنًا تنبأ عنكم إشعياء قائلاً يقترب إليَّ هذا الشعب بفمه ويكرمنى بشفتيه وأما قلبه فمبتعد عنى بعيدًا، وباطلاً يعبدوننى وهم يعلمون تعاليم هى وصايا الناس” (مت1:15ـ9).

هكذا لم يُبطل المسيح الناموس، لكن بالحرى أكمله وحارب التفسيرات الخاطئة للناموس موضحًا المفهوم العميق بهدف تعميق هذا المفهوم فى نفوس مستمعيه. لقد علّم بسلطان لكن أعلن ـ فى نفس الوقت ـ احترامه واهتمامه بحرية كل شخص وخلاصه. لقد نادى العهد القديم بالحرية والاختيار ” أُشهد عليكم اليوم السماء والأرض. قد جعلت قدامك الحياة والموت. البركة واللعنة. فاختر الحياة لكى تحيا أنت ونسلك” (تث19:30).

إذن لقد أعطى المسيح أهمية جوهرية لهذه الحرية، والتي عبَّر عنها في مثل الابن الضال وموقف أخيه الأكبر. ولم يحاول أن يجبر الغنى على أن يتبعه (مت22:19). وترك الحرية حتى للاثنى عشر تلميذًا فى أن يمضوا: ” فقال يسوع للاثنى عشر ألعلكم أنتم أيضًا تريدون أن تمضوا” (يو67:6)، ولم يجبر الجموع التى أشبعها على الجبل على أن تمضى وراءه بل تركها. وفى موضع آخر نجده يقول: ” ثم قال لهم مَن له أذنان للسمع فليسمع ” (مر9:4). لقد كان معلّمًا بالحق حتى وإن تعارض هذا الحق مع كثير من رؤساء اليهود فى عصر، ممن مارسوا دورًا تعليميًا مليئًا بالتملق والنفاق.

 

ج ـ المسئولية كتعبير لإدراك مفهوم الحرية

لم يتردد المسيح في أن يدعو بمبادئ محدّدة عن شروط التلمذة له، مثل: ” إن أراد أحد أن يأتى ورائى فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعنى” (مت24:16). لقد رسم أمامهم مسيرة تضحية وإنكار ذات، مسيرة يمكن أن تقودهم إلى الموت، مسيرة نجد قمتها في محبة الأعداء. وهذا هو مفهوم الحرية فى المسيح والمقترنة بالمسئولية.

لقد كان هدف المسيح هو تغير قلوب المؤمنين وليس محاربة الناموس ولا التقليد. هكذا أجاب على الناموسى الذي كان يجرّبه قائلاً: ” يا معلّم أية وصية هى العظمى في الناموس” (مت36:22). بل إنه أقنع ليس فقط هذا الناموسى، بل كل خصومه أيضًا ” فلم يستطع أحد أن يجيبه بكلمة. ومن ذلك اليوم لم يجسر أحد أن يسأله البتة” (مت46:22).

لقد حرّر المسيح الإنسان من كل أنواع الأوهام البشرية، والقيم الخاطئة، والعبادة الشكلية والغنى الباطل والسعادة البشرية الزائفة. هذا التحرر يتضّح فى عنصرين أساسيين هما:

* إنكار الذات

* حمل الصليب

فعلى التلاميذ أن يخرجوا القذى من عيونهم أولاً (مت5:7) وسوف يتحررون من القلق على ذواتهم، وعلى غذائهم وملابسهم، ومن الانتقام والحقد ضد الأعداء. لقد طالبهم بأن يروا العدو كأخ لهم، بل ويحبوه أيضًا. فكان ينبغى على التلاميذ وبدافع المسئولية أن يلاحظوا بتمييز ووعى تصرفات البشر، ولهذا فقد دعاهم أن يلاحظوا الاختلاف، على سبيل المثال، بين ما يقوله الفريسيون وما يفعلونه، وبين تقدمة الأرملة صاحبة الفلسين وتقدمة الغنى، وبين صلاة الفريسى وصلاة العشار. وفضّل لهم أن يعرفوا فقط اعلان الحق ” وتعرفون الحق والحق يحرركم“(يو32:8)، وأن يؤمنوا بابن الله الوحيد الذي يستطيع أن يحرّر الإنسان ” فإن حرركم الابن فبالحقيقة تكونون أحرارًا” (يو36:8).

