أبحاث

القراءة الإنجيلية للعهد القديم (1) الإنجيليون والعهد القديم

القراءة الإنجيلية للعهد القديم (1) الإنجيليون والعهد القديم [1]

القراءة الإنجيلية للعهد القديم (1) الإنجيليون والعهد القديم [1]

القراءة الإنجيلية للعهد القديم (1) الإنجيليون والعهد القديم
القراءة الإنجيلية للعهد القديم (1) الإنجيليون والعهد القديم

القراءة الإنجيلية للعهد القديم (1) الإنجيليون والعهد القديم

د. جورج عوض إبراهيم

 

 

مقدمة

            إن التقليد المشترك لكُتّاب العهد الجديد تجاه العهد القديم هو أنه نص نبوي يخص شخص المسيح وعمله. وهذا واضح جدًا من الطريقة التي شرحوا بها العهد القديم. فكُتّاب العهد الجديد أول كل شئ كانوا يعرفون الترجمة السبعينية للعهد القديم وفي حالات قليلة الأصل العبري (إلى حد ما القديس متى). ومرات كانوا يستشهدون بمقاطع من الذاكرة ومرات يربطون مقاطع كتابية مختلفة (مقاطع مختلطة)، ومرات كثيرة، كانوا يعطون معنى خاص لبعض المقاطع. إنه يمكننا عند الإنجيليين مثلاً أن نتعرف منهم على مناهج وطرق الشرح الرابونى، مثل القانون رقم 1، 2 لـ هليل Cillšl (مِن الأعظم إلى الأصغر انظر مت30:6، 11:7، 25:10)، وأيضًا على مناهج هيلينية، كأهمية المصطلح اللغوي للكلمة (مثل يو39:7 حيث مصطلح ” الماء ” يعنى ” الروح القدس “).

من هنا، نستنتج أن كُتّاب العهد الجديد، ومثل سيدهم ومعلمهم المسيح، لم يعرفوا شكلاً قانونيًا واحدًا لأسفار العهد القديم ولا قيدوا أنفسهم بالمناهج التفسيرية للرابونيين. من الثابت أن الإنجيليين وبقية كُتّاب العهد الجديد قد استشهدوا بمقاطع معينة ثابتة من العهد القديم لكي يبرهنوا أن يسوع هو المسيا، المسيح. هذه المقاطع Testimonia من العهد القديم تشير ـ في نفس الوقت ـ إلى طريقة الاستشهاد به والفهم الموّحد لشهادته للمسيّا، أننا نجد على سبيل المثال فى كل إنجيل شواهد تتوازى وتتماثل مع الآخرين في طريقة اقتباسها من العهد القديم، وبالأخص متى الإنجيلي الذي يضم بطريقة منظمة وواعية في مجمل إنجيله شهادة العهد القديم، ويوّسع بالأكثر في الاستشهاد به وبنوعٍ خاص فى حياة المسيح والكنيسة بالمقارنة بالإنجيلين الآخرين، على سبيل المثال (نظر مت16،2،1، … الخ).

          إن الاستخدام المتسع للشواهد من العهد القديم فى كتب العهد الجديد يهدف إلى التأكيد للقراء المسيحيين الذين هم من أصل يهودى، أن يسوع هو بالحقيقة المسيا المرسل من الله وبناء على ذلك فإن العهد القديم يُفسر تفسيرًا صحيحًا داخل الكنيسة وحدها لأن الكنيسة هكذا استلمته من الرب يسوع المسيح والرسل.

 

القديس متى الإنجيلي:

وبينما يُكثر متى الإنجيلي ـ كما قلنا سابقًا ـ من الاستشهاد بالعهد القديم نجد أن مرقس الإنجيلي يحتفظ بعلاقة عابرة وحاسمة بالعهد القديم مشددًا على تكميله في المسيح أنظر مثلاً (مر28:12ـ34): ” فجاء واحد من الكتبة وسمعهم يتحاورون فلما رأى أنه أجابهم حسنًا سأله أية وصية هى أول الكل. فأجابه يسوع أن أول كل الوصايا هى اسمع يا إسرائيل. الرب إلهنا رب واحد. وتحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك ومن كل قدرتك. هذه هى الوصية الأولى. وثانية مثلها هى تحب قريبك كنفسك. ليس وصية أخرى أعظم من هاتين …“.

