أبحاث

لماذا ندرس الإنجيل؟ – اللاهوت والتاريخ

لماذا ندرس الإنجيل؟ - اللاهوت والتاريخ

لماذا ندرس الإنجيل؟ – اللاهوت والتاريخ

لماذا ندرس الإنجيل؟ - اللاهوت والتاريخ
لماذا ندرس الإنجيل؟ – اللاهوت والتاريخ

لماذا ندرس الإنجيل؟ – اللاهوت والتاريخ

لماذا ندرس الإنجيل ؟ يتحوّل أغلب القراء إلى الكتاب المقدّس لاهتمامات دينيّة أو لاهوتيّة إذ يعتبرون أنّ الإنجيل كتاب مقدّس ومرجع يحمل شهادة لكلمة الله. يشير القدّيس بولس إلى الكتاب المقدّس على أنّه وحي الله.

فهو يوصي المسيحيّين في تسالونيكي بقبول الإنجيل، المدَّون الآن في العهد الجديد، “لا ككلمة أناس بل كما هي بالحقيقة كلمة الله” ( 1 تسالونيكي 13:2). لقد نظر المسيحيّون المؤمنون عبر الأجيال إلى الإنجيل على أنّه مصدر الحقيقة المخلِّصة والإرشاد الروحيّ، سواء في العبادة الجماعيّة او القراءة الشخصيّة. لقد اعتبروا أنّ الكتاب المقدّس، رغم تضارب التفسيرات ومشاكل سوء الاستعمال، يقدّم دعوة إلى حياة مع الله وطريقاً من المحبّة والبِرّ متمثّلاً بشكل فريد في شخص يسوع المسيح وبشارته.

يُقرأ الإنجيل أيضاً للاستمتاع الأدبيّ.

رواية الخلق وقصّة إسرائيل وحياة المسيح ألهمت عدداً لا يُحصى من الرجال والنساء. ولكتب المزامير وأيوب وإنجيل يوحنّا والرؤيا كلّها قيمة أدبيّة مميزة. اليوم، تُدرَس أوجه فقه اللغة (philological) في الإنجيل بشكل منهجيّ وطرائق تقنيّة ملائمة لتركيبه وقصصه وشعره ورؤاه[1]. فضلاً عن هذا، معروف أنّ لغة الكتاب المقدّس وأفكاره أثّرت في أدب شعوب كثيرة.

في الحضارة الغربيّة مثلاً، من الصعب تذوّق دانت وميلتون أو تولستوي بدون معرفة صور الإنجيل وتعاليمه. لطالما تشبّث الأدب بمواضيع الخير والشرّ، التضحية والجشع، الأمل واليأس. وكان الكتاب المقدّس يحرّك دائماً قلوب الكثيرين من الشعراء والمفكّرين المتأمّلين في معنى الحياة والحريّة، العدالة، العذاب والموت.

يُقرأ أيضاً الكتاب بداعي الاهتمام التاريخيّ.

أغلب المعلومات حول أصول المعتقدات اليهوديّة والمسيحيّة مأخوذة من الكتاب المقدّس. يستطيع قارئ الكتاب المقدّس، عبر القراءة الدقيقة، أن يلتقط لمحة خاطفة عن حياة الشعوب القديمة وحضارتهم كالمصريّين والآشوريّين والبابليّين والفرس واليونان والرومان. اليوم، وصلت الدراسة التاريخيّة للكتاب إلى معايير نظاميّة واختصاصيّة[2]. وأصبح مألوفاً الاعتراف بأنّ الكتاب المقدّس خرج من أطر ثقافيّة وأحداث تاريخيّة محدّدة.

إلى هذا، هناك وعي متزايد لتأثير الكتاب الكبير على تاريخ الحضارة، ليس فقط عبر تأثيره على الأعراف الاجتماعيّة والتشريعات، إنّما أيضاً على التعابير الثقافيّة في التربية والفن والموسيقى[3]. فقد استوحى خيال بعض المكتشفين الكبار الرسالة الإنجيليّة بمعنى أو بآخر. على سبيل المثال، كريستوف كولومبوس كتب عملاً موجزاً عنوانه “كتاب النبوءات”، أشار فيه إلى أنّ الرغبة في نشر الإنجيل إلى العالم وتحضير الطريق للألفيّة كانت تحرّكه قبل اكتشافه أميركا[4].

وكما يدّعي البعض، فإنّ ظهور العلم الحديث والتكنولوجيا حرّكته جزئيّاً فكرة إنجيليّة حول خليقة منظّمة وتوجيه الله للبشر كي يخضعوا الأرض ويتسلّطوا عليها (تكوين 28:1)[5].