لقد علَّم المسيح بأن الأفضلية في اختيارات الإنسان هى تحقيق ملكوت الله: ” اطلبوا أولاً ملكوت الله وبرّه” (مت33:6). وكل الأشياء الأخرى التي تقع في مجال الضرورات المعيشية سوف تتوفر بواسطة عناية الله: ” اسألوا تُعطوا. اطلبوا تجدوا. اقرعوا يُفتح لكم ” (مت7:7).

لقد أراد المسيح تكثيف عمله التربوى على فريق صغير من التلاميذ. لقد حرص على أن يفتح عيونهم ويقودهم إلى سر الآلام البشرية. لقد كان تعليم المسيح مختلف عن تعلّيم الرابونيين في عصره (لو58:9، مر18:1). لقد كانت دعوته فريدة كما فهمها بولس الرسول وعبّر عنها قائلاً: ” صرت للضعفاء كضعيف لأربح الضعفاء. صرت للكل كل شئ لأخلّص على كل حال قومًا” (1كو22:9).

وعلى عكس الرابونيين، وجّه المسيح دعوة شخصية للتلاميذ (مر17:1، 14:2)[5]. فلقد علّم المسيح تلاميذه بأن الطريق صعب، هو طريق “الألم” (مت17:1ـ30، لو12:21، 23:22)، لذا تركزت تعاليمه التربوية في الاستعداد لمواجهة تيار الشر والضلال والظلمة.

وأخيرًا نختم هذه السلسلة من المقالات عن “المسيح المُعلّم” بالحديث عن:

 

البُعد الاجتماعى لتعليم المسيح التربوى:

اليوم تتجه الأنظار ناحية البُعد الاجتماعى للرسالة الدينية وأهمية هذا البُعد في اقتراب الشعوب من بعضها وتحقيق حلمها في إتحاد العالم كله. لكن هذا لا يعنى بالتأكيد غياب عنصر استغلال الدين من قِبَل البعض لأغراض إثنية وعرقيّة وذلك بالمناداة بتفضيل شعب على باقى شعوب العالم. أو استغلال الدين لتحقيق مصالح اقتصادية وثقافية وسياسية لدول تهدف إلى توسع وامتداد مجال نفوذها.

لكن يجب أن يعمل الدين ـ على وجه العموم ـ على إنشاء علاقة بين الإنسان والله، وبين الإنسان وإخوته في الإنسانية. والدين ـ في هذا الإطار ـ هو بمثابة احتياج وجودى بالنسبة للإنسان، هو احتياج لصنع شركة مع الآخرين. هذه الشركة والتواصل مع الآخرين ـ في إطار الديانة ـ هى عنصر مُحفِّز للفرد ليصنع شركة في نظام اجتماعى معين.

بالنسبة للرسالة المسيحية نؤكد على أن الملمح الأساسى في تعليم المسيح كان هو إعادة الشركة الحقيقية بين البشر والله، وبين البشر بعضهم ببعض. إن ملكوت الله الذي كرز به المسيح هو تجلى العالم القديم إلى عالم جديد، وإعادة الوحدة لمجتمع منقسم يُبنى على أساس مبدأ المحبة الذي هو الملمح الأساسى لهوية الشخص الذي هو عضو في هذا المجتمع الجديد.