 

القديس مرقس الإنجيلي :

كما أن القديس مرقس لا يستخدم التفسير الرابونى للعهد القديم، انظر (مر1:7ـ23): “ واجتمع إليه الفريسيون وقوم من الكتبة قادمين من أورشليم. ولما رأوا بعضًا من تلاميذه يأكلون خبزًا بأيدِِ دنسة أى غير مغسولة لاموا. لأن الفريسيين وكل اليهود إن لم يغسلوا أيديهم باعتناء لا يأكلون. متمسكين بتقليد الشيوخ .. ثم سأله الفريسيون والكتبة لماذا لا يسلك تلاميذك حسب تقليد الشيوخ .. فأجاب وقال لهم حسنًا تنبأ إشعياء عنكم أنتم المرائين كما هو مكتوب. هذا الشعب يكرمنى بشفتيه وأما قلبه فمبتعد عنى بعيدًا. وباطلاً يعبدونني وهم يعلمون تعاليم هى وصايا الناس..“.

 

 

القديس لوقا الإنجيلي:

أما القديس لوقا فإنه يشدّد على أن عصر الكنيسة هو الملء والتكميل التاريخي للعهد القديم، أنظر على سبيل المثال شهادة يوحنا المعمدان 15:3، ودخول المسيح المجمع فى الناصرة 16:4، واختيار الاثنى عشر رسولاً (الكنيسة) 13:6… الخ.

 

القديس يوحنا الإنجيلى:

والقديس يوحنا بدوره يركز في إنجيله على التطلع النبوي الداخلي لتاريخ إسرائيل والناموس، كشهادة عن المسيح (انظر مثلاً يو45:1، 46:5)، ويحدد أيضًا التطلع الأخلاقي للأوامر الناموسية لكتب موسى الخمسة (مثلاً عن الختان والسبت 19:7ـ23):       ” أليس موسى قد أعطاكم الناموس وليس أحد منكم يعمل الناموس. لماذا تطلبون أن تقتلونى. أجاب الجمع وقالوا بك شيطان. مَن يطلب أن يقتلك. أجاب يسوع وقال لهم عملاً واحدًا عملت فتتعجبون جميعًا. لهذا أعطاكم موسى الختان. ليس أنه من موسى بل من الآباء. ففي السبت تختنون الإنسان. فإن كان الإنسان يقبل الختان في السبت لئلا ينقض ناموس موسى أفتسخطون علىّ لأني شفيت إنسانًا كله في السبت. لا تحكموا حسب الظاهر بل احكموا حُكمًا عادلاً “.

          من هذا المنطلق وبالطريقة النماذجية “Tupologik»” تُفسر بكل وضوح حوادث مهمة فى الخروج وفى البرية، مثلاً عطية المن، الذي حققه المسيح (يو49:6). إذ أنه هو “اللوغوس” والظهور الشخصي والتاريخي الكامل للحق والنعمة. وعمومًا فإن الناموس ” الذي أُعطى بواسطة موسى ” (يو17:1) قد تراجع أمام ملء ” خبر ” الله والحق المباشر الذي قدمه المسيح. إن الشواهد المتماثلة والمختلفة فى الأناجيل الأربعة لا تمثل بالتأكيد تغييرات لموقف المسيح المعروف من العهد القديم، لكن ترجع أساسًا إلى الظروف التاريخية والاحتياجات الروحية التي واجهتها الكنيسة عند الكتابة.

 

شخص المسيح هو مفتاح العهد القديم:

          إن الإنجيليون لم يستشهدوا بنص العهد القديم بطريقة عشوائية لكن كانوا دائمًا يقدرون السياق العام للشواهد عندما يفسرونها بالمفهوم المسيانى. وهكذا يجب علينا نحن أيضًا لكي نستخدم العهد القديم استخدامًا سليمًا أن نضع فى ذهننا المفهوم المسيانى وسلطان المسيح وطريقة نشاطه وتعليمه.