للدراسة الكتابيّة ثلاثة أوجه شديدة الترابط: اللاهوتيّ والأدبيّ والتاريخيّ. تتعلّق كلّها بميزة الكتاب الأساسيّة كمجموعة من الوثائق التاريخيّة، التي تسجّل قناعات اليهود والمسيحيّين ورؤاهم الدينيّة المأخوذة ممّا فهموه على أنّه لقاءات عميقة مع الله في إطار الجماعة. ومع إمكانيّة التشديد على أحد الأوجه أكثر من غيره لأسباب محدّدة، فالأوجه الثلاثة تتطلّب انتباهاً مناسباً لتحقيق الفهم الشامل للكتاب المقدّس.

هذا يصحّ بشكل خاصّ في العصور الحديثة، حيث تمّ تحقيق التقدّم الثوريّ في العلوم الإنسانيّة والتطبيقيّة والذي أسّس حسّاً جديداً مثيراً للجدل من التفكير النقديّ المرتكز على الطريقة العلميّة الاختباريّة. إنّ تكاثر المعرفة الجديدة حول العالم والبشريّة، في العلم والتاريخ وعلم النفس مع افتراضات التنوير الفلسفيّة، نتج منه تراجع عامّ في الثقة بسلطات الكتاب كمصدر للحقيقة[6].

وتختلف مقاربات الكتاب المقدّس، الناتجة من تطبيق الطريقة العلميّة النقديّة في الدراسة الكتابيّة، بشكل جذريّ. هكذا، يصبح السؤال “لماذا ندرس الأنجيل؟ أكثر حدّة عبر أسئلة عديدة. مَن يدرس الكتاب المقدّس؟ في أيّ إطار يُقرأ الكتاب ويُدرَس؟ كيف يُفسّر ويُطبَّق؟ هل يحتوي الكتاب إعلاناً إلهيّاً، أم أنّه مجرد إنجاز ثقافيّ من الماضي نستخرج منه دروساً مناسبة لتقدّم قضايا جديرة بالثناء؟ بأيّ معنى يؤلّف الكتاب المقدّس كتابات الكنيسة المقدّسة وما هي نتائج هذه الحقيقة؟

أظهرت الدراسات الكتابيّة الحديثة ميولاً نحو التشتّت. المقاربتان اللاهوتيّة والتاريخيّة للكتاب المقدّس تباعدتا منذ أكثر من قرن. ما نتج من سيطرة المقاربة التاريخيّة-النقديّة المتلائمة مع الافتراضات الحديثة هي تحليلات ونظريّات منقّحة، إلى درجة أنّ البعض راح يتأمل في ما إذا كان خمر الكتاب تحوّل إلى ماء الدراسة النقديّة. بعض الباحثين من داخل القافلة انتقد بعنف المقاربة التاريخيّة-النقديّة على أنّها تؤديّ إلى “خطأ عملاق في تفسير” الكتاب وعلى أنّها “إفلاس” بسبب ضررها الظاهر بحياة الكنيسة والمجتمع[7].

سعى عدد متزايد من النقاد الكتابيّين إلى فتح اتجاهات جديدة تحت تأثير “النقد الأدبيّ الجديد” بهدف استخراج المعنى المناسب من الكتاب والذي يوافق حساسيّات القرّاء المعاصرين[8]، وذلك كردّة فعل على المقاربة التاريخيّة.

على كلٍ، مازالت هذه المقاربات الجديدة مجحفة بحقّ شهادة الكتابات الإنجيليّة اللاهوتيّة عن طريق النظر إليها كأدب دينيّ قديم أكثر منها كوثائق معياريّة للإعلان. إلى جانب المقاربتين التاريخيّة والأدبيّة، وبمنهجيّتهما، استعمل نقّاد آخرون الكتاب لأسباب إيديولوجيّة كتعزيز أفكار سياسيّة واجتماعيّة كالتحرّر والمساواة بين الجنسين[9]. هذا ولا تُظهر الدراسات الكتابيّة ايّ اتجاه نحو التماسك أو الإجماع.

ما الذي تستطيع نظرة أرثوذكسيّة إلى الكتاب المقدّس أنّ تقدّمه؟

قَبل الباحثون الأرثوذكسيّون، كما سنناقش في فصول مختلفة من الجزء الأوّل[10]، أن يطبّقوا الطريقة النقديّة بحكمة لأنّ روح الأرثوذكسيّة تشجّع حريّة البحث وطلب الحقيقة بتمييز. ولكن مع أنّ اللاهوتيّين الأرثوذكسيّن اهتمّوا بانتشار الافتراضات الحديثة في البحث العلمي، إلاّ إنّهم تحفّظوا تجاه استنتاجات النقد الكتابيّ المتطرفّة بميلهم نحو مواقف محافظة واهتمامهم بتعليم الكنيسة العقائديّ.