يؤكد العهد القديم على عنصر الشركة، فتعليم الأنبياء ينادى بأن تجديد الإنسان وإعادة خلقته من جديد يساهم في خلق مجتمع جديد. العهد القديم لم ينادى بديانة فردية لكن إيمان الإنسان وتدّينه له دور فعّال في خدمة المجتمع. فالاعتقاد بأن الإنسان يكون بالحق إنسانًا يعتنى بأخيه، هو اعتقاد محورى في أنثربولوجية[6] العهد القديم. فالشعب العبرانى اُختير ليصير معلّمًا للعالم، يُعلّم البشر عن الله والحياة التي يسودها الفرح وكذلك العدل والسلام: ” فاحفظوا واعملوا. لأن ذلك حكمتكم وفطنتكم أمام أعين الشعوب الذين يسمعون كل هذه الفرائض فيقولون هذا الشعب العظيم إنما هو شعب حكيم وفطن. لأنه أى شعب هو عظيم له آلهة قريبة منه كالرب إلهنا في كل أدعيتنا إليه. وأى شعب عظيم له آلهة قريبة منه كالرب إلهنا في كل أدعيتنا إليه. وأى شعب هو عظيم له فرائض وأحكام عادلة مثل كل هذه الشريعة التي أنا واضع أمامكم اليوم ” (تث6:4ـ8).

لكن هذا الشعب انغلق على ذاته وسجن نفسه في سجن الإثنيه الدينية. لذا فتح المسيح الديانة اليهودية على الجنس البشرى لكى يحقق رسالته المسكونية. فبموته وقيامته غيّر نتائج برج بابل الوخيمة والتي قسَّمت العالم وجزئته، وجذب كل البشر نحو ذاته في علاقة شخصية معه. هكذا أُزيلت الحواجز مثل: يهودى ويونانى، ذكر وأنثى، حُر وعبد (انظر كو11:3). إن تعاليم المسيح ضد كل أشكال الشر والظلم ـ على المستوى الشخصى والاجتماعى ـ تشدد على البُعد الاجتماعى وأهميته. فالتجسد الإلهى باتحاد الطبيعة الإلهية بالطبيعة الإنسانية جعل الخلاص حقيقة واقعة داخل بُعد تاريخى محدد وليس شئ مجرد.

فالمحبة التي نادى بها المسيح لا تهدف إلى مجرد تجمع أو تكتل بشرى. بالعكس كان المسيح يقترب من البشر من خلال علاقات فريدة، فالمسيح اهتم بكل شخص على حده (مرثا، نيقوديموس). نجد أيضًا في الإنجيل قصة السامرية التي كانت عند بئر يعقوب وعلاقة المسيح بها، أيضًا قصة المرأة التي أُمسكت في ذات الفعل، كل هذه الأمثلة تظهر تشدّيد المسيح على الاهتمام بكل نفس، ولهذا فقد منحهم سلامًا فى داخلهم وساعدهم لاكتشاف ذواتهم بعدما كانوا مهمّشين في المجتمع، فالاهتمام بالبشر بالنسبة له لا حدود له: ” وأما أنتم فحتى شعور رؤوسكم جميعًا محصاة” (مت30:10).

أيضًا أعلنت لنا الأناجيل كيف أن المسيح صنع معجزة شفاء لشخص بفضل إيمان شخص آخر، فمثلاً نظر الله إلى إيمان الأب وشفى ابنه المصاب بالصرع، أيضًا نظر إلى إيمان الأصدقاء الأربعة وشفى صديقهم المفلوج (انظر مر14:9).

لقد كان هدف المسيح تكوين مجتمع يتواصل فيه الأشخاص فيما بينهم وليس تجمع لأفراد منفردين، وبالرغم من أن هذا المجتمع الذي ينشده المسيح هو شركة لأشخاص معينين إلاّ أنه هو منفتح ولا يتأسس على ملامح ومواصفات منغلقة. فالمجتمع الذي ينشده المسيح هو مجتمعًا منفتحًا تجاه الجميع فيما عدا هؤلاء الذين يرفضون دعوته. وهذا المجتمع الذي هو بمثابة تحقيق لما كرز به المسيح عن إعادة الشركة بين البشر والله يُرمز له بمائدة العشاء التي كان الفقراء والمهمّشون مدعون إليها للتناول من خيراتها (انظر لو16:14ـ20). سوف يتجمع البشر من كل أرجاء الأرض لكى يجلسوا في المائدة (انظر لو29:13). والولائم الكثيرة التي اشترك فيها المسيح وذُكرت في الأناجيل تظهر رسالة المسيح في إعادة العلاقة بين الخطاة والله وذلك في إطار الحياة الجديدة، أى في إطار ملكوت الله.