لقد سبق ورأينا أن عظات الرب يسوع المسيح قد قدمت ـ في حالات ليست بقليلة ـ تشابهًا واضحًا مع كلام العهد القديم والأدب الرابونى. لقد استخدم السيد المسيح فى تعاليمه، على سبيل المثال: حوارات جدلية، وروايات قصصية، وكلمات نبوية ورؤيوية.. الخ. أيضًا في نشاطه نتعرف على أعمال رمزية ـ مثلما في حياة أنبياء إسرائيل الكثيرين ـ (على سبيل المثال تيبّس التينة غير المثمرة مت18:21ـ19، وغسل أرجل التلاميذ  يو2:13ـ11). والإنجيلي يوحنا يدعو معجزات المسيح “آيات” ويُعطى لها أهمية لاهوتية أكثر من الأهمية التاريخية والرمزية. كما أن الإنجيليون كلهم يؤكدون على أن الموضوع المركزى للإنجيل هو ملكوت الله (انظر مت13)، وأن السيد المسيح فى تعاليمه للشعب البسيط استخدم أمثلة، وتشبيهات، وصور تورية بلاغية وأمثلة شعبية[2]: ” هذا كله كلم به يسوع الجموع بأمثال. وبدون مثل لم يكن يكلمهم ” (مت34:13، أيضًا مر33:4، لو10:8). إنها طريقة للتعليم ـ استخدمها المسيح ـ تعكس ظروف الحياة اليومية. ولكن الذي يهمنا أساسًا هو المعنى الخاص الذي يعطيه المسيح للأمثلة والتشبيهات وأيضًا للأعمال الرمزية المستخدمة. فالأمثلة والتشبيهات مثلاً كانت تتوقف على الإمكانيات الذهنية للإنسان الطبيعى ” وبأمثال كثيرة مثل هذه كان يكلمهم حسبما كانوا يستطيعون أن يسمعوا ” (مر11:4). حتى أنه باستخدام الأمثلة كان يُخفى السيد سر الملكوت عن الذين هم ” في الخارج ” (مر11:4) أو الباقين (لو10:8، مت10:13)، أو الجموع الكثيرة، أى عن كل مَن لا ينتمون أو ينتسبون إلى الدائرة الضيقة لتلاميذه وتابعيه. فالمفهوم العميق للإنجيل يظل دائمًا مخفي وغير مفهوم للإنسان الطبيعي. بكلام آخر كانت الأمثلة تهدف دائمًا إلى ” الفهم “، إلى “تفتح البصيرة” و”السمع الروحي”. وعندما لا يحدث هذا، بسبب أن قلب الإنسان وأحاسيسه قد ثقلت، فإن الأمثلة عندئذٍ لا تعلن شيئًا إلى السامعين ” لأنهم مُبصرين لا يبصرون وسامعين لا يسمعون ولا يفهمون” (مت13:13، اقتباس من إش6:6). والصعوبة في الفهم ـ أو ثقل القلب ـ ترجع عادة إلى غياب فعل الإيمان (مت5:16ـ12، 3:13ـ23). فمن مثل الزارع (مت3:13ـ23) صار واضحًا، أن الإنسان لا يستطيع باستخدام إمكانياته الذهنية الطبيعية أن يفهم أمثال وأقوال وعمومًا أعمال السيد المسيح. فهذا الأمر يصير ممكنًا فقط، عندما يكشف المسيح نفسه للمؤمنين به المعاني التي تشير إليها الأمثال. حقيقةً إن المسيح في حالات كثيرة كان يشرح بنفسه لتلاميذه المفهوم العميق للأمثال (مت10:13، 18، 36:13). لكن التلميذ لكي يقبل هذا الإعلان كان يحتاج أيضًا أن يكون لديه “أذن للسمع” (مر23:4)، أى أن يكون له قلب نقى طفولى (غير مثقل)، ولا يكون قليل الإيمان وفوق كل شئ أن تكون له علاقة شخصية ثابتة بالرب (مر33:4). وفى كثير من الأحيان كان (السيد) يعمل آيات أو