أبحاث

القدرة الكلية الإلهية – الله والإنسان والألم – سي إس لويس

القدرة الكلية الإلهية – الله والإنسان والألم – سي إس لويس

القدرة الكلية الإلهية - الله والإنسان والألم - سي إس لويس
القدرة الكلية الإلهية – الله والإنسان والألم – سي إس لويس

القدرة الكلية الإلهية – الله والإنسان والألم – سي إس لويس

“لا شيء يتضمن تناقضاً يندرج تحت القدرة الكلية لله.”

توما الإكويني (Thomas Aquinas).

Summ. Theol., la Q, XXV, Art.4

“لو كان الله صالحاً. لكان سيرغب في أن يجعل مخلوقاته في أتم سعادة، ولو كان الله كلي القدرة والسلطان، كان سيتمكن من فعل ما يرغب فيه. لكن المخلوقات ليست سعيدة. لذلك فالله يفتقر إما إلى الصلاح أو إلى القدرة، أو إلى كليهما معاً.” هذه هي معضلة الألم، في أبسط صورها. إلا أن إمكانية حلها تعتمد على إظهار أن مصطلحي “صالح” و “كلي القدرة”؛ وربما كلمة مصطلح “سعيد”، هي مصطلحات ملتبسة وقد تشتمل على أكثر من معنى، لأننا لا بد أن نعترف منذ البداية أنه إذا كانت المعاني الشائعة المرتبطة بهذه الكلمات هي الأفضل. أو هي المعاني الوحيدة المحتملة لها، لكانت الحجة مفحمة. في هذا الفصل سأقدم بعض التعليقات على فكرة “القدرة الكلية لله” وفي الفصل الذي يليه على فكرة “صلاح الله”.

القدرة الكلية تعني: “القدرة على فعل جميع الأشياء أو كل شيء” (ملاحظة: المعنى الأصلي في اللاتينية قد يكون: “السلطان على أو في جميع الأشياء”. فأنا أقدم ما أعتقده أنه المعنى الحالي.) كما يخبرنا الكتاب المقدس أنه “عند الله كل شيء مستطاع”. إنه أمر شائع بما فيه الكفاية في الجدل مع غير المؤمن بوجود الله. أن يخبرنا أن الله، لو كان موجوداً ولو كان صالحاً، كان سيفعل هذه أو ذاك؛ ثم إذا أشرنا إلى أن الفعل مستحيل، نسمع الرد بالحجة المعاكسة، “لكني كنت أعتقد أنه من المفترض بالنسبة لله أنه يستطيع أن يفعل أي شيء”. وهذا يثير مسألة الاستحالة بأكملها.

في الاستعمال العادي، تتضمن كلمة “مستحيل” عامة جملة مقيدة تبدأ بتعبير “إلا إذا”. وهكذا من المستحيل بالنسبة لي أن أرى الشارع من المكان الذي أجلس فيه وأنا أكتب في هذه اللحظة؛ بمعنى أنه من المستحيل أن أرى الشارع “إلا إذا” صعدت إلى الطابق الأعلى بحيث أكون مرتفعاً بما يكفي أن أتخطى المبنى الذي يعترض رؤيتي للشارع. وإذا كانت ساقي قد كسرت كنت سأقول، “لكنه من المستحيل أن أصعد إلى الطابق الأعلى” – إلا أن هذه يعني، أنه مستحيل “إلا إذا” قام بعض الأصدقاء بحملي.

دعونا الآن نتقدم إلى مستوى مختلف من الاستحالة، بأن نقول “إنه من المستحيل على أي حال أن أرى الشارع طالما ظللت حيث أنا ويقي المبنى الذي يعترض رؤيتي للشارع حيث هو. “ويضيف شخص آخر، “إلا إذا كانت طبيعة الفراغ Space، أو الرؤية Vision، مختلفة عما هي عليه”. إنني لا أعرف ما يمكن أن يقوله أفضل الفلاسفة والعلماء عن هذا، لكن سيكون عليّ أن أجيب، “إنني لا أعرف ما إذا كان الفراغ والرؤية يمكن بأي حال من الأحوال أن يكونا بمثل تلك الطبيعة كما تفترض” (يقصد الكاتب هنا أن طبيعة الفراغ والرؤية هما ثوابت لا يمكن تغييرهما – المحرر).

من الواضح الآن أن الكلمات “يمكن بأن حال من الأحوال” هنا يمكن أن تشير إلى نوع من الإمكانية أو الاستحالة المطلقة التي تختلف عن الإمكانيات أو الاستحالات النسبية التي كما نفكر فيها. لا يمكنني أن أقول ما إذا كان الرؤية حول الزوايا، بهذا المعنى الجديد، ممكنة أم غير ممكنة، لأنني لا أعرف ما إذا كان بها تناقض ذاتي أم لا. ولكني أعرف تماماً أنها إذا كانت متناقضة ذاتياً فإنها تكون مستحيلة بصورة مطلقة. الأمر المستحيل بصورة مطلقة يمكن أيضاً أن يُطلق عليه “مستحيل جوهرياً” Intrinsically Impossible لأنه يحمل استحالة داخل ذاته، بدلاً من أن يستعيرها من استحالات أخرى والتي بدورها تعتمد على غيرها. فهو لا يرتبط به عبارة “إلا إذا” لأنه مستحيل تحت كل الظروف وفي كل العوالم وبالنسبة لكل العوامل.

“كل العوامل” هنا تشمل الله نفسه. فقدرته الكلية تعني القدرة على فعل كل ما هو ممكن جوهرياً، وليس على فعل ما هو مستحيل جوهرياً. لذلك يمكنك أن تنسب له المعجزات، لكن ليس الهراء أو الحماقة. لا يعد هذا حد لقدرة الله. فإذا اخترت أن تقول “يستطيع الله أن يعطي لأحد المخلوقات إرادة حرة وفي نفس الوقت يحجز عنه الإرادة الحرة”. فأنت لم تنجح في أن تقول أي شيء مفهوم عن الله: فتركيبات الكلام الفارغة التي بلا معنى لا تحصل فجئا على معنى لمجرد أننا سبقناها بكلمتين أخريين هما “يستطيع الله”. وهكذا يظل صحيحاً أن “كل الأشياء” مستطاعة لدى الله: لأن الاستحالات الجوهرية لا تعتبر “أشياء” بل تفاهات لا وجود لها.

فليس ممكناً لدى الله، كما هو ليس ممكناً بالنسبة لأضعف مخلوقاته، أن يقوم بتنفيذ بديلين متناقضين يستبعد أحدهما الآخر؛ ليس بسبب عالق يحول دون قدرة الله، لكن لأن الهراء يظل هراء حتى عندما نتكلم عنه بالنسبة لله.

لذلك يجب أن نتذكر أن الذين يقومون بالمجادلات كثيراً ما يقعون في أخطاء، إما بالجدل من خلال بيانات مغلوطة أو بسبب سهو أو إهمال في الحجة نفسها. وهكذا يمكننا أن نذهب إلى التفكير في أمور معينة باعتبارها ممكنة لكنها تكون في الحقيقة مستحيلة. والعكس بالعكس. (ملحوظة: على سبيل المثال، كل خدعة سحرية متقنة تقوم بشيء يبدو لجمهور المشاهدين بحسب البيانات التي لديهم وقوة منطقهم، أنه متناقض ذاتياً.) لذلك يجب علينا أن نتحلى بقدر عظيم من الحذر في تعريف تلك الاستحالات الجوهرية، التي لا تستطيع حتى القدرة الكلية الإلهية أن تقوم بها (يقصد الكاتب أن الله يضع قوانين أساسية في الخلق والحياة يلتزم بها – المحرر). ما يتبع إذاً، يجب اعتباره ليس توكيداً ومصادقة على ماهية هذه الاستحالات بقدر ما هو عينة مما يمكن أن يكون عليه شكلها.

إن “قوانين الطبيعة” التي هي متصلة ويتعذر تغيرها Inexorable والتي تعمل في تحد للألم أو للاستحقاق البشري، والتي لا تمنعها أو تغيرها الصلاة، تبدو للوهلة الأولى أنها تدعم حجة قوية ضد صلاح الله وقدرته. لكني سأقوم بتوضيح أنه حتى القدرة الكلية الإلهية لا تستطيع أن تخلق مجتمعاً من النفوس الحرة بدون أن تخلق في نفس الوقت طبيعة “مستقلة ويتعذر تغييرها” نسبياً.

لا يوجد سبب لافتراض أن الوعي بالذات، أي إدراك المخلوق لنفسه كـ “ذات”، يكمن أن يوجد إلى في مقارنته “بآخر”. أي بشيء ليس هو الذات. فالوعي بنفسي لا يبرز إلا بالمقابلة مع بيئة ما، والأفضل أن تكون بيئة اجتماعية، أي بيئة من أنفس أخرى. يثير هذا صعوبة تتعلق بوعي الله بنفسه، لو كنا مجرد مؤمنين بوجود الله. لكن لكوننا مسيحيين، نحن نتعلم من عقيدة الثالوث المبارك أنه يوجد ما يشبه شركة “المجتمع” داخل الكيان الإلهي منذ الأزل. فكون الله محبة، لا يعني فقط كونه النوع الأفلاطوني من الحب، بل يرجع هذا إلى أنه توجد داخل الله المحبة التبادلية المتماسكة الموجودة قبل كل العوالم والتي، من ثم، تستمدها منه المخلوقات.

مرة أخرى، لا بد أن تعني حرية المخلوق حريته في أن يختار: والاختيار يتضمن وجود أشياء يتم الاختيار من بينها. لذلك فالمخلوق الذي ليست لديه “بيئة” لن تكون لديه خيارات يقوم بها: وهكذا فإن الحرية مرة أخرى، مثل الوعي بالنفس (إذا لم يكونا بالفعل هما نفس الشيء)، تتطلب وجود “ذات” إنسان آخر The Presence To The Self غير الذات.

الشرط الأدنى للوعي بالنفس والحرية إذاً، يكون بأن يعي المخلوق الله، وبالتالي، يعي نفسه كشخص متميز عن الله. من الممكن أن تتواجد مثل هذه المخلوقات، وأن تكون على وعي بالله وبأنفسها، لكن ليس بأية مخلوقات زميلة مشابهة. فإذا كان الحال كذلك، ستتمثل حريتها ببساطة في القيام باختيار وحيد مجرد، أن تحب الله أكثر من النفس أو النفس أكثر من الله. لكننا لا يمكن أن نتخيل حياة تتقلص إلى الأساسيات بمثل هذه الصورة. لذلك، بمجرد أن نحاول تقديم فكرة المعرفة المتبادلة للمخلوقات المشابهة فإننا نتجه بسرعة إلى ضرورة وجود “الطبيعة”.

يتحدث الناس كثيراً كما لو أنه لم يكن هناك شيء أسهل من “تلاقي” عقلين مجردين، أو أن يصبحا واعيين بأحدهما الآخر. لكن لا أرى إمكانية لقيامهما بذلك إلا بوجود وسط أو مجال مشترك Common Medium يشكل “عالمهما الخارجي” أو بيئتهما. حتى محاولتنا المبهمة لتخيل مثل هذا التلاقي بين أرواح بلا جسد عادة ما تنزلق فيها خلسة فكرة، على الأقل، المكان المشترك والزمان المشترك، لكي تعطي للسمة “المشتركة” للتعايش: والمكان والزمان هما بالفعل “بيئة”. لكن لا يزال هناك احتياج لما هو أكثر من ذلك.

إذا كانت أفكارك وعواطفك معروضة بصورة مباشرة أمامي، تماماً مثل أفكاري وعواطفي الشخصية، بدون أية علامة على أنها “خارجية External” أو “غيرية Other”، فكيف يمكنني أن أميزها عن أفكاري ومشاعري؟ وما هي الأفكار أو العواطف التي يمكن أن نبدأ في تكوينها بدون وجود مواد للتفكير فيها أو الشعور بها؟ لا، بل هل كان يمكنني حتى أن أبداً في أن يكون لدي فهم لما هو “خارجي”، و “آخر” إلا إذا كان لدي تجربة وخبرة “بعالم خارجي”؟ ربما تجيبني، كمسيحي، أن الله (وابليس) يقومان بالفعل بالتأثير في وعيي بهذه الطريقة المباشرة بدون علامات لما هو “خارجي”. نعم؛ والنتيجة هي أن معظم الناس يظلون جاهلين بوجود الاثنين (الله وابليس).

لذلك يمكننا أن نفترض أنه إذا كانت النفوس البشرية قد أثرت في إحداها الأخرى بطريقة مباشرة ولا مادية، فإنه سيكون انتصاراً نادراً للإيمان والفهم بالنسبة لأي منها أن تؤمن بوجود الآخرين (وهنا يقصد الكاتب أن الله لم يشأ أن تكون العلاقات بين إنسان وآخر هي علاقة بين روحين. وإدراكهما لبعضهما البعض هو إدراك في الروح فقط. لقد خصص الله هذه النوعية من العلاقات في الروح، والتي تحتاج إلى الإيمان، لعلاقته هو مع الإنسان – المحرر).

في مثل هذه الظروف، سيكون من الأصعب بالنسبة لي الآن أن أعرف جاري عن أن أعرف الله؛ لأني بإدراك تأثير الله عليّ أحصل على المساعدة من خلال أشياء تصلني عبر العالم الخارجي، مثل تقليد الكنيسة، والكتب المقدسة، وأحاديث الأصدقاء المتدينين. لذلك ما نحتاج إليه للمجتمع البشري هو بالضبط ما لدينا، شيء محايد، ليس هو أنت ولا أنا، شيء يمكننا نحن الاثنان استغلاله لإرسال إشارات لأحدنا الآخر. لذلك يمكنني أن أتحدث إليك لأننا نستطيع نحن الاثنان أن نبث موجات صوتية في الهواء المشترك بيننا. كما أن المادة، التي تحفظ بالنفوس منفصلة، تقوم أيضاً بجمعها معاً. فهي تمكن كلاً منا من أن يكون عنصر “خارجي” وأيضاً “داخلي”، بحيث أن الأمور التي هي أفعال للإرادة والفكر بالنسبة لك تُعتبر ضوضاء وومضات بالنسبة لي؛ فقد تم تمكينك ليس فقط من أن “تكون”، بل أيضاً من أن “تظهر”؛ ومن هنا، يسرني أن أتعرف بك.

وهكذا يتضمن المجتمع مجالاً مشتركاً أو “عالماً” يلتقي فيه أعضاؤه. فإذا كان هناك مجتمعاً ملائكياً، كما يؤمن المسيحيون عادة، فإن الملائكة أيضاً لا بد أن يكون لديهم مثل هذا العالم أو المجال؛ شيء يعتبر بالنسبة لهم مثل “المادة” بالنسبة لنا.

لكن إذا كانت المادة يجب أن تعمل كمجال محايد فلا بد أن يكون لها طبيعة ثابتة خاصة بها. فإذا كان هناك “عالم” أو نظام مادي يسكنه فقط إنسان وحيد، فقد ينسجم في كل لحظة مع رغبات هذا الإنسان، “قد تتجمع الأشجار لأجله لكي تكون له مظلة”. لكن إذا تم دخولك أنت إلى عالم يتنوع ويختلف بحسب أهوائي ونزواتي، فإنك لن تتمكن أبداً من أن تعمل أو تؤدي دوراً فيه وبذلك تفقد ممارسة إرادتك الحرة.

كما أنه لن يتضح ما إذا كنت ستتمكن من أن تجعل وجودك معروفاً بالنسبة لي، فكل المادة التي كنت ستحاول بها أن ترسل لي إشارات، هي موجودة بالفعل تحت سيطرتي وبالتالي لا تستطيع أنت أن تستخدمها.

مرة أخرى، إذا كان للمادة طبيعة ثابتة وتطيع قوانين نظامية مستقرة، فلن تكون كل حالات المادة مناسبة لرغبات إنسان ما بطريقة متساوية. ولن تكون كلها مفيدة على حد سواء لتجمع تلك المادة المحددة التي يطلق عليها “جسده”. فإذا كانت النار تريح هذا الجسد على مسافة معينة، فإنها ستدمره عندما تتناقص هذه المسافة. وبالتالي، حتى في عالم مثالي كامل، تظل هناك ضرورة لإشارات الخطر التي صممت ألياف الألم الموجودة في أعصابنا ليك تنقلها لنا بوضوح.

هل هذا يعني وجود عنصر شر حتمي (في صورة ألم) في أي عالم محتمل؟ لا أعتقد ذلك؛ لأنه بينما قد يكون صحيحاً أن أقل خطية هي شر لا يحصى، إلا أن شر الألم يعتمد على درجة حدته. فالآلام التي يتم الشعور بها أدنى درجة حدة معينة لا يُخاف أو يُساء منها إطلاقاً. فلا أحد يمانع سير عملية “دافئ، ساخن بطريقة جميلة، شديد السخونة، يلسع” التي تحذره بأن يبعد يده عن التعرض للاحتراق. وإذا كان لي أن أثق في مشاعري الشخصية، فإنني أعتبر أن ألماً بسيطاً في الساقين وأنا أصعد على فراشي بعد يوم من السير الجيد، هو في الحقيقة أمر ممتع.

لكن مرة أخرى، إذا كانت الطبيعة الثابتة للمادة تمنعها من أن تكون دائماً، وفي كل صورها، مقبولة حتى بالنسبة لنفس واحدة بالتساوي، فكم أقل من ذلك بكثير يكون ممكناً لمادة الكون في أية لحظة من اللحظات أن يتم توزيعها بحيث تكون ملائمة وممتعة بصورة متساوية لكل عضو في مجتمع ما، إذا كان إنسان يسافر في اتجاه ما يتجه في رحلته إلى أسفل تل، فإن الإنسان الذي يذهب في اتجاه معاكس لا بد أن يكون متجهاً إلى أعلى التل. حت إذا كانت هناك حصاة موجودة حيث أرغب أنا في أن تكون، فهي لا يمكن، إلا بالمصادفة، أن تكون حيث تريدها أنت أن تكون.

وهذا أبعد ما يكون عن الشر: بل على العكس، إنه يمثل فرصة يعبر بها الحب والدعابة والتواضع عن أنفسهم، عن طريق كل تلك الأفعال من لطف، واحترام، وعدم أنانية. لكنه بالتأكيد يترك الطريق مفتوحاً لشر عظيم، يتمثل في المزاحمة والعداوة. فإذا كانت النفوس حرة، لا يمكن أن يتم منعها من التعامل مع المشكلة بالتزاحم والعداوة بدلاً من اللطف. وبمجرد أن تتجه النفوس نحو العداوة الفعلية، يمكنها عندئذ أن تستغل الطبيعة الثابتة للمادة لكي تؤذي إداها الأخرى. فالطبيعة الثابتة الدائمة للخشب التي تمكننا من أن نستخدمه كعارضة، تمكننا أيضاً من أن نستخدمه كعصا لضرب جارنا على رأسه. وهكذا فإن الطبيعة الثابتة للمادة تعني عامة أنه عندما يتشاجر البشر، فإن الفوز يكون عادة من نصيب أولئك الذين لديهم أسلحة ومهارة وإعداد أفضل، حتى لو كانت قضيتهم جائرة وغير عادلة.

ربما يمكننا أن نتخيل عالماً يقوم فيه الله كل لحظة بتصحيح نتائج إساءة استخدام مخلوقاته لإرادتهم الحر؛ بحيث تصبح العارضة الخشبية لينة مثل العشب عندما يتم استخدامها كسلاح، ويرفض الهواء طاعتي إذا حاولت أن أبث فيه الموجات الصوتية التي تحمل الأكاذيب أو الشتائم. لكن مثل هذا العالم سيكون عالماً تصبح فيه الأفعال الخاطئة مستحيلة، وبالتالي تكون حرية الإرادة فيه باطلة وعقيمة؛ لا بل إنه إذا تم تطوير المبدأ إلى نتيجته المنطقية، ستكون الأفكار الشريرة مستحيلة، لأن المادة الدماغية التي نستخدمها للتفكير سترفض القيام بمهمتها في التفكير عندما نحاول أن نستنبط هذه الأفكار الشريرة.

في هذا الحالة، كل المادة الموجودة في الحي الذي يسكنه إنسان شرير ستكون معرضة لاجتياز تغيرات لا يمكن التنبؤ بها. كون أن الله يستطيع بل يقوم، في بعض الأحيان، بعمل تعديل لسلوك المادة وينتج ما نطلق عليه المعجزات، فهذا جزء من الإيمان المسيحي؛ لكن مجرد فكرة وجود عالم مشترك، وبالتالي مستقر، تتطلب أن تكون هذه الأحيان نادرة للغاية. في لعبة الشطرنج يمكنك أن تقوم بتنازلات تعسفية معينة لخصمك، تتفق مع القانون العادي للعبة كما تتفق المعجزات مع قوانين الطبيعة.

يمكنك أن تحرم نفسك من الرخ (الطابية)، أو أن تسمح لخصمك في بعض الأحيان أن يتراجع عن حركة قام بها عن غير قصد. لكنك إذا تنازلت عن كل شيء يحدث في أية لحظة لكي يلائمه – وإذا كانت كل تحركاته قابلة للتراجع، وإذا اختفت كل قطعك كلما كان موضعها على الرقعة لا يؤدي إلى قتله – لن تتمكن من أن يكون لديك لعبة على الإطلاق. هكذا الأمر في حياة النفوس في عالم ما: القوانين الثابتة، والنتائج التي تظهر وتتكشف بواسطة الضرورة السببية، والنظام الطبيعي بأكمله، هي في نفس ا لوقت الحدود التي تنحصر داخلها الحياة المشتركة وأيضاً الشرط الوحيد الذي يمكن بموجبه أن تكون أية حياة مثل هذه ممكنة. حاول أن تستبعد إمكانية الألم المتضمن في نظام الطبيعة ووجود الإرادات الحرة، وستجد أنك استبعدت الحياة نفسها.

كما قلت من قبل، هذه الرواية عن الضروريات الجوهرية لعالم ما يقصد بها مجرد مثال لما يمكن تكون عليه هذه الضروريات. أما ما هي عليه بالفعل، فالله كلي العلم والمعرفة وحده هو الذي لديه المعطيات والحكمة لكي يعرفها: ولكنها من غير المحتمل أن تكون أقل تعقيداً مما افترضته.

غني عن القول أن كلمة “تعقيد” هنا تشير فقط إلى الفهم البشري لما؛ فلا يجب علينا أن نعتقد ان الله يجادل، كما نقوم نحن، بدءً من نتيجة ما (التعايش المشترك للأرواح الحرة) ليصل إلى الشروط المشاركة فيها، بل أن نفكر بالأحرى في فعل خلق واحد (قام به الله) ومتفق ذاتياً تماماً، والذي يبدو لنا للوهلة الأولى، باعتباره خلق للكثير من الأشياء المستقلة، ثم بعد ذلك، باعتباره خلق للكثير من الأشياء الضرورية لبعضها البعض بطريقة متبادلة، بل إننا يمكن أن نرتفع قليلاً إلى ما هو أبعد من مفهوم الضروريات المتبادلة كما أوجزتها، فيمكنني أن أختزل المادة باعتبار أن المادة هي التي تفصل النفوس والمادة هي التي تجمعها معاً تحت المفهوم الواحد للتعددية، بحيث يكون “الانفصال” و “المعية” هما فقط مجرد مظهرين لشيء واحد.

وهكذا مع كل تطور في تفكيرنا، فإن وحدة الفعل الخلاق، واستحالة ترقيع الخليقة أو العبث بها كما لو أن هذه العنصر أو ذاك كان يمكن إزالته منها، سيصبحان أكثر وضوحاً.

(نحن أمام فكر عال جداً للكاتب، وبالتالي أمام فقرة صعبة الفهم. الكاتب يريد التأكيد على عدة حقائق متشابكة ومغزولة معاً:

أولاً: ما يبدو في الخلق وفي طبيعة المخلوقات أمراً معقداً جداً بالنسبة للإنسان، هو ليس معقداً على الإطلاق بالنسبة لله.

ثانياً: الله ليس “مسؤولاً” أمام الإنسان ليعطي حساباً له. وهو ليس تحت أي ضرورة ليفسر للإنسان أعماله وأفعاله وطرقه.

ثالثاً: الإنسان يبدأ المجادلة فيما يراه من تناقضات ظاهرية في الحياة من نقطة مختلفة تماماً عما قصده الله في الخلق. ومن الأساس، فالله لا يجادل مع نفسه لأنه لا يحتاج للمجادلة. لا توجد مجادلة داخل الله لأنه هو “أصل” كل شيء. الإنسان يجادل لأنه “شديد المحدودية”؛ الله لا يجادل لأنه “مطلق اللامحدودية”.

رابعاً: نحن البشر نرى المخلوقات كأشياء مختلفة وذو عناصر وعلاقات. الله عندما ينظر للخليقة، لا يراها كما نراها نحن، وقد لا يُعرف بالضبط كيف يراها هو. لا ينبغي أن نعتقد أن الله يرى الخليقة في عناصرها كما نراها نحن. نحن نرى تناقض في الخلق، ولكن الكاتب يقول عن الله في الخلق Utterly Self-Consistent Act Of Creation.

خامساً: كلما ارتفع الإنسان في فكره، سوف يجد وحدة وتوافق الخلق الإلهي. ولكن لا يمكن للإنسان أن يرتفع فوق قدر معين؛ بمعنى أنه لا يمكن أن يرتفع إلى قدر ومكانة الله (ولا حتى يقدر على الاقتراب من هذا القدر)، ولذلك فلن يتمكن الإنسان أبداً أن يرى وحدة الخلق والمخلوقات كما صممها وكما يراها الله، وعلى الإنسان أن يقبل محدوديته بالنسبة لله كأمر واقع – المحرر)

ربما لا يكون هذا هو “أفضل جميع العوالم الممكنة”، ولكنه العالم الوحيد الممكن (من وجهة نظر الله – المحرر). العوالم الممكنة يمكن أن تعني فقط “العوالم التي كان يمكن لله أن يصنعها، ولكنه لم يفعل”. لكن فكرة أن الله “كان يمكن أن يصنع” تتضمن مفهوماً شديد البشرية لحرية الله. فأياً كان ما تعنيه الحرية البشرية. لا يمكن للحرية الإلهية أن تعني تعيين بدائل واختيار واحد منها.

“فالصلاح التام” الكامل لا يمكن أن يجادل بشأن النتيجة التي يجب الوصول إليها، و”الحكمة الكاملة” لا يمكن أن تجادل بشأن أفضل الوسائل المناسبة لتحقيقها. تتمثل حرية الله في حقيقة أنه لا يوجد سبب آخر غير الله نفسه ينتج أفعاله ولا توجد عقبة خارجية تعوقها – وأن صلاحه الشخصي هو الجذر الذي منه تنمو جميع أفعاله، وقدرته الكلية الشخصية هي المناخ الذي تزهر وتنمو فيه جميع هذه الأفعال.

(صعب جداً على الإنسان استيعاب حقيقة أن السبب والمسبب الوحيد لوجود الله، ولكن أعماله، هو “ذات الله” نفسه. وذلك لأنه بالنسبة للإنسان هناك أسباب ومسببات “خارج ذاته” لوجوده ولأفعاله. كما أنه صعب على الإنسان أن يستوعب وجود كائن (وهو الله) يتمتع بحرية مطلقة لا نهائية، وبصلاح مُطلق لا محدود – المحرر).

وهذا يأتي بنا إلى موضوعنا التالي “الصلاح الإلهي”. لم يُقال شيء عن هذا حتى الآن، ولم نحاول الوصول إلى الإجابة على الاعتراض القائل إنه إذا كان لا بد للكون، منذ البداية، أن يعترف باحتمالية الألم، فإنه كان من الأفضل للصلاح المطلق أن يتركه دون أن يخلق: إلا إنني لا أعرف أية معايير بشرية يمكن بها أن يكون هناك وزناً أو قيمة لمثل هذا الخلاف الغريب غير المتجانس. يمكننا أن نقيم نوعاً من المقارنة بين حالة من الوجود وحالة أخرى، لكن المحاولة أن نقارن الوجود وعدم الوجود، تنتهي إلى مجرد كلام لا طائل من ورائه.

ففي عبارة، “كان من الأفضل بالنسبة لي ألا أوجد” – ماذا يعني “بالنسبة لي”؟ فكيف يمكن “لي” إن لك أكن قد وجدت أن أستفيد من عدم وجودي؟ إلا أن غرضنا أقل تعقيداً من ذلك؛ إنه يتمثل فقط في اكتشاف كيف، إذ نعي وجود عالم متألم، ونتأكد على أسس مختلفة تماماً أن الله صالح، كيف يكون علينا أن ندرك وجود هذه الصلاح وذلك الألم دون تناقض بينهما!

القدرة الكلية الإلهية – الله والإنسان والألم – سي إس لويس

تقييم المستخدمون: 3.6 ( 1 أصوات)