إن تعليم المسيح التربوى ينادى بإمكانية تطبيق الكلمة الإنجيلية على كل مستويات الحياة اليومية. لقد أشار المسيح إلى مواقف اجتماعية وثقافية وسلوكية كان يتميز بها عصره بهدف أن يجذب بتعليمه الكل تجاه الله. لقد أراد المسيح أن يكوّن جماعة مسكونية من التلاميذ. فالتلميذ مدعو لأن يصير مثل المسيح بمعنى أن يعلّم وأن يشفى وأن يصلى وأن يواجه الشر وخطية العالم بحسب نموذج المسيح (انظر مر13:3ـ16). على التلميذ ألاّ يكون شخصًا متسلطًا على الآخرين بل عليه أن يكون مثل المسيح متحررًا من الخوف والقلق ومتحررًا من قيود الخطية ومن أى اهتمام معيشى حتى يستطيع أن يخدم أخيه في الإنسانية: ” أن يُعطينا إننا بلا خوف مُنقذين من أيدى أعدائنا نعبده. بقداسة وبر قدامه جميع أيام حياتنا ” (لو74:1ـ75). ” لذلك أقول لكم لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون وبما تشربون. ولا لأجسادكم بما تلبسون. أليست الحياة أفضل من الطعام والجسد أفضل من اللباس. انظروا إلى طيور السماء إنها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن. وأبوكم السماوى يقوتها. ألستم أنتم أفضل منها…” (مت25:6ـ33).

أيضًا على التلميذ أن يكون خادم للكل وخاصةً للمظلومين ومستعد أن يبذل حياته من أجل الآخرين (مر35:10ـ45). لقد ساعد المسيح البشر في مواجهتهم للمشاكل المعيشية والسلوكية والروحية. لذا كانت حياته مملوءة بنشاطات وأفعال تعبّر عن محبته تجاه المتألمين مثلما صوّرت في مثل السامرى الصالح ووصلت إلى قمتها فوق الصليب. هكذا فإن حياة المسيح هى نموذج ” Model ” للبشر ليصيروا تلاميذ وعلى عاتقهم مهمة تغيير العالم: ” مَن أراد أن يصير فيكم عظيمًا يكون لكم خادمًا. ومَن أراد أن يصير فيكم أولاً يكون للجميع عبدًا. لأن ابن الإنسان أيضًا لم يأت ليُخدم بل ليخدم ويبذل نفسه فدية عن كثيرين” (انظر مر43:10ـ45)، أيضًا (انظر يو5:13).

كما أننا نجد في النصوص الرعوية للرسل وصايا تنصح المؤمنين ليتمثلوا بالمسيح ويسلكون بحسب مثال المسيح: ” فليكن فيكم هذا الفكر الذي في المسيح يسوع أيضًا. الذي إذ كان في صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله” (في5:2، 6)، ” فكونوا متمثلين بالله كأولاد أحباء. واسلكوا في المحبة كما أحبنا المسيح أيضًا وأسلم نفسه لأجلنا قُربانًا وذبيحة لله رائحة طيبة” (أف1:5ـ2). ” لأنكم لهذا دُعيتم. فإن المسيح أيضًا تألم لأجلنا تاركًا لنا مثالاً لكى تتبعوا خطواته” (1بط21:2). والقديس يوحنا الإنجيلى يقول: ” مَن قال إنه ثابت فيه ينبغى أنه كما سلك ذاك هكذا سلك هو أيضًا” (1يو6:2).

كذلك الكنيسة ـ بحسب إنجيل متى ـ تحتضن الكل وتصلى: ” أبانا الذي في السموات” وفي إطار الكنيسة لا يُزدرى أحد (مت10:18)، ولا يُدان (مت1:7) وعندما يضل لا يُهجر ويُترك (مت12:18ـ14)، والأخ يغفر لأخيه مرات لا حصر لها (مت22:18). فالبشر هم اخوة لأن لهم أب واحد ومعلّم واحد. الكنيسة تنفتح على الجميع وتُعطى قيمة ثمينة للطاعة لله وتهتم في نفس الوقت بكل جوانب حياة المؤمن. إن العطية المميّزة للمسيحية هى شعور الجماعة إذ تمنح البشر فرصة فريدة للتمتع بالأمان والرضى واحترام الذات.

ومن الجدير بالملاحظة أن سفر الأعمال يقدم وصفًا رائعًا لمجتمع مثالى نشيط، نجد فيه حلولاً لمشاكل البشر اليومية، تلك المشاكل التي عاقت روما آنذاك ـ ومازالت تعيق المجتمع الدولى في أيامنا ـ في تحقيق أهدافه. هكذا نجد في هذا المجتمع ـ الذى يصفه سفر الأعمال ـ مبادئ اجتماعية رفعت المرأة إلى مكانتها الصحيحة، واستعادت كرامة العامل وأبطلت التسول والعبودية. والثورة التى حدثت فى هذا المجتمع تمثلّت في زوال الأنانية والطبقيّة بين المؤمنين المشتركين في تناول العشاء الإفخارستى. فقد صارت شركة المحبة هى الأساس الجديد لهذا المجتمع.

وبالرغم من أن التربية ـ كنظام ـ تعكس هوية المجتمع الذي يمارس هذه التربية، إلاّ أن التربية “بحسب المسيح” لا تتطابق مع أى نظام تربوى إثنى (قومى) ولا تخدم احتياجات فرقة أو مجموعة معينة أو شعب معيّن لأن المسيح يعلن لنا أن ملكوته ” ليس من هذا العالم“.

لكن لا نستطيع أن نتجاهل أن المسيح مارس عمله التعليمى في إطار واقع تاريخى معين وأنه توّجه إلى شعب معين هو الشعب العبرانى بملامح قومية واضحة. وهنا نجد أنفسنا أمام أسئلة تفرض نفسها علينا مثل:

1ـ هل تجاوب المسيح فى تعاليمه مع خصوصيات الشعب الإسرائيلى لكى تكون له فاعلية؟

2ـ بأى طريقة نستطيع أن نتخطى العناصر القومية لشعب معين لكى يكون تعلّيم المسيح مقبولاً لكل الأمم؟

3 ـ كيف صارت لتربية المسيح ملامح مسكونية جامعة مع أنها انطلقت فى البداية لرد بيت إسرائيل الضال ؟.

إن كل ما يخص عناصر الاختلاف بين الشعوب من جهة الثقافة وطرق التفكير ليست عناصر سلبية من جهة قبول كلمة الإنجيل. فالقلق الوجودى والأزمة الروحية الأخلاقية تجعل الإنسان يغوص في المسائل الجوهرية التي لها ملمح مسكونى، فسؤال بيلاطس للمسيح له هذا الملمح المسكونى، إذ سأل المسيح قائلاً: ” ما هو الحق” (يو38:18)، فهناك حاجة إلى أن نتحرر من المآزق التي تنتج من الانحصار في المذهب العقلى لكى يكتسب المرء القوة لطلب النور الذي لا يُطفئ والحق الذي يقود إلى الخلاص. والمسيح تجاوب مع هذا المطلب المسكونى عندما ظهر كمعلّم ومخلّص ليس لشعب واحد فقط بل لكل العالم. ومسكونية تعليم المسيح تتأسس على العناصر الآتية:

أ ـ مسكونية رسالته: كان هو النور الذي ينير كل إنسان آتيًا إلى العالم ” (يو9:1). “وهذه هى الدينونة أن النور قد جاء إلى العالم وأحب الناس الظلمة أكثر من النور لأن أعمالهم كانت شريرة ” (يو19:3). ” مادمت في العالم فأنا نور العالم ” (يو5:9). ” أنا قد جئت نورًا إلى العالم حتى كل مَن يؤمن بى لا يمكث في الظلمة ” (يو46:12).

ب ـ شمولية الهدف من تعليمه: لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكى لا يهلك كل مَن يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية” (يو16:3). ” إن الأمم شركاء في الميراث والجسد ونوال موعده في المسيح بالإنجيل” (أف6:3).

ج ـ المسيح مخلّص العالم: … ونعلم أن هذا هو بالحقيقة المسيح مخلّص العالم” (يو42:4). ” لأننا لهذا نتعب ونعير لأننا قد ألقينا رجاءنا على الله الحى الذي هو مخلص جميع الناس ولا سيما المؤمنين” (1تي10:4). ” وهو كفارة لخطايانا. ليس لخطايانا فقط بل لخطايا كل العالم أيضًا” (1يو2:2).

د ـ إتحاد الكل: ولى خراف أُخر ليست من هذه الحظيرة ينبغى أن آتى بتلك أيضًا فتسمع صوتى وتكون رعية واحدة وراعِ واحد” (يو16:10). ” وأنا أعطيتهم المجد الذي أعطيتنى ليكونوا واحدًا كما أننا نحن واحد” (يو12:17). ” وصنع من دم واحد كل أمة من الناس يسكنون على كل وجه الأرض ” (أع26:17).

إن العناصر السابقة تمثل محاور مسكونية في تعليم المسيح لأنه:

+ تجسد لأجل خلاص العالم. + صار نورًا ليضئ لكل العالم.

+ صار هو الحق الذي يحمل كل البشر إلى المعرفة. + استعاد في شخصه وحده الكل.

 

الشركة فى المسيح تحقيق للمسكونية :

إن ملكوت الله كشركة يتطلب تعاليم واستلزمات للانضمام إليه مثل أى مجتمع شركة يضع بنيته التي تحدد نظامه: ” ليس كل من يقول لى يا رب يا رب يدخل ملكوت السموات. بل الذي يفعل إرادة أبى الذي في السموات” (مت21:7، انظر مر47:9، لو21:17). بالرغم من أن ملكوت الله سيأتى بغتة لكن علاماته هى منظورة من لحظة التجسد، من حياة الرب ونشاطه. إن ملكوت الله لا يتطابق مع أى أيدولوجية عالمية لأنه “ليس من هذا العالم”.

 

بتجسد الكلمة، دخل الإنسان في مسيرة إعداد “بالروح القدس” لكى تكون له إمكانية التغيير الوجودى المطلوب للانضمام لملكوت الله. لكن هذا العمل لا يُنفذ أو يتم على المستوى الفردى لكن تتم ” في شركة “. أنتم الذين اعتمدتم قد لبستم المسيح ” الأمر الذي يشكل إطار الكنيسة الاجتماعى. الكنيسة كشركة أشخاص لها ملامح واضحة وأهداف وطرق ووسائل حياتية وقيم تعبّر عن هذه الكنيسة. إن تعليم المسيح مقدَّم للكل بغض النظر عن قوميته أو الطبقة الاجتماعية التي ينتمى إليها. وهدف هذا التعليم ـ كما قلنا سابقًا ـ تغيير الإنسان لكى ينضم إلى أعضاء ملكوت الله. وهذا يتطلب تربية ” فى المسيح” إلى أن “يتصور المسيح” في قلوبنا (غلا19:4). فالمبادئ التي تحكم هذه الشركة وتؤّمنها يضعها المسيح مؤسس الكنيسة ومعلّمها. صار المسيح كآدم الثانى جذرًا للبشرية التي هى مدعوة لأن يصير لها فكر المسيح. والشركة تستلزم من العضو أن يضع “الأنا” في إطار “نحن” بحسب قول بولس الرسول: ” وأما أنتم فجسد المسيح وأعضاؤه أفرادًا” (1كو27:2). لكن في كل الأنظمة الاجتماعية التي تنتمى للعالم نجد تنظيم العلاقة الاجتماعية بين الأعضاء لا تعتمد على اختيارات فردية بل تخضع لإجراءات آلية محددة. أما ملكوت الله كشركة أشخاص يؤّمن فرادة الشخص وتميّزه وسط شركة المحبة، ولذا نلاحظ فى النظم الاجتماعية الآتى:

1ـ أنها تضع سدودًا وحواجز أمام الشخصية البشرية بدافع مصلحة المجموع.

2ـ تعتبر أفراد المجتمع آلات تخدم احتياجات ومصالح المجموع. أما المجتمع الذي ينتمى لملكوت الله فهو يتبنى حرية الشخص، فهو يريد القبول الحُر للإنسان ولا يؤمن بالإجبار، وهذا نراه في قول العذراء مريم: ” هوذا أنا أمة الرب ليكن لى كقولك” (لو38:1).

3ـ إنها أنظمة لا تعطى اهتمامًا للعلاقات الشخصية بل تتبنى نماذج نمطية جامدة نابعة من أيدولوجية معينة.

أما الانضمام إلى ملكوت الله فإنه يتحقق داخل علاقة شخصية بين الإنسان والله، وفي إطار هذه العلاقة لا تُقدّم نماذج نمطية جامدة للسلوك أو قوانين معينة للسلوك، لكن تقدّم مؤشرات توجِّه الشخصية لكى تعبّر عن نفسها مسترشدة بالمسيح الذي هو النموذج الفائق فى خدمة البشرية كلها.

 

تعديلات خاصة بموضوع المسيح المعلّم

الصفحة/ السطر

الأصل

التعديل

62/ 23

للسبوت

لاجتماع يوم السبت

63/ 17

أرسطوقراطية

النخبة المثقفة

63/الأخير

بالنسبة ليسوع (إلى آخر الفقرة

(يُحذف)

64/الأخير

لا يثق فى الإنسان لكى يربيه

يثق فى الله ثقة مُطلقة

66/ 18

البصخة

الفصح

67/ 7

ترحالاً

سعيًا

67/ عنوان

1ـ البيئة التربوية فى عمل المسيح

1ـ الظروف التربوية التى علّم فيها المسيح

67/22

البيئة (وكل ما تحت العنوان)

الظروف

68/ 16

قاد تدريجيًا إلى منعه من الذهاب إلى المجمع

(تُحذف)

69/ 14

التناقضات

المتناقضات

69/15

تعبير متطرف أو مبالغة

تعبيرات صعبة

69 /25

السخيرة أو التهكم المضحك كما فى تلك الصورة المؤثرة

التوبيخ

70/3

للألغاز

لكلمات تبدو غامضة

70/4

تستفز

تثير

70/9

استنزاف زمن حضوره

وجوده بيننا فى الجسد

70/15

التعابير

التعبيرات

70/19

متناقضات تستفز

تناقضات تثير

71/عنوان

ج ـ التوازى المعاكس

ج ـ التوازى المتباين

71/5

الحديث هنا عن توازى معاكس

الحديث يعكس توازيًا متباينًا

71/5

المفاهيم المعاكسة

المفاهيم المتباينة

71/6

يلغى

يضاد

71/الأخير

كتابتها

تسجيلها

73/23

أو سخيرة أو تهكم

أو توبيخ

74/7

الدرامى

المأساوى

75/20

الديانة

الرسالة المسيحية

75/24

جماعة المسيح

تلاميذ المسيح

76/12

الأعمال

أعمال المحبة

76/18

وأمامهم أعلن الحرب

وواجههم بقوة

 

 

[1] Agour…dou S, H ep… toà Ðrouj omil…a toà Ihsoà, Aq»na 1984.

[2] انظر كليمندس الأسكندرى: المربى، دار فيلوبارترون، الجزء الأول، طبعة أولى 1994، ص38و39.

[3] المرجع السابق: ص 39.

[4] المرجع السابق.

[5] Loshe, E, Ep…tomh qeolog…a t»j kain»j Diaq»khj, Metafr. Agour…dou S, Artoj zw»j, Aq»na 1980,sel.60.

[6] كلمة أنثروبولوجية هى علم الإنسان.

تقييم المستخدمون: 4.1 ( 1 أصوات)