هذا لا ينطبق بالحقيقة فقط على دراسة الكتاب المقدّس إنّما أيضاً على كلّ الدراسات اللاهوتيّة، بما فيها التاريخ الكنسيّ والآبائيّات والليتورجيا والحقّ الكنسيّ واللاهوت النظاميّ. في حقل الكتاب المقدّس، تطوّرت الدراسات الإكاديميّة التقليديّة، بخاصّة في اليونان منذ منتصف القرن التاسع عشر، حيث راح عدد من علماء جامعتي أثينا وتسالونيكي ينشرون دراسات بشكل ثابت ومثير للاهتمام. أغلب مساهمتهم ستُدرج بشكل ملائم في هذا العمل، بخاصّة في الجزء الثاني الذي يعالج العهد الجديد بتفصيل أكبر.

هناك اليوم مداخل قيّمة للعهد الجديد لباحثين يونانيّين ثلاثة: سابا أغوريديس، يوحنّا كرافيذوبولوس، ويوحنّا باناغوبولوس[11]. الأوَلون، رغم تمايزها عن المواقف التقليديّة، يتبعان نمطاً ومنهجيّة في البحث العلميّ الكتابيّ مألوفين عالمياً. الثالث، أي باناغوبولوس، يتبنّى موقفاً معلناً تأويليّاً مرتكزاً على آباء الكنيسة، فيما يستعمل البحث العلميّ العالميّ، فينتج بتأنٍ مدخلاً “أرثوذكسيّاً للعهد الجديد.

كان باناغوبولوس يعمل أيضاً على وضع عمل بارع متعدّد الأجزاء حول التقليد الآبائيّ التفسيريّ وقد صدر منه العدد الأوّل[12]. كما كتب سابا أغوريرديس حول موضوع التفسير في مساهمات أخرى. سوف تُناقَش المواقف التفسيريّة التي اعتمدها هؤلاء الباحثون في الفصلين السادس والسابع من  هذا الجزء[13].

يحتلّ الموقف التفسيريّ في هذا العمل موقفاً وسطاً، إذ فيما يأخذ المفاعيل اللاهوتيّة لعمل آباء الكنيسة التفسيريّ، يشدّد بشكل مساوٍ على الدراسة النقديّة الوصفيّة للوثائق الكتابيّة على أساس أنّ الدراسة التاريخيّة تختلف قليلاً وتؤدّي إلى شهادة الكتاب الأصلية. مازالت أمامنا مهمّة تحديد “مقاربة أرثوذكسيّة” مميّزة للكتاب المقدّس.

يسعى هذا العمل إلى أنّ يساهم في هذه المهمّة. مهما كانت السمات النهائيّة للدراسة الأرثوذكسيّة للكتاب المقدّس، فهذه يجب أنّ تتضمّن تشبّثاً صادقاً بالمنهجيّات المعاصرة ومصادر المعرفة، إلى جانب الأمانة لسلطة الكتاب وآباء الكنيسة. المثال الذي يجب أنّ تسعى إليه، تمّثلاً بالآباء الإسكندريّين والأنطاكيّين والكبادوكيّين، هو تحقيق تعاون متناغم بين الإيمان الصحيح والمنطق السليم. وإنجاز آباء الكنيسة الفكريّ وجامعيّة الإيمان المسيحيّ لا يتطلّبان أقلّ من ذلك.

إذاً عبارة “أرثوذكسيّ” ليست صفة ثقافيّة ولا مذهبيّة لتحديد المسيحيّة الشرقيّة كظاهرة تاريخيّة محضة. إنّها إشارة إلى التقليد المسيحيّ العالميّ بالمعنى الكلاسيكيّ لما هو صحيح في كلّ زمان ومكان. الهدف هو تحديد رؤية مسكونيّة لمركز حَكَم هو الإنجيل ذاته، على أن تعانق هذه الرؤية التعدّديّة في الوحدة والوحدة في التعدّديّة في مجمل التقليد المسيحيّ. إنّ مقاربة أرثوذكسيّة للكتاب المقدّس لا تتورّط بهذه المنهجيّة أو تلك في الدراسات الكتابيّة. كلّ منهجيّة تقوّم بحدّ ذاتها.

في كلّ حال، الإعلان عن مساهمات جديدة في حقل مازال الدارسون الأرثوذكس يتعلّمون فيه من زملائهم الغربيّين لن يكون سوى ادعاء. بالأحرى، يجب أنّ تهتّم المقاربة الأرثوذكسيّة بإدراك شامل ومتوازن للكتاب المقدّس في طبيعته الخاصّة ومرجعيّة شهادته ككلمة الله، مع التزامها الدراسة النقديّة وحريّة البحث في الوقت ذاته. قد يُقترَح أنّ مقاربة كهذه يجب أن تتضمّن، بين جملة أمور، ثلاث مقوّمات رئيسة.

المقوّمة الأولى دراسة شموليّة تدمج الأوجه الأدبيّة والتاريخيّة واللاهوتيّة. رغم أنّ ما هو لاهوتيّ ينتمي إلى جوهر الإنجيل ككتاب مقدّس، إلاّ أنّه يجب أنّ يقوّم التاريخيّ والأدبيّ بشكل مناسب، إذ إنّهما أيضاً من ضمن الوثائق الكتابيّة. كلّ الأوجه تتطلّب دراسة تقوم على أساس أنّ البحث عن الحقيقة يتضمّن بالضرورة نظرة مميّزة وحكماً نقديّاً. إنّ مقاربة شموليّة للكتاب المقدّس تعتمد، لاهوتيّاً، على سرّ تجسد الكلمة (-LogosςγοʹΛο) وعالميّة الإنجيل، وتتطلّب انفتاحاً على كلّ الشعوب والثقافات وعلى كلّ الحقيقة.

إنّها رؤية تكامليّة تأخذ بشكل جديّ، ليس فقط لاهوت الفداء، إنّما أيضاً لاهوت الخالق. إنّها رؤية آباء الكنيسة العظماء من القدّيس يوستينوس الشهيد إلى الكبادوكيّين، وجميعهم كانوا في زمانهم باحثين من الدرجة الأولى، وقد تجنّبوا توريط الإيمان مع العقل كما تجنّبوا توريط الإنجيل مع السعي العالميّ إلى الحقيقة[14]. جورج فلوروفسكي هو، بين لاهوتيّي القرن العشرين الأرثوذكسيّين، أكثر مَن حرّك هذه الرؤية الآبائيّة للحقيقة وصكّ عبارة “التركيب الآبائيّ الجديد (Synthesis Neo Patristic) من أجل المهمّة اللاهوتيّة الثابتة في كلّ العصور.

من بين اللاهوتيّين الغربيّين، يؤيّد الباحث الكتابيّ البريطانيّ رايت N. T. Wright، في عمله “العهد الجديد وشعب الله”[15]، موقفاً مماثلاً إنّما أكثر تفصيلاً. فهو، في ما يسميّه “الواقعيّة النقديّة”، يطوّر حجّة قويّة لدراسة كتابيّة متكاملة لاهوتيّاً وتاريخيّاً وأدبيّاً، على مقدّمة منطقيّة مفادها أنّ الأوجه الثلاثة للدراسة الكتابيّة تواجه السؤال المشترك عن المعرفة والحقيقة[16].

بالنسبة إليه، في ما يتعلّق بالكتاب المقدّس، عمل الفكر النقديّ الحقيقيّ هو تذكير المسيحيّة بجذورها التاريخيّة. لا يستطيع اللاهوت أن ينسحب من المقالة الفكريّة المعاصرة، وكأنّه قادرعلى تجاهل التحدّي العصريّ والاكتفاء بالقراءة الليتورجيّة والعباديّة للكتاب المقدّس. يستحقّ الكتاب أن يُدرَس نقديّاً في ذاته ومن ذاته، من أجل انتزاع كلّ المعاني الإضافيّة لشهادته الأصلية[17].

في الوقت ذاته، يؤنّب رايت المفكّرين النقديّين الذين، كورثة للتنوير، غالباً ما سقطوا في اتهامات صارمة للمسيحيّة التقليديّة واعتبروا وجهي الكتاب المقدّس الدينيّ واللاهوتيّ جانبيّين. أيضاً، هو ينتقد المقاربة الاستثنائيّة للنقد الأدبيّ الحديث الذي يتّجه نحو الذاتانيّة[18].

إذا أُهملَت دعاوى الكتاب اللاهوتيّة المعياريّة، يتساءل رايت، لماذا يُقرأ الكتاب المقدّس، ولا يُقرأ أيّ أدب قديم أو حديث على أنّه مساوٍ له في القيمة من أجل المعنى المناسب؟[19] هدف “نظريّة المعرفة العلائقيّة” (relational epistemology)، التي تربط الحقيقة التي وراء المعلومات الحسيّة بمعرفة الموضوع، هو حقيقة كتابيّة لاهوتيّة تتعلّق قبل كلّ شيء بموضوع الله وحده[20].

مثلاً، بحسب تحليل رايت الشامل لنظرات اليهوديّة والمسيحيّة إلى العالم، الفهم الثالوثيّ لله هو تطوير في التقليد الكتابيّ أصيل ومتمايز يتعدّى موقف اليهوديّة. بحسب رايت، إدّعاء العهد الجديد المعياريّ الذي يستحقّ الاعتراف النقديّ الكامل هو أنّ “إله إسرائيل جعل نفسه الآن معروفاً في يسوع المسيح والروح الإلهيّ وعبرهما وحتّى بوصفه يسوع المسيح والروح الإلهيّ”[21]. تخدم نظرية رايت كمثال على الميزة الأولى للمقاربة الأرثوذكسيّة للدراسة الكتابيّة في الشكل النقديّ.

المعلَم الثاني يشمل البعد الشركويّ أو الكنسيّ. هذا البعد هو موضوع التأمّل اللاهوتيّ في العهد الجديد نفسه وفي الرسالة إلى أهل أفسس بشكل مميّز. يتضمّن اقتراح رايت الإشارة إلى الطبيعة الشركويّة لكلّ المعرفة، والرفض المرافق لها، لكلّ تاريخ مزعوم موضوعيّ محض أو دراسة نقدّية منفصلة[22].

بالنسبة إلى رايت، هذا ينطبق، ليس فقط على مستوى آمال القارئ المعاصر وافتراضاته المتأصّلة في الجماعة، إنّما أيضاً على كلّ مجموعة الخبرات الدينيّة والقناعات اللاهوتيّة للكتّاب الإنجيليّين أنفسهم المتأصّلين بالنسبة ذاتها في الجماعة.

تقبل النظرة الأرثوذكسيّة هذه الإشارة وتركّز عليها بقوّة كبرى. كلمة الله مرتبطة بشكل أساس بالأشخاص الذين يتلقّونها. الوحي لا يتمّ في الفراغ. الكتاب المقدّس والتسليم[23] هما جزء من حقيقة الله الديناميكيّة والعضويّة التي تتعاطى مع الناس في كلّ العصور. من هذه الاعتبارات، ينشأ تشديد هذا الجزء من العمل على الإنجيل ككتاب الكنيسة كما أنّه كتاب الله.

يثبت تشريع الكنيسة، بشكل خاصّ، دور الكنيسة الحازم وتقليدها الحيّ في حسن تمييز الحقيقة اللاهوتيّة. هذا الدور ليس فقط فاعلاً وحسيّاً إنّما خلاّق وضخم. لقد قابل القدّيس مكسيموس المعترف العلاقة المتبادلة بين الكتاب المقدّس والكنيسة مستعملاً صورة المصباح على المنصّة، فالمصباح هو الكتاب والمنصّة هي الكنيسة[24].

تعترف دراسات القانون الكتابيّ الحديثة الآن بأنّ بصيرة الكنيسة العقائديّة في شكل الاحتكام إلى “قانون الإيمان”، حدّدت بشكل دقيق الكتب القانونيّة التي اختارتها الكنيسة كجزء من عمليّة كبرى هي اندماج الأرثوذكسيّة التاريخيّة ووحدتها. ينطبق حسّ الكنيسة العقائديّ بشكل متساوٍ على التفسير النهائيّ والمعياريّ كما على المجموعة القانونيّة في الكتاب المقدّس. لم يكن القصد من هذا الحسّ تقليص انوّع المنهجيّات وغناها ونتائجها التفسيريّة. في التقليد المسيحيّ القديم، التعدّديّة التفسيريّة وتعدّد استعمالات الكتاب موجودان بشكل واسع وأكيد.

في الواقع، الاحتكام العقائديّ كان حازماً في حالات الابتعاد الخاطئ في التفسير عن التقليد الرسولي المسلَّم، كما في الغنوصيّة والأريوسيّة، وكان المقصود به تثبيت وحدة جماعيّة عبر تعليم معياريّ حول أمور أساسيّة في الإيمان المسيحيّ.

في أيّ حال، الاعتراف بالكتاب المقدّس يشهد أيضاً لسلطة الإنجيل ككلمة الله التي بها يحاسب الكنيسة المسؤولة عن هذه الكلمة. لآباء الكنيسة متّحدون في إعلان سلطة الكتاب العليا كوحي إلهيّ. الجدالات الخريستولوجيّة الثالوثيّة ركّزت تحديداً على التفسير الكتابيّ، الذي تطوّر مع أثناسيوس والكبادوكيّين إلى تفسير قرينيّ ونحويّ يشكّل الهم المركزيّ لدراسات الكتاب التاريخيّة-النقديّة الحديثة.

اليوم، سلطة الكتاب وشهادته اللاهوتيّة يمكن إدراكهما بتعابير أكثر دقّة عبر الدراسة العلميّة. إلى هذا، لا يزال البعد الشركويّ يحتفظ بتأثيره لأنّ لكلّ المسيحيّين تقاليدهم الكنسيّة ووجهات نظرهم العقائديّة، كما باستطاعتهم مقاربة الكتاب بـ “واقعيّة نقديّة” تعانق في سؤالها كامل نطاق الدراسات البشريّة القديمة والحديثة.

على كلّ القراّء أن يعرفوا، في التزامهم سلطة الكتاب ودراسته النقديّة، أنّ ما يعتبره كلّ واحد واقع الحقيقة هو أبعد من القياسات التأمليّة المنطقيّة البسيطة. يتضمّن هذا الواقع إدراكاً جماعيّاً والتزاماً جماعيّاً بما هو صحيح وحقيقيّ عن الإنجيل والحياة المسيحيّة. تشكّل رؤية كهذه دعوة إلى شهادة سلام متبادل ولقاء حواريّ صريح يقوم على تفكير علميّ جديّ ويرتكز على نعمة الروح.

يتعلق المعلَم الرئيس الثالث للمقاربة الأرثوذكسيّة بالبعد الوجوديّ الروحيّ. لقد طالعني الطلاب عبر السنين بتحديّات كثيرة، أتى أكثرها إلهاماً في هذا السؤال: “ألا تستحقّ روحانيّة العهد الجديد الدرس؟” أجل. لكنّها مسألة دقيقة، إذ من السهل جداً تجاوز الخط الفاصل بين إنعاش الرؤى الروحيّة والتفاهات التقويّة.

كيف للإنسان أنّ يحدّد العلاقة بين التحليل النقديّ والرؤيّة الروحيّة، أو باستعمال صورة إيهور سيفيشينكو، بين اليسروع والفراشة؟ هل يُعلَّم الإيمان والروحانيّة أم يُلتَقَطا، أم الطريقتان معاً؟ بعض شخصيّات الكتاب المقدّس، مثل إشعياء وبولس، يدّعي خبرات إيحائيّة ويهذّ بقوّة الروح المجدِّدة. تقاسم آباء الكنيسة هذا الأفق الكتابيّ للإيمان واحتكموا مباشرة إلى قوّة كلمة الله التي تُقرأ بروحه. وتوضّحت لهم صورة التشابه والاختلاف بين الحرف والروح.

في ثقافة اليوم الدهريّة، ينفر كثيرون من قراءة الكتاب ومن شهادته الروحيّة على اعتبار أنّهما غير موثوق بهما فكريّاً واجتماعيّاً. فيما يجد غيرهم متعة بالغة في هذه القراءة ويدعون إليها بثقة وتعصّب.

ومع هذا، يبقى التحدّي الروحيّ للكتاب المقدّس، وهو أساس للكتاب والحياة اليوميّة. العالم الكتابيّ الأميركيّ M. Robert Mulholland, Jr.، في كتابه “على شكل الكَلمة”[25] يعطي مثلاً عن رؤيةٍ مَرَحَّب بها حول البعد التحويليّ للدراسة الكتابيّة. يحذّر ملهولند من أنّ نكون ضحايا التربية المعاصرة التي تحدّدها ثقافة ناشطة تشكّل الأمور وتسعى إلى السيطرة على المعرفة والتلاعب بها.

وينتقد ملهولند المقاربة “المعلوماتيّة” الأحاديّة الجانب التي تنوي السيطرة على النصّ عبر التحليل النقديّ والتقويم البشريّ. كما أنّه يقترح مقاربة “تشكيليّة”، بها ينفتح القارئ على حضور الله المتعالي والفعل المبارك، عبر الإيمان المتفتّح والمحبّة الداخليّة لله. الكتاب المقدّس هو سجل “حضور الله وغايته وقوتّه” في الحالة البشريّة، وهو إعلان عن الكلمة الإلهيّة “كقالب أو أطار للعطب البشريّ والكمال البشريّ معاً”.

يحتكم ملهولند إلى “الطبيعة الصوريّة” للكتاب المقدّس، أي الكتاب كنافذة كلاميّة إلى نظام جديد من الكيان، فيه شارك الكتّاب الإنجيليّون وعاشوا. يتطلّب فهم قوّة الكتاب المحوِّلة واختبارها، بحسب ملهولند، اشتراكاً في الحقيقة ذاتها التي تأسّست بيسوع وتحقّقت بالروح القدس[26].

يطلق ملهولند نداءً كتابيّاً وآبائيّاً أصيلاً من الروحانيّة. التوجّه النهائيّ هو إلى كلمة الله التي تصبح حيّة في حضور الروح الفاعل من دون أنّ يقلل من قيمة المعرفة البشريّة التأمليّة ومن دون أن تحدّه هذه المعرفة. بحسب الرسول بولس، ما هيّأه الله للذين يحبونه يُكشَف بالروح التي تبحث عن كلّ شيء ( 1 كورنثوس 2: 9-10). بعد الرسول بولس بقرون، يشدّد القدّيس سمعان اللاهوتيّ الحديث، وهو وريث الروحانيّة الإنجيليّة، على أنّ مفتاح المعرفة الروحيّة يكمن في نعمة الروح المعطاة بالإيمان.

وأبعد من الدراسة الكتابيّة المألوفة، هناك “كنوز الكتاب الروحيّة المفتوحة بالمسيح القائم عبر قوّة الروح للذين يسلكون بطاعة إيمانيّة وهم يُمنَحون ولادة جديدة”[27]. لقد شهد على هذه الشهادة الرسوليّة للخليقة الجديدة في المسيح، بدرجات مختلفة، رجالٌ ونساءٌ لا عدّ لهم عبر القراءة في العبادة التقليديّة للكتاب المقدّس. لقد اختبر المسيحيّون المصلّون هذه الشهادة في العبادة، حيث قراءة الإنجيل الليتورجيّة والإعلان الموحى به للبشرى الحسنة يحقّق وجود الله المخلِّص وقوتّه لكلّ جسم الكنيسة.

الموضوع ذاته يستحقّ التأمّل التقيّ والنقديّ والشرح النظاميّ بالدراسة الكتابيّة التي تتخطّى التحليل التاريخيّ والأدبيّ إلى الحقيقة التي يحتفل بها الإنجيل نفسه ويعلنها من أجل حياة العالم.

 

 

[1] L. Ryken and T. Longman, III, eds., a complete literary Guide to the Bible (Grand Rapids: Zondervan, 1993); L. Ryken. The New Testament in literary Criticism (New York: Continuum, 1985): and J.B. Gabel, C.B. Wheeler, and A.D. York, The Bible as literature: An Introduction (New York: Oxford University Press, 1996).

[2]  ممكن التوصل إلى نظرة أوسع من:

Keller, Bible as History (New York: Bantam, 1983); John Bright, a History of Israel (Philadelphia: Westminster, 1981); Martin North, The Old Testament World, trans. V.I. Gruhn (Philadelphia: Fortress, 1966); W.F. Albright, From the stone Age to Christianity (New York: Doubleday, 1957); J.A. Thompson, The Bible and Archeology (Grand Rapids: Eerdmans, 1982); and S. Freyne, New Testament Message 2: The World of the New Testament (Wilmington: Glaizer, 1980).

[3]  بما يتعلّق بالثقافة والقانون والسياسة والتربية عند الأميركيّين، أنظر

N.O. Hatch and M.A. Nill, eds., The Bible in America: Essays in Cultural History (New York: Oxford University Press, 1982); J.T. Johnson, ed., The Bible in American law, Politics and Political (Alpharetta: Scholars Press, 1984); T.J. Neuhaus, Bible, Politics and Democracy (Grand Rapids: Eerdmans, 1987); and D. Barr and D. Piediscalzi, The Bible in American Education (Alfaretta: Scholars Press, 1982).

[4] L.I. Sweet, the Revelation of Saint John and History, “Christianity Today, May II, 1973, p. 10.

[5] Science and the Theology of Creation by the Bossey Seminar (Bossey: World Council of Churches, 1988), published in the Church and Science Documents No. 4, August 1988, and various articles in Science and Religion, ed. By Ian G. Barbour (New York: Harper & Row, 1968).

[6]  أنظر

Alan Richardson, the Bible in the Age of Science (London: SCM Press, 1961). Van A. Harcey, The Historian and the Believer (New York: Macmillan, 1963); G.H. Reventlow, The Authority of the Bible and the Rise of the Modern World, trans. J. Bowden (Philadepgia: Fortress, 1985); and Brian J. Walsh and R%ichard J. Middleton, Truth Is Stranger Than It Used to Be: Biblical Faith in a Postmodern Age (Downers Grove: Inter Varsity, 1995).

[7]  العبارة الأولى هي من:

Roy A. Harsville, “Introduction”, in Peter Stuhlmacher, Historical Criticism and theological Interpretation of Scipture, trans. Roy A. Harrisville, (Philadelphia: Fortress 1977), p. 9.

ما جعل العبارة الأخيرة شعبيّة هو:

Walter Wink, The Bible in Human transformation (Philadelphia Fortress, 1973).

كتب Peter Stuhlmacher  نفسه في الكتاب المذكور، ص. 76، أنّ الدراسات الكتابيّة من دون تفسير لاهوتيّ هي اختصاص لاهوتيّ قضى على ملاءمته بعمله النقدي.

[8] Edgar V. McKnight, Post-Modern use of the Bible (Nashville: Abingdon, 1998).

لمزيد من المراجع أنظر الحاشية 7 من الفصل الخامس.

[9]  للمراجع أنظر الهامشين 10 و11 من الفصل الخامس.

[10]  أنظر بخاصّة الفصل الثاني القسم الثالث، والقسم الرابع من الفصل السادس، والقسم الرابع من الفصل السابع.

[11]  كلّ هذه المراجع باليونانيّة الحديثة.

The introduction by S. Agouridis, Εɩʹσγωγή εɩʹς ԏήѵ Καɩѵήѵ Δɩαθήκηѵ, 1st published in 1971 and now is in its 3rd edition (Αθηѵαɩ: Eκδοʹσεɩς Γρηγοʹρη, 1991). J. Karavodopoulos, Eɩʹσαγωγή Δɩαθήκηѵ. Firdt appeared in 1983 and reprinted several years ago (Αθηѵɩ: Eκδοʹσεɩς Π. Ποѵρѵαραʹ, 1991). The most recent is by J. Panagopoulos  Eɩʹσαγωγή εɩʹς ԏήѵ Καɩѵήѵ Δɩαθήκηѵ (Αθηѵαɩ: Eκδοʹσεɩς ʹΑκρɩʹԏας, 1995).

Older New Testament introduction by Greek biblical scholars include those by Vasileios Ionnidis (1960), Vasileios Antoniadis (1937), and Nicholas Damalas (1876).

[12]  يُناقَش هذا العمل في الفصل الرابع تحت عنوان “التراث التفسيريّ الآبائيّ”.

[13]  يُعرَض موقف أغوريديس في الفصل السادس، الجزء الثالث، أما موقف باناغوبولوس فُيعرَض في الفصل السابع الجزء الرابع.

[14] See Wegner Jaeger, Early Christianity and Greek Paideia (Cambridge: Harvard University Press, 1961); Henry Chadwick, Early Christian Thought and the Classical Tradition (New York: Oxford University Press, 1966); Fredrick W. Norris, Faith Gives Fullness to Reasoning: The Five Theological Orations of Gregory of Nazianzen (Leiden: E.J. Brill, 1991); and Jaroslav Pelikan, Christianity and Culture (New Haven: Yale University Press, 1993).

[15] N.T. Wright, the new testament and the People of God (Minneapolis: Fortress, 1992), especially pp. xii-xvii, 1-144, and 467-476.

هذا الكتاب هو الأوّل من مجلّدات عدّة يخطط لها الكتاب كمشروع طموح لرواية تفصيلية حول أصول المسيحية في بدئها.

[16]  المرجع ذاته، ص. 31-35.

[17]  المرجع ذاته، ص. 4، 10 و12.

[18]  الذاتانيّةsubjectivism  مذهب فلسفي يقوّم المعرفة كلّها على أساس من الخبرة الذاتيّة.

[19]  المرجع ذاته، ص. 9 و24-25.

[20]  المرجع ذاته، ص. 35-46 و467-476.

[21]  المرجع ذاته، ص. 474. بحسب Wright، الفهم المسيحي لله مختلف عن الفهم اليهودي مع أنه ناشئ منه في إطار خبرة المسيحيّين الأوائل للمسيح والروح، إلى درجة أنّه لا يمكن اعتباره ثانويّاً ولا انتقاده كتطوّر وثنيّ. بالواقع، بالنسبة إلى Wright، تشكّل مسألة الله الفرق الأهم والأكثر تمييزاً بين المسيحيّة واليهوديّة، و”كلاهما على حق في ادعاءاتهما عن الإله الحقيقيّ”. ص. 475.

[22]  المرجع ذاته، ص. 15 و31-36.

[23]  كلمة التسليم هنا هي ترجمة tradition  والترجمة الأكثر شيوعاً هي كلمة التقليد.

[24]  الاقتباس مأخوذ من:

Jaroslav Pelikan, “Council or Father or Scripture: The Concept of Authority in the Theology of Maximus the Confessor,” in the Heritage of the Early Church: Essay in Honor of Georges V. Florovsky, ed. D. Neiman and M. Schatkin, Appearing in the series Orientalia Christiana Analecta, Vol. 195 (Rome: Pontifical Institute, 1973), p. 281.

[25] M. Robert Mulholland Jr. Shaped by the Word: The power of Scripture in Spiritual Formation (Nashville: The Upper Room, 1985).

[26]  المرجع ذاته، ص. 3، 21-23، 28، 42، 47-50 و64-65.

[27]  أنظر الملحق رقم 2 والصفحات المتعلّقة بالقدّيس سمعان اللاهوتيّ الحديث في الفصل السابع تحت “المستوى التحوليّ”.

 

لماذا ندرس الإنجيل؟ – اللاهوت والتاريخ

تقييم المستخدمون: كن أول المصوتون !