قوات لكي يثبت إيمان الإنسان في شخصه (على سبيل المثال انظر مت10:8، 13، 58:13). إذ في بعض المرات كان يصَّد وبشدة دعوة أولئك الذين يطلبون علامات تبرهن أو تظهر سلطانه (مت38:12، 4:16). إن العلامات (الآيات) كانت تهدف في الأساس إلى رجوع الإنسان إلى الله وتقوية إيمانه، وليس إلى إظهار القوة الإلهية لكي تثير الإعجاب بها في النفوس. في حالات معينة كان أتباع المسيح يجهلون المفهوم العميق لمعجزات السيد، على سبيل المثال في معجزة إشباع الخمسة آلاف رجل. والإنجيلي مرقس يُرجع هذا الجهل إلى قساوة قلوبهم (مر52:6). أيضًا هناك أعمال معينة للمسيح لم يفهمها التلاميذ إلاّ بعد قيامته (مثل يو19:2ـ22: الدعوة لإبطال الناموس، يو16:12: الدخول الانتصارى إلى أورشليم). ويوحنا ـ كما ذكرنا ـ يدعو معجزات المسيح “آيات”، لأنها تهدف من جهةِِ إلى إخفاء مجده، ومن جهة أخرى إلى الإيمان به (على سبيل المثال يو11:2 ،23..). بناءً على ذلك فإن “معجزات” المسيح ليست بطبيعتها عمل قوات، لكن هى على الأخص أعمال إيمان، ورموز روحية تخفى وراءها مفهومًا جوهريًا عميقًا. وفهمها هو نوع من التفسير الروحي يستلزم نفس الأسس اللازمة لتفسير أقوال الرب. نتيجة لذلك، فإن تعليم الرب ـ بحسب التقليد المشترك للإنجيليين ـ هو “تعليم جديد بسلطان” (مر27:1). وهو في أغلب الحالات “كلمة صعبة”، ليس من السهل على أحد أن  يفهمها (يو60:6). ولذا نرى أن السيد لم يشرح تعاليمه للجميع، لكن للتلاميذ، وهؤلاء كانوا ـ رغم ذلك ـ أحيانًا يجهلونها وأحيانًا أخرى يسيئون فهمها (على سبيل المثال مر52:6، 32:9، يو16:12..الخ)، ومرات كثيرة كانوا يسألون المعلّم مباشرةً عن المفهوم الحقيقي لأقواله (مت10:4). إن  ” فهم ” أقوال الرب (وبالطبع الكتاب المقدس) يصير ممكنًا فقط عندما يتعرف الإنسان على ” قوة الله ” والتي توجد في هذه الأقوال في ذاتها (مت29:22): “ تضلون إذ لا تعرفون الكتب ولا قوة الله“. وبناء على ذلك فإن الصعوبة من ناحية فهم كلمة المسيح لا ترجع ـ في الحقيقة ـ إلى تعبيرات عسرة الفهم لأن أقوال المسيح هى في الأساس بسيطة، لكن ترجع إلى طبيعة الكلمة الداخلية الروحية وإلى قوتها. ففي الواقع إن كلمات السيد المسيح هى روح وحياة (يو63:6)، مثلما هو بالضبط الطريق والحق والحياة. إن حياة يسوع المسيح، الإنجيل الجديد، تتطابق مع كلامه، فحياته هى حدث تاريخي والكلمة عند المسيح هى حدث حضوره. أيضًا نضيف أن كرازة الرب ونشاطه كان لهما دائمًا عمل تصاعدي انتقالي، إذ كانا يقودان إلى الإيمان الحي بشخص المسيح، وهذا كان يستلزم ـ في نفس الوقت ـ الإيمان بحقيقة أن الله روح. ولذا فإن الفهم الحقيقي لعظات الرب ونشاطه يتحقق عندما يؤمن المرء بهذه الحقيقة الروحية عن الله، وعندما يقبل الولادة الروحية من فوق (يو3:3)، وعندما يشترك بالروح في حياة الرب.

إن الأسس التفسيرية لتعاليم المسيح والتي نعرفها من التقليد الإنجيلي هى:

أ ـ أن كلام المسيح يُقبل بالأخص من البسطاء (الأطفال) الذين يتصفون بنقاوة القلب وبساطة الفكر وسخاء العطاء، هؤلاء هم ” المساكين بالروح ” الذين لا يعرفون أية فوارق تاريخية أو طبيعية بين البشر، ويثقون بلا حدود في محبة الله ورحمته وفى محبة الآخرين. بكلام آخر لكي يفهم المرء حقيقةً أقوال المسيح يجب عليه أن يُخرِج  ” من كنزه جُددًا وعُتقاء ” (مت52:13)، وذلك لكي يدخل إلى وجود حقيقي مطلق، تتجدد فيه حياته وتنمو وتُثمر. أيضًا ينبغي عليه أن يحارب قساوة القلب (الأنا)، مركز الذات وصاحبة القرار، وذلك حتى يُهيئ المسكن الذي ” إليه يأتي ” (يو23:14) اللوغوس.

          هكذا فإن الطبيعة الروحية لتعليم المسيح وعمله تتطلب من ذاك الذي يريد أن يعرفها، تجديدًا داخليًا ونقاوة مستمرة، أى باختصار طريقة حياة معينة وتفكير معين.

ب ـ لقد فهم التلاميذ كلمة المسيح فهمًا كاملاً وبالأخص بعد القيامة. لقد تذكروا عندئذٍ أقواله وأعماله، التي كانت غامضة عليهم قبل القيامة (على سبيل المثال لو8:24 ، يو22:2 ، 16:12 ، أع16:11). ووفق الإنجيل الرابع، فإن قيامة المسيح كانت هى الأساس لفهم العهد القديم وكل أخباره الماسيانية (يو22:2،9:20). أيضًا الإنجيل الثالث يعرض لنا حدثًا هامًا من ظهورات القيامة. ففي الطريق إلى عمواس ظهر السيد لاثنين من تلاميذه وبدأ يفسر لهما كل الأمور المختصة بشخصه وعمله من موسى وجميع الأنبياء (انظر لو27:24). و” فتح ذهنهم ليفهموا الكتب ” (لو45:24). هذه الرواية لها قيمة تاريخية، خاصة إذا وضعنا في الاعتبار أن لوقا ـ الذي يكتب لليونانيين ـ لا يعطى نفس الأهمية التي يعطيها متى ـ الذي يكتب لليهود ـ إلى النبوات الماسيانية في العهد القديم. إذن القيامة تعطى القدرة على فهم وتفسير كل ما يخص العهد القديم وتعليم الرب, ومن حيث إن العهد القديم يُعتبر فى مجمله حدث تاريخى، يؤكد على الهوية والرسالة الماسيانية ليسوع المسيح، لذا نلاحظ أن الأفعال ” فتح “، ” فسر “،    ” عرف ” في سياق لو24 تعلن شرح العهد القديم وفهمه، الشرح الذي لا يستند على الفهم الحرفى، لكن على انفتاح العمق الروحى بواسطة ” المسيح ” القائم من الأموات. وبناء على ذلك فإن الفهم الخريستولوجى للعهد القديم هو في الأساس، التفسير الروحى السليم له. إن قانونية التفسير الروحى للكتاب تتعلق مباشرةً بقيامة المسيح. بكلام آخر إن الإيمان بشخص يسوع المسيح الكلمة المتجسد وخبرة القيامة هما أساسان لفهم الكتاب.

ج ـ يشدّد لوقا في نفس السياق على موضوع آخر، يخص معرفة القائم من الأموات. إن تلميذى عمواس لم يتعرفوا على مَن يتحدث إليهم “كرب قائم” عندما شرح لهم الكتب، لكنهم تعرفوا عليه فقط عندما بارك وأعطاهم الخبز (لو30:24، 32). ومن ثم فإن تقليد لوقا لا يعتبر العهد القديم كافيًا كفاية مطلقة لكى يعرف المرء المسيح. لكن الشركة ” التعبدية ” تساعدنا على أن نعرف المسيح تمامًا بمبادئ شخصيته. وهذه المعرفة “الافخارستية” تستلزم الفهم الصحيح للكتاب، كما أن الفهم الصحيح للكتاب يقود إلى المعرفة الإفخارستية.

          أما الإنجيلي يوحنا فإنه يشهد ـ على وجه آخر ـ للمعرفة الافخارستية ليسوع المسيح، وذلك في معجزة إشباع الخمسة آلاف نفس بالخبز المبارك والتي (المعجزة) تُفهم من قِبل الرب نفسه على أنها ملء للنموذج وتخطية للمثال الذي هو المن (يو32:6، 48). وبناء على ذلك، فإن نموذج العهد القديم قد اكتمل في ملئه الخريستولوجى بالأكل من جسد الرب والشرب من دمه.

د ـ أيضًا في نفس السياق يُعطى القديس لوقا تفاصيل هامة أخرى من حياة المسيح، لعبت دورًا فعالاً في تاريخ التفسير الكتابى. والكلام هنا عن الأهمية الخاصة للرسل في التقليد الأمين لتعليم الرب والتفسير الخريستولوجى للعهد القديم. لقد علّم المسيح مرارًا فى حياته التاريخية الرسل، أن الآلام والصلب والقيامة قد سبق التنبؤ عنها بوضوح فى العهد القديم (لو6:24ـ7). وبناء على ذلك فإن التفسير المتمركز حول المسيح “Cristokentrik»” يعتبر العهد القديم جزءً متحدًا وغير منفصل عن تعليم الرب: “ لأنه لابد أن يتم جميع ما هو مكتوب عنى في ناموس موسى والأنبياء والمزامير” (لو44:24). ولذا فإن الرسل، عندما فهموا التطلع الخريستولوجى للعهد القديم ـ بعد القيامة ـ صاروا كارزين ليس فقط بتعليم الرب، لكن وبالتفسير الصحيح “الخريستولوجى”، للعهد القديم: ” نحن شهود له” (لو48:24). إذ دخل هذا التفسير الجديد للعهد القديم في جوهر عظاتهم.

هـ ـ إن لوقا ويوحنا يعرفان من تعاليم يسوع ومن التقليد، الدور الأساسى للروح القدس فيما يخص الفهم الصحيح للكتب المقدسة. فالمسيح، بحسب لوقا (48:24ـ49)، يعتمد على حلول الروح القدس للشهادة له. وهذا الشرط يشدّد عليه مرة أخرى القديس لوقا في افتتاحية سفر الأعمال: ” لكنكم ستنالون قوة متى حل الروح القدس عليكم وتكونون لى شهودًا في أورشليم وفي كل اليهودية والسامرة وإلى أقصى الأرض ” (8:1). لقد حصل الرسل على قوة لمعرفة شخص الرب أكثر بعد يوم الخمسين، فهموا تعاليمه وأيضًا التطلع الخريستولوجى لكتب العهد القديم، وهذا ما تؤكده عظاتهم التبشيرية خلال السفر.

كما أن التشديد على دور الروح بالذات في تفسير الكتب يركز عليه الإنجيلي يوحنا بشكل خاص في سياق الأقوال السيدية عن الروح المعزى  (يو16:14ـ18، 26، 26:15ـ27). فالمعزى “يُذّكِر” و”يعلّم” و”يشهد” للتلاميذ بأقوال الرب. إنه روح الحق، الذي يقودهم “لكل حق” (يو13:16) والذي يُحيى شخص وعمل المسيح في حياة الكنيسة. إن إيمان الكنيسة بدور الروح فيما يخص معرفة يسوع المسيح هو إيمان ناضج وصادق، وهذا ما أكده بولس الرسول بقوله: ” لذلك أعرفكم أن ليس أحد وهو يتكلم بروح الله يقول يسوع أناثيما. وليس أحد يقدر أن يقول يسوع رب إلاّ بالروح القدس” (1كو3:12).

هذه المواضيع التي تحدد طبيعة وأسس تفسير الإنجيل المسيحى والخاصة بشخص يسوع المسيح وعمله، تمثل الأساس ” العقيدى ” للتفسير الكتابى وهى بذاتها تمثل مسيرة التفسير الكتابى الكنسى عبر التاريخ.

يتبع: القراءة الإنجيلية للعهد القديم (2) الإنجيليون والعهد القديم

[1] هذه سلسلة من المحاضرات أُعطيت فى كورس الدراسات الآبائية الذى ينظمه المركز الأرثوذكسى للدراسات الآبائية منذ عام 2002م فى مادة الآباء والكتاب المقدس.

2 انظر د. جورج عوض إبراهيم، المسيح المعلّم، المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية 2007م.

القراءة الإنجيلية للعهد القديم (1) الإنجيليون والعهد القديم

القراءة الإنجيلية للعهد القديم (1) الإنجيليون والعهد القديم